يحيى محمد
مشاكل النظرية
يمكن تصنيف المشاكل المتعلقة بنظرية الانفجار العظيم الى صنفين مترابطين، احدهما مناط بالتنبؤات القائمة على الارصاد والملاحظات الفلكية، فيما يرتبط الثاني بالتفسير النظري للظواهر الكونية الكبرى. وسوف نتحدث عن كلا هذين الصنفين من المشاكل على التوالي..
مشاكل التنبؤ والرصد الفلكي
وتتحدد هذه المشاكل بالتنبؤات التي لها علاقة بالادلة الرصدية كما عولت عليها النظرية.. وهي ثلاثة كما عرفنا: دليل الازاحة الحمراء واشعاع الخلفية الكونية والعناصر الخفيفة. وسنلقي الضوء على ما ينتابها من خلل وثغرات..
أـ الازاحة الحمراء
يعتمد دليل الازاحة على ظاهرة دوبلر وفقاً للانحراف نحو الطرف الاحمر لضوء الطيف عندما تكون النجوم والمجرات مبتعدة عنّا، كالذي مرّ علينا في السابق. والمشكلة الاساسية التي يواجهها الدليل المشار اليه هي ان هذا التفسير ليس هو الوحيد المسبب للازاحة الحمراء، فهناك اسباب اخرى تسبب الانحراف اللوني المذكور من دون ان يكون لها علاقة بالابتعاد. فقد تحصل هذه الازاحة بسبب تقدم العمر ولا علاقة لها بمفعول دوبلر. كما قد تحصل لوجود غبار يسبب عتمة النجم بدل التعويل على كون النجم بعيداً، تماماً مثلما تحمرّ الشمس والقمر بسبب الغبار في الغلاف الجوي. ويعتقد الفلكيون بان اغلب الخطوط الطيفية الخاصة التي رصدت تعود الى وجود غاز منتشر ورقيق جداً يُظهر الانحراف نحو الاحمر. كما قد يحصل هذا الانحراف بسبب حقل الجاذبية الشديدة التي تنهك طاقة الضوء المغادر منها، كالثقوب السوداء هائلة الحجم في مراكز بعض المجرات. هذا بالاضافة الى وجود اسباب اخرى قد يكون لها صلة بالفيزياء النووية تعمل على توليد الازاحة الحمراء وليس بسبب الابتعاد والسرعات المتفاوتة.
وطبقاً لما سبق شكك عدد من الفلكيين البارزين في ان يكون لهذه الظاهرة صلة بمفعول دوبلر او بتوسع الكون. واغرب ما في الامر هو ان هابل نفسه صاحب الاكتشاف المتعلق بهذا الصدد كان كثير التشكك فيما تعنيه الازاحة الحمراء، ففي اواسط الثلاثينات من القرن الماضي انهمك في جدل محتدم مع عدد من علماء الكون النظريين بشأن التفسير المناسب لانزياح طيف الضوء الوارد من المجرات الهاربة نحو الاحمر. فقد كان هابل يشعر بان قياسات هذا الانزياح لم تكن جديرة بالثقة بسبب الإحكام الذي يجب القيام به لمعادلة نقصان طاقة الضوء الوارد من المجرات المرصودة، فهذا النقصان يجعل الضوء يبدو اكثر وهناً مما يمكن ان يكون. وعليه رفض ان يفسر الازاحة الحمراء كدليل على ابتعاد المجرات عنا بسرع اقل من سرعة الضوء، وقد ادى به الرفض المشار اليه (عام 1936) الى الاستنتاج القائل بان المجرات ساكنة بلا توسع، فتعرّض استنتاجه الى هجوم من قبل العديد من علماء الكون النظريين، رغم ان اعمال هابل الرصدية كانت موضع ثقة واعتماد من دون اعتراض. وهو موقف يذكّر بالمنقول – لدى بعض المذاهب الاسلامية - عن وصية الامام الحسن العسكري في بني فضال من الشيعة الفطحية: خذوا ما رووا وذروا ما رأوا..
ومن هذه التشكيكات ما اشار اليه الفلكي الامريكي البارز هالتون آرب (Halton Arp)؛ من وجود تجمعات مجرية في السماء يشعّ بعضها انحرافات طيفية مختلفة جداً عن البعض الاخر، فاذا كانت متجمعة مع بعض فانه يصعب ان تكون سرعاتها مختلفة للغاية، كما لا يمكن افتراض ان المسافات بينها شاسعة.
وعلى هذه الشاكلة اكتشف الفلكي الاسترالي برين شميدت Brian Schmidt (عام 1964) ان لبعض اصناف الاجرام مظهر النجوم؛ الا انها تظهر انحرافات طيفية هائلة نحو الاحمر قد تبلغ (300%)، وهي تعني انه اذا كانت هذه الاجرام بعيدة جداً الى الحد الذي يشير اليه انحرافها فلا بد من ان تشع طاقة هائلة خارقة. ويصعب في هذه الحالة تعيين العلاقة بين السرعة والمسافة لشدة البعد. ويطلق عليها اشباه النجوم او الكوازارات (Quasars). فهي اجرام بعيدة جداً عنا، بل هي ابعد النجوم وفي غاية اللمعان والضياء، الى درجة ان الكوازار الواحد يعادل ضياء (100 مجرة)، لذلك لا يُعرف لحد الان مصدر هذه الطاقة الضخمة، فلا يُعرف عن حقول القوى او الجسيمات التي يمكن ان تفسر منابع الطاقة المركزة كهذه. ومن الكوازارات ما يصل بُعده الى (10 مليار سنة ضوئية)، ويزداد عددها كلما كانت اكثر بعداً عنا.
وفي مطلع ثمانينات القرن الماضي وجد الفلكيون ان اعتمادهم على قياسات الازاحة الحمراء تجعلهم ينتهكون احياناً السرعة الثابتة للضوء كما جاءت بها النسبية الخاصة لاينشتاين، اذ وجدوا ان بعض الكوازارات تبعث على نفثات من المادة تنتقل باسرع من الضوء، وهذا ما جعل البعض لا يتقبل ذلك ويعتبر الكون اصغر بكثير مما مقدر له، بل لم يقترح احد – انذاك- الانقلاب على نظرية النسبية الخاصة في دعواها بثبات سرعة الضوء، وتم رفض اي سرعة تتنافى مع الاخيرة واعتبارها من الاوهام البصرية، كما هو الحال فيما يخص بعض الكوازارات او النفاثات الفائقة السطوع.
وهناك من نقد طريقة هابل وما توصل اليه من نتائج قبل تشكيكه فيها، ومن هؤلاء الفيزيائي الامريكي الشهير ستيفن واينبرغ (Steven Weinberg)؛ الذي شكك فيما توصل اليه الاول من ارتباط بين المسافات والسرعات المجرية. واشار الى انه في (عام 1929) قدّر هابل المسافة لثماني عشرة مجرة فقط اعتماداً على التألق الظاهري لاكثر نجومها لمعاناً، ووازن بين هذه المسافات والسرعات الموافقة لها تبعاً لانحرافات دوبلر، واستنتج بان هناك علاقة خطية بينهما. فهذه هي نظرية هابل التي اعترض عليها واينبرغ قائلاً: ‹‹الحقيقة ان فحص المعطيات التجريبية التي كانت بحوزة هابل تجعلني في حيرة حول الطريقة التي استطاع بها ان يتوصل الى هذا الاستنتاج، اذ يبدو انه ليس ثمة ارتباط بين المسافات وبين السرعات المجرية، هذا فيما عدا ميل خفيف الى تزايد السرعات مع المسافات. في حقيقة الامر يجب ان لا نتوقع علامة تامة بين المسافات والسرعات من اجل ثماني عشرة مجرة، وان هذه المجرات قريبة جداً منا، اذ لا يبعد كل منها اكثر من كومة العذراء. ويصعب علينا ان لا نخلص من ذلك ان هابل كان قد عرف الجواب الذي كان يريده، باعتماده على الحجج البسيطة التي سقناها اعلاه، او على التفصيلات النظرية التي ترتبط بها››.
ومعلوم ان ثابت هابل وقانونه يتضمنان بعض المشاكل والانحرافات. فعلاقة القانون بالتمدد لا تصح بدرجة مثالية الا بالنسبة للاجرام المتحركة داخل كون متجانس ومتوحد الخواص. لكن الكون ليس متجانساً تماماً، لذا فبعض المجرات تحيد عن (تدفق هابل) وهو ما يسبب التشتت. وعليه اذا كانت علاقة السرعة بابتعاد المجرات تزودنا بثابت هابل، ففي المقابل ان الانحرافات عن هذه العلاقة تقتضي تقوس الفضاء.
لقد تعرض ثابت هابل الى الكثير من التغير والتبديل نتيجة المزيد من الاكتشافات والملاحظات الرصدية. وفي البداية كان قياس هذا الثابت وبالاً على اكتشافات هابل نتيجة بعض الاخطاء، فخلال الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي تم قياس هذا الثابت بحوالي (170 كم في الثانية) لكل مليون سنة ضوئية من المسافة. لكن سرعان ما تبين بان هذا التقدير خاطئ، وانه على اساسه يكون عمر الارض اكبر من عمر الكون باكثر من ضعفين. وتبين فيما بعد ان تقدير ثابت هابل هو اقل بكثير مما كان يتصور، ومع ذلك نجد تقديرات مختلفة حوله، اذ كان يُقدر بحوالي (15 كم في الثانية) لكل مليون سنة ضوئية، حيث قاس الفلكيون ابعاد المجرات البعيدة بعشرة امثال ما قدّره هابل، وهكذا اصبح الثابت يساوي (15 كم في الثانية) لكل مسافة مليون سنة ضوئية، ورغم ان هذه النتيجة تبدي بان عمر الكون سيساوي (20 مليار سنة)، وهي اقصى ما توصل اليه الفيزيائيون وفق ثابت هابل؛ الا ان ستيفن واينبرغ اعتبر عمر الكون الحقيقي اقل من هذه المدة التقديرية، لان المجرات لم يكن لها السرعة ذاتها دائماً، بل ان حركاتها تباطأت تحت تأثير جاذبياتها المتبادلة. كما تمّ تقدير ذلك الثابت بانه (16 كم في الثانية). وحالياً هناك من حدده بمقدار (66.5 كم في الثانية) لكل ميگا فرسخ فلكي، اي لكل (3.26 مليون سنة ضوئية)، وآخر حدده بمقدار (73 كم في الثانية)، كما هناك من قدّره بانه يتراوح اجمالاً بين (60ـ70 كم في الثانية) لكل ميگا فرسخ فلكي، وآخر قدّره بانه يتراوح بين (70-75 كم في الثانية)... الخ. فهذه التقديرات خاضعة للمراجعة بين حين وآخر اعتماداً على اكتشاف المزيد من المجرات وابعادها وتقدير سرعاتها.
ان كل ذلك ينعكس على اختلاف التقادير المتعلقة بقياس عمر الكون، وكذلك الكثافة الحرجة (critical density) الى درجة التخبط. فقد قُدرت الكثافة الحرجة بانها تتناسب مع مربع ثابت هابل مقسوماً على ثابت الثقالة الكوني (Cosmic gravity constant)، فمثلاً لو كان هذا الثابت عبارة عن (16 كم في الثانية) لكل مليون سنة ضوئية فستكون الكثافة الحرجة عبارة عن (4.5 x 10-30 غرام سم3)، اي بروتون واحد لكل (400000 سم3) من الفضاء. اما عندما يتغير هذا الثابت فان الكثافة الحرجة ستتغير كذلك. وبالتالي تبقى النظريات الفلكية وعلم الكونيات في تغير وعدم استقرار مع اي اكتشاف جديد.
***
وننتهي مما سبق الى انه لا يمكن التعويل على الازاحة الحمراء ولا على ظاهرة دوبلر في تبيان التوسع الكوني المفترض.
كذلك فان تباعد المجرات عن بعضها البعض لا يدل على نظرية الانفجار العظيم. فكثافة المجرات تعتبر ضئيلة جداً مقارنة بحجم الفضاء المنظور، وفي بعض التقديرات انها حوالي (10%) من الفضاء للكون المنظور. وبالتالي اذا كانت نظرية الانفجار صحيحة؛ فلا بد من اثبات تباعد سحب البلازما والغازات التي تملأ هذا الفضاء.
ولو عولنا على النسبية العامة لاقتضى ذلك صعوبة اخرى، وهي اثبات تمدد الفضاء ذاته كوعاء هندسي. لكن كيف يمكن اثبات ذلك؟ اذ نعتقد ان الفضاء كوعاء مكاني لا يخضع للتمدد والتقلص والتغير، فكل ذلك نعتبره من المحالات العقلية، وكتعويض عنه يمكن افتراض شيء ما كالاثير هو الذي يتمدد ضمن الوعاء المكاني، ويصبح له ذات الخواص الفيزيائية التي تعزى عادة لهذا الوعاء او الفضاء، ومن ذلك التمدد والتقلص وحمل الطاقات الضخمة كالتي تبشر بها ميكانيكا الكوانتم، فكل شيء يصبح اسير هذا الاثير الكوني، مع ضرورة الحفاظ على وجود الوعاء المكاني من دون ان يكون له خصائص فيزيائية معينة سوى كونه وعاءاً صرفاً ذا ثلاثة ابعاد.
علماً بان الفيزياء الحديثة قد شهدت تبادل ادوار في الخصائص الفيزيائية بين الاثير والوعاء المكاني. ففي الماضي كانت فكرة الاثير هي السائدة وفقاً للنموذج النيوتني، ثم اعقبتها فكرة الوعاء المكاني تبعاً للنموذج الاينشتايني. ورغم ذلك بقي عدد من العلماء البارزين غير مقتنعين بما قدمه اينشتاين من رفض فكرة الاثير، وكان على رأس هؤلاء الفيزيائي الشهير هندريك لورنتز (Hendrik Lorentz). بل ان اينشتاين نفسه قد تحدّث في النسبية العامة عن الفضاء كما لو انه الاثير ذاته من دون مايز. فمن وجهة نظره ان هناك شيئاً ما غير مرئي، وهو حقيقي موجود يعمل على حدوث التسارع، ومن ثم فالاثير موجود، وفي نص له (عام 1920) يعترف ان بدونه لا يمكن تفسير معايير المكان والزمان والفواصل الزمكانية. كما كتب الى لورنتز (عام 1916) قائلاً: ‹‹اتفق معك في ان النظرية العامة للنسبية تعترف بفرضية الأثير››.
وعلى هذه الشاكلة صرح الرياضي الشهير بول ديراك (Paul Dirac)؛ بان هناك اسباباً معقولة لتقبّل فكرة الاثير، وان النظرية النسبية لم تستبعده. وكما قال (عام 1951): ‹‹اذا فحصنا المسألة فحصاً جديداً في ضوء معارف راهنة، فاننا نجد ان الاثير لا تستبعده النظرية النسبية أبداً، وان ثمة امكاناً في ايامنا هذه لتقديم اسباب وجيهة للتسليم بوجوده››.
واليوم ان الذين عولوا على الفضاء اللامتناهي لا يسعهم منح هذا الفضاء الخصائص الفيزيائية من التمدد والتقلص والتغير، واذا كان لا بد من وجود هذه الخصائص فينبغي ان تكون للاثير وليس للفضاء او الوعاء المكاني الصرف؛ دفعاً للمفارقات والتناقضات..
ب ـ اشعاع الخلفية الكونية
لقد واجهت نظرية الانفجار العظيم معضلة كبيرة تتعلق بالمجرات وعناقيدها الضخمة، فكيف امكن لهذه التكتلات ان تتكون وتتجمع مع بعض في ظروف يفترض انها كانت متجانسة وفي فترة زمنية قصيرة غير كافية لتكوين هذه التكتلات؟ فالمفترض في مثل هذه الحالة ان يكون الكون مليئاً بطبقة رقيقة من غاز الهايدروجين والهليوم وليس المجرات والنجوم. وهذا ما سنلقي عليه الضوء فيما بعد. لكن ما يهمنا هنا هو ان تشكل المجرات يقتضي ان يسبقه تفاوت في الكثافة المادية التي تعمل على تهيئة صنع هذه الهياكل الضخمة. لذا نسأل: ما هو الدليل على مثل هذا التفاوت؟ وهو الاثر الذي يفترض ان يظهر كبصمة في اشعاع الخلفية الكونية ومن دونه فلا دليل على التوسع الكوني ولا الانفجار العظيم.
وهنا تأتي اهمية اشعاع الخلفية الكونية، فمن خلاله برزت آثار نظرية الانفجار العظيم وتصورات ما كان عليه العالم في بداية التشكلات الكونية وتطوراتها، وعلى رأسها عملية صنع الذرات والمجرات. فقد ترسخت كل هذه المعلومات المكتشفة عن تاريخ الكون عبر البيانات المستمدة من رصد هذا الاشعاع الاحفوري.
هكذا ادرك اصحاب نظرية الانفجار العظيم انه لا بد من ان تظهر اثار من البقع الساخنة على اشعاع الخلفية الكونية، فهي تمثل علامة للدلالة على التكتلات المادية في الماضي السحيق. فلهذا الاشعاع اهمية عظيمة، حيث من خلاله تتم دراسة تشكل المجرات والماضي البعيد، فبعض المناطق حارة فيما البعض الاخر باردة او اقل حرارة، كما انه يحدد لنا المناطق ذات الكثافة العالية مقارنة بالاقل منها، حيث يتولد في بعضها فوتونات اكثر من البعض الاخر، فتكون اكثر كثافة وحرارة، وهو ما ينعكس على اشعاع الخلفية الكونية، باعتباره انعكاساً للماضي ويحمل اثار الكون البدائي. فهذا هو المقصود من عدم تجانس الاشعاع وتناسقه، وهو الفرض الذي عولت عليه نظرية التضخم الكوني كشرط من شروط صحتها، واصلاح لما كانت عليه نظرية الانفجار في نسختها الاولية، اذ لم تضع في الحسبان ان صنع المجرات يقتضي وجود تكثفات مادية سابقة في زمن مبكر جداً من تاريخ الكون. وعليه تداركت نظرية التضخم هذا الحال، بل وقبل ذلك كان هناك احساس لدى بعض علماء الكون النظريين بضرورة وجود تكتلات متفاوتة الكثافة تسبق عملية تكوين المجرات، ومن ثم لا بد من ان يظهر ذلك كبصمة في اشعاع الخلفية الكونية.
لكن ما تفاجأ به الفلكيون هو انه لا توجد مثل هذه التكثفات القوية للاشعاع، كما سنرى..
أما ما توقعه علماء الكون النظريون فهو عدم تماثل شدة الاشعاع في جميع النواحي، اذ قد تحدث تقلبات (fluctuations) في هذه الشدة يصحبها تغيرات صغيرة في هذا الاتجاه او ذاك، وتنشأ هذه التقلبات عن الطبيعة الحبيبية للكون لحظة بث الاشعاع، خاصة عند بداية تشكل المجرات مثلاً. كما توجد حالات عارضة تجعل شدة الاشعاع غير متماثلة لاعتبارات مختلفة، فمثلاً ان بسبب حركة الارض بالنسبة الى بقية الكون تتغير شدة الاشعاع قليلاً في السماء. فالارض تدور حول الشمس بسرعة (30 كم في الثانية)، والمجموعة الشمسية تدور بسرعة تقارب (250 كم في الثانية). ولو ان سرعة الارض (300 كم في الثانية) بالنسبة الى التوزيع الكوني للمادة، وبالتالي بالنسبة الى الخلفية الكونية، فان طول موجة الاشعاع الواصل نحو الارض امام حركتها او خلفها سيزيد او ينقص بتلك النسبة الى سرعة الارض، اي ان مقدار التغير يساوي: (0.1%)، لذا تتغير درجة حرارة الاشعاع.
لقد قيست درجة حرارة الاشعاع (عام 1965) فبدت متوحدة الخواص في السماء، ولاحقاً تم اكتشاف ان ثمة تفاوتاً واسع النطاق في درجة الحرارة عبر السماء يبلغ جزءاً واحداً في الالف (1\1000)، وهو ما يعرف بتأثير دوبلر الذي يسببه دوران الارض حول نفسها عبر المجال الاشعاعي المتخلف عن الانفجار العظيم، اذ تبدو السماء اكثر دفئاً بقليل في الاتجاه الذي نتحرك صوبه، فيما تبدو ابرد قليلاً في الاتجاه الذي نبتعد عنه. لكن اذا نحينا هذا التفاوت جانباً والذي يطلق عليه (ثنائي القطب)، فسيبدو الاشعاع وكأنه يأتي على نحو متساو من كل الاتجاهات. ولوقت طويل والمنظرون يشككون في وجود بنية في الخلفية المايكروية على صورة انماط متذبذبة من البقع الحارة والباردة.
لقد اقتضى تشكل المجرات والعناقيد الضخمة ان تسبقه تكتلات صغيرة بداية نشأة الكون، ويفترض ان تنطبع على اشعاع الخلفية الكونية بصورة ذبذبات او تقلبات (fluctuations). وبدأ الوعي بذلك منذ (عام 1967) لدى كل من بيبلز وجوزيف سلك (Joseph Silk) الذين اعتقدا بان وجود تكتلات بدائية متفاوتة قبل صنع المجرات ينبغي ان تُرى كتقلبات في السطوع او درجة الحرارة لدى اشعاع الخلفية الكونية، فلا بد من ان تكون درجة الحرارة او السطوع لدى هذا الاشعاع غير موحدة او منتظمة. وفي (عام 1970) تم حساب الاختلاف في الحرارة فتبين انه ينبغي ان تكون (5 أو 6) اجزاء من الالف. لكن لم تكن القياسات في ذلك الوقت دقيقة بما يكفي لاختبار هذا التوقع. وفي (عام 1973) كشف الراصدون عن ان هذه الاختلافات ليست باكثر من جزء من الف (1\1000). وطوال السبعينات فان الراصدين الفلكيين يخفّضون باستمرار هذه التباينات حتى انها تكاد لا توجد او انها ضئيلة للغاية. وقد انعكس هذا الفعل على عمل المنظرين في تعديل نظرياتهم تبعاً لهذه الحدود التباينية.
وفي النهاية ادرك المنظرون بان هناك القليل جداً من المادة التي لا تكفي لصنع المجرات استناداً الى حاجتها للجاذبية القوية، وبالتالي حاجتها الى مادة كثيرة، في حين ان كثافة المادة التي قاسها الفلكيون انذاك تعادل ذرة واحدة لكل عشرة امتار مكعب فقط. ولا تكفي هذه الكمية الضئيلة لتكوين التكتلات القابلة على صنع المجرات بداية نشأة الكون، وعليه كانت الحاجة الى مائة ضعف ذلك المقدار من المادة لتتاح الفرصة لصنع المجرات عبر الجاذبية. اذ تُقدر كثافة المادة في هذه الحالة بحوالي عشرة ذرات لكل متر مكعب، فهذا ما يمكن ان يوقف التوسع لتتمكن المجرات من التشكل عبر الجاذبية بالسرعة الكافية. وعليه احتاج المنظرون الى افتراض مادة مؤثرة وان لم ترصد فلكياً، وبذلك تم التعويل على ما يسمى المادة المظلمة (Dark Matter) لتفي بهذا الغرض، رغم ان الجذور الاولية المتعلقة بفكرة هذه المادة تعود الى (عام 1932) كما سنعرف..
لقد ظهرت نظرية التضخم الكوني (عام 1980) كصيغة بديلة للصيغة الاولية لنظرية الانفجار العظيم، فافترضت وجود مادة مظلمة تهيمن على الكون كله، حيث بفضل جاذبية هذه المادة الغريبة تتكون المجرات والتكتلات الضخمة، فيما لم يكن للمادة العادية ذلك الاثر على تكوينها، او انه كان لها اثر ضئيل يتمثل بالتكتلات المادية السابقة على صنع هذه الاجرام. لذا جاء افتراض المادة المظلمة كتعويض عما يفترض ان تكون هناك تقلبات قوية لخلفية الاشعاع الكونية، فاكتفى العلماء في البحث عن فروقات بسيطة لتلك التقلبات. واصبحت مهمة المادة المظلمة تتحدد في تفسير كيف امكن للمجرات وعناقيدها الضخمة ان تنشأ بسرعة بعد ان تعسر على الملاحظات الفلكية تفسيرها وفق ما عولت عليه الصيغة الاولية لنظرية الانفجار.
وتتنبأ نظرية التضخم - حتى في صورتها المعدلة - بوجود عدم انتظام ضخم في الكون المبكر بحيث لا يتفق مع التجانس الملحوظ في الموجات المايكروية الكونية. كما انها تفترض بان الكون في مقاييسه الكبرى يتصف بالنعومة والتجانس، لكن تبين خلال منتصف الثمانينات ان في الكون كتلاً وشرائط ضخمة من العناقيد المجرية، ما لا يتفق مع اعتبار الكون متجانساً في مقاييسه الكبرى، ومن ذلك ما اكتشفه الفلكي برينت تولي Tully Brent (عام 1986) من وجود هياكل عنقودية يبلغ طولها حوالي مليار سنة ضوئية، وعرضها حوالي (300 مليون) سنة ضوئية، وسمكها مليون سنة ضوئية. ثم توالت الاكتشافات بعد ذلك بما هو اعظم من هذه المقادير بكثير.
وفي (عام 1992) اظهر القمر الصناعي المسمى مستكشف الخلفية الكونية (COBE) ان الفروقات المتعلقة بتقلبات اشعاع الخلفية الكونية هي ضئيلة جداً، فقد نشر هذا القمر لاقطاته الحساسة بهدف رصد اي تفاوتات في درجة حرارة الخلفية الكونية في السماء، وتبين انها اقل مما جرى قياسه خلال السبعينات بمائة مرة، اي انها جزء من مائة الف، وليس جزءاً من الف كما كان في السابق. وتم التأكد لاحقاً من هذه النتيجة بواسطة المعدات الاكثر دقة المحمولة على المناطيد وعلى المسبار (WMAP).
وفي جميع الاحوال ظهر ان التفاوتات المعتادة لا تزيد عن بضعة اجزاء في المائة الف من الدرجة اعلى او ادنى من متوسط حرارة اشعاع الخلفية الكونية.
هكذا كان (عام 1992) مميزاً لدى الداعمين لنظرية الانفجار العظيم، وقد ابرزت الصحف حول العالم هذا الاكتشاف المثير والمتعلق بالاثار الطفيفة في درجة الحرارة للاشعاع الكوني مع توحد الخواص (isotropic) تقريباً. وقد بيّن الكشف عن اشعاع الخلفية الكونية بان الكون شبه متجانس (Semi homogeneous)، فهناك انحرافات طفيفة عن التجانس العام، فقد تبدو الحرارة والكثافة اكثر او اقل قليلاً، واعتبر ذلك دليلاً يؤيد المبدأ الكوني (cosmological principle) المتمثل بمجموع مبدأي التجانس (homogeneous) وتوحد الخواص (isotropic). فمبدأ التجانس يعني عدم وجود مركز محدد، فكل شيء متماثل في كل مكان، مثل محتويات اللبن. أما الكون المتوحد الخواص فيعني بان الشكل يبدو نفسه من اي اتجاه. وتبين اخيراً انه في الشرائح الكونية الضخمة هناك تجانس مع توحد الخواص، لكنهما ينعدمان في الشرائح الصغيرة، ومن ذلك ان مجرتنا درب التبانة – مثلاً - لا تتسم بتوحد الخواص. فما يخرق الصفتين المذكورتين هو تجمع المجرات في عناقيد مجرية مختلفة في الكون، وكان لهذا الاختلاف في غياب التجانس وعدم توحد الخواص دور في خلق الحياة.
ومن حيث التفسير تم التعويل على نظرية الكوانتم استناداً الى العشوائية التي جعلت بعض التفاوتات في توزيع المادة عشوائياً، حيث تظهر الجسيمات وتختفي بسرعة وهكذا تكونت بعض الجسيمات الاكثر كثافة في بعض المناطق وجذبت اليها المزيد من الجسيمات مقارنة بغيرها، وبذلك ظهرت التكتلات الضخمة.
لقد أثار اكتشاف الفروقات الضئيلة لاشعاع الخلفية الكونية رضاً وقناعة للمؤيدين لنظرية الانفجار، فقد اعتبروا هذه التقلبات او التفاوتات الطفيفة للكثافة (10-5) كافية لتكوين المجرات وعناقيدها. وبالتالي كان هذا الحال مرضياً تماماً لدى العلماء على خلفية افتراضهم للمادة المظلمة والتي تم تقدير تأثيرها انذاك بمائة ضعف تقريباً قبال المادة الكونية المرئية وغير المرئية. حيث صورت بانها تشكل حوالي (99%) من كثافة الكون المادية، وفي تقدير اخر حوالي (90%)، واغلب ما تبقى يعود الى المادة غير المرئية كالثقوب السوداء وما اليها، كما هناك من رأى انها تتراوح بين (90 ـ 99 %). فهذه القوة الضخمة المفترضة هي التي عوّضت عن النقص الملاحظ في تقلبات اشعاع الخلفية الكونية، فهي تمثل قوة ثقالية اعظم لتسريع نمو الهياكل الضخمة للمجرات، وبدونها يصعب كيف امكن لها ان تتشكل بسرعة، بل وفي زمن قصير نسبياً يتراوح بين (10ـ20) مليار سنة، فبدون ذلك سيحتاج تكوينها الى اضعاف كثيرة من هذا الزمن المفترض.
اما بنظر الناقدين لنظرية الانفجار فان كل ذلك لم يلغِ المشاكل المتعلقة بتكون المجرات، فحيث ان هذه الاثار طفيفة فانها لا تفسر كيف امكن ان تؤدي الى تكوين الهياكل الضخمة للعناقيد المجرية ضمن فترة زمنية لا تعد كافية، فكيف نمت هذه الهياكل بسرعة؟ ولا تفسر كيف ان الكون كان اصغر عمراً من بعض النجوم العائدة اليه، فمثلاً تم تقدير بعض نجوم مجرة درب التبانة بحوالي (14 مليار سنة)، وانه تبعاً لبعض القياسات الفلكية يصل عمر بعض المجرات الى عشرات المليارات من السنين، بل ان بعضها يفوق المائة مليار عام، كالذي سيأتينا تفصيل ذلك فيما بعد. هذا بالاضافة الى ان هذه النظرية تعجز عن تفسير كيف ان الكميات المتوفرة للعناصر الخفيفة كانت خاطئة.
لم يتوقف الحال على افتراض المادة المظلمة لحل مشكلة التقلبات وتكوين المجرات، فمع ان هذا الحال كان مرضياً تماماً (عام 1992) وما بعده، الا انه اتضح في نهاية التسعينات من القرن الماضي ان شكوكاً تجددت في قياسات اشعاع الخلفية، ما جعل فهم الكون بنظر الكثير من العلماء غامضاً، فاما ان تكون القياسات المعتمدة على هذا الاشعاع خاطئة، او ان هناك ظاهرة فيزيائية مجهولة تعمل على توسعة الفضاء بنسبة (9%) اكثر من المتوقع، مثلما لوحظ من خلال المستعرات العظمى (Supernovae) التي تشير الى التسارع، ومن خلال مشاهدة الاشعاع المذكور. وقد عبّر الفلكي الامريكي المعاصر ألِكْس فيليبينكو (Alexei Filippenko) بان الكون ربما يخدعنا او ان فهمنا للكون ما زال ناقصاً. وعلى اثر ذلك تم التوصل الى اثبات الطاقة المظلمة (Dark energy) كأحد الاركان الهامة للفيزياء (عام 1998)، وذلك على يد ثلاثة من رواد علم الفلك، وهم سول بيرلماتر Saul Perlmutter وبرين شميدت Brian Schmidt وآدم ريس Adam Riess، وقد تقاسموا جائزة نوبل في الفيزياء (عام 2011) لتقديمهم الأدلة على تسارع الكون وليس تباطؤه، واليوم تُقدر الطاقة المظلمة بحوالي (70%) من مكونات الكون، فيما تقدر المادة المظلمة بربع مكوناته تقريباً.
كان من المهم لدى الفيزيائيين ان لا تنافس هذه الطاقة المادة المظلمة بداية نشأة الكون، اذ لو كان الامر كذلك لكانت هناك حاجة الى وجود مادة كونية مؤثرة بما فيه الكفاية للتعويض عن فقدان اثر المادة المظلمة قبال الطاقة المظلمة المتصاعدة.
فبحسب الافتراض الجديد ان الكون بدل ان يتباطأ بفعل المادة المظلمة فانه اخذ يتسارع ويتشتت، ولو كانت الطاقة المظلمة هي السائدة بداية نشأة الكون لما أُتيح للمجرات فرصة الصنع والتكوين. لذا افترض الفيزيائيون وجود علاقة تطورية بين هذه الطاقة وتمدد الفضاء، بل اصبحت العلاقة بينهما جدلية، فاحدهما يؤثر في الاخر، حيث بتمدد الكون تزداد كمية الطاقة المظلمة، وبزيادتها تعمل على المزيد من التمدد الكوني، وهكذا دواليك..
ففي بداية الانفجار العظيم كانت الطاقة المظلمة تقارب الصفر؛ تناسباً مع حجم الفضاء الضيق مقارنة بالفترات اللاحقة، وكانت نسبة الكثافة المادية تقدر بما يقارب الواحد (100%)، وظلت ضمن هذه الحدود حتى عندما وصل عمر الكون الى مليار سنة تقريباً، وحينها كان الكون يتباطأ، لكن مع مرور الزمن تضاءلت هذه النسبة وانخفض التباطؤ ونمت في قبالها كثافة الطاقة المظلمة، وتساوت الكثافتان منذ حوالي (5ـ6) مليار سنة مضت، مما يعني انها وصلت الذروة في التسطح، وبعدها اصبحت الكثافة لصالح الطاقة واخذت تتصاعد باضطراد حتى بلغت اكثر من (72%)، وهو ما يجعل الكون منفرجاً بعد أن كان مقوساً. وبحسب بعض التقديرات فان معدل تمدد الكون يتراوح بين (5ـ10%) لكل مليار سنة. ويُفترض ان المستقبل سيشهد المزيد من الطاقة المظلمة مع شدة الانفراج الكوني، وستبلغ الطاقة قريباً من الواحد في قبال ما يقارب الصفر للمادة، حيث يبلغ توسع الكون اعظم قدر ممكن. وهو الحال الذي يعاكس ما كان عليه الكون في البداية.
وعموماً اصبح الكون - بحسب الافتراضين المتوازيين للمادة والطاقة المظلمتين - واقعاً بين كماشتي التباطؤ والتسارع، او التكثف والتشتت، وان كان مفعول الاخير صار اليوم يعادل ما يقارب ثلاثة اضعاف مفعول الاول. في حين اقتضت الضرورة ان تكون السيادة للمادة المظلمة بداية نشأة الكون، فبدون ذلك سوف لا يمكن تفسير كيف امكن للمجرات وهياكلها الضخمة ان تتكون كما سنعرف.
أخيراً وبعد انتهاء القرن العشرين تم اكتشاف ان اشعاع الخلفية الكونية مختلط بالغبار الدائر في مجرتنا (درب التبانة)، لذا بدا غير متجانس تماماً، فأُصيب الدليل بالضعف ومن ثم ضعف النظرية القائمة عليه.
واهم اشارة بهذا الصدد هو ان الفلكيين وجدوا في مارس (عام 2014) ان نصف الكرة الجنوبي من الارض يحمل استقطاباً للاشعاع المايكروي Polarization of microwaves، وهو التواء الاشعاع المتمثل بمزيد من الدفء والاحمرار، وقد سمي باستقطاب نمط (ب) B-mode polarization. وفي البداية هللوا لهذه النتيجة ظناً منهم انها تدل على اثار الامواج الثقالية التي تنبأ بها اينشتاين من قبل والتي سبّبها التضخم الكوني، وقد اعتبرت من اعظم الاكتشافات العلمية كما اعلنتها صحف العالم انذاك. لكن بعد اشهر من هذا الاكتشاف تبين ان هناك شكوكاً تتعلق بحدة هذا الاستقطاب، واصبح الظن بانه نتاج الغبار الذي يلاقيه اشعاع الخلفية عند مروره داخل مجرتنا. وقد زادت هذه الشكوك فيما بعد، وتم الميل الى هذا الاقتناع المخيب والمتعلق بظاهرة الغبار. وعليه وصفت نظرية الانفجار العظيم وفق هذه الشكوك والاعتقادات بانها متخبطة. وقد دفعت هذه النتائج جماعة من الباحثين الى الاعتقاد بانه وفقاً لها ينبغي للكون ان ينهار على نفسه بعد الانفجار العظيم بفترة بسيطة جداً.
يضاف الى ما سبق هناك مشكلة اخرى لم تحل كما اثارها نقّاد نظرية الانفجار العظيم، وهي تتعلق بما يطلق عليه السور العظيم (Great Wall) للمجرات، مثلما تم الاعلان عنه (عام 1989)، فسمْك السور المكتشف انذاك يقدر بحوالي (20 مليون سنة ضوئية). وما زال هناك هياكل اضخم واكبر من السابق كما اكتشفها فريق عالمي مؤلف من فلكيين امريكيين وبريطانيين وهنغاريين، اذ قاموا في مطلع تسعينات القرن الماضي بدراسة المجرات فوجدوا مجاميع عنقودية ضخمة تتحرك ببطئ شديد جداً، بحيث لا تتجاوز سرعتها (500 كم في الثانية). وقد قدروا من خلال هذه الدراسة ان عمرها لا يقل عن (150 مليار سنة)، وهو ما يفوق التقديرات المعاصرة باكثر من عشر مرات. وعلى اثر هذه الاكتشافات الفلكية بدأ العلماء بطرح مفاهيم جديدة مؤسسة على قوانين فيزيائية جديدة لسد الفجوة بين المشاهدات ونظرية الانفجار. واصبحت هذه الحالة ظاهرة شائعة في علم الكونيات، فكل تناقض جديد هناك افتراض علمي جديد.
وبحسب التقديرات الفلكية فان السور العظيم لهذه العناقيد يحتاج الى سرعة (2000 كم في الثانية) لكي يتم تكوينه، كما تحتاج هياكله الفائقة للتكوين الى سرعة (3000 كم في الثانية)، والمجموع هو (5000 كم في الثانية). هذا من حيث التوقعات النظرية، اما من حيث الرصد الفلكي فقد لوحظ ان السرعة الحاصلة لا تتجاوز مقدار (500 كم في الثانية)، لذا وجد علماء الكونيات تفسيراً او تأويلاً يخدم نظرية الانفجار العظيم، وهو ان هناك تباطؤاً قد حصل دون ان يدفع بالسرعة المفترضة الى اقصاها. لكن السؤال الذي طُرح بهذا الصدد هو التالي: اين ذهبت الطاقة حينما تحولت من طاقة حركية الى حرارة عند تخفيض السرعة، كالذي يحصل في حالة فرامل السيارة من تحول الطاقة الاولى الى الثانية؟
وكان الجواب هو افتراض انها تنتشر على هيئة اشعة اكس (x)، وبالتالي ينبغي ان تظهر في الاشعة عندما تصل الينا. لكن عند فحصها وُجد ان تحول الطاقة اقل من المفترض بمائة مرة، فاين ذهبت بقية الطاقة؟
وكجواب على ذلك خمّن المنظرون بان هناك عملية ثالثة غير معروفة ربما حولت طاقة اشعة اكس (x) الهائلة الى نوع اخر من الاشعة الراديوية. وقد لاحظ علماء الفلك نوعاً من الإشعاع الراديوي الشديد بما يكفي لاحتواء كمية هائلة من الطاقة التي من شأنها أن تنجم عن الفرملة المفترضة، فحيث ان هياكل المجرات كلها تكونت بعد صدور هذا الاشعاع الخلفي فانه يتوقع ان يكون حاملاً شيئاً من طاقة هذه الهياكل الضخمة التي انخفضت سرعتها كما يفترض. لكن النتيجة كانت مخيبة.
ج ـ العناصر الخفيفة
لقد اثار موضوع العناصر الخفيفة الكثير من الجدل المتعلق بنظرية الانفجار العظيم. فهناك مشاكل مزمنة تتعلق بالديوتيريوم والليثيوم، كما هناك بعض المشاكل التي تثار حول الهليوم، لكنها ليست بالقدر المتعلق بالعنصريين الاولين. فالتوقعات المتعلقة بهما لم تكن سليمة كما ينبغي. وقد اثيرت بعض هذه المشاكل منذ سبعينات القرن الماضي واستمرت تتفاقم حتى يومنا هذا، كما هو الحال مع الديوتيريوم، فتوزيعه لدى المجرات يتخذ اشكالاً غير منتظمة كما تبين خلال العقد المشار اليه. فمثلاً لوحظ ان هذا العنصر يتوزع لدى مجرة درب التبانة بانماط من الاختلاف من دون تماثل، ففي اتجاه تكثر كميته فيما تقل في اتجاهات اخرى لاسباب غير معروفة، في حين يفترض انه يتخذ شكلاً من التساوي في جميع الاتجاهات. وكما قال الفلكي جيفري ينسكي: >لقد كنا منذ السبعينات غير قادرين على تفسير لماذا تختلف مستويات الديوتيريوم في كل مكان<.
وخلال (عام 2006) اظهر القمر الصناعي الخاص بناسا ان تركيز الديوتيريوم المحلي في مجرة درب التبانة هو أكثر مما كان متوقعاً بكثير. وقد تفاجأ الفلكيون حيث وجدوا كميات كبيرة لم تحرق في النجوم، ليس كما هو المتوقع في السابق..
اما الليثيوم فله مشكلة ثابتة، اذ لم يجد العلماء ما توقعوه من الوفرة المفترضة له، وهم لا يعرفون سبب ذلك على وجه التعيين، وان كانت هناك بعض التكهنات المتعلقة بتحديد السبب؛ مثل افتراض وجود كثرة من الفوتونات ادت الى تدمير الليثيوم. وفي تقرير منشور (عام 2015) تبين بان تقدير العلماء لكمية الليثيوم المفترض هو ثلاث مرات اكثر من المرصود فلكياً.
وبحسب الناقدين لنظرية الانفجار العظيم فان افتراض المادة المظلمة قد خلق عدداً من المشاكل ومن بينها ما يخص العناصر الخفيفة والتناقضات التي تتضمنها التوقعات مقارنة بالملاحظات الرصدية. ففي الماضي كانت التنبؤات حول هذه العناصر معقولة ومتفقة الى حد ما مع الارصاد الفلكية، فاُعتبر ذلك ما يدعم نظرية الانفجار، لكن ابتداء من ابريل (عام 1991) اصبحت المشاهدات الرصدية تتنامى عدداً ضد تلك التنبؤات، فهناك كمية اقل من الهليوم في الكون مقارنة بالتنبؤات المطروحة، وكميات اقل كثيراً من الديوتيريوم والليثيوم. ومعلوم ان نسب هذه العناصر بعضها يؤثر في البعض الاخر، فعندما يكون الهليوم صحيحاً (ويقدر بحوالي 23% في الكون) فان توقع نسبة الديوتيريوم سيصبح في مثل هذه الحالة ثمانية مرات اكثر وفرة من الملحوظ. لذلك تم افتراض انه تعرض للاحتراق في النجوم ولم يبق منه سوى (1\8)، كمحاولة لتعليل النقص في وفرة هذا العنصر.
وبلا شك ان توفر العناصر الخفيفة يعتمد على ما عليه كثافة المادة الكونية، فلو كانت المادة المظلمة مادة عادية فان الحساء النووي للانفجار العظيم سوف ينتج لنا الكثير جداً من الهليوم والليثيوم مع كمية غير كافية من الديوتيريوم، وذلك قبل اكتشاف الطاقة المظلمة او افتراضها. ففي هذه الحالة ستكون نسبة الكثافة او الاوميگا Omega حوالي (02 أو 03) اكثر مما هو مشاهد، اي ان الكون سيكون مقوساً. وبالتالي فان حاجة نظرية الانفجار في صيغتها التضخمية هي ان تبلغ نسبة الكثافة او الاوميگا واحداً تقريباً ليكون الكون مسطحاً بدل التقوس، مع وجود انحراف طفيف جداً لتفسير تخلق المجرات، فلو كان الكون مسطحاً بشكل مطلق لما امكن صنع هذه الهياكل الضخمة. لهذا تم افتراض وجود مادة مظلمة غريبة ليس فيها الكترونات ولا بروتونات؛ كي لا تؤدي الى تلك النسبة العالية من الكثافة المادية، ولكي يمكن حل مشكلة تكوين المجرات.
يبقى ما يخص الهليوم، فقد طُرح تفسير اخر يعلل وفرة هذا العنصر وكذلك طابع التجانس الحاصل في اشعاع الخلفية الكونية، فكلاهما يمكن ان يفسرا بنفس السبب طبقاً لنظرية البلازما الكونية بريادة الفيزيائي السويدي هانز ألفن (Hannes Alfven). اذ تتنبأ هذه النظرية بان هناك كمية ضخمة من النجوم هي التي انتجت تلك الوفرة. ففي (عام 1978) اقترح الفيزيائي الفلكي مارتن ريس بان هذه النجوم قد انتجت في بضعة ملايين سنة (24%) من الهليوم كما نراها اليوم. فبعد ان تحول قسط من الهايدروجين الى هليوم انفجرت النجوم الى مستعرات عظمى (Supernovae) وتوزع الهليوم في الفضاء. وفي وقت لاحق تكونت نجوم صغيرة من غاز الهليوم المخصب، وتم امتصاص الطاقة المنتجة للنجوم الضخمة من قبل الغبار ما بين النجوم والتي يمكن ان تظهر في اشعاع الخلفية الكونية.
على ان التنافس بين النظريتين (البلازما الكونية والانفجار العظيم) ما زال قائماً حول طبيعة ما يتميز به اشعاع الخلفية الكونية، فهل هناك تجانس تام لهذا الاشعاع كما تفترضه النظرية الاولى، ام ان هناك تقلبات في هذا الاشعاع كما يفترضه المؤيدون لنظرية الانفجار العظيم في نسختها التضخمية؟..
للبحث صلة..