يحيى محمد
تقع القبليات في قبال البعديات. ويُعدّ عمانوئيل كانت أول فيلسوف ميّز بشكل واضح وصريح بين ما هو قبلي وما هو بعدي، في كتابه (نقد العقل المحض)[1]، وكما اشار الى ان هذا التمييز في المعرفة قد كان غامضاً جداً حتى لدى من وصفهم بالمفكرين المحترمين. فهو تمييز منهجي له علاقة بالمعرفة الترسندالية وما يمكن ان يُقبل منها وما لا يُقبل.
وتعتبر القبليات اساس وجود البعديات، وهي تنقسم الى حدسيات ومفاهيم محضة او مقولات. فالفكر البشري يتعامل مع الحدس الحسي المتمثل بالصور الفيزيقية مباشرة، لكن هذه الصور ما كان لها ان تتشكل من غير الحدس الحسي المحض المتمثل باطاري المكان والزمان، كذلك ما كان لها ان تتحدد بشكلها المعهود من دون قوانين تنظيمية تعود الى المقولات او المفاهيم العامة. فهذه المفاهيم هي ما تجعلها متماسكة الارتباط، لذلك هي قبلية غير مستمدة من الحس والتجربة، وبالتالي تعتبر ضرورية للمعرفة الموضوعية. فكل تجربة ادراكية ممكنة بحاجة اليها، وكل ظاهرة فيزيقية تخضع الى اطارها وتنظيمها. انها ذات القوانين الذهنية التي تتقوم بها الظواهر الفيزيقية، وهي غير القوانين الجزئية المتعلقة بالظواهر المتعينة امبيرياً، اذ لا يمكن ان تستمد بكاملها من المقولات على الرغم من انها تخضع لها جملة، لذلك لا بد من الاستعانة بالتجربة للتعرف عليها، كالذي يفيده (كانت).
هكذا فالحدس والفاهمة العقلية يلتقيان لدى الظاهرة الفيزيقية، وهي ما تشكل التجربة الادراكية الممكنة، فلولا القبليات الحدسية - كما في اطر المكان والزمان - لما تشكل الحدس الحسي، ولولا المفاهيم التنظيمية للمقولات العقلية القبلية لما كان بالامكان ادراك الظاهرة او اي تجربة ممكنة.
واذا كانت الظواهر منشؤها الحس او التجربة فان المعارف القبلية تتعالى عليها، فهي مفاهيم وحدوس تتولد لدينا بشكل مستقل عنها. بل انها تتضمن مبادئ امكان هذه التجربة بعامة، وبالتالي فهي ضرورية للمعرفة الموضوعية، ومن التناقض محاولة ردها الى القضايا الحسية والتجريبية.
ان التجربة هي أداة المعرفة للظواهر، فمن خلالها ان الشيء الوحيد الذي يمكن ان يعطى لنا في معرفة هو هذه الظواهر. وبالتالي فكل معرفتنا تبدأ مع التجربة.
ويقصد (كانت) بالتجربة ليس المعنى المتداول لدينا، بل هي ‹‹معرفة بالاشياء من خلال الادراكات››. فهي ليست ممكنة الا بتصور اقتران ضروري للادراكات. او انها تأليف مركب لهذه الادراكات في وعي واحد.
ان لموضوعات التجربة اهمية بالغة لدى (كانت). فهو يهب المقولات القبلية قيمة عندما تشتبك معها، والا كانت المفاهيم فارغة، فرغم اننا نفكر بواسطتها، لكن هذا التفكير لا ينتج شيئاً سوى اللهو بالتصورات من دونها. حتى المكان والزمان رغم قبليتهما فانهما يعتبران من دون معنى ومصداقية ان لم تظهر تطبيقاتهما الضرورية على هذه الموضوعات.
هكذا ان القوانين القبلية لدى (كانت) مشروطة بالموضوعات او التجربة الممكنة، وهي في ذات الوقت اساس لها. فالتجربة لا تتأسس من غير مقولات، ومن خلالها تتحقق ما تسمى الظواهر الفيزيقية. اذ تستند التجربة الى وحدة هذه الظواهر التي تؤلفها المفاهيم الذهنية، ومن دونها لن تكون هناك معرفة قط، بل مجرد شتات بلا روابط او تأليف. وفي القبال لولا امكان التجربة لاصبحت جميع معارفنا القبلية بلا واقع موضوعي ولا معنى لها. وبالتالي فامكان التجربة هو ما يعطي لجميع معارفنا القبلية واقعاً موضوعياً.
وبحسب (كانت) انه على الرغم من ان المبادئ القبلية لا تبدأ من معارف اعلى واعم، لكنها مع ذلك بحاجة الى دليل، وهو يرى انه لا يمكن لهذا الدليل ان يتوغل موضوعياً اكثر من معرفة الموضوع (الظاهري)، بل انه يشكل بالاحرى اساساً لهذه المعرفة. وبالتالي فانه لا يمنع من ان يكون بالامكان ان نستمد دليلاً من المصادر الذاتية التي تجعل معرفة موضوع بعامة ممكنة، بل جعل ذلك ضرورياً، اذ بدونه ستحوم على المبدأ شبهة ان يكون مجرد زعم باغت.
إذاً، فالاستدلال على القبليات لا يتعدى كون الظواهر الحسية تتوقف عليها، فتتشكل بذلك المعرفة الموضوعية من دون ان يكون هناك مجال للمعرفة خارج عن هذا الاطار الفيزيقي، فليس من معرفة ممكنة لنا الا معرفة موضوعات تجربة ممكنة وحسب، وما عدا ذلك ندخل في مرحلة العقل الترسندالي الجدلي الميتافيزيقي. بمعنى ان النشاط العقلي للمبادئ القبلية يمكن ان يتجاوز بطبيعته المجال الحسي، لكن مع ذلك تبقى المعرفة غير ممكنة علمياً من دون هذا المجال. ففقر استدلالاتنا العادية تتولد من خلالها مملكة واسعة من الامكان[2]، وهي لا تطابق كل ما هو متحقق سوى جزء صغير منها هو ذلك المتعلق بموضوعات التجربة.
وعموماً ان الحقانية المتعلقة بالقبليات لدى (كانت) هي غير الحقانية البديهية المتصفة بالاطلاق والتجريد. ورغم ان هذا الفيلسوف يعتبر المبادئ القبلية ضرورية وكلية، لكن اعتبارها مشروطة في مستوى الحس والتجربة يجعل منها غير بديهية ولا كلية مطلقة.
لقد تصدى (كانت) لنقد الاتجاه العقلي كما يتمثل لدى لايبتنز في تفسيره العقلي للقبليات. فهي لدى لايبتنز كفيلة بان تمكننا من معرفة ما وراء الحس او العالم المعقول، فالفكرة السائدة لدى العقليين هي ان هناك تطابقاً بين العالمين الذهني والواقعي، وان القوانين العلمية هي انعكاس لقوانين الوجود والواقع بفضل مبدأ السنخية الذي تمسك به الفلاسفة القدماء، وهو ما لم يتقبله (كانت) ونقد لايبتنز عليه، وهنا تتجلى ثورته في اعتبار العقل هو المحور الاساس الذي تدور حوله الاشياء وليس العكس، وهي الثورة التي شبهها بعمل كوبرنيك عندما عكس الحال المألوف من سكون الارض ومركزيتها الى حركتها حول الشمس.
***
يمكن تلخيص نظرية (كانت) فيما احتج به حول ضرورة القبليات بالنسبة للمعرفة الموضوعية قبل نقدها، وذلك حسب النقاط المجملة التالية:
1ـ تمتلك المعرفة الموضوعية للظواهر الطبيعية حاجة متبادلة ومشتركة بالنسبة الى القبليات والحسيات، فالقبليات ليس لها معنى ان لم تطبق على الحسيات، فيما لا يمكن للاخيرة ان تولد معرفة موضوعية من دونها. فهذا الربط بين الطرفين هو ما يشكل الاساس في نظرية (كانت) حول اهمية القبليات ودورها في تشكيل المعرفة الموضوعية، فعلى القبليات يتأسس فعل المعرفة الموضوعية للاشياء، وبدونها ليس هناك اي معرفة ولا امكان تجربة ممكنة. كما ان من غير الموضوعات الحسية تصبح القبليات بلا قيمة او معنى.
2ـ ان ارتباط القبليات لا يتجاوز معرفة الموضوعات الظاهرية او الحسية، وبالتالي فكل تعميم لها على موضوعات اخرى ميتافيزيقية سيكون مجرد زعم بلا دليل. فالحاجة الى القبليات مرهونة في الذهن بخصوص المعرفة الموضوعية، وغير ذلك فليس عليه دليل ولا هو ظاهر للذهن البشري.
3ـ تعتبر القبليات ذاتية المنشأ، فليست هي بديهية ولا تجريبية. فلقد توسط (كانت) بين العقليين والتجريبيين في موقفه من هذه القبليات ومبادئها، فهو يخالف العقليين الذين اعتبروها بديهية، كما يخالف التجريبيين الذين ردوها الى التجربة. في حين انه يرى هذه المعايير لا تتجاوز النواحي الذاتية دون الموضوعية.
ومن حيث النقد، يلاحظ ان نقطة الضعف لدى (كانت) تتمثل في التضييق الحسي المتأثر بالنزعة الهيومية، فهو يقيد القضايا القبلية بموضوعات التجربة الممكنة. وهذا التضييق يجعل امكانية تطبيقها على القضايا الميتافيزيقية امراً غير ممكن، وهو الحال الذي ينسجم مع جعلها ذات نشأة ذاتية مشروطة ومسؤولة عن تشكيل وتنظيم الصور الحسية التي يحدسها الذهن فحسب، كما هو الحال مع قانون السببية العامة. فمع انه يعتبر هذا القانون يتصف بالضرورة والكلية الصارمة، لكن معيار الضرورة والكلية يوجد حصراً في قانون التجربة الممكنة، ولا تمتد علاقة الضرورة في الوجود الى ما بعد حقل هذه التجربة، ولا ما يتجاوز الزمان، فمعنى الضرورة هو وجود الموضوع في كل زمن، وحتى في هذا الحقل لا يصدق المبدأ المشار اليه على وجود الاشياء كجواهر؛ لأن هذه لا يمكن ان تعد قط بمثابة مسببات امبيرية ولا بمثابة شيء يحصل وينشأ، بل هي دائمة ثابتة. فالضرورة لا تختص الا بعلاقات الظواهر وفقاً لقانون السببية الدينامي.
ورغم ان (كانت) قد اسند المعرفة التجريبية الى المفاهيم القبلية، لكن هذه الاخيرة لا تمتلك مصداقية موضوعية، وبالتالي فلا مصداقية للمعرفة المتوقفة عليها. فهو يعترف بان هذه المفاهيم ذاتية من دون بداهة عقلية، لذا فهو يؤسس لشروط المعرفة الممكنة؛ فيما ان فلسفته تفتقر الى شرط امكان هذا التأسيس، حيث اعتماده على المعايير الذاتية. وهي لديه ليست يقينة وان وظيفتها لا تتجاوز الربط من دون كشف موضوعي.
فمن المعلوم ان هناك حاجة لجعل اساس المعرفة محكماً. فهو هدف تنشده الفلسفات غير الشكية للحفاظ على مصداقية المعرفة الموضوعية. ففي الغالب تعترف هذه الفلسفات بان هناك تراجعاً في المعرفة الاستدلالية ينتهي عند حد معين اخير يمثل اساس المعرفة قاطبة، ويشترط فيه ان يكون محكماً كي لا يتعرض البناء الفوقي الى الاختلال والشك المطبق. وهو الحال الذي يصدق مع كل من الفلسفات العقلية والتجريبية غير الشكية. لكن في اوساط هذه الاخيرة ظهر تحليل عميق جعل من التجربة الخالصة غير كافية لتحديد هذا الاساس، لذلك تم التعويل على وجود قابلية للمراجعة المستمرة من دون بداية تنتهي عندها المعرفة (الاستدلالية)، كالذي اضطر اليه ريشنباخ في اعتماده على العلاقة الدورية بين الاستقراء وحسابات الاحتمال من دون التوقف عند حد معين[3]. وتعتبر هذه النتيجة اضطرارية بالنسبة الى المذاهب التجريبية الخالصة، لكن نقطة الضعف فيها هي ان التراجع إلى ما لا بداية له يفضي بالمعرفة الى الاقتراب من الحد الصفري، وبالتالي تنعدم القابلية على الترجيح[4]. لذلك كان لا بد من الاستناد الى بداية محددة، لكن هذه الاخيرة لا تصلح ان لم تكن بديهية تتصف بالوضوح، كالذي تعول عليه المدارس العقلية، خلافاً للمذاهب التجريبية ومثلها نظرية (كانت) النسبية.
ان مصدر الخلل في التفكير الكانتي هو التضييق الخاص بالقبليات الضرورية. فصدق المبادئ القبلية وضرورتها الكلية يأتي من الاطلاق او اللامشروط، اذ لو كانت مشروطة بالحس والتجربة لكانت في حاجة الى دليل، وهكذا يتسلسل الحال حتى ينتهي الى اساس غير مشروط، او تفضي النتيجة الى خلل وفشل في المعرفة قاطبة كما اسلفنا. وكونها واضحة لدى الذهن البشري من دون شروط حسية فانها غنية عن الدليل، فهذه هي طبيعتها الحدسية التي تفرض نفسها على الذهن البشري كصفة اعجازية لجعل المعرفة ممكنة. لذلك تكون الموضوعات بحاجة اليها، فعلى الاقل حاجتها الى مبدأ عدم التناقض، بل والحاجة الى مبدأ السببية العامة التي نفى عنها (كانت) البعد الحدسي، وألبسها لباس الربط الصوري فحسب.
لقد كان ينبغي على (كانت) ان يصادر كل قضية ذهنية واضحة ما لم يدل الدليل على خلافها، فيما انه افترض المفاهيم الضرورية للمقولات واعتبرها ذاتية المنشأ، لذلك اعتبر وظيفتها لا تتعدى الربط مع الجانب الحسي، وهو الربط الذي غرضه منع القضية من ان تمتد الى فتح الباب على القضايا الميتافيزيقية..
لقد ناقش (كانت) مصدر المبادئ القبلية، وانتقد من يقول بانها موضوعة من قبل الله لتسهيل مهمة المعرفة، فاعتبر هذا الرأي لا يتناسب مع فكرة الضرورة كما في السببية. وقد اضطره ذلك ليبرر ان الموضوعات التي تطبق عليها السببية هي موضوعات ذاتية دون ان تكون خارج الادراك البشري. وبحسب استدلاله فانه تساءل: كيف يمكن للقوانين القبلية ان تجعل الطبيعة تنتظم وفقها؟ فهذا اللغز يجد جوابه لدى (كانت) من خلال اعتباره ‹‹القوانين لا توجد في الظواهر، بل فقط بالنسبة الى الذات التي تلازمها الظواهر، من حيث لها فاهمة، مثلما ان الظواهر لا توجد في ذاتها، بل فقط بالنسبة الى تلك الذات الفاهمة من حيث لها حواس. لكن الظواهر هي مجرد تصورات وليست اشياءً في ذاتها، بل تكشف عن اشياء لا نعرف ما قد تكون عليه في ذاتها، وهي من حيث هي مجرد تصورات لا تخضع لأي قانون اقتران سوى ذلك الذي تمليه القدرة التي تقرن›› عبر الفاهمة.
والنتيجة التي تتمخض عن هذا التوجه هي عدم تخلص هذا الفيلسوف من اسر المثالية الذاتية، فما يتحدث عنه من كلية وضرورة بعض القضايا القبلية كما في السببية انما هي مشروطة في العالم الذاتي دون ان تتجاوز هذا العالم. بل ان وصفها بالضرورة والكلية هو وصف مقيد. فهذه الضرورة لا تعكس شكل العلاقات الواقعية او الوجود الخارجي، فهي ضرورة لا تتعدى صور الارتباط الذهني او الذاتي للفاهمة. وبالتالي تصبح معارفنا جميعاً اسيرة المثالية الذاتية دون ان تشير الى شيء خارج الذهن. فالقبليات باعتبارها ذاتية غير موضوعية تُظهر لنا الاشياء كما تبدو وفق طبيعة جبلتنا دون ان يشير ذلك الى اي بعد خارجي موضوعي.. الى درجة يفترض فيها (كانت) انه لو كانت لدينا صور اخرى للحدس غير الزمان والمكان، وصور اخرى للفاهمة غير صور التفكير السياقية او المعرفة بالمفاهيم، لكنا رأينا الامور بطريقة اخرى رغم اننا لا نتصورها او نفهمها، وحتى لو فهمناها فانه لن تنتمي الى التجربة من حيث هي المعرفة الوحيدة التي نتوصل من خلالها الى الموضوعات. وبالتالي اذا كانت لدينا ادراكات اخرى فذلك لا يمكن ان تقرره الفاهمة حيث لا عمل لها الا مع تأليف ما هو معطى.
[1] اعتمدنا في كل ما يتعلق بتفصيل نظرية عمانوئيل كانت على كتابه: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي، بيروت، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[2] يمكن ان نقلب القضية المذكور ونقول: ان صور الامكان الذهني لدينا واسعة للغاية لذلك فانها تبعث على فقر استدلالاتنا.
[3] ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1979م، ص112ـ115.
[4] للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثانية، 2015م.