يحيى محمد
هل الله قادر على ازالة الشر؟
نعم.. لا.. نعم ولا!!
ترد نظريتان متنافستان حول فلسفة الشر، إحداهما ترى ان ما يحصل من شرور يعود الى حتميات الوجود، فالشر وارد لا محالة تبعاً لمقتضيات الحركة الوجودية، وكان الفلاسفة القدماء هم أول من أشار الى هذه الناحية تبعاً لتنزلات مراتب العلة والمعلول ومن ثم تناقص مراتب الوجود مقارنة بالمراتب العليا التامة، فالكل يغترف بقدر وعائه من بحر الوجود الفيّاض. والشر لديهم هو عدم وجود نسبي، او هو نقص في الوجود كما يلاحظ لدى مراتبه الدنيا او العالم الطبيعي الجسمي. وهو ما يعني حتمية وجود الشر، ويصدق عليه قاعدة (ليس بالإمكان أبدع مما كان)[1]. ولا تختلف النظريات الحتمية الحديثة من حيث المبدأ عن هذه الصورة المجملة. فطالما كانت علاقات الوجود حتمية فالشر وارد لا مفرّ منه، سواء ارتكزنا على اصول ميتافيزيقية، او اصول مادية صرفة.
أما النظرية الثانية فتعود الى الرؤية الدينية التي تعتبر الشرور هي من فعل الله ومشيئته لغرض البلاء واختبار العباد في الدنيا، كالذي تشير اليه الكثير من النصوص القرآنية، وعليه نشأت فلسفة التكليف باعتباره مناطاً باختبار العباد، بما يتضمن من اركان؛ كركن النبوة والرسالة للتبليغ والقاء الحجة، وركن يوم الحساب المتمثل في الثواب والعقاب[2]
في قبال ما سبق نقدّم اطروحة جديدة نعبّر عنها بنظرية (عجز المادة الأصلية). وهي ترى بأن ظواهر العالم وحوادثه مدينة في وجودها إلى القدرة الإلهية الشاملة، مع افتراض عدم خلق المادة المشتركة أو الأصلية للكون. فرغم أن قدرة الله هي أساس وجود العالم بمظاهره المختلفة، لكنها – في الوقت ذاته – لا تمثل علة لوجود هذه المادة.
ولا نقصد بالمادة - هنا - المعنى الفلسفي المتمثل بالهيولى، فالأخيرة هي مجرد قوة من دون وجود فعلي، ولا بالمادة بحسب التعريف العلمي لها، وبالتالي فما نقصده هو ابسط مشترك وجودي في الكون وان لم يكتشف علمياً بعد، فقد يكون عبارة عن نفس الطاقة، كما قد يكون هو أساس المادة والطاقة معاً، فحيث ان إحداهما تتحول إلى الأخرى، فقد يكون المشترك بينهما شيء ثالث يجعلهما يتحولان إلى بعضهما البعض، مثل التحول المائي إلى حالاته الثلاث الصلبة والسائلة والغازية، فكل حالة لا تعتبر أساس غيرها، بل ان وجود هذه الحالات مدين إلى شيء اخر هو الاصل في وجودها، وهو الشيء المعبر عنه بجزيئة الماء (H2O). وهي الجزيئة المختلفة كلياً عن الحالات الثلاث الناتجة عنها.
فعلى ضوء هذه النظرية ان بالامكان تفسير علة وجود الشر، ومثل ذلك علة تطور العالم واستحالة ان يتحقق الخلق دفعة واحدة. فكل ذلك يعود إلى طبيعة المادة الأصلية التي يُجرى عليها التخليق والتطوير ضمن حدود ما تسمح به. فرغم ان قدرة الخالق وإرادته حقيقية غير مجازية – أي خلاف ما يعوّل عليه نظام الفلسفة والعرفان-، لكنها لا تتعدى طبيعة المادة التي تتشكل منها مظاهر الكون والحياة والتطور.
ومن حيث المبدأ لا بد من تكامل العلاقة بين قدرة الفاعل وقابلية المفعول. فأي نقص أو خلل في أحدهما سوف يفضي إلى عدم اعطاء النتائج المطلوبة.
وتعتمد قابلية المفعول على كل من وجود المادة وكفايتها ومناسبتها، إضافة إلى اتخاذها شكلاً محدداً من الترتيب والنظام. وباختصار انها تعتمد على أمرين: أحدهما توفر المادة المناسبة من دون نقص. والثاني أن تتخذ هذه المادة نوعاً منضبطاً من الترتيب المحدد.
وبالتالي فثمة ثلاثة عناصر تتكامل في الصنع والخلق، وهي كالتالي:
1ـ قدرة الفاعل.
2ـ المادة المناسبة بتمامها.
3ـ ترتيب المادة وتنظيمها وفق أشكال محددة دون غيرها.
ويعتبر تكامل هذه العناصر ضرورياً في الصنع والخلق، وبدون اجتماعها لا تسفر النتائج عن شيء. فلو لم تتوفر قدرة الفاعل لما كان لقابلية المادة ان تنتج شيئاً مطلوباً. كما لو توفرت هذه القدرة، لكن من دون مادة تامة ومناسبة، لما تمكّن القادر على فعل شيء. كذلك فيما لو توفرت قدرة الفاعل مع وجود المادة المناسبة بتمامها، فذلك لا يكفي دون ان يجري الفاعل خطواته ضمن ترتيب محدد للمادة وفقاً لقابليتها.
وللتمثيل على ذلك، نفترض ان لدينا المادة المناسبة لصناعة الطائرات، لكن من دون وجود فاعل قادر على تشكيلها. وواضح ان النقص هنا عائد إلى غياب الفاعل القادر لا المادة. كذلك الحال فيما لو توفرت هذه القدرة، لكن من دون مادة مناسبة بتمامها، مثل أن ندعو مهندساً بارعاً في صناعة الطائرات لانتاج واحدة من دون ان نقدّم له شيئاً غير الحجر والطين. فواضح ان هذه الاستحالة غير معنية بقدرة المهندس وبراعته في الصناعة المذكورة، بل لها علاقة بقصور المادة الخام المعطاة له.
وقد تحصل الاستحالة لعدم الترتيب والضبط الدقيق بين عناصر المادة المناسبة. فصناعة الطائرة - كما في مثالنا السابق - لا تعتمد على قدرة المهندس والمواد الأولية المناسبة لصناعتها فقط، بل لا بد من ان تتخذ هذه المواد بعض الأشكال من الترتيب والتنظيم دون غيرها لتتم الصناعة بنجاح.
وهذا ما نقصده بعجز المادة الأصلية، سواء في الحالة الأخيرة أو ما قبلها. فثمة استحالة ذاتية لكل ما يتجاوز طبيعة هذه المادة، مثلما هناك استحالة ذاتية تتعلق بخلقها من العدم المحض.
لذلك - وكما ذكرنا - لا بد من توفر ثلاثة عناصر لإتمام الخلق والصناعة بنجاح، أحدها يعود الى قدرة الخالق أو الصانع، أما البقية فتعود إلى قابلية المفعول أو المادة ذاتها.
والحال هنا اشبه بالأعيان الثابتة أو الماهيات التي يتحدث عنها العرفاء، فكل ما نراه من نقص وشرور واختلاف انما يعود إلى هذه الأعيان، وليس للمبدأ الحق إلا افاضة الوجود عليها، فلسان حالها طلب الخروج من الظلمة والعدم؛ فيجود عليها بقدر قابلياتها؛ لاستحالة العطاء أكثر من القابلية.
ويرد لدينا بهذا الصدد أنواع عديدة للاستحالة، ومن ضمنها ما اشرنا اليه، وفي قبالها أنواع الامكانات، وذلك كالتالي:
1ـ الاستحالة المنطقية: وهي التي تستند إلى مبدأ عدم التناقض، فكل قضية تتضارب مع هذا المبدأ تعتبر مستحيلة منطقياً، فمثلاً ان الجمع الحاصل بين الواحد وآخر مثله لا يعطينا أكثر من اثنين، مهما كانت القدرة العقلية متوفرة، كالقدرة الإلهية، والا وقعنا في الاستحالة المنطقية وتجويز التناقض.
2ـ الاستحالة العقلية: وهي قضايا تختلف عن الاستحالة المنطقية باعتبارها لا تتناقض مع مبدأ عدم التناقض، لكنها مع ذلك تعتبر من المستحيلات التي لا يصدقها العقل أساساً، مثل تولد الأشياء من العدم المحض أو بدون سبب أصلاً، ومثل ان تكون لله قدرة على افناء ذاته..
3ـ الاستحالة الواقعية: وهي قضايا وان كانت ليست من الاستحالة العقلية لكنها مستحيلة ايضاً بحكم النظر إلى واقع الشيء. مثل ان يتمكن الانسان من السفر في ارجاء الكون كله، وهو بهذه الصورة الجسمية. أو مثل ان يعيش في الماء من دون وسائل مساعدة، أو مثل ان يبقى حياً من دون رأس..
4ـ الاستحالة النسبية: وهي قضايا تتعلق بالامكانات الواقعية التي لم يتح لحد الآن تحقيقها لاستحالة ذلك طبقاً للوسائل المتاحة، مثل سفر الانسان خارج المنظومة الشمسية.. ومثل القدرة على علاج جميع الأمراض البشرية..
5ـ الاستحالة المفترضة: وهي قضايا لا تمتلك وضوحاً قطعياً حول استحالتها، بخلاف القضايا السابقة، لذلك تخضع للنقاش إن كانت تتضمن الاستحالة أم لا؟ كتلك المتعلقة بقضيتنا المطروحة. وكنموذج عليها الخلاف الحاصل بين الفلاسفة القدماء والمتكلمين حول خرق السببية الطبيعية. ففي احتراق القطن بالنار مثلاً؛ يقول الفلاسفة إنه لو حصلت شروط الإحراق المادية كاملة لتحقق الإحتراق بدون توقف ولا تخلف. بينما يقول مخالفوهم، كالمتكلمين، إنه من الجائز أن لا يحصل الاحتراق حتى مع وجود كامل الشروط المادية، إذ يتوقف الأمر على الإرادة الإلهية بوصفها مختارة، لا بوصفها واقعة تحت أسر الضرورة العلية.
ومن حيث التحليل يعود الخلاف الأخير إلى الخلاف المتعلق حول خلق المادة الأصلية المشتركة. كما يعود اليه الخلاف المرهون حول امكانية خلق الكون والحياة إلى آخر غايتهما من دون تطور، بل دفعة واحدة، ومثل ذلك ازالة الشرور ابتداءاً مع حصول الغرض من الخلق.
فهذه المسائل بعضها يرتبط بالبعض الآخر، والأساس فيها هو الخلاف المتعلق بحقيقة المادة الأصلية ان كانت مخلوقة أم لا؟
ولسنا نتحدث – هنا - عن أزلية حدوث العالم أو ابتدائه، وانما نتحدث عن المادة الأصلية فحسب، فخلق هذه المادة أو عدم خلقها لا يمنع كلا الفرضين السابقين. إذ بضرب الفروض مع بعضها ينتج لدينا أربعة لا غير، وكل واحد منها قائم في حد ذاته بغض النظر عن ترجيح بعضها على حساب البعض الاخر. فالترجيح لا يمنع الفرض.. وهي كالتالي:
1ـ المادة الأصلية مخلوقة مع أزلية الحدوث.
2ـ المادة الأصلية مخلوقة مع ابتداء الحدوث.
3ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع أزلية الحدوث.
4ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع ابتداء الحدوث.
ونظرة دقيقة لهذه الفروض تجعلنا ندرك بأن الثلاثة الاولى منها معقولة بغض النظر عن مدى ترجيحنا القبلي لبعضها على البعض الآخر. ويبقى الفرض الأخير، فقد يوحي بأنه غير متسق، فهو يعني ان المادة موجودة ومعطلة إلى حين ابتداء خلق العالم. لكن هذا الحال يصدق على مجمل خلقه ابتداء، فهو يعني التعطيل الإلهي إلى حين بدء هذا الخلق؛ بغض النظر ان كانت المادة مخلوقة أو مستقلة غير مخلوقة، طالما افترضنا وجود القدرة التامة على ايجاد العالم.
وكما قلنا يترتب على قضية المادة الأصلية الخلاف المتعلق حول طبيعة القوانين الكونية والتطور ومشكلة الشر الوجودي. فلو كانت المادة غير مخلوقة لكان كل ما ذكرناه من طبيعة الخلق والتطور ومشكلة الشر؛ لا علاقة له بالقدرة الإلهية بقدر ما له علاقة بامكانات المادة الأصلية غير المخلوقة، ولكان حال الاستحالة في تجاوز امكانات هذه المادة كحال الاستحالة المنطقية، وهي انها ليست نابعة عن عجز القدرة الإلهية، بل متعلقة بقصور المادة وضعف امكاناتها.
فالتطور الكوني وطبيعة القوانين ومشكلة الشر كلها مناطة بالمادة المشتركة. فلو ان هذه المادة مخلوقة لما كانت هناك استحالة تتعلق بالخلق دفعة واحدة من دون تدرج وتطور، ومثل ذلك فإنه لا توجد هناك استحالة تتعلق بازالة الشر ابتداءاً. بل على هذا الافتراض تصبح القوانين الطبيعية معتمدة كلياً على الإرادة الإلهية المطلقة كما يراهن على ذلك المتكلمون من أمثال الأشاعرة وغيرهم.
ولهذه العلة لا يمكن ان يتحقق ما افترضه الخيّام كما نسب اليه قوله: ‹‹لو كانت لي سلطة على الكون مثل الله لأفنيت هذا الكون من جذوره ولخلقت كوناً جديداً يصل فيه كل شيء وبحرية تامة إلى مرامه››[1].
أما لو كانت المادة غير مخلوقة، فسيعني ذلك انها الشيء الذي يجري عليه الخلق والتكوين ضمن الحد الذي تسمح به طبيعتها، ومن ذلك ما تسمح به بعض قوانينها الطبيعية في الشرط المادي للتغير السببي، كالذي جاء في مثال احتراق القطن. كذلك كان لا بد من التدرج والتطور، ويصبح وجود الشر ضرورياَ خلال هذه العملية رغم عرضيته القابلة للزوال عند الاكتمال الوجودي. فالشر مرتهن بعملية التطور الموجهة، مثلما ان زواله خاضع لها حتى التكامل. وتشهد على ذلك التطورات غير المنقطعة للواقع الكوني والحياتي والعقلي، بل والاجتماعي ايضاً، فنحن البشر نخضع – بقدراتنا وإراداتنا - ضمن المشيئة الإلهية للتطور الخلاق باتجاه الاصلح. وأبلغ ما يدل على التوجه التكاملي ما يفيده المبدأ الانساني أو الانثروبي (Anthropic Principle) كالذي عبّر عنه الفيزيائي كارتر خلال الستينات من القرن العشرين، أي قبل أن يُحوّر إلى نظرية التعدد الكوني كملاذ للتهرب من فكرة الضبط الدقيق للتصميم الإلهي[2].
نعود فنقول: إنه من الناحية العقلية المجردة، وبغض النظر عن مجريات الواقع الموضوعي، لا يمكننا معرفة إن كانت المادة الأصلية مخلوقة أو مستقلة غير مخلوقة. كما لا يمكننا معرفة هذا الحال من خلال الرؤية الدينية. فمثلاً في الدين الاسلامي نجد ان النص القرآني لا يتحدث عن أصل مادة الخلق، بل أشار الى بعض المواد الأولية كالماء والدخان من دون ان يصرح حولهما بشيء يخص الخلق وعدمه. فضلاً عن ان لفظة (الخلق) جاءت بصدد الأشياء التي تُصنع من أشياء أخرى وليس من العدم المحض، كخلق الانسان من طين مثلاً.
وبلا شك ان بعض الآيات القرآنية تبدي ان عملية الخلق تحدث دفعة واحدة استناداً إلى إرادة الله وأمره من دون مراحل، كالذي يظهر من آية سورة النحل التالية: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)). حيث المتبادر من معنى ((كُنْ فَيَكُونُ)) هو أن يتحقق الشيء دفعة مباشرة، كما راهن عليه المفسرون عادة. لكن بشهادة الواقع ان كل عمليات الخلق والتكوين المطلوبة لم تحدث دفعة واحدة من دون سابقة، بل تدرجية وتطورية. فهذه المعرفة المسبقة ترشدنا إلى أن المعنى المقصود من الآية القرآنية ليس هو الظاهر المتبادر، ولا بد من تأويله إلى التدرج أو التطور. ويؤيد هذا الحال سياق بعض النصوص القرآنية التي تتحدث عن خلق عيسى (ع) والتي جاءت على شاكلة آية سورة النحل السابقة، كذلك سائر النصوص القرآنية التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض والإنسان، فجميعها يؤكد حالة التدرج في الخلق وتطوره دون الدفعة المباشرة.
وكما ذكرنا ان الناحية العقلية المجردة لا تعيننا على ترجيح كفة خلق المادة الأصلية أو استقلالها وعدم خلقها. لكن لو افترضنا بأن المادة الأصلية مخلوقة بالفعل؛ ففي هذه الحالة سوف يصعب تفسير لماذا تتخذ قوانين الطبيعة شكلاً محدداً للوصول إلى غاياتها من دون تغيير؟ ولو قيل بأن هذه الحالة هي الأفضل والأصلح من بين الطرق الممكنة للوصول إلى الغايات الطبيعية، لأجبنا إنه من الناحية العقلية الخالصة، إن تحقيق الغايات عبر الوسائل الموضوعة يفضي إلى الكثير من العذاب والآلام والمآسي والأضرار، وكان من الممكن - عقلاً - تجنب هذه المترتبات السلبية عبر إبدال القوانين بأخرى، أو الوصول إلى الغايات من دون وسائط طبيعية.
ولسنا نذهب في ذلك إلى ما يخلص إليه الفلاسفة القدماء من ان الحال دال على حتمية هذه القوانين، إذ نعتقد بأن الإرادة الإلهية هي ما تقف خلف ثبات هذه القوانين؛ وذلك لتحقيق الغايات المنشودة عبر أفضل السبل الممكنة. فمع افتراض قِدم المادة التي هي محل التخليق والتكوين؛ يصبح الموجود هو الأصلح والأفضل.
ويقف هذا المذهب كخيار وسط بين افتراضين غير مقبولين لعدد من المشاكل، أحدهما القول بأن المادة الأصلية مخلوقة، وهو افتراض يفضي إلى الاعتقاد بأن أفعال الله لا تخضع للحكمة ولا للأصلحية والأفضلية، كما هو معتقد الاشاعرة مثلاً. إذ لو كانت المادة الأصلية مخلوقة؛ لكان كل شيء قابلاً للخلق دفعة واحدة من دون تمييز بين ما هو معقد وبسيط، وبين ما هو تام وناقص. لكن ما الذي يبرر – في هذه الحالة - ما يحصل من نقص وتطور ومعاناة وكرب وعذاب، كما هو مشاهد في عالمنا الموضوعي؟
أما الافتراض الثاني فهو القول بنفي ان تكون لله قدرة وإرادة حقيقيتين، وبالتالي تصبح قوانين الطبيعة حتمية غير قابلة للتبديل بقوانين وشروط أخرى؛ كما يصورها النظام الوجودي للفلسفة والعرفان.
في حين إن الخيار الثالث يخالف كلا الافتراضين السابقين، فهو يخالف الافتراض الأول النافي لحكمة الله ومراعاته لخلقه، كما يخالف الافتراض الثاني الذي يجعل من إرادة الله وقدرته مجازيتين. وبالتالي جاء الخيار الثالث جامعاً للاعتقاد بفكرتين لا تجتمعان لدى غيره، هما فكرة أصالة المادة المشتركة المستقلة، وفكرة القدرة الإلهية الكلية. وهو خيار لا يتنافى بالضرورة مع الرؤية الدينية التي تشدد على فكرة البلاء والإمتحان كغرض لخلق العباد. إذ يمكن لهذه الرؤية ان تنضوي تحت القوانين والخيارات التي شاءها الله مصلحة لعباده؛ كأفضل السبل الممكنة، وبموجبها يمكن للشرور أن تتناقص عند الإلتزام بتعاليم الخير والقيم الدينية.
كما وفقاً لهذا الخيار تصبح ما تُعرف بمعاجز الأنبياء قائمة على بعض القوانين المجهولة دون أن تكون خرقاً لها، رغم انه لم ترد حولها اشارات معينة من قبل النصوص الدينية باعتبارها مجملة غير مفصلة.
ومن الواضح ان الخيار المشهود في عالمنا هو خيار القوانين والسنن الثابتة، وكان من الممكن ان نشهد خيارات ذات قوانين مختلفة أو ناقصة، مثل ان ينشأ الكون من دون حياة، أو تنشأ الحياة من دون كائن ذكي كالبشر، أو تنشأ الكائنات الحية ناقصة أو مشوهة.
إذاً، هذه مجرد افتراضات ممكنة. لكن أي خيار يضع الإله يده عليه فسيحتفظ بقوانينه وقواعده الثابتة عبر الاشتغال على المادة الأصلية.
فالحال هنا أشبه بقواعد اللعب كما في الكرة، حيث يمكن ان نلعبها بالقدم ككرة القدم، أو باليد ككرة الطائرة أو السلة، أو غير ذلك من الالعاب. وكذا في لعبة الدومينا حيث ثمة ما يعرف باللعبة الامريكية، وأخرى المصرية، ومثلها لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب. وفي كل لعبة قواعدها الخاصة، ففي كرة القدم تشترط القواعد على اللاعبين ان يلعبوا بالقدم لا باليد، باستثناء حامي المرمى، وذلك على عكس قواعد اللعب في الطائرة والسلة مثلاً.. وأي مساس بترك القواعد سيفسد اللعبة وتحول إلى فوضى من دون نظام. وهكذا هو العمل الإلهي على المادة الأصلية حيث النظام والقوانين من دون تخلف.
لذا فالاعتراض الذي يرد على الدوام: لماذا لا يمنع الله الشر؟ وما فائدة وجوده ان لم يمتلك قدرة على دفعه كلياً؟ يمكن الإجابة عليه وفق تصوراتنا حول قصور المادة الأصلية. ومعلوم انه من الناحية الفيزيائية قد يعتبر العالم أفضل العوالم لثرائه ونظامه الدقيق.. لكن أصل الإشكال يمكن الجواب عليه وفق ما سبق عرضه، وهو ان زوال الشر يأتي على التدريج وفق قوانين التطور الكوني والحياتي والعقلي، ولا محيص من ذلك استناداً إلى طبيعة المادة الأصلية المشتركة التي يُجرى عليها الخلق والتصنيع والابداع.
فبالتطور يزول الشر تدريجياً. وتتخذ العملية شكلاً حلزونياً غير خطي باعتبارها تبعث على الانتكاسات، لكنها في جميع الأحوال لازمة في تعجيل التطور. فعلى الصعيد البشري تبعث الانتكاسات على التحدي والجدل الديالكتيكي، وهو ما يجعل الشر باعثاً على الخير – عادة – رغم انه لا يقصده ذاتاً، لكنه يمثل حالة اقتضائية للتنمية والبناء وفق السنن الكونية والانسانية. لذلك يُنسب إلى الحلاج قوله: ‹‹ما صحّت الفتوة إلا لأحمد وابليس››.
فمثلاً لولا الأمراض ما عرف الانسان الدواء، ولولا الطبقية والاستعمار الغربي ونهب ثروات الشعوب ما تم التعجيل بالثورة الصناعية وما ترتب عليها من ثورة معلوماتية، ولولا اضطهاد الكنيسة وفتكها بالعلماء ما تحقق للغرب من مكاسب في سبيل الحرية والتقدم العلمي المستقل. وعلى هذه الشاكلة جاءت بعض الآثار الايجابية التي شهدها الغرب بسبب المآسي التي خلّفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، مثل ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني، ولو على النطاق القطري الضيق، وهي مع ذلك معرضة للخرق والاستثناءات وازدواج المعايير أو الكيل بمكيالين.
وسواء على الصعيد البشري عموماً، أو على الصعيد الفردي، ثمة عناية ظاهرة بفعل قوانين الطبيعة والسنن الاجتماعية التي تتوخى حفظ الانسان وتكامله ضمن حدود. فعناية االله مصاغة بالقوانين العامة وليس بعصى موسى والسحر والمعجزات. لذلك كان لا بد من وجود شيء من الشر الممتزج بالعناية. فكل ألم وعذاب مآله الزوال والنسيان، وحتى الموت هو رحمة عندما يعبّر عن ولادة جديدة ثانية، وعند أخذ هذه الولادة بعين الاعتبار؛ يصبح كل شيء في هذه الدنيا لا يقاس بمعيارها، مثلما لا يقاس الحلم بالواقع، أو الجنين بالمولود الجديد..
وواضح ان قوانين الطبيعة صارمة غير قابلة للخرق والتعطيل وفق التجارب والحسابات العلمية، وهي من هذه الجهة تحافظ على النظام العام، إذ ليس من المعقول تعطيل هذه القوانين لعوارض استثنائية من الشر والمصائب التي يتعرض لها الناس. فالقوانين ثابتة وهي مصممة لأغراض ذات عناية نوعية فائقة، إلى درجة يتهيأ لنا بأن الأرض محفوظة، وان كل نوع من الكائنات الحية محفوظ ما لم تنتهِ أهليته لغاية أو حكمة مفترضة ما زالت مجهولة.
هكذا فمثلما لدينا دقة نظام؛ كما في القوانين والثوابت الكونية، ودقة وظائف وغايات هادفة؛ كما في الحياة، ودقة مسار تطوري موجه وغائي؛ كما في ظهور الانسان وما بعده.. فكذلك ثمة عناية دقيقة تلوح الكائنات الحية وعلى رأسها البشر.
ووفق هذا المنظور القائم على أصالة المادة المشتركة المستقلة، تتخذ عملية التخلق والتكوين شكلاً صعودياً من البسيط إلى المعقد، ومن الناقص إلى الكامل، خلافاً لرؤية الفلاسفة القدماء، حيث تتخذ عملية الصدور والتكوين شكلاً نزولياً من العالي إلى السافل، ومن الكامل إلى الناقص، وفقاً لنظام العلّية. كما يختلف هذا المنظور عن الرؤى اللاهوتية التي ترى جميع الأشكال ممكنة، سواء كانت صعودية أو نزولية أو غير محددة الملامح.
[1] العدل الإلهي، ص173.
[2] للتفصيل انظر: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي.
[3] النحل\40.
[4] مثل قوله تعالى: ((قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) آل عمران\ 47. وقوله: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) آل عمران\ 59.
[5] لاحظ التفاصيل في: الاقتراب من الله، ص197.
[6] صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، ص173-174. والمبدأ والمعاد، ص198.
[7] صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج1، ص70-71.
[8] انظر: القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج1، ص51. و حيدر الآملي: أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وانوار الحقيقة، ص213-214. وجامع الأسرار ومنبع الانوار، ص393.
[9] للتفصيل انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.