يحيى محمد
لنظرية المكان والزمان لدى الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت تاريخ يعود الى ما قبل شروعه بكتابة (نقد العقل المحض) عام 1770[1]. ففي البداية تبنى نظرية لايبتنز، ثم بعدها نظرية نيوتن خلال منتصف الستينات من القرن الثامن عشر. فنيوتن صوّر لنا المكان والزمان بانهما مطلقان وموضوعيان بغض النظر عن الاشياء التي يؤطرانها، وبالتالي فهما مقومان لها، وهي النظرية التي مال اليها اغلب الفيزيائيين قبل القرن العشرين لهيمنة الرؤية النيوتنية. في حين انهما لدى لايبتنز يمثلان علاقات بين الاشياء، فوجودهما لازم ولاحق عن وجودها، وبدونها ينتفيان، وهو موضع الخلاف مع النظرية الاولى. لكن (كانت) انتهى في الاخير الى نظرية ثالثة مختلفة، فهما لديه يشكلان حدسين سابقين على وجود الاشياء.
لقد برزت نظرية (كانت) الجديدة قبل كتابة (نقد العقل المحض) اواخر الستينات من القرن الثامن عشر، كما يظهر من رسالة له عام 1770، وهو ذات الامر الذي سيتكرر في (النقد) من دون اختلاف جذري[2]. فقد ردّ على النظرية الاولى القائلة بان المكان والزمان مطلقان مستقلان ومقومان للاشياء المتحققة، معتبراً انهما بهذه الفكرة ليسا بشيء، وانهما لا يوجدان الا ليضما في ذاتهما كل ما هو متحقق؛ بوصفهما قائمين بذاتهما وسرمديين غير متناهيين. كما ردّ على النظرية الثانية القائلة بانهما ملازمان للاشياء، معتبراً انه بحسب هذه الفكرة يجب على النظرية ان تنكر على التعاليم الرياضية القبلية المتعلقة بالاشياء المتحققة مصداقيتها، او على الاقل يقينها الضروري، لأن مثل هذا اليقين لا يمكن ان يكون بعدياً. لذلك رأى انهما قبليان وسابقان على وجودها.
ومن حيث التفصيل، ميّز (كانت) بين المكان والزمان وفقاً للخارج والداخل، فأحدهما خارج الذات والاخر داخلها. فخاصية المكان خارجية خلافاً للزمان. ففارق المكان عن الزمان هو ان الاول خارج عنّا ولا يمكن ان يكون شيئاً فينا، فيما ان الزمان متعلق فينا ولا يمكن ان يحدس خارجياً. كذلك فان المكان ينفرد بالتعين بشكل دائم، في حين ان الزمان وكل ما هو في الحس الباطن يجري بلا توقف. فالزمان ليس سوى صورة لحدسنا الباطن.
ورغم ان (كانت) اعتبر الزمان ذا صفة ذاتية واضحة لدى الذات البشرية دون ان يكون شيئاً خارج ذاتنا، لكن هذا لا يقلل من موضوعيته، فهو يشير الى ان له علامة دالة على شيء خارجي واقعي هو جوهر الظاهرة، وكما يعرفه بأن له أحوالاً ثلاثة: الدوام والتتالي والمعية. فالزمان صورة دائمة للحدس الباطن. وهو يدوم ولا يتبدل لأنه لا يمكن ان نتصور التتالي والمعية فيه الا كتعينات للظواهر، فالمعية والتتالي هما العلامتان الوحيدتان في الزمان. وان الدائم الذي تتعين جميع علاقات الظواهر الزمنية بالنسبة اليه وحسب هو جوهر الظاهرة، اي واقعي الظواهر الذي يظل – على الدوام - أسّاً لكل تبدل.
ان لهذا الفيلسوف عبارات موهمة تبدي انطباعاً بان للمكان وجوداً واقعياً خارج الذات البشرية، فيما انها تتحدث من منطلق الحدس الذاتي للانسان. فاحياناً يوحي لنا بوجود مكان موضوعي خارج عنا... ومثل ذلك فيما يتعلق بواقعية المبادئ الرياضية وغيرها من المقولات القبلية، من قبيل قوله: ان ‹‹امكان التجربة هو ما يعطي جميع معارفنا القبلية واقعاً موضوعياً››. وحتى المكان والزمان رغم انهما قبليان لكنهما ‹‹سيكونان من دون مصداقية موضوعية ومن دون معنى او دلالة ان لم نُظهر تطبيقهما الضروري على موضوعات التجربة››. فمعرفتنا القبلية عن المكان ستكون وهماً ‹‹ان لم ننظر الى المكان كشرط للظواهر يشكل مادة التجربة الخارجية››. ومثل ذلك قوله: ‹‹يدلل مجرد الوعي بوجودي الخاص وعياً متعيناً امبيرياً على وجود الموضوعات في المكان خارجاً عني››. ان المكان ‹‹يشكل اساساً للظواهر الخارجية بالضرورة›› أو انه شرط لامكان الظواهر.
وبعيداً عن هذه العبارات الموهمة تحدّث (كانت) عن المكان بدقة باعتباره اساس الحدوس الخارجية، وبحسب تحديده انه ‹‹تصور ضروري قبلي يشكل اساساً لجميع الحدوس الخارجية››. ومن وجهة نظره انه لا يمكن الكلام عن المكان الا من وجهة نظر الانسان، فاذا خرجنا من الشرط الذاتي فلن يعني تصور المكان شيئاً. وعليه فللمكان صفة مزدوجة تظهره واقعياً وذاتياً في الوقت نفسه. وعلى حد تعبيره: ان ‹‹للمكان واقعية امبيرية بالنسبة الى كل تجربة ممكنة، ومع ذلك في الوقت عينه له مثالية ترسندالية››. والمكان هو صورة جميع ظواهر الحواس الخارجية، اي هو شرط ‹‹الحساسية الذاتي الذي به يكون حدس خارجي ممكن لنا››. وهو مفصول الصلة عن الشيء في ذاته. فهو لا يمثل خاصية للاشياء في ذاتها ولا في العلاقات فيما بينها.
ان ما يثير الاهتمام هو ان هذا الفيلسوف يبدي بان هناك عالماً خارجياً هو غير الواقع الموضوعي المتعارف عليه، فهو واقع نسبي يخص الحس والحدس الخارجي، فهو الارض الذي يقف عليه المكان والزمان، حيث يعتبرهما موجودان في الحواس فقط، اما خارجها فلا حقيقة لهما قط. فمثالية المكان والزمان تختلف عن خداع الحواس، حيث لهما واقع موضوعي هو الواقع الامبيري المربوط بالحس وليس الواقع المطلق. وتختلف هذه المثالية للمكان لديه عن مثالية الالوان والطعوم وسائر الكيفيات الثانوية. فهذه الاخيرة لا تعتبر خصائصاً للاشياء، بل تمثل تغيرات في ذاتنا. في حين يعتبر المكان مزيجاً من الواقعية والمثالية، فواقعيته امبيرية لكل تجربة ممكنة فحسب، وليس للشيء في ذاته، ومثاليته ترسندالية، اي قبلية محضة. وعلى هذه الشاكلة فيما يخص الظواهر، اي انه يعتقد بان للظواهر صفة موضوعية خلافاً للكيفيات الثانوية.
ان المكان والزمان وكذلك الظواهر كلها ليست باشياء ولا توجد خارج ادراكاتنا الحسية. فالمكان والزمان ليسا تعينات للاشياء في ذاتها، بل لحساسيتنا، كذلك فان الظواهر التي فيهما هي مجرد تصورات لا اشياء في ذاتها.
***
لكن نتساءل اذا كان للمكان دلالة على الحدس الخارجي، فلماذا لا يكون موجوداً خارجاً فعلاً؟ لماذا لا يكون وعاءاً للظواهر كتعبير عن وجودها الخارجي ايضاً، وان كان من المحال الكشف عن حقيقتها كما هي لاعتبارات الانطباع الذاتي للذهن البشري؟ ما الذي يمنع فيلسوف بروسيا من ان يقر بوجود هذه القضايا مع الاعتراف بقبليتها؟ لماذا هذا التحوير للفلسفة العقلية؟ ما الذي سيخسره هذا الفيلسوف لو انه تماشى مع الفطرة السليمة والغريزة البشرية ضمن حدسها المدهش، وذلك بالاعتراف بوجودها خارج الذات؟.. فما المانع يا ترى؟
لقد عرض هذا الفيلسوف مبررين منفصلين في نفي ان يكون للمكان والزمان واقع موضوعي مطلق كشيء في ذاته، احدهما يتعلق بالجدل الترسندالي الميتافيزيقي حول ما اذا كانت حقيقتهما تنطوي على سلسلة نهائية او لا نهائية. فطبيعة العقل البشري تثير هذا الجدل غير المنتهي، بدلالة ان التاريخ الفلسفي يشهد الجدل المشار اليه على الدوام من دون الوصول الى حقيقة يجمع عليها الفلاسفة، لذلك صادر هذه القضية واعتبرها سالبة بانتفاء الموضوع. ومن ذلك انه اجاب على مشكلة الانقسام اللامتناهي للخطوط وما اليها ضمن المكان من خلال انكاره ‹‹على المكان وفي الوقت نفسه على كل الرياضة المصداقية الموضوعية››، اذ لا يمكننا ان نعرف لماذا والى اي مدى يمكن ان نطبقها على الظواهر.
هذا هو التبرير الاول، وسنخصص دراسة مستقلة تتضمن مناقشته لارتباطه بالمحور المركزي في فلسفة (كانت) حول القضايا الميتافيزيقية.
أما التبرير الثاني فمختص بعلاقة الحدس الرياضي بالمكان والزمان. فقد اعتبر هذا الفيلسوف ان القضايا الرياضية هي قبليات تتصف باليقين والتركيب، وهي تتضمن عدداً كبيراً من القضايا الحدسية المؤطرة بالمكان والزمان. لذا فقد تساءل: لو كان المكان والزمان موضوعين خارجيين؛ كيف يمكن ان يصادف الحدس الرياضي بقضاياه الكثيرة تطابقاً مع ما موجود خارج ذواتنا البشرية؟ فمثلاً ان قضايا الهندسة معروفة بصفات التركيب واليقين والضرورة والكلية المطلقة، وانه بضرورتها وكليتها المطلقة لا يمكن ان يكون مصدرها التجربة الخارجية، او الحس والحدس الامبيري، كما لا يمكن ان تكون مجرد مفاهيم صرفة، باعتبار ان هذه الاخيرة غير قابلة لأن يُشتق منها نتيجة جديدة، فهي – في حد ذاتها – تحليلية محضة. وبالتالي لم يبق لدينا الا الحدس القبلي لهذه القضايا، اذ من المحال تصورها من دون ان تكون مؤطرة بالبعد المكاني. لكن لو كان للمكان واقع خارجي لكان يعني اننا نصادف تطابقاً ضرورياً بين ما نبنيه في اذهاننا للقضايا الهندسية على كثرتها وبين وجودها في الواقع الموضوعي. وذلك على خلاف الحال فيما لو افترضنا المكان داخلنا، فيكون حدسنا القبلي متعلقاً بقضايا الرياضة ضمن ذواتنا واحساساتنا الخاصة من دون ان نفترض لها وجوداً خارجياً مستقلاً.
فالمثلث الذي نتصوره في ذاتنا ونحدد نتائجه الفعلية ليس له صلة بمثلث موضوعي مفترض خارج هذه الذات، والا كيف يكون ما هو ضروري في شروطنا الذاتية لبناء مثلث مصادفاً بالضرورة لمثلث في ذاته؟
ان هذه المصادفة في التطابق بين العالمين الذهني والواقعي هي ما استشكلها هذا الفيلسوف، مما اضطره الى الغائها بالغاء الموضوع الخارجي، اي ليس هناك مكان خارجي، او كشيء في ذاته، ومن باب اولى ليس هناك قضايا رياضية خارج الذات البشرية واحساساتها، باعتبارها مؤطرة بالمكان كما في الهندسة، او بالزمان كما في الحساب الرياضي. وبالتالي فجميع هذه الحدوس هي ذاتية صرفة من دون ان يكون لها مصداقية موضوعية خارج الحقل البشري.
ويمكن تحليل الدليل الكانتي المذكور الى عدد من القضايا التالية:
1ـ ان القضايا الرياضية هي حدوس تركيبية يقينة وضرورية، سواء على مستوى الهندسة او الحساب الرياضي.
2ـ ان الاصل في الهندسة هو الحدس المكاني، فلولاه ما كان للهندسة ان تكون. وان الاصل في الحساب هو الزمان، ولولاه ما كان للحساب ان يكون.
3ـ ان الحديث عن اي مطابقة بين الحدس الرياضي والموضوع الخارجي يعتبر غير مقبول، حيث لا يوجد ما يبرر هذه المصادفة طالما انهما من عالمين مختلفين.
4ـ وبالتالي ان ما يقابل الحدس الرياضي له خصائص حسية بشرية من دون مصاديق خارجية صرفة، وهو ما يفترض ان يكون المكان والزمان ذاتيين حسيين من دون موضوع خارجي.
***
ويمكن تسليط الضوء على النقاط السابقة من خلال النقود التالية:
أولاً: يلاحظ ان القضايا الرياضية وان كانت قبلية تتصف باليقين والضرورة بالفعل؛ لكنها ليست تركيبية كلها، فالحساب الرياضي لا يمكن اعتباره من القضايا التركيبية. ولسنا نقصد بالاخيرة ما يساوي القضايا الاخبارية (البعدية) كما هو الشائع عنها لدى الفلاسفة، فربّ قضية تركيبية هي غير اخبارية، كما هو حال القضايا الهندسية الصرفة، رغم ان كل قضية اخبارية قبلية او بعدية هي تركيبية بالضرورة، فالعلاقة بينهما هي علاقة عموم بخصوص. فالقضايا التركيبية هي أعم واكبر من القضايا الاخبارية، فقد تكون القضايا التركيبية من القبليات الضرورية – سواء كانت اخبارية او غير اخبارية -، كما قد تكون من البعديات؛ وكلها اخبارية[3].
لقد شعر (كانت) بان القضايا الرياضية تبدو كأنها تحليلية لقيامها على مبدأ عدم التناقض، لكنه مع ذلك اعتبرها تركيبية، واعترض على الفلاسفة الذين حسبوا القضايا التي مسندها المبدأ المشار اليه تتصف بالتحليل. واستدل على تركيبية الحساب الرياضي بالاستناد الى الحدس الحسي لا غير.
فمثلاً ان القضية الحسابية (7+5=12) هي بنظر (كانت) تحتوي على نتيجة جديدة وليست تحصيل حاصل، فمفهوم (12) ليس مجرد نتاج تصورنا لجمع السبعة مع الخمسة. فتحليل مفهومنا للعددين مع مفهوم الجمع لا ينتج لنا العدد (12)، بل لا بد من الجمع الحسي لينبثق هذا العدد. بدليل انه لو كان العددان كبيرين لما استطعنا ان نعثر على حاصل الجمع بمجرد تحليل تلك المفاهيم من دون الاستعانة بالحدس المشار اليه. مع ذلك فان (كانت) لا يعتبر هذه القضية امبيرية، وانما هي قبلية لكونها ‹‹مصحوبة بضرورة لا يمكن ان نستمدها من التجربة››، فلولا هذه الضرورة لكانت امبيرية كسائر القضايا الحسية[4].
وهنا يركز (كانت) على الحيثية الواقعية للجدة، وهو صحيح كما يرى. لكن الحال يختلف من حيث المنطق، فالحس هو شرط منبه على المعرفة الرياضية وليس منتجاً لها، وحال هذه القضية كحال علاقة المبادئ العقلية الاولى بالاستقراء الحسي كما جاء لدى التصور الارسطي، اذ اعتبرها منكشفة بالاستقراء كشرط منبه لا منتج. فبحسب ارسطو ان هذه المبادئ هي اقدم واعرف من جميع المعارف بما فيها الحسية أو القريبة عن الحس[5]، وانه لا يمكن البرهنة عليها اطلاقاً، ومع هذا فهو يعتبر إكتشافها يأتي عن طريق ممارستها من خلال الإستقراء الناقص، فيكون الاستقراء الحسي منبهاً عليها[6]. ويمكن اعتبار المعارف الرياضية جارية على هذه الشاكلة، اذ لا تعاني مشكلة ما تصادفه القضايا الاستقرائية من تعميم، او انها لا تخضع لهذه الاشكالية التي تعترض القضايا الحسية والتجريبية، الامر الذي يؤكد طابعها العقلي الصرف.
وبعبارة اخرى، ان الاصل في الجمع الرياضي يخضع لما ينبه عليه الحس عبر لحاظ عدد من القضايا الخارجية المحدودة الكفيلة بتبيان طبيعته العقلية الصرفة، خلافاً للقضايا الاستقرائية والحسية، اذ تحتاج الى ملاحظات عديدة ونواجه فيها مشاكل منطقية تتعلق بالاثبات والتنبؤ والتعميم، وهو ما لا ينطبق على الحساب الرياضي. وبذلك يثبت ان حواصل الجمع ليست جديدة من الناحية المنطقية رغم جدتها من حيث الواقع.
فالطفل - مثلاً - يحصل على نتيجة جديدة عند إدراكه للخمسة من خلال حاصل جمع الاثنين مع الثلاثة. في حين من الناحية المنطقية فإن هذا الجمع لا يترتب عليه أي اثر جديد سوى اختلاف التعبير. وكذا حين نجمع عدداً كبيراً مع آخر مثله سنحصل على نتيجة نعتبرها جديدة بحسب إدراكنا الخاص، رغم أنها منطقياً ليست جديدة. وبالتالي فجدة النتيجة اوعدمها إذا أخذت بحسب المعنى المنطقي فستكون ثابتة لا تتغير، ولو أخذت بحسب المعنى الواقعي، فإنها تكون نسبية متغيرة. فما هو جديد لإدراكي الآن؛ لا يكون كذلك فيما بعد، كما قد لا يكون جديداً لإدراك زيد من الناس مثلاً[7].
وعلى العموم ان الحيثية الواقعية للجدة تكون سابقة - زماناً - على الحيثية المنطقية عند الانسان. فأول ما تنشأ معارف الانسان جملة من خلال العادة عند الطفولة. فالعادة لدى الطفل هي أساس معارفه لا المنطق، وهو لا يميز من الناحية الذهنية بين ما تفعله المبادئ العقلية – كالرياضية - وغيرها من المعارف، فكلها تأتي وفق الإنطباعات، وكل معرفة تتزود بالإنطباع الأقوى تكون أكثر وضوحاً وتأثيراً عليه من الناحية الاعتقادية. ويظل هذا الحال حتى يصل إلى مرحلة التمييز المنطقي للقضايا، فيبدأ تمايز المبادئ العقلية عندها بالوضوح والضرورة، وهي المرحلة التي يحددها بياجيه وقت المراهقة أو ما يقارب سن الثالثة عشر، حيث تتشكل المعارف بشكل مستقل عن الإنطباعات النفسية.
ثانياً: للرياضيات المجردة طابع منطقي متعال عن المكان والزمان. فالهندسة الرياضية وان كان لا يمكن تصورها من غير مفاهيم الابعاد المكانية؛ لكنها تظل متوقفة على الافتراضات الهندسية دون تعيناتها الموضوعية. فهي غير معنية بما عليه شكل الواقع الموضوعي للمكان، لذلك فانها تتقبل صوراً مختلفة بحسب الافتراضات العقلية المجردة.
وهنا يظهر خطأ (كانت) عندما ربط هذه الهندسة بنوع خاص من المكان هو المكان الاقليدي، ومن ثم كان مضطراً لاعتبار الاخير قبلياً خلافاً للاعتبارات المنطقية وربما الفيزيائية ايضاً..
كما تظهر سذاجة التحليل الكانتي عندما اسند الاصل في الرياضيات الكمية الحسابية الى الزمان. فالكم هو تكرار محض، وكل تكرار يفترض الزمان سلفاً، حيث التتالي بين الآنات. وقد خلط (كانت) بين الرياضيات المجردة والتطبيقية القائمة على الحس والواقع، ومن حيث الرياضيات المجردة فانه لا علاقة لها بالزمان، كما ان الزمان وان كان من القبليات بالفعل، الا انه عارض على الاشياء، وفي الاصل انه عارض على الوجود العام، وهو من القبليات الحدسية وفق تقسيمنا[8]. وكل شيء نفترضه ثابتاً او متغيراً فان الزمان يعرض عليه، اذ ليس له حقيقة مستقلة في ذاته، خلافاً لتصورنا للمكان، فحدسيته تبدي استقلاله في ذاته. وبالتالي فهناك تفكيك بين هذين البعدين. ورغم انني اتجاوز - هنا - وجهة النظر الفيزيائية الحديثة التي تتعامل مع الزمان كشيء في ذاته متصل بالمكان، لكن لا بد من لحاظ ان التحليل الفيزيائي هو تحليل قائم على النظرية بحسب الاعتبارات التي تقبّلها الفيزيائيون، وهي تحتاج الى شيء من التقويم المنطقي عند النظر اليها فلسفياً، مما يخرج عن مجال بحثنا الحالي[9].
ثالثاً: رغم ان الذات البشرية مختلفة عن عالم الواقع الموضوعي الخارجي، فانه من حيث المبدأ لا مانع من وجود شيء من التطابق بين الرؤية الذهنية وهذا الواقع، ومن ذلك علاقة الحدس الرياضي به. فوضع التطابق بين العالمين لا يحتم وجود مصادفة غريبة كما يدعي (كانت)، بل على العكس انه يفترض شيئاً من الاعجاز الادراكي المبرر، فهو كالاعجاز المتعلق بتكيف الكائنات الحية مع البيئة، او بغرابة غرائزها الفطرية المستقلة عن الاكتساب البيئي. فنحن نرى الاشياء بما يتمم غرض التكيف مع طبيعة الواقع الموضوعي، وكل فرد منا يستخدم حدسه في رؤية هذه الاشياء كموجودات خارجية مستقلة عنّا[10].
صحيح انه من الناحية المنطقية والعقلية لا يمتنع ان تكون الظواهر والمكان الذي يؤطرها مجرد صور ذاتية تخلو من الواقع الموضوعي، لكن هذا الافتراض تستبعده غريزتنا البشرية، فهي تحتم علينا التعامل مع الاشياء باعتبارها مستقلة عنّا، حتى انها لم تترك مجالاً لعقول الناس في ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، أو ان يعاملوها بمستوى ما يعاملون به سائر القضايا.
فهذه الحالة الطبيعية هي بمثابة الاصل الذي يجب مصادرته ما لم يعارضه دليل قاطع. فهي كالصورة التي نرى فيها انفسنا في المرآة، اذ لا يمكن انكار نسبتها الينا، ولولا ان الادلة العلمية تُظهر بانها صورة غير مطابقة لنا بالتمام والكمال؛ لكنّا افترضنا التطابق بتبرير مستمد من حدسنا. وكذا هو حال علاقة الذهن بالواقع الخارجي. فمع ان الادلة العلمية تبدي ان ما يظهر لنا من ظواهر موضوعية هي مصطبغة باللون الذاتي للادراك البشري، وهو ما يجعل العلاقة تخلو من التطابق، لكن ذلك لا يبرر سلب هذه الظواهر ومصادرة واقعيتها الموضوعية مطلقاً. فالصور الذهنية منفعلة بتأثير عاملين: واقع الظاهرة الموضوعية من جهة، وطبيعة الذات البشرية من جهة ثانية. بمعنى ان الحقيقة الواقعية للظواهر هي ثابتة مهما اختلف تصورنا عنها.
***
ان اغرب ما في فلسفة (كانت) هي انها تتخلى عن بداهة الحدوس الخارجية والقضايا الواضحة الوجدانية فيما تفترض اشياءاً ليست واضحة ودون ادنى دليل، مثل افتراض الارادة الحرة للشيء في ذاته. فلا ادري ايهما اقرب للحدس والقبول العقلي: حرية الشيء في ذاته ام واقعية الظواهر الحسية والعلاقات الموضوعية للسببية ومثل ذلك الامتداد المكاني؟!
لقد امتازت هذه الفلسفة بالتكلف والتصنع، فهي ليست متسقة مثل فلسفة باركلي المثالية، كما انها ليست متسقة مثل الفلسفات الواقعية المتنوعة. وبالتالي فهي تحتاج الى تقويم وتعديل ينقذها من هذا الانحراف عبر المصادرة الذهبية التالية:
يجب التمسك بكل ما يبدو بديهياً ووجدانياً ما لم نجد دليلاً قاطعاً على خلافه. فالشيء الذي نحدسه خارجاً يبرر لنا التصديق به وإن خلا من الدليل والبرهان.
[1] اعتمدنا في كل ما يتعلق بتفصيل نظرية عمانوئيل كانت على كتابه: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي، بيروت، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[2] عبد الرحمن بدوي: إيمانويل كنت، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الاولى، 1977م، ص157، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[3] للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثانية، 2015م.
[4] يقول كانت حول ما سبق: ‹‹نجد ان افهوم (حاصل جمع سبعة وخمسة) يتضمن اكثر من جمع العددين في واحد، جمعاً لا يفكر معه البتة ما هو العدد الوحيد الذي يضم العددين الاخرين. فافهوم (12) لا يفكَّر البتة بمجرد كوني اتصور فقط (جمع سبعة وخمسة). ويمكنني ان احلل الافهوم الذي لدي عن مثل هذا الجمع الممكن قدر ما اشاء فلن احصل على العدد (12). يجب اذن تخطي هذين الافهومين والاستعانة بالحدس المناسب لاحدهما، وبحدس اصابع اليد الخمسة على سبيل المثال، او النقاط الخمس (كما ريغتر في حسابه) وبالاضافة التدريجية لوحدات العدد (خمسة) المعطى في الحدس الى افهوم (سبعة). وهكذا، آخذ اولاً العدد (7) مستعيناً فيما يخص الافهوم (5) باصابع يدي بوصفها حدساً، واضيف من ثم، الوحدات التي سبق ان جمعتها لأنشيء العدد (5) واحدة واحدة، الى العدد (7) بتلك الوسيلة المتخيلة، فارى العدد (12) ينبثق... وسيزداد اقتناعنا بذلك وضوحاً بقدر ما نأخذ اعداداً اكبر لأنه سيتبدّه حينئذ انه لا يمكننا البتة ان نعثر على حاصل الجمع بمجرد تحليل افاهيمنا على اي نحو قلّبناها واعدنا تقليبها من دون الاستعانة بالحدس›› (نقد العقل المحض).
[5] منطق أرسطو، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية.
[6] للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[7] انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[8] انظر حول ذلك: الحدس الكانتي وروابطه القبلية، موقع فلسفة العلم والفهم: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=113 .
[9] انظر حول ذلك: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2014م .
[10] انظر بهذا الصدد: الاعجاز الفلسفي للادراك، موقع فلسفة العلم والفهم، تاريخ النشر: 02-09-2014: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=103.