يحيى محمد
مشاكل التفسير النظري
وهي مشاكل ترتبط بعائق المجرات، ويندرج ضمنها مشكلتان رئيستان، احداهما تتعلق بتكوينها وتجمعها، والثانية بأعمارها، كما سنعرف..
مشكلة الصنع والتكوين:
ان ابرز مشكلة واجهتها نظرية الانفجار العظيم هي تلك المتعلقة بنشأة المجرات. فكيف تكونت هذه الهياكل الضخمة والتحمت ضمن عناقيد وشرائط عظيمة؟ فرغم وجود بعض الادلة التي تبدو مناسبة لهذه النظرية لكنها في المقابل اصطدمت ببعض المشاكل المستعصية بهذا الخصوص.
فاذا كان الكون قد بدأ بعشوائية صرفة من خلال الانفجار المفترض، كيف أمكن للمادة ان تتجمع في بعض الاماكن لتكوين تلك الهياكل دون ان تتوزع توزعاً متساوياً؟ وهي المسألة التي أقضّت مضاجع الفيزيائيين، اذ بحسب قانون التوسع ان المادة تتشتت وتتنافر دون ان تتجمع، كما يفترض انها تتباعد عن بعضها البعض بطرق متشابهة وسرعات متماثلة دون ان تتخذ مسارات مختلفة، وذلك على شاكلة ما يحصل من تناثر لجزيئات الغاز في الفضاء او لدى كرة مغلقة، حيث لا تنجذب نحو طرف دون اخر، ولا يتميز بعضها عن البعض الاخر.
فبحسب السيناريو الفيزيائي ان الكثير من المجرات الصغيرة تقاربت وتداخلت واندمجت من خلال الاصطدام فيما بينها لتكوين مجرات كبيرة، في حين انتهجت الاخيرة باستثناء عدد محدود للغاية نهجاً اخر معاكساً، وهو انها تباعدت عن بعضها البعض، رغم التوقع بانها تزداد قرباً بفعل ثقالياتها الضخمة، فهي اولى بالالتحام من المجرات الصغيرة وفقاً للجاذبيات الكبيرة.
فالفكرة السائدة اليوم هي ان كل المجرات تتباعد عن بعضها البعض عدا تلك التي تؤلف الجماعة المحلية (our local group)، اي تلك التي تجاورنا مباشرة. فجميع المجرات تبدي ازاحات حمراء باستثناء ازاحتين زرقاوين. وأول ملاحظة تتعلق بذلك كانت (عام 1921)، حيث وجد الفلكيون (43 ازاحة حمراء) مقابل ازاحتين زرقاوين. وقيل انه لا توجد غيرهما، وهما دالتان على التقارب خلافاً للازاحات الحمراء الدالة على التباعد، وفقاً لمفعول دوبلر. ويبدو ان المقصود بالازاحتين الزرقاوين ما تعودان الى المجرات الكبيرة، فالبيانات الفلكية تبين بان اغلب مجرات الجماعة المحلية هي ذات ازاحة زرقاء، اضافة الى مجرات كثيرة بعيدة عنّا تبدي - هي الاخرى - الازاحة ذاتها، ومنها ما تتصف بالتشوه وتعدد النوى نتيجة التصادم والتداخل فيما بينها. ويقدر عدد المجرات المعروفة التي تبدي هذه الازاحة بحوالي مائة فقط لدى كوننا المرصود، وذلك في قبال مليارات المجرات ذات الازاحة الحمراء.
ان ابرز ازاحة زرقاء مكتشفة هي تلك المتعلقة بجارتنا العملاقة سديم المرأة المسلسلة (M31)، او ما تعرف بسديم الاندروميدا (Andromeda)، وهي اقرب المجرات الكبيرة الينا، واقرب منها المجرة القزم كانيس ميجور (Canis Major Dwarf Galaxy). وتقدر سرعة اندفاع الاولى مع مجرتنا باتجاه بعضهما للبعض الاخر بحوالي (100 ميل) في الثانية، وفي تقدير اخر بحوالي (300 كم) في الثانية.
وبلا شك ان وجود استثناء لتقارب بعض المجرات وسط عدد كبير منها يثير استغراباً لعلة هذا الشذوذ؛ ان لم تكن مقاييس الازاحة لا علاقة لها بمفعول دوبلر، او التباعد والتقارب، ومن ثم لا دليل على التوسع الكوني.. ومن ذلك علاقة الازاحة الحمراء بالجاذبية، فكلما اشتدت الاخيرة بدت الازاحة اكثر احمراراً. فمثلاً ان الضوء الصادر عن النجوم عندما يقترب من الشمس فانه ينحني وتزداد ازاحته الحمراء تبعاً لشدة انحنائه، حيث تتباطأ الذبذبات الضوئية او ما يعبر عنه بتباطؤ الزمن.
لهذا من الممكن تفسير الازاحة الحمراء وشدتها وفقاً لشدة الثقالة (Gravity) التي يمر من خلالها الضوء الصادر عن المجرات البعيدة. وسبق للباحث جيرولد ثاكر Jerrold Thacker ان شكك في نظرية التوسع لدى كتابه (الكون المخادع The Deceptive Universe)، ومن ذلك انه اعتبر الازاحة الحمراء لا تدل على التباعد والتسارع، بل لأن الضوء الصادر عن المجرات البعيدة يمر بقرب مجرات اخرى فانه يتسبب بفعل حقول جاذبيتها الكبيرة الى انحناءات الضوء، ومع كثرة هذه الانحناءات خلال سفر الاخير فانه يبدو اكثر احمراراً، وكل ذلك لا علاقة له بتوسع الكون ولا التباعد والتسارع. لذا عاب على الفلكيين تجاهلهم لهذه الحقيقة عند تعاملهم مع الازاحة الحمراء.
وعموماً ان تخلّق المجرات وتجمعها وتداخلها وتصادمها لا ينسجم مع التمدد الكوني، ولا يبرره القول بسوء توزيع عشوائي لكثافة المادة؛ باعتبار ان الكون بدأ متجانساً بصورة تامة او شبه تامة؛ وفقاً للافتراضات الفيزيائية.
وبعبارة ثانية، ان تصادم المجرات وتقارب بعضها من بعض مع تماسك العناقيد والشرائط الضخمة؛ كلها تشكل عائقاً امام التفسير التوسعي للكون. والغريب ان الفيزيائيين يفسرون هذا التقارب والتماسك بفعل قوى الجذب المتبادل بين المجرات. وهو زعم لا ينطبق على غيرها من التكتلات التي يتباعد بعضها عن بعض، فلماذا هذا التباعد لدى البعض والتماسك والاقتراب والتصادم لدى البعض الاخر؟
فكيف يخضع بعضها للتمدد؛ فيما يخضع البعض الاخر للتجاذب؟
لقد شكلت التكتلات الضخمة للمجرات معضلة امام البحث حول طبيعة ما كان عليه الكون في البداية، اذ لا يمكن في هذه الحالة ان يكون ناعماً ومتجانساً تماماً كما افترضته الصياغة الاولية لنظرية الانفجار. فالنعومة والتجانس هما المشكلتان اللتان اصطدمت بهما تلك النظرية، فاذا ما بدأ الكون ناعماً جداً؛ كيف تخلّقت هذه الهياكل الضخمة؟ وعليه ادرك الفيزيائيون ضرورة البحث عن شيء من التموجات المادية مهما كانت ضئيلة لتبرر حالة التجمع والتلاحم فيما بينها، مع الحاجة الى قوة جاذبة عظيمة تدفع هذه التموجات الى الانهيار داخلياً لشدة الثقالة، وهكذا حتى يتهيء الحال الى صنع المجرات وعناقيدها الضخمة. اذ يفترض في هذه القوة ان تكون اعظم بكثير من قوة التمدد الكوني الذي يعمل على نثر المادة وتشتيتها في كافة الاتجاهات.
مشكلة العمر:
تتعلق مشكلة العمر بالزمن الذي تحتاجه الهياكل المجرية للصنع والتكوين. فخلال سبعينات القرن الماضي ابتكر الفلكيان برينت تولي وفشر (Brent Tully and Fischer) طريقة جديدة لتحديد المسافات بين المجرات غير تلك التي كانت لهابل، وهي تربط بين سطوع المجرة وبين القوة الرابعة لسرعة دورانها، وذلك عبر مقارنة الازاحة الحمراء لجوانبها المختلفة، فكان من الممكن تحديد عمرها وسمكها وحجمها مع بعدها. وطبقاً لخرائط تولي اكتشف الفلكيون (عام 1986) مجرات ضخمة للغاية لا تنبؤ عن سلاسة الكون البدئي ونعومته كما افترضه علماء الكونيات، فبعضها يحتاج الى ما يقارب (100 مليار سنة)، وهو ما يعارض نظرية الانفجار التي اقصى ما قدمته من عمر لا يتجاوز (20 مليار سنة) فقط. لذلك كان رد الفعل الاولي للعلماء هو رفض حسابات تولي وتخطئة ما قدمه من بيانات. لكن في (عام 1990) تم التأكد من وجود هذه الشرائط الضخمة من المادة القديمة التي تدحض فكرة نعومة الكون البدئي وتجانسه، الى درجة اعترف الفلكي الامريكي جورج فيلد (George B. Field)، وهو من المنظرين لنظرية الانفجار، بان هناك ازمة حقيقية.
كذلك اكتشف الفلكيون في بداية (عام 1991) وجود عناقيد مجرية ضخمة يحتاج تكوينها الى ما يقارب (60 مليار سنة)، وهو ما يفوق عمر الكون - بحسب التقدير الحالي - باربعة اضعاف تقريباً. كما توالت الاكتشافات المؤدية الى ذات النتيجة، ومنها اكتشاف اعمار لنجوم كثيرة تناهز عمر الكون ذاته، ومنها ما يقع في مجرتنا درب التبانة. اضافة الى ما ثبت بان من المجرات ما هو قريب العهد من الانفجار العظيم وفق التقديرات الكونية الحالية، فبعضها بلغ عمرها اكثر من (13 مليار عام)، وبعض منها لا يتجاوز الوقت بينها وبين الانفجار سوى (500 الف عام) فقط، وكل ذلك لا ينسجم مع القياسات المبنية على نظرية الانفجار العظيم؛ التي تفترض ان نشأة المجرات قد تمت بعد حوالي ملياري عام من الانفجار. وفي تقديرات حديثة ان المجرات الصغيرة الاولى تكونت بعد حوالي (400 مليون عام)، وفي حساب اخر بعد (200 مليون عام)، ثم استمرت عملية التكوين وصنع المجرات الكبيرة الى ما يقارب ملياري عام.
وفي الحالة العادية خلقت هذه الاكتشافات اكثر من مشكلة، احدها ان عمر الكون المقدر لا يكفي لتكوين هذه التكتلات الضخمة من المادة، حيث لم تكن الجاذبية قوية الى الدرجة التي يمكنها القيام بصنعها، لذلك كثرت التكهنات في ايجاد الفروض اللازمة لتفسير نشأة مثل هذه المجرات وعناقيدها الضخمة. فلا بد من وجود قوة عملت على جمع هذه التكتلات بدلاً من تمددها اسوة ببقية ما في الكون، وكان من بين التكهنات ما افترضه البعض من وجود قوة خامسة لمساعدة المادة على الالتحام، فيما اقترح بعض اخر ادخال تعديلات على قوانين الجاذبية لتحويلها الى قوة اشد سطوة، كذلك افترض اغلب الفيزيائيين وجود مادة مظلمة هي التي سببت التحام المادة العادية وخلق التكتلات الضخمة. وقد حاروا ايضاً في تبيان طبيعة هذه المادة، لكن البحث انتهى الى كون الاخيرة ليست باريونية (non baryonic matter) مثل مادتنا العادية، فقد تكون مؤلفة من النيترينوات (neutrinos)، او الاوتار المفترضة (supposed strings)، او من جسيمات لم تكتشف بعد، او هي مجهولة التكوين تماماً.
هذه هي فرضية المادة المظلمة المجهولة التكوين، وقد اعتمدت عليها نظرية التضخم كما طرحها الفيزيائي الامريكي آلان جوث (Alan Guth) لاول مرة في مطلع ثمانينات القرن العشرين. فبحسب هذه النظرية ان الكون بدأ في التوسع بقوة رهيبة تجاوزت سرعة الضوء بكثير خلال كسر ضئيل جداً من الثانية، ثم اخذ بعد ذلك بالتباطؤ فجأة لاسباب مجهولة، او لأن حقل التضخم لم يكن مستقراً، وكأن هناك عصاً سحرية قامت بكبح سرعة الكون المروعة ليتمدد ببطئ شديد. وبدأت عملية كبح السرعة عند زمن (10-32 ثانية)، فتسببت بخلق الجسيمات المادية في حساء ممتزج مع اشعة جاما، وبعد ذلك ظهر تأثير المادة المظلمة التي عملت على تكثيف التموجات الكمومية لصنع المجرات.
ولفرضية التباطؤ لدى نظرية التضخم اهمية بالغة، فلولاها ما كان يمكن للمجرات ان تتخلق ولا الحياة ان تنشأ، بل لكان مصير الكون التشتت والتمزق. كما ان بفعلها تمكن الفيزيائيون من تخفيض عمر الكون الى مدة لا تزيد على (20 مليار سنة). اذ لم تكن المادة المتوفرة بالضخامة التي تجعلها تبطئ التسارع الكوني، ولا بامكانها جمع جزيئات المادة وصنع المجرات. ففي الحالة العادية اظهرت القياسات الفلكية ان تكتلات المجرات الضخمة تحتاج الى عمر يزيد على تلك المدة المذكورة بكثير. وكان ذلك مدعاة الى ان يفترق العلماء الى نهجين مختلفين كالذي اشار اليه الفيزيائي اريك لينر (Eric Lerner)، مع اهمال نهج ثالث مفاده التشكيك باصل نظرية الانفجار ونماذجها المختلفة بالكامل.
فمن جانب قال العديد من انصار النظرية انه من الصحيح اننا نعجز عن تفسير صنع هذه الهياكل الضخمة من المجرات، لكن ذلك يعود ببساطة الى مشاكل متعلقة بالتفاصيل من دون ان تؤثر على صحة اصل النظرية نفسها.
اما النهج الثاني، وهو يحظى بشعبية متزايدة، فانه يضيف فرضيات جديدة تساعد نظرية الانفجار على البقاء، والغرض منه جعل بداية الكون لا تتجاوز مدة محددة تقدر بين (10-20) مليار سنة فحسب، وذلك عبر افتراض قوة من اصل غير معروف تعمل على ابطاء التوسع الكوني مع تسريع نمو هياكل المجرات كي يتناسب مع العمر المشار اليه. وتمثلت هذه القوة الغامضة في المادة المظلمة.
نظرية التضخم
ان الهدف من ظهور نظرية التضخم الكوني هو اعادة صياغة التصور الاولي للانفجار العظيم، فهي بحاجة الى تفسير صنع المجرات وتحديد اعمارها، فاول ما افترضته هو الانتفاخ الهائل باعتباره مسؤولاً عن كل التموجات الصغيرة في كثافة حساء المادة والاشعاع بداية الانفجار. فبعد ان حدث التباطؤ فجأة تحولت طاقة الانتفاخ الى حرارة هائلة بفعل عملية الكبح، مثلما يحدث في حالة ايقاف سيارة مسرعة او تبطئة حركتها. وبسبب هذه الحرارة تخلقت الجسيمات المادية المختلفة وفقاً لقاعدة اينشتاين الشهيرة حول علاقة الكتلة بالطاقة. اذ تم خلق الجسيمات المتضادة التي سرعان ما اخذ بعضها يفني البعض الاخر مع بقاء نسبة قليلة لصالح المادة وفناء مضادتها، ونتجت عن هذه العملية اشعة جاما التي ملأت الكون كله، وبذلك احتفظ الكون بحساء من المادة والاشعاع. ثم ظهر بعد ذلك تأثير المادة المظلمة في جذب هذه التموجات الكمومية وزيادة تكتلها وانضغاطها لشدة الثقالة، وهو ما هيء الفرصة لصنع المجرات ومن بعدها الحياة. فلولا هذا الانحراف من التموجات والتقلبات المادية التي خلّفها الانتفاخ الهائل ما كان يمكن للمجرات والحياة ان تتخلق. لذلك فان الكون ليس مسطحاً تمام التسطح، ولا ان قيمة اوميگا تساوي واحداً بالتمام والكمال. وعليه تنبأت هذه النظرية بوجود فوارق تظهر كبصمات على اشعاع الخلفية الكونية. وبعد البحث وجد الفلكيون ان هناك شيئاً من عدم التجانس الضئيل، وهو ما يشير الى تفاوت التموجات الكمومية بعد مرحلة التضخم العظيم.
لقد اختلفت نظرية التضخم عن التوسع الكوني حول طبيعة ما كان عليه الكون البدئي، اذ تفترض الاخيرة ان الكون بدأ متجانساً ومتوحد الخواص والاتساق، وقد جاء اشعاع الخلفية الكونية مؤيداً لها خلال منتصف الستينات من القرن الماضي، لكن المشكلة التي اعترضتها هي كيف يمكن تفسير ظاهرة المجرات وعناقيدها اذا ما كان الكون في بدايته متجانساً ومتسقاً تماماً؟ وقد دفع هذا الاشكال الى تصحيح النظرية الى نموذج التضخم كمسؤول عن التقلبات الكمومية (quantitative fluctuations) الصغيرة التي ادت الى تكوين المجرات. وما زال هذا النموذج موضع اعتماد الفيزيائيين الى يومنا هذا، رغم كونه اتخذ صيغاً مختلفة كثيرة منذ البداية. وتعود نسخته الاصلية الى الفيزيائي جوث، حيث افترض وجود كسر سريع للسمترية (symmetry) او التناظر المتجانس مع تكوين الفقاعات. فيما طرح اخرون فكرة التكسير البطيء للسمترية، ومن هؤلاء الفيزياء الروسي أندريه ليند (Andrei Linde)؛ قبل ان يستعيض بدلها بنموذج اخر سمي التضخم الشواشي chaos inflation (عام 1983). وقد قدّر الفيزيائي جواو ماكيويجو (João Magueijo) تعدد النظريات التفصيلية حول الموضوع بمئات النماذج.
وعليه ان من ضمن مهام نظرية التضخم، كما في النسخة الاصلية لجوث، هو تفسير نشوء المجرات والكتل العنقودية الضخمة ضمن زمن معقول، وقد واجهت بهذا الصدد ثلاث مشاكل هي التسطح والافق (اي التجانس في التوزيع) والاستقطاب. ومع ان لهذه النظرية افتراضات كثيرة، لكن من الممكن التركيز على الرئيسية منها ضمن افتراضين هامين: الانتفاخ الخارق لسرعة الضوء، والتباطؤ المفاجئ بعد مرحلة الانتفاخ الاول. ولكل من هذين الافتراضين تفريعات ضمنية استهدفت تفسير تطور الكون دون الانشغال بكيفية انبثاقه. وبالتالي كان لا بد من عرض هذين الافتراضين وفق الفقرتين التاليتين:
1ـ الانتفاخ الخارق:
لقد افترض جوث وجود فقاعات اولية بدأت بالتمدد مثل فقاعات الصابون، ومن ثم اتصلت فيما بينها فكونت فقاعة ضخمة هي ما تمثل هذا الكون العظيم. وتنبأت بهذا الصدد بوجود جدرانٍ لمناطق اتصال هذه الفقاعات، وان المناطق المفردة ينبغي ان تكون اصغر بكثير من الكون الذي نرصده. لكن الفلكيين لم يروا اي شيء من هذه التنبؤات.
كما اشترط هذا الفيزيائي ان يكون الانتفاخ الكوني ضخماً ومفاجئاً ضمن فترة زمنية ضئيلة للغاية، وهو لم يرَ حرجاً في انتهاك سرعة الضوء القصوى، اذ كان في حاجة الى هذا الافتراض ليبرر حصول تطور منتظم ومستقر عبر تجاوز الكون لمراحل عديدة دفعة واحدة تقريباً، ليمكن التخلص من مشاكل العشوائية فيما لو كانت السرعة بطيئة، وهي النتيجة التي تبعث على حل لمشكلة التسطح والتساوي مع الكثافة الحرجة من دون تقلص انسحاقي، ولا انفتاح تمزقي للكون، فمعدل طاقة الجاذبية فيها لا بد ان يكون صفراً بالضبط.
وقد تباينت التقديرات التي دوّنها الفيزيائيون حول حجم التضاعف الكوني وفق هذه النظرية ليكون الكون مسطحاً، او ان الاوميگا Omega تساوي واحداً. فهناك من رأى ان الكون تضاعف منذ البداية وحتى زمن (10-30 ثانية) بحوالي (1030 مرة). ومنهم من اعتبر انه منذ زمن (10 -35 ثانية) الى زمن (10 -33 ثانية) تضاعف نصف قطر الكون بمقدار (1050 مرة). او ان التضخم الاول من عمر الكون تمدد بهذا المعدل. وهناك تقدير آخر هو انه منذ زمن (10-36 ثانية) إلى زمن (10-34 ثانية) تمدد الكون بمعدل هائل وبنسبة مئوية أكبر مما تم خلال (15 مليار سنة) منذ تلك اللحظة. كما هناك من اعتبر التضخم قد حصل بمعامل اكبر من (1028) خلال كسر من الثانية من عمر الكون.
ورغم اختلاف هذه المقادير لكنها ليست متضاربة بالضرورة، وهي تتفق جميعاً في كون السرعة الضخمة التي تم فيها انتفاخ الكون قد فاقت سرعة الضوء بكثير، وبالتالي تم انتهاك فرضية اينشتاين في النسبية الخاصة، لكن بعض الفيزيائيين لم يبالِ بذلك، لشكه في مصداقية فرضية السرعة النهائية للضوء. فيما اظهر اخرون تأويلاً لهذا الانتهاك الصارخ. ويمكن ان نجد تأويلين بهذا الخصوص، احدهما قد ركز على ان السرعة القصوى للضوء انما تتعلق بالنسبية الخاصة دون العامة، اي انها لا تنطبق على قوى الجذب الضخمة التي قد تكون فيها السرعة اعظم من سرعة الضوء.
اما التأويل الاخر فيعتبر ان مسلمة اينشتاين تتعلق بالاجسام والجسيمات وليس نسيج الفضاء الزمكاني، كما هي ملاحظة عدد من الفيزيائيين النظريين مثل ستيفن هوكنج Stephen Hawking وجربين Gribbin وبرين غرين Brian Greene وتايسون Tyson وجولدسميث Goldsmith واخرين كثيرين، فيما اعتبر ستيفن واينبرغ ان هذه الفكرة مضللة، فما يجري هو تباعد المجرات بعضها عن البعض الآخر وليس توسع الفضاء. فلقد حاول هؤلاء الفيزيائيون ان يلتفوا على السرعة الثابتة للنسبية ليبرروا التضخم بداية الكون بانتهاك سرعة الضوء، معتبرين انه لا تعارض بين الموضعين، فسرعة الضوء الثابتة لا تنطبق على تمدد الفضاء الصرف. اذ يمثل التمدد الكوني توسعاً للمكان او الفضاء وليس ابتعاد الاجرام عن بعضها، كما يحتفظ هذا التمدد بحجم المجرات دون تمددها.
وبحسب هذا التأويل رأى البعض انه لا مانع من ان يتباعد فوتونين كل منهما عن الاخر في نسيج فراغ يتمدد بسرعة تفوق سرعة الضوء. فمثلاً في اللحظة التي اصبح فيها الكون شفافاً لاول مرة، اي بعد حوالي (300 الف سنة) من عمر الكون كان يمكن للمواقع في السماوات التي تبعد عن بعضها بحوالي (900 الف سنة ضوئية) ان يؤثر بعضها في بعض كالتأثير بالحرارة حتى لو كانت المسافة بينها تتعدى (300 الف سنة ضوئية). وقد جاء معامل الزيادة بمقدار ثلاثة اضعاف نتيجة تمدد النسيج الفضائي.
وارى ان كلا التأويلين الانفي الذكر لا يعبران عن مضمون فكرة اينشتاين. فمن حيث التحليل رفض اينشتاين اي تجاوز لسرعة الضوء القصوى باطلاق. فقد كان من ضمن مناقشاته مع مدرسة كوبنهاكن، ومثل ذلك موقفه من جاذبية نيوتن، هو انه رفض التأثير اللحظي باعتباره انتهاكاً صارخاً للسرعة القصوى كما تتمثل بسرعة الضوء. كذلك انه في مجال الجاذبيات الضخمة اكدت النسبية العامة على تباطؤ السرعة وليس زيادتها، بدلالة انعطاف سرعة ضوء النجوم وتباطؤها عند الاقتراب من الشمس، مثلما تم التأكد من ذلك (عام 1919)، وذات الشيء يحصل في حالة الضوء الداخل في الثقب الاسود.
وقيل ان هناك اربع ظواهر تنتهك سرعة الضوء، احدها: النسيج الفضائي الفارغ كما حصل لدى التضخم الكوني عند النشاة الاولى للكون، ومبرر هذه السرعة الفائقة يأتي من ان الفضاء يخلو من الكتلة تماماً، فحاله في ذلك كحال فوتونات الضوء التي تخلو من الكتلة ايضاً. والثانية: التأثير اللحظي للجسيمات البعيدة بعد عملية التشابك الكمومي (Quantum entanglement) فيما بينها، وهو التأثير المعبر عنه بالشبحي. والثالثة: في حالة سفر الضوء في بعض الاوساط الكثيفة، كما في الماء والزجاج، حيث تبلغ سرعته في الماء حوالي (75%) من سرعته في الفراغ، في حين تمكن العلماء من زيادة سرعة الالكترونات في هذا الوسط بحيث بلغت اعظم من سرعة الضوء النسبية المشار اليها. والرابعة: في حالة الثقوب الدودية المفترضة لدى الانحناءات الضخمة للنسيج الزمكاني.
هكذا كان لا بد من افتراض التضخم الاولي المنتهك لسرعة الضوء خلال جزء بسيط من الثانية الاولى من عمر الكون، وذلك للتخلص من مشاكل العشوائية وحل معضلة التسطح الكوني ومن ثم الاستعداد للمرحلة الثانية المناطة بصنع المجرات وعناقيدها..
2ـ التباطؤ المفاجئ:
لقد افترضت نظرية جوث حدوث تباطؤ حاد بعد مرحلة الانتفاخ الضخم مباشرة؛ ليتاح للمجرات فرصة التشكل والتخلق بانتظام.
وبحسب هذه النظرية ان المادة المرئية للكون ليست كافية؛ لا من حيث الزمن المتوقع ولا من حيث القوة لان تدفع باتجاه صنع المجرات وعناقيدها الضخمة، كما انها ليست كافية لجعل الكون مسطحاً، باعتبارها قليلة سرعان ما تتشتت وتتبعثر، اذ ينبغي ان يكون هناك قدر كبير من المادة اكثر مما يبدو لنا، وان المادة الوهاجة الساطعة التي تجمعت في نجوم ومجرات ليست الا جزءاً ضئيلاً منها، لذلك كان لا بد من قوة مادية تعمل على تجميع المادة وصنع الهياكل الضخمة، ومن ثم جعل الكون مسطحاً كما يبدو في الافق. لكن حيث ان هذه القوة غير ملحوظة فانه تم التنبؤ بوجودها كمادة غير باريونية، بمعنى انها ليست كالمادة العادية مؤلفة من بروتونات ونترونات، واطلق عليها المادة المظلمة. ووفقاً لها اصبحت كثافة الكون المتنبأ بها تقارب (99 مرة) من الكثافة التي لاحظها الفلكيون من حساب المجرات خلال ثمانينات القرن العشرين وما بعدها..
هكذا يتلخص سيناريو التضخم بان الكون بدأ اولاً بالانتفاخ المروع ضمن فترة وجيزة هي كسر ضئيل جداً من الثانية، ثم تحول بعد ذلك الى تباطؤ مفاجئ لاسباب مجهولة، وقد ادى ذلك الى خلق الجسيمات المختلفة، وبعدها ظهر تأثير المادة المظلمة المسؤولة عن تجمع الجزيئات المادية لتخليق المجرات وعناقيدها. فالكون في هذه المرحلة يحتاج الى قوة جذب لا تفسره الكثافة المادية العادية باعتبارها قليلة لا تكفي لصنع المجرات قبال قوة الدفع المضاد نحو الخارج.
فخلال (عام 1989) قام الفلكي شيا (shaya) بحساب كثافة المادة من خلال استخدام خرائط تولي، فتوصل الى انها تقدر بحوالي ذرة واحدة لكل عشرة امتار مكعبة من الفضاء. ومنذ الثمانينات والى يومنا هذا تعتبر المادة العادية للكون هي الجزء الاقل من مكونات سائر ما في الكون من قوى، فحتى منتصف التسعينات كانت المادة المرئية تقدر بحوالي (1%) من الكثافة الحرجة، وانه باضافة المادة غير المرئية من الثقوب السوداء وما اليها فان الكثافة لا تزيد على (10%)، وتبقى الحاجة الى حوالي (90%) او اكثر لتفسير التسطح والتعادل بين الكثافتين المادية والحرجة، لذلك اعتبرت هذه النسبة من نصيب المادة المظلمة وهيمنتها الثقالية؛ مما يجعل الكون مسطحاً بين الانغلاق والانفتاح، اي انها تشكل حوالي عشرة اضعاف المادة العادية او اكثر. وحديثاً تغيرت هذه التقديرات فاصبحت المادة المظلمة تقدر بحوالي ستة اضعاف المادة العادية او اقل قليلاً، اذ تباينت التقديرات، فتارة انها تعادل (22%) من كثافة الكون، وثانية اعتبرت حوالي (24%)، ثم تم تقديرها اخيراً وليس اخراً بحوالي (26.8%)، وما تبقى هو من نصيب الطاقة المظلمة كما سنعرف.
وتعود الجذور المتعلقة بافتراض المادة المظلمة الى الفلكي الهولندي جان أورت Jan Oort (عام 1932)، ومن بعده الفلكي فريتز زويكي Fritz Zwicky (عام 1933). اذ اظهرت القياسات في ذلك الوقت ان هناك كتلة مفقودة مؤثرة على حركة النجوم والمجرات دون ان تكون قابلة للرؤية والرصد. اذ تبدو سرعة بعض المجرات اعظم مما يفترض تأثيره من القوة الموجودة لدى النجوم داخلها. ومع ذلك فانها لا تعاني من الافلات عن مداراتها.
ومعلوم ان سرعة الافلات (escape velocity) تتناسب عكساً مع قوة الجذب والثقالة (gravitational force)، ولها علاقة رياضية تعرف بمعادلة سرعة الافلات، وتساوي جذر ضعف كتلة الكوكب مضروباً في ثابت جاذبيته العامة مقسوماً على نصف قطره. فمن خلال هذه المعادلة يمكن تحديد سرعة افلات الاجسام من الاجرام الكونية بسهولة. فمثلاً تساوي سرعة افلات الجسم من الشمس حوالي (617.5 كم في الثانية)، ومن الارض (11.2 كم في الثانية)، ومن عطارد (4.3 كم)، ومن الزهرة (10.3 كم)، ومن القمر (2.4 كم) ، ومن المريخ (5.0 كم)... الخ. ولو ان كتلة الشمس تركزت في كرة قطرها ربع قطر الشمس الحالية لكانت سرعة الافلات ضعف ما عليه. لذلك فان سرعة الضوء العظيمة عاجزة عن الافلات من الثقب الاسود لهول الجاذبية فيه؛ استناداً الى القانون المشار اليه قبل قليل.
على ذلك لوحظ ان حركة النجوم حول المجرة تختلف عن حركة الكواكب حول الشمس. فالاخيرة تتحرك طبقاً لكون البعيد بطيئاً خلافاً للقريب. اما في النجوم فلا فرق في ذلك، او ان الابعد عن مركز بعض المجرات يكون اسرع من الاقرب للمركز خلاف المتوقع، وهو امر لا تفسره جاذبية المادة العادية. فسرعة النجوم في الاطراف تجعلها تفلت من المدار طبقاً لقانون الافلات، حيث اذا زادت سرعة دورانها عن الحد المطلوب سينحرف المسار الى الخارج بعيداً، ومن ذلك ان النجوم في المجرات الحلزونية (Spiral Galaxy) تسير بسرعة اكبر من ان تسمح لها بالبقاء، كذلك المجرات التي تدور بعضها حول البعض الاخر، فبعض مجرات العناقيد تتحرك بسرعة اكبر من سرعة الافلات، كما في مجرات عنقود الهلبة (Coma supercluster). لذا عبّر زويكي عن وجود مشكلة تتعلق بالكتلة المفقودة. او ان هناك قوة شد غير مرئية تجعل هذه المجرات والنجوم لا تنفرط وتفلت عن مداراتها.
هذا هو المقصود بالكتلة المفقودة، او ما سميت فيما بعد بالمادة المظلمة باعتبارها غير مرئية تماماً، ويفترض انها هي التي تمسك الاجرام السماوية الضخمة دون ان تدعها تفلت، مثلما تجعلها تدور بشكل اسرع مما هي عليه في الحالة العادية. وحالياً استخدمت بعض التقنيات للكشف عن المناطق التي تتركز فيها هذه المادة، ففي (عام 2015) وجد عدد من الخبراء الفلكيين تسع مناطق تمتلك كتلاً هائلة التركيز، كل واحدة منها تقدر بما يقارب كتلة عنقود من المجرات، وذلك استناداً الى ما تم تحليله من حجم انحناء ضوء المجرات الخلفية وتشوّه صورها عندما يمر الاشعاع من خلالها.
اما لماذا تم افتراض المادة المظلمة دون سواها؟ فهناك تفاسير مذكورة؛ مثل ان قوتها الضخمة لا يمكن تعليلها بكثرة الكواكب المظلمة، ولا بثقب اسود ولا بسحب داكنة. كما هناك من حاول ان يعيد النظر في تصحيح معادلة نيوتن بالنسبة لاحجام المجرات لتفسير الجاذبية الزائدة بعيداً عن افتراض المادة المظلمة؛ كما هو الحال مع الفيزيائي الاسرائيلي ميلجروم (milgrom) اوائل الثمانينات، لكن المحاولة لم تقنع أحداً. ومنهم من حاول تفسير الحال عبر افتراض البلازما الكونية التي تملأ الفضاء بكثافة هائلة، وهي تقدر باكثر من (99%) من مادة الكون المرئي.
كما هناك من افترض بان المادة المظلمة هي ذات جسيمات النترينو، ومنها تكونت المجرات عبر التكتل والتكاثف بفعل اعدادها الكبيرة، لكن لوحظ بان كتلتها صغيرة للغاية او انها خفيفة لا يسعها تفسير مثل هذه الجاذبية العظيمة، كما ان الزمن المطلوب لتكوين المجرات الضخمة عبر افتراض تكونها من النترينو المتكثف او المادة المظلمة الباردة هو زمن طويل جداً لا يتناسب مع ما يدل بانها وجدت بعد الانفجار العظيم بملياري عام، كما اشرنا من قبل.
وعليه استقر الامر على ارجحية وجود مادة مجهولة الهوية، وهو الافتراض الذي ما زال ساري المفعول الى يومنا هذا، فبدونه تسقط نظرية الانفجار العظيم وتذهب ريحها، او تكون في عِداد النظريات المقبورة.
وما زالت هذه المادة الغامضة تعتبر لغزاً كبيراً يواجهه الفيزيائيون. اذ لا يعرف عنها شيء سوى ان لها مواصفات لا تجعلها مادة عادية بالمعنى المعروف، فهي لا تمتلك بروتونات ولا نترونات، ومن ثم فانها مادة غير باريونية. ولهذا الافتراض مبرراته، اذ لا يوجد اي اثر للتفاعل فيما بينها وبين المادة العادية سوى الجذب الذي تؤثر فيه على المادة. وصورت بانها تشكل نوعاً من الهالة المحيطة بالمجرة باسرها، وهي توجد ضمن المسافات بين المجرات والشرائط العنقودية. وقُدّرت كميتها خلال القرن الماضي بحوالي (90%) من الكون او اكثر. اما اليوم فتقدر جاذبيتها باقل من السابق، وتعادل ستة اضعاف ما للمادة العادية، وذلك بعد ان تم اكتشاف قوة اخرى اعظم منها هي الطاقة المظلمة.
***
يبقى ان اهم افتراضات نظرية التضخم الكوني هو اعتبار الكون مسطحاً، فلا هو بالمقوس الموجب، ولا بالمنفرج السالب، بل وضعه اشبه بقلم قائم على رأسه من دون ان يسقط، اذ تتساوى القوى المؤثرة عليه دون سيطرة بعضها على حساب البعض الاخر، فهذا التعادل هو ما يجعله قائماً لا يسقط. وكذا هو حال التسطح الكوني، حيث تتعادل قوى التقوس والانفراج، او ان معدل الجاذبية فيه يكون صفراً. وتمثيل ذلك بالبالون الضخم المنتفخ، فكل مكان فيه يبدو مسطحاً لضخامة الانتفاخ. فهو اشبه بما نعيشه على الكرة الارضية، حيث الاحساس بالتسطح في اي نقطة نقف عليها، رغم ان الارض صغيرة بما لا تقاس بحجم الكون المنتفخ.
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد: كيف تهيأ للكون ان يكون مسطحاً دون الخضوع لهيمنة الثقالة او التوسع المفتوح اللانهائي؟
ان مشكلة الفضاء المسطح هي ذاتها مشكلة الكثافة الحرجة، فلكي يكون الكون مسطحاً لا بد من ان تكون كثافته حرجة بين حدين دقيقين؛ احدهما لصالح الكون المغلق، والاخر لصالح الكون المنفرج المفتوح.
فبحسب نموذج التضخم هناك دقة في هذه الكثافة، وهي المقدار المتعلق بسرعة الانتفاخ والتمدد، فلا بد من ان تكون هذه السرعة بين حدين دقيقين للغاية، طاوية خلفها مراحل كثيرة دفعة واحدة بلا مجال للعشوائية والانحراف، وهو الحد المعبر عنه بقيمة اوميگا، حيث تم ضبطه بدقة ضمن اللحظات الاولى من عمر الكون، كالذي سبقت الاشارة اليه، وهي بحسب بعض التقديرات تعادل جزءاً من (1015) عند زمن ثانية واحدة من الانفجار العظيم. فلو ان كثافة المادة اختلفت عن الكثافة الحرجة بما يزيد قليلاً عن هذا العامل، اي جزء من (1015)، في الاتجاه الاخر لكانت الجاذبية اقوى وسيتوقف التمدد ويتقلص الكون في انسحاق كبير دون ادنى فرصة للحياة، وبالتالي فنحن موجودون في كون قليل الاحتمال جداً. اما قبل الزمن المشار اليه، اي عندما كان عمر الكون كسراً من الثانية فان الضبط الدقيق لقيمة اوميگا هو جزء من (1050) وليس جزءاً من (1015). بل تم تقدير قيمة اوميگا عند اول لحظة زمنية وهي زمن بلانك (10-43ثانية) الذي اصبح للزمكان فيه معنى؛ بما يساوي جزءاً من (1060). وتعتبر هذه الدقة العظيمة مذهلة بما يفوق التصور والخيال.
وفي تحديد قام به الفيزيائي روبرت ديك (Robert Dick) حول قيمة اوميگا عندما كان عمر الكون ثانية واحدة فحسب؛ اعتبر ان هذه القيمة تترواح بين عددين في غاية القرب إلى الواحد الصحيح، وهما (0,99999999999999999) و(1,00000000000000001)، ففي أي من العددين هناك سبعة عشر رقم بعد الفاصل. وتشير هذه القيمة الحدية المتناهية الضآلة إلى ان أي زيادة عليها أو نقصان تفضي إلى خراب الكون بالتقلص والانسحاق، أو إلى عكسه من التمزق الكبير.
وقد تأثر جوث بما قدّمه الفيزيائي ديك، وبيّنت حصيلة معادلاته الرياضية بأنه منذ زمن بلانك كان الفارق بين العددين في غاية الضآلة مقارنة بما سبق، حيث ان عدد التسعات يبلغ (64) بعد الفاصلة الصفرية قبال (63) من الاصفار مع رقم (ا) وكلها على اليمين بعد فاصلة الواحد على اليسار. لذلك كان ينبغي ان تكون هناك سرعة مذهلة لتجاوز هذا الممر الضيق بسلام، وتجعل من الكون متضخماً بشكل مذهل كي لا يتأثر بتقلبات عدد اوميگا.
وبلا شك لم تستطع نظرية الانفجار الاولية ان تفسر هذه الدقة العظيمة. فهي لا تقول شيئاً عن السرعة التي ينبغي ان يحدث بها التمدد، وهو النقص المسمى بمشكلة التسطح، فهي لا تتنبأ او تفسر كيف ينبغي ان تكون كثافة المادة قريبة من القيمة الحرجة. لذلك جاءت نظرية التضخم لتسد هذا النقص، اذ تتنبأ ان تكون كثافة المادة قريبة جداً من الكثافة الحرجة لتحل بذلك مشكلة التسطح عبر الانتفاخ الهائل المتجاوز لسرعة الضوء. وقد استدعاها الامر الى التنبؤ بوجود مادة غير باريونية تملأ معظم الكثافة الكونية كما عرفنا.
مرحلة التسارع الكوني
ما ان انتهى القرن العشرين حتى تبين ان القياسات التي اعتمدتها نظرية التضخم في التوسع لحل مشكلة التسطح هي غير صحيحة، فقد برزت قوة جديدة مفترضة تساهم في التخلق الكوني بما يفوق غيرها من القوى. الامر الذي اثّر على قياسات التسطح والكثافة الكونية، ولم تعد افتراضات نظرية التضخم الاساسية كافية ومقنعة. ففي (عام 1998) تم الكشف عن كون متسارع اكثر قليلاً مما كان متوقعاً، وذلك عبر رصد المستعرات العظمى (Supernovae) ومن خلال مشاهدة اشعاع الخلفية الكونية. اذ بدت هذه المستعرات اخفت بقليل من المتوقع، اي انها ابعد في المسافة مما هو مفترض، وهو ما يفسر تسارع الكون بقدر اعظم. وقد اقتضى ذلك افتراض وجود طاقة غامضة كامنة في الفضاء الخاوي اُطلق عليها الطاقة المظلمة (Dark energy). الامر الذي يتوافق مع وجود قيمة غير صفرية للثابت الكوني (cosmological constant).
وطبقاً للبيانات الفيزيائية انه بدأت عملية توسع جديدة بعد مرور عدد من مليارات السنين من عمر الكون بفعل الطاقة المظلمة التي حولت تباطؤ الكون الى تسارع. فقد برز تأثير هذه الطاقة متأخراً دون ان يكون لها دور في نشأة الكون البدئي وتوسعه. وتقدر فترة هيمنتها على التمدد الكوني منذ حوالي خمسة او ستة مليارات سنة مضت.
ان الطاقة المظلمة هي قوة مضادة للجاذبية، واعظم بكثير من سائر القوى الكونية، لذلك انها تعمل على تمدد الكون وتوسعه باضطراد، وكانت تقدر بحوالي (72ـ74%) من قوى الكون، وفي قبالها قدرت المادة المظلمة: (22ـ24%)، والمادة العادية: (4%). أما اليوم فتقدر تلك الطاقة المظلمة: (68.3%)، والمادة المظلمة: (26.8%)، في حين تقدر المادة العادية: (4.9%).
والغريب ما يذكر من وجود علاقة جدلية بين التمدد والطاقة المظلمة، بحيث ان احدهما يؤثر في الاخر. فبتمدد الكون يظهر المزيد من هذه الطاقة، وهي بدورها تساعد على التمدد والتسارع باضطراد، ما يعني ان الكون سوف لا ينكمش او يعيد نفسه كدورة ثانية بحسب نشاط هذه الطاقة.
ويعتقد الفيزيائيون ان للطاقة المظلمة ارتباطاً سببياً مع الجسيمات الافتراضية التي تظهر وتختفي بسرعة جداً، اذ تفضي هذه العملية الى توليد تلك الطاقة. ويسمى ظهورها وفناؤها بالتفاوتات الكمومية للفراغ (quantum vacuum fluctuations) ، او رغوة الفنجان وزبد الزمكان (Spacetime foam) بحسب الاصطلاح الذي صكّه الفيزيائي الامريكي جون ويلر (John Wheeler). فهي صنيعة الفراغ الوهمي او الزائف (false vacuum)، لكن ذلك لم يثبت لحد الان.
لقد عادت مشكلة تسطح الفضاء والكثافة الكونية من جديد.. اذ يعتمد التسطح على مجموع نسبتي كثافة المادة (العادية - المظلمة) والطاقة المظلمة، فكلما اقترب المجموع من واحد صار تقوس الفضاء اقرب الى الصفر او التسطح، حيث اجمالي الكثافة الفعلية يساوي الكثافة الحرجة، وتكون الطاقة المجملة للفضاء مساوية للصفر.
ومعلوم ان ما تفعله الطاقة المظلمة هو على عكس ما تقوم به المادة العادية والمظلمة، فالمادة تجذب وتقوس وتكثف، فيما تعمل الطاقة المظلمة على التمدد المضطرد وتخفيف الكثافة. وقد استجاب مسار الكون الى هذين التأثيرين المتعارضين: الجاذبية الكابحة التي تعمل على تكتل المادة من جهة، والتمدد الذي يفضي الى تخفيفها. وهناك فضل للمادة المظلمة في تكثيف المادة العادية باعتبارها تعادل ستة اضعافها، ولولاها لتشتت الاخيرة في كل اتجاه بفعل الطاقة المشار اليها.
ففي بداية الانفجار العظيم لم يكن للطاقة المظلمة اي تأثير يذكر على الكون لصغر حجم الفضاء مقارنة بالفترات التالية. اذ كانت اقرب الى الصفر، فحتى المليار عام من عمر الكون كانت الكثافة المادية تساوي واحداً تقريباً، فيما ساوت كثافة الطاقة المظلمة الصفر تقريباً. فعلى مدار تلك السنين كانت الكثافة المادية (العادية والمظلمة) اكبر من الطاقة المظلمة بملايين ثم الاف ثم مئات المرات، لكن اليوم اصبحت بحسب بعض التقديرات الحديثة تشكل حوالي (27%)، في حين تقارب كثافة الطاقة المظلمة (73%)، وفي تقدير احدث انها اصبحت حوالي (31.7%) في قبال (68.3%) للطاقة المظلمة كما عرفنا.
وبذلك انخفضت الكثافة المادية مع مرور الزمن بشكل ثابت، فيما ارتفعت كثافة الطاقة المظلمة بشكل مضطرد. وبحسب التقديرات الحالية ان التعادل في التساوي بين الكثافتين قد بدأ منذ حوالي (5ـ6) مليار عام مضى.
هكذا أثّر اكتشاف الطاقة المظلمة على تخفيض نسبة المادة المظلمة، اذ كانت لا تقل عن (90%) من الكثافة الكونية، في حين عند اكتشاف تلك الطاقة اصبحت تقدر بحوالي ربع الكثافة الاجمالية، واكثر ستة مرات من المادة العادية، وما تبقى فيعود الى الطاقة المظلمة. ومع مرور الزمن سيستمر انخفاض الكثافة المادية باضطراد حتى يصل الى ما يقارب الصفر، فيما ترتفع في المقابل الطاقة المظلمة الى قريب من الواحد الصحيح. وهو الحال الذي يصبح فيه الكون ممزقاً أشرّ تمزيق.
مع هذا اعتقد الكثير من الفيزيائيين ان الكون مسطح رغم الكشف عن تسارعه ووجود دليل على القيمة غير الصفرية للثابت الكوني. فبحسب هيمنة الطاقة المظلمة يتصف الكون بالانفراج وعدم التسطح، اذ حولت كثافة المادة الى نسبة قليلة. ومعلوم ان الكثافة الحرجة للكون تقدر اليوم بحوالي (10 -29 غرام) لكل متر مكعب من الكون. في حين ان قيمة متوسط كثافة المادة الملحوظة هي اقل من القيمة الحرجة بشكل ملحوظ. لكن يعتقد ان هناك دليلاً نظرياً وتجريبياً قوياً على ان الكون يعج بمادة مظلمة تجعله يميل الى التسطح، رغم ان الامر غير واضح لحد الان.
من جهة اخرى تعرضت فكرة التسارع والطاقة المظلمة خلال السنوات الاخيرة الماضية الى الكثير من التشكيك والانتقاد. فمثلاً ظهرت دراسة جديدة في دورية الطبيعة (Nature) لدى فريق من جامعة اكسفورد (عام 2016) بزعامة البروفسور ساركار (Sarkar) حول خاصية التسارع الكوني استناداً الى ما تدفعه الطاقة المظلمة من تمدد، وقد تمت دراسة (740) من المستعرات العظمى (Supernovae) ضمن عدد من المجرات المختلفة، اي اكثر من عشرة اضعاف العدد الاصلي الذي تم دراسته لاثبات التسارع نهاية القرن الماضي، وتم الحصول على جائزة نوبل طبقاً لهذا الاكتشاف المزعوم، وتبين خلال البحث الجديد ان الكون يتمدد بطريقة ثابتة من دون تسارع، لذلك اخذ العديد من الفيزيائيين يشككون بفرضية الطاقة المظلمة التي تدفع الكون نحو التسارع وان الادلة المطروحة حولها لم تكن مقنعة. ومن وجهة نظر ساركار انه يمكن تفسير حالة عدم التجانس التام للكون، الذي يظهر في الخلفية الاشعاعية، وان محتواه المادي لا يتصرف كغاز مثالي، من دون حاجة الى تلك الطاقة المدّعاة.