يحيى محمد
تأسيس المعرفة الموضوعية
تتأسس المعرفة بالموضوعات (الخارجية) لدى عمانوئيل كانت على عنصرين مترابطين هما الحدوس والمقولات او المفاهيم الكلية العامة، كما فصّل الحديث عنهما في كتابه الشهير (نقد العقل المحض)[1]. فهناك حاجة مشتركة بين هذين العنصرين، فاحدهما مضموني والاخر صوري، وكلاهما لا يخضعان للاستدلال الخارجي، كما كلاهما يتضمنان القضايا القبلية، فمن هذه القضايا ما ينتمي الى الحدوس المحضة كالرياضيات واطر الزمان والمكان، ومنها ما ينتمي الى المفاهيم والمقولات والتي يصنفها الى اربعة اصناف رئيسية لكل منها ثلاث مقولات، والمجموع اثنتا عشرة مقولة. والاصناف الاربعة الرئيسية هي: الكم والكيف والاضافة والجهة.
والحدس لدى (كانت) يرتبط بالحس، فيما ان المفهوم يرتبط بالفاهمة. ومن الامتزاج بينهما تتشكل معرفتنا للعالم، حيث تُصيّر المفاهيم فتكون حسية، مثلما تكون الحدوس مفهومة.
ومعنى الحدس هو التصور المعطى قبل اي تفكير. والقاعدة العامة التي يقررها (كانت) تنص بان (كل حدوسنا حسية)، وهي على نوعين: حدس قبلي محض، وهو حدس المكان والزمان ومثل ذلك حدس الرياضيات، وحدس امبيري (امبيريقي empircal) وهو حدس الاشياء الحسية في المكان والزمان. وان الحدس الامبيري ليس ممكناً الا بالحدس المحض المتعلق بهذين الاخيرين. هكذا فللحدوس ثلاثة اشكال، بعضها يتوقف على البعض الاخر، وهي:
1- الحدس الحسي الامبيري، وهو حدس الموضوعات الخارجية.
2- حدس المكان والزمان.
3- حدس الرياضيات.
وليس هناك من حدس رابع، كما ليس هناك حدس عقلي صرف باعتباره غير حسي. حيث لا يمكن وصف الحدس اللاحسي بشيء، او انه بدون موضوع.
ويعتبر الحدس الحسي الامبيري ليس حدساً قبلياً، وانما هو بعدي ومتوقف على حدس المكان والزمان القبليين. وحتى الرياضيات رغم انها تعتبر حدساً قبلياً محضاً الا انها تتوقف على حدس المكان والزمان كما سنعرف. فالاساس بالتالي لكل الحدوس هو حدس المكان والزمان لا غير، وانه من دون الحدس جملة فان معرفتنا ستفتقر الى الاشياء وتبقى فارغة تماماً.
وبذلك فان ما يميز نظرية (كانت) عن المدرسة الحسية هو الجانب القبلي المحض للحدوس، باعتبار ان الاخيرة ترد التصورات جميعاً الى الحس الخارجي او البعدي.
لكن ليس بوسع الحدوس ان تؤسس المعرفة بالموضوعات من غير المفاهيم المحضة او المقولات، اذ لا يمكن التفكير بمجرد الحدس الحسي فحسب، وبالتالي كانت الحاجة الى المقولات والمفاهيم العامة الصرفة.
لقد اجرى (كانت) بحثه حول المقولات بعد نقده وتنقيحه لمقولات ارسطو من دون ان يخرج عن التقليد المتبع لبحثها. فمن وجهة نظره ان مقولات ارسطو مختلطة، ففيها ما يعود الى الامبيري كالحركة، وفيها ما يعود الى احوال الحساسية المحضة كالمكان والزمان، حيث المتى والاين والموضع والقبل والمعية، كما فيها ما لا يعود الى قيد الفاهمة، كذلك فان فيها مفاهيم مشتقة مختلطة بالاصلية كالفعل والانفعال. وبعيداً عن هذا الخلط وضع (كانت) لوحة اخرى للمقولات، فقام بضبطها وتحديدها معتبراً انها تمثل المفاهيم الاصلية الحقة للفاهمة، ولها مفاهيم مشتقة محضة، فصنفها الى اربعة اصناف من المفاهيم الفاهمية، وهي تنقسم الى قسمين، احدهما يتعلق بموضوعات الحدس، محضة او امبيرية، والثاني هو وجود هذه الموضوعات بعضها بالنسبة الى البعض الاخر، او بالنسبة الى الفاهمة. وفي هذه المقولات هناك صنف المقولات الرياضية وصنف المقولات الدينامية، فالاخيرة تتضمن المتضايفات بخلاف الاولى الرياضية. رغم انه اعتبر الرياضيات ضمن الحدس المحض من دون ان يعطي توضيحاً لهذا الاشتراك والاعتبارات التي يتضمنها. فمن حيث الاشتراك يمكن اعتبار الوحدة والكثرة - مثلاً - هي من المفاهيم والمقولات الرياضية العارضة على الشيء ولا تمت الى الحدس، فيما ان مضامين الرياضيات تعتبر حدسية بالفعل.
ان للمقولات طبيعة صورية تضفي الوحدة والتنظيم على الحدوس الامبيرية. فهي مجرد صور من دون موضوعات، او هي صور ذاتية لوحدة الفاهمة انما دون موضوع، وبالتالي لا يمكن ان تكون مفهومة من دون شروط الحساسية ومن ثم صورة الظاهرات. فيمكن لمتنوع التصورات ان يعطى في حدس محض، لكن ربط متنوع التصورات هو فعل لتلقائية ملكة التصور المسماة بالفاهمة. فكل ربط سواء كان ربطاً لمتنوع الحدس ام لمفاهيم متنوعة هو فعل للفاهمة، ويطلق عليه فيلسوف المانيا (التأليف). فالشيء هو ما في مفهومه يتوحد متنوع الحدس المعطى، وكل توحيد للتصورات يتطلب وحدة الوعي في التأليف. فوحدة الوعي التأليفي هي التي تقيم الصلة بين التصورات والموضوع، ومن ثم تقيم مصداقيتها الموضوعية. فهذه الوحدة هي شرط لكل معرفة، من حيث انها رابط. فالربط هو التصور الوحيد من بين جميع التصورات لا يمكن ان يعطى بالاشياء، بل هو فعل الذات تلقائياً، وبالتالي فان المقولة تفترض الربط سلفاً. او ان ما يجعل لمتنوع الحدس المعطى معارف انما يستند الى امكان الفاهمة. ويمكن ارجاع جميع افعال الفاهمة الى احكام، فالفاهمة بمثابة القدرة على الحكم او التفكير، والتفكير هو المعرفة بمفاهيم.
ان الحدس في حد ذاته لا ينتج معرفة بحسب (كانت)، فحدس المكان والزمان مثلاً لا يعتبر معرفة بعد، بل هو حدس معطى قبلياً من اجل معرفة ممكنة. ولاجل تحقق المعرفة، كإن نعرف شيئاً في المكان مثل الخط؛ فيجب ان نخطه وان نحقق من حيث التأليف ربطاً متعيناً للمتنوع المعطى، وبذلك نعرف مكاناً متعيناً متمثلاً بالخط. فالحدس - هنا - يحتاج الى الربط والتأليف الذي هو من فعل الفاهمة.
ويميز هذا الفيلسوف بين الفاهمة والعقل المحض. فالعقل على خلاف الفاهمة لا يتصل بالتجربة ولا بأي موضوع كان، بل بالفاهمة كي يضفي على متنوع معارفها قبلياً وحدة هي الوحدة العقلية. كما ان للعقل علاقة بالمبادئ لا القواعد، فالفاهمة لها القدرة على انشاء القواعد، حيث لها قدرة على توحيد الظاهرات بواسطة قواعد معينة، فيما ان للعقل قدرة على انشاء المبادئ، فهو يعمل على توحيد القواعد الفاهمية تحت مبادئ محددة.
لذلك لا يهتم الاستدلال العقلي بالحدس كي يخضعه لقواعد كما تفعل الفاهمة مع مقولاتها، بل بمفاهيم واحكام. فليس للعقل المحض صلة مباشرة بالموضوعات ولا بحدسها، بل بالفاهمة واحكامها الموجهة بدءاً الى الحواس والى حدسها. فوظيفة العقل هي انه يعمل على تنظيم المفاهيم ويضفي عليها الوحدة. فالوحدة العقلية هي وحدة فاهمية مغايرة لوحدة التجربة الممكنة التي تحققها علاقة الفاهمة بموضوعاتها الحسية. فليس للعقل المحض غرض الا بمعارف الفاهمة من اجل وحدة المفهوم العقلي، اي من اجل الترابط في مبدأ.
وعموماً إن كل مفاهيم المقولات مع كل مبادئها وأياً كانت قبلية امكانها هي ذات صلة بحدوس امبيرية، أي بمعطيات من أجل تجربة ممكنة. ومن دون ذلك لن يكون لها اي مصداقية موضوعية، بل ستكون مجرد لعب للمخيلة او الفاهمة مع تصوراتهما الخاصة.
وبهذا يضيّق (كانت) مفهوم المعرفة الممكنة ضمن الاطار الحسي فحسب من دون ان يستند في ذلك الى دليل. فالمعرفة الممكنة هي دائماً ترتبط بالموضوع الحسي، وبدون هذا الارتباط فلا معرفة ممكنة، ويصبح فعل الفاهمة مجرد تصورات بلا معنى او دلالة. فمن وجهة نظره انه ليس هناك موضوع للفاهمة سوى امكان التجربة.
وخلاصة فلسفة (كانت) حول المعرفة الممكنة هي انه يعتبرها وليدة امتزاج الحدس بالمقولات، فلو كانت المعرفة بغير حدس فلا يبقى اي شيء غير صورة التفكير من دون موضوعات معطاة. كذلك لو كانت المعرفة من غير مقولات فسوف لا تكون اي معرفة باي موضوع، اذ لا يمكن التفكير بمجرد الحدس الحسي، فهو بحاجة الى المفاهيم الصورية كي تتشكل منها معرفتنا بالعالم (الخارجي). كذلك فان المقولات بحاجة الى حدس حسي امبيري لمدّها بالمضمون او المعنى والدلالة. فرغم ان الفكر ليس نتاجاً للحس ولا ينحصر به، لكنه لا يتمتع مباشرة باستعمال خاص ومحض من دون مساعدة الحساسية. فالفاهمة متحدة بالحساسية فتنتج المعرفة الامبيرية.
والنقطة التي اضافها فيلسوف بروسيا بهذا الصدد هي ان هذه المقولات لا تطبق الا على الموضوعات المعطاة في حدس بوصفها ظاهرات فحسب. فرغم ان للمقولات قابلية للتطبيق على اكثر من الموضوعات المعطاة حدسياً؛ لكنها لا تطال اكثر مما هو معطى حسياً، بمعنى انه ليس لدينا حدس خارج النطاق الحسي كي تطالها المقولات. وهي الدعامة الاساسية لمنع اي معرفة ميتافيزيقية ممكنة.
لقد قام هذا الفيلسوف بالرد على النظرية الحسية لدى كل من لوك وهيوم حول اشتقاق المفاهيم او المقولات المحضة من التجربة. فهو ينتقد هذه النظرية لجعلها التجربة اساس المفاهيم المحضة، ويرى ان العكس هو الصحيح، اذ تتوسل الفاهمة بهذه المفاهيم نفسها لخلق التجربة حيث تصادف موضوعاتها. فالمقولات هي شرط امكان التجربة. وهو يشير بذلك الى نزعته الذاتية التي تقطع الصلة عن الواقع الموضوعي لهذه المفاهيم المحضة. مثلما ان اتحادها مع الحساسية يقطع الصلة فيما بينها وبين القضايا الميتافيزيقية.
***
وتواجه نظرية (كانت) سواء في الحدس او المقولات، وكذا العلاقة الرابطة بينهما، بعض الاعتراضات الاساسية، يمكن تسجيلها بحسب النقطتين التاليتين:
1ـ هناك تقليد منطقي يقسم المعرفة الى تصور وتصديق، والاول هو مجرد ادراك بسيط، فيما ان الثاني يزيد عليه بالحكم. ويمكن تطبيق هذا الحال على الحدوس وما تتضمنه من روابط مفهومية او مقولاتية، مما يجعلنا نعيد رسم خارطة الحدوس وعلاقتها بالمقولات وفق هذا التقسيم المنطقي. فهناك حدس صوري، وهو رؤية تفرض نفسها علينا من غير تفكير، وهو قبلي وبعدي، كحدس الوجود والواقع الموضوعي العام والمكان والزمان والصور الحسيّة للأشياء الخارجية. كما في قباله هناك حدس تصديقي يتولّد تلقائياً او ذاتياً بعد الملاحظة او التفكير، وهو ايضاً قبلي وبعدي، مثل حدس الرياضيات واثبات الاشياء الخارجية كما سنعرف.
واستناداً الى هذين النوعين من الحدس المعرفي يكون الربط الذي تتضمنه المقولات ربطاً صورياً وتصديقياً. والاول ينشأ تلقائياً كما هو حال الادراك الحسي، ومن ذلك ان الصور الحسية تأتي عبر منافذ مختلفة للحواس، لكن الحس المشترك يعمل على الربط فيما بينها تلقائياً، بلا ارادة او شعور، فتنشأ لنا صورة موحدة للشيء الخارجي رغم ان التحليل الفلسفي يردها الى مجموعة احساسات مختلفة لاختلاف المنابع الحسية التي لا علاقة لبعضها بالبعض الاخر. فالحس البصري يزودنا باللون والشكل، والحس اللمسي يُشعِّرنا بحالة الشيء ان كانت صلبة او سائلة او غيرها، والحس الشمي يُحسِّسنا برائحته، والحس الذوقي يسمح لنا بتذوق طعمه. فهذا الشتات يتجمع ويتوحد بارتباط بعضه بالبعض الاخر تحت طائلة شيء واحد هو الشيء المدرك او الجوهر.
بل ان الربط الصوري يكون حتى في حالة الحاسة الواحدة، كما في البصر، فما تراه العينان هو رؤية موحدة للشيء لا اثنتين.
فهذا هو الربط الصوري، وقد تحدث عنه (كانت) ضمنياً من دون ان يميزه عن الربط التصديقي المتضمن للوعي الذهني والارادة التصديقية، فهذان العاملان حاضران في عملية الربط خلافاً للربط الاول.
واذا كان الربط التصديقي ظاهراً تماماً باعتباره يربط بين الموضوع والمحمول في القضية التصديقية، فان الربط الصوري قد يكون ظاهراً بالفعل كحال الحدوس الامبيرية للاشياء الخارجية، كما قد يكون نسبي الظهور كحال الحدوس الحسية البسيطة او الفردية، مثل احساسي بهذا اللون الاحمر، حيث يمكن اعتباره احساساً فردياً ليس فيه علامة ربط مع غيره من الادراكات الاخرى، لكن في الوقت ذاته انه مركب لذات اللون المدرك، فهو احساس مكثف وموحد للمعلومات التي تحملها كمات الاشعة الضوئية، فيكون بهذا الاعتبار ربطاً فردياً مركباً.
وبلا شك ان تقسيمنا السابق سيغير من طبيعة مفهوم الحدس الكانتي ومدياته. فقد جاء في تعريفه بانه تصور قبل اي تفكير ممكن. وهو لم يميز بين ما يعود الى الحدس الصوري وما يعود الى الحدس التصديقي. وتعريفه ينطبق على قالبي المكان والزمان والحدس الامبيري باعتبارها من الحدس الصوري، لكنه لا ينطبق على الحدس التصديقي، فالاخير بحاجة الى تحديد مختلف، فمنه ما هو قبلي ومباشر كالحدس الرياضي، ومنه ما يتوقف على معارف سابقة، مثل حدس اثبات الشيء الخارجي لكونه يعتمد على التنمية الاحتمالية، ولأن هذه التنمية لا تفسر اثبات الشيء، وانما ترجيحه وفق المنطق الاستنباطي (الاستنتاجي)، لذا فهناك قفزة بين الترجيح والاثبات القطعي، وهي قفزية حدسية تبررها المعرفة السابقة وان لم تفسرها، وهي ذات اليقين الموضوعي بحسب الاصطلاح الصدري في (الاسس المنطقية للاستقراء).
فالقطع بوجود الاشياء هو من الحدس المتوقف على معرفة سابقة، ومثله التوقعات والتكهنات التي يزيد فعلها التصديقي على مرجحاتها المنطقية، حيث انها ايضاً تعتبر من الحدس الناشئ بفعل المعرفة السابقة.
وبهذا المعنى فان بعض ما اعتبره (كانت) ضمن المفاهيم او المقولات هي من الحدس التصديقي غير الحسي وغير القائم على معرفة سابقة. صحيح ان بعض المقولات هي – بالفعل - روابط عارضة على الحدوس الحسية وليس لها دور في الاستنتاج ولا في الاستكشاف المعرفي الموضوعي، الا ان بعضاً منها يؤدي الدور الاستكشافي بوضوح، وهنا مجال حدسيتها التصديقية، مثل مبدأ السببية العامة.
لقد ارتكب (كانت) ابرز مغالطة عندما اعتبر مبدأ السببية من المقولات المحضة لا الحدوس. فقد حسبه مجرد رابط من دون خاصية الاستكشاف الموضوعي التي هي صفة لازمة له ضمن اطار ضرورته الوجدانية. فهو مبدأ يمتاز بصفة الاخبار القبلي، ومن ثم التحدي، باعتباره يتعالى على التجربة فيما انه يتنبأ بنتائجها المجملة تبعاً للضرورة المشار اليها. وهي الضرورة التي تختلف عن نظيرتها المنطقية في ان مخالفتها لا تفضي إلى التناقض، فلو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟.. وهنا تأتي صفة التحدي[2].
ان فارق مبدأ السببية عن الرياضيات، هو ان الاخيرة لا تمتلك في حد ذاتها مجال الاستكشاف الموضوعي، بل لها صفة الاستنتاج المنطقي الصرف، فيما ان مبدأ السببية يحمل في ذاته صفة الاستكشاف، بل ويمتلك القابلية على التمدد ميتافيزيقياً[3]. فلو اننا افرغنا صفة الاستكشاف عن مبدأ السببية فانه سيكون فارغاً من دون معنى. وبهذا يتميز الحدس السببي عن الحدس الرياضي، رغم ان للرياضيات دوراً قد تمارس فيه الاستكشاف والتكهن بفعل معارف سابقة، كالاستكشاف الرياضي الحاصل لدى الفيزياء المعاصرة ضمن منهجها الرياضي[4]، لكن ذلك لا يتحقق من حيث الذات والبدء والاساس، فالرياضة في حد ذاتها لا تحمل الاستكشاف الخارجي خلافاً للسببية.
ووفقاً لهذا المعنى فان الحدس التصديقي لا يتوقف على الحس ولا يرتبط به دائماً. فالحدس القبلي المباشر وروابطه المفهومية ليس له علاقة بالحس وقيوده. واذا كان هذا الحال واضحاً بالنسبة لاساسيات الرياضة لما تحمله من حدس استنتاجي، فانه لا يقل اهمية بالنسبة لمبدأ السببية العامة، باعتباره يمثل حدساً استكشافياً غير مقيد بالمجال الحسي وآفاقه الضيّقة.
لقد ربط (كانت) نظريته في الحدوس والمقولات بالحس من دون تجاوز، ورمى الى وجود تلقائية انعكاسية للواقع الحسي من دون امكانية للخروج من ضيق هذا السجن المعرفي. وحتى الرياضيات ارجعها الى صورتي المكان والزمان، فبحسب مفاهيمه ان الحدس القبلي لا يتجاوز هذين الاطارين. كما ان روابط المقولات للحدس لا تتجاوز بدورها المجال الحسي، فالمقولات بحاجة الى الحساسية والا اصبحت جوفاء بلا معنى او دلالة. وهذه هي مصادرة (كانت) التي تفتقر الى الدليل، وغرضها إبعاد التفكير الميتافيزيقي عن المعرفة الممكنة مطلقاً، رغم ان هناك من الادلة ما يطعن فيها وينقضها. فمع ان بعض المقولات مرتبطة بالحس من دون تجاوز بالفعل، لكن بعضها الاخر يتعالى على ذلك. ومن وجهة نظر (كانت) ان المقولات المتعالية لا تفيد اي معنى او دلالة ان لم تطبق على الحس كروابط للحدوس الامبيرية. وكما عرفنا ان الروابط على نوعين: صورية وتصديقية، والصورية هي المرتبطة بالحس الصوري، اما الروابط التصديقية فمنها ما له علاقة بالحس فعلاً، فيما ان منها ما لا يتقيد بهذا الجانب، مثلما هو الحال مع مبدأ السببية العامة. وعلة عدم التقيد بالحس لهذا المبدأ تنبع من كونه يحمل حدساً مستقلاً وهاماً هو الحدس الاستكشافي الذي افرغه هذا الفيلسوف من مضمونه، اذ اعتبره مجرد رابط حسي صرف تأثراً بنظرية هيوم النقدية.
2ـ من المؤكد ان الاشكال الثلاثة التي ذكرها (كانت) حول الحدوس لا تنتمي الى حقل واحد، او انها ليست قابلة لان تجمع ضمن حقل الخبرة الحسية. فمن الواضح اننا نتعامل بحسب هذه الخبرة مع الحدس الامبيري، كما نتعامل مع حدس المكان والزمان الحسيين، لكن حدس الرياضيات شيء مختلف تماماً عن الحدسين السابقين. ولا يمكن ان نعتبر حقل الخبرة الحسية بما تتضمن من اشياء موضوعية ضمن حيز مكاني واعتبارات زمانية هو ذات الحقل الذي يضم عالم الرياضيات المجردة، فمبادئ كل منهما تختلف عن الاخرى، وان ما يتحكم في الرياضيات هو مبدأ عدم التناقض خلافاً لما يتحكم في عالم الخبرة الحسية.
لقد ارتكب (كانت) خطأً كبيراً حينما اعتبر الحدس الرياضي حدساً حسياً. وكان الاجدر ان يعده من الحدس القبلي المحض من دون ان يرتبط بالحس، وانه ليس من المفهوم المحض. وقدّم تبريراً ساذجاً حول الموضوع، وهو ان الحدس الرياضي لا ينتج معرفة ما لم تطبق على حدوس امبيرية، فللرياضيات دلالتها في الظاهرات او الموضوعات الامبيرية، وبالتالي لها حدس حسي يتناسب معها، وبحسب وجهة نظره انه اذا بقي المفهوم الرياضي من دون حس فسيكون من دون معنى او دلالة، فالرياضيات لا تعني شيئاً ان لم يكن بالامكان اظهار دلالتها في الظاهرات. فمثلاً لا يكفي التقدير الخاص بالمثلث ان لم يكن له مصداق في التجربة الممكنة، وذلك كي لا يكون مجرد امر خيالي محض. فالتجربة هي وحدها التي تعطى فيها الموضوعات.
ففي الهندسة الرياضية مثلاً هناك حدس بان للمكان ثلاثة ابعاد، وان بين نقطتين يمكن ان نخط خطاً واحداً مستقيماً وحسب.. الخ. فعلى الرغم من ان جميع هذه المبادئ تتولد في الذهن قبلياً فانها لا تعني شيئاً على الاطلاق ان لم يكن بالامكان اظهار دلالاتها في الظاهرات او الموضوعات الامبيرية. وبالتالي كان من الضروري جعل المفهوم حسياً والا سيبقى من دون معنى او دلالة. ويعترف (كانت) ان من الممكن معرفة المثلث من مفهومه في حد ذاته قبلياً، لكن برأيه ان ذلك مجرد صورة موضوع، وسيظل مجرد انتاج للتخيل. والحال ان المكان هو شرط صوري قبلي للتجارب الخارجية، وان التأليف التخيلي الذي نبني فيه مثلثاً يبقى هو هو تماماً ذات التأليف الذي نطبقه في الظاهرة كي نُنشئ منها مفهوماً تجريبياً. وعلى هذه الشاكلة فيما يخص الكم العددي، فقد اعتبر (كانت) ان مفهوم الكم يبحث عن مسند له ومعنى في العدد، كما في الاصابع، او في الحصى، او في الخطوط والنقاط المطروحة امام الناظر. فمع ان هذا المفهوم يتولد قبلياً مع المبادئ الا انه لا يمكن ان يكون له صلة بما يدعى موضوعات الا في التجربة.
وهذه هي العملية الاسقاطية التي مارسها (كانت) في علاقة الصورة القبلية بالحدس الحسي. فهو يعترف بالقضايا القبلية للرياضة، لكن من جهة صورتها فحسب، وبالتالي فهي ليست معارف في حد ذاتها الا وفقاً للحدس الحسي المحض.
فقد اسقط الرياضيات على الواقع الموضوعي بدل البحث عن روابطها القبلية المتعلقة بالحس. وهو الاستثناء الوحيد لديه، حيث تكون المعرفة تامة بروابطها التصديقية الذاتية بلا حاجة للحس. لذلك اعتبر الرياضيات تحمل يقيناً بحسب ذاتها لكونها تحمل مسلمات قبلية خلافاً لغيرها من القضايا المعرفية كمبدأ السببية مثلاً.
لقد اعتبر (كانت) الحدس الرياضي حسياً لارتباطه بقالبي المكان والزمان، فهما اللذان يستوعبان حقائق الرياضيات الحسية. فواقعية الرياضيات تتمثل في افتراضات المكان ومثله الزمان. فالهندسة الرياضية رغم انها قبلية لدى (كانت) لكنها محكومة واقعاً بالحدس المكاني الاقليدي، ولولا هذا الحدس الحسي القبلي لما كان يمكن الحكم يقيناً بهذه الهندسة. والشيء ذاته ينطبق على الرياضيات العددية في علاقتها بالحس والزمان. فهو يرى ان الكم يتأسس على التكرار المتتالي ومن ثم على الزمان والتأليف للمتجانس في الزمان.
وبلا شك ان التعليل الذي قدّمه (كانت) لتبرير حسية الرياضيات هو تعليل ساذج للغاية، بل ان ذلك يجعل منه يتبنى النظرية الحسية الفجة.. فمن الواضح ان الرياضيات المجردة لها عالمها الخاص المختلف عن عالم الحس والتجربة، وان خطأ الحس والتجربة لا ينعكس على خطأ الرياضيات. ان اصرار (كانت) على ربط الرياضيات بالواقع الحسي جعله يضطر الى الاحتفاظ بنوع خاص للرياضيات في الهندسة هي الرياضيات الاقليدية. وهو خطأ بليغ، وكأنه بذلك جعل الواقع الفيزيائي يؤثر على فحوى الرياضيات القبلية، رغم ان للاخيرة خاصية التعالي في اعتباراتها المجردة.
من هنا يمكن الاعتراض على نظرية (كانت) والكشف عن البداهة اللامشروطة للمبادئ الرياضية، وهو ان هذه المبادئ لا تتأثر بتجاربنا الواقعية، فمن خلال فعلها اللامشروط تكون متعالية على هذا الواقع مهما كانت طبيعته. فمثلاً لو اردنا ان نحدد مثلثاً ضوئياً في الفضاء كالذي يزاوله علماء الفيزياء، وبعد التحديد تبين ان زوايا هذا المثلث تساوي اكثر من (180 درجة) من دون وجود قوى خارجية مؤثرة، فماذا يعني ذلك؟ فلو اعتبرنا القبليات الرياضية لا تصدق الا على الواقع التجريبي وفق نظرية (كانت)، لكان يعني ان التحديد القبلي لزوايا المثلث بـ (180 درجة) ليس أمراً صحيحاً، وان الرياضيات ستكون خاطئة باعتبارها لا تتناسب مع الحس التجريبي. أما لو جعلنا من الرياضة متعالية على الواقع والشروط الامبيرية الحسية، فهذا يعني اننا عندما نكتشف بان درجة الزوايا اكثر من قائمتين فسيدلنا ذلك على طبيعة الواقع الموضوعي وليس خطأ الرياضة، اذ سندرك بان صورة الفضاء ليست مستوية بل محدبة، او انها تتبع هندسة ريمان الرياضية، اذ لو كانت مستوية لكانت درجة الزوايا تساوي قائمتين بالضبط، اي (180 درجة). ومثل ذلك لو عرفنا بان درجة الزوايا اقل من قائمتين، حيث سيكون شكل الهندسة الطبيعية للواقع الموضوعي مقعراً ويتبع هندسة لوباتشيفسكي. وكل ذلك يدل على ان الرياضة غير مشروطة ومتعالية على الواقع الخارجي، وان طبيعة الاخير لا تؤثر على مبادئها المجردة، سواء فيما يخص الهندسة الشكلية او الحساب العددي.
أخيراً نتساءل: ما الذي جعل (كانت) يلجأ الى هذه السذاجة في الدفاع عن الحدس الحسي للرياضيات؟ فقد افقد (كانت) بشرطه الحسي بداهة القبليات وحقانيتها الذاتية المتعالية. ونعتقد انه فعل ذلك ليكون حريصاً على مسلكه الحسي النظري، وانكاره للمعرفة اللامشروطة التي تفتح الباب على عالم الميتافيزيقا؛ التي احال العلم العقلي بها دفاعاً عن الاخلاق والدين. فهو مضطر ليمحو اي اثر حدسي خارج الحس بدفاع مستميت كما لو كان فيلسوفاً هيومياً مقنعاً بقناع لايبتنز.
[1] اعتمدنا في كل ما يتعلق بتفصيل نظرية عمانوئيل كانت على كتابه: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي، بيروت، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[2] للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[3] انظر حول ذلك دراستنا: السببية والزمن الفيزيائي، موقع فلسفة العلم والفهم، بتاريخ: 6- 5-2015م:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=107
[4] للتفصيل انظر: منهج العلم والفهم الديني.