يحيى محمد
على الرغم من ان الفضاء غير المتناهي يتصف بالبرودة التامة، لكن ثمة اسباباً جعلت بعض المناطق تلتف حول نفسها لتصنع جيوباً ضيقة او بقعاً حارة. فالفضاء بحسب شموليته العامة متجانس لكونه غير متناه، الا ان فيه بؤراً من تموجات الكثافة المادية وخلخلاتها ما يجعلها غير متجانسة، وهو في هذه الحالة اشبه ببحر هادئ رغم بعض المناطق الهائجة فيه هنا وهناك، وهي ما تولد الاكوان المختلفة، ومنها كوننا المحلي..
ان هذا الكون مليء بالمناطق الباردة الساكنة مثلما هو مليء بالمناطق الحارة المتفاعلة، وان هناك اطيافاً مختلفة المستويات للبرودة والحرارة ومن ثم التفاعل، وكلها تؤيد وجهة النظر التي نتحدث عنها..
ان من الطبيعي ان تكون اولى حالات تخلق الجسيمات هي تلك التي تحتاج الى اقل درجة حرارة مقارنة بغيرها، رغم اننا لا نعرف بالضبط ما هو نوع الجسيمات الاولية المتواجدة في الاصل، فما زال الفيزيائيون يعولون على وجود عدد من الجسيمات البسيطة التي لم يتمكنوا بعد من معرفة ما اذا كان يمكن تحليلها الى ابسط منها، او ما اذا كان لها اصول اصغر واقل كتلة او طاقة، كالفوتونات والالكترونات والنيترينوات (neutrinos) والكواركات (quarks) والگليونات (gluons). فقد قام الفيزيائيون باختزال وتخفيض المادة الى بعض الكتل التي تتمثل بنيتها النهائية بكل من اللبتونات والكواركات والرسل الوسيطة الحاملة للطاقة، وتتمثل الاخيرة بكل من الفوتونات والجرافيتونات (المفترضة) والگليونات ووسطاء القوة الضعيفة المعروفة بـ (w و z). وجميع هذه الجسيمات الوسيطة مرتبطة بالقوى الاربع الاساسية في الطبيعة، اي القوة الكهرومغناطيسية والجاذبية والقوة النووية الشديدة والضعيفة.
مع ذلك ما زال الفيزيائيون يتعاملون مع الجسيمات المذكورة بوصفها اصولاً اولية. وعليه من الممكن افتراض انها كانت وما زالت منتشرة بكثرة قديماً وحديثاً، واغلبها يتمثل بالفوتونات والنيترينوات والالكترونات. وبحسب بعض التقديرات لنسب الجسيمات، لدى الكون البدائي، ان كل بروتون واحد او نيوترون واحد يقابل مليار الكترون او بوزيترون او نترينو او فوتون. وفي تقدير احدث ان البروتون الواحد يقابل عشرة مليارات فوتون. ومن هذه النسبة البسيطة للبروتونات واشكالها من الباريونات وعموم الفرميونات تخلّق كوننا وحياتنا الغنية.
فبفعل احتكاك هذه الجسيمات المنتشرة ضمن سحب البلازما تولدت بؤر للتجمع نتيجة تفاعلاتها الناتجة عن التأثير الكهرومغناطيسي والجاذبي، ما جعل هذه المناطق تسخن وتزداد حرارة لكثرة ضغط التجاذبات والتفاعلات. وقد سمحت الحرارة المرتفعة بحدوث صدامات شديدة فيما بينها، وهو ما جعلها تولد جسيمات اخرى. فالتفاعل الشديد في بعض المناطق الملتفة ادى الى صدامات والتحامات فيما بينها، وابسط الصدامات الحاصلة هي تلك التي بين الفوتونات، وهي عندما تحمل طاقة شديدة فان صدامها سيسفر عن توليد الالكترونات والبوزيترونات، فاصطدام فوتونين لهما طاقة كافية يولدان زوجاً من الالكترون والبوزيترون، اي تتحول الطاقة الى كتلة هذين الجسيمين، او ان طاقة الفوتونات الكبيرة تتحول الى قدر بسيط من المادة والمادة المضادة وفق قاعدة اينشتاين حول الطاقة والمادة. لكن ما ان تنشأ هذه الجسيمات المتضادة حتى يفني بعضها البعض الاخر مع توليد طاقة فوتونية شديدة من جديد، مقدارها 2(mc2)، وهي عبارة عن تفجيرات لاشعة جاما المدمرة. وفي بعض الاحيان تتولد النيترينوات ومضاداتها بدل الفوتونات الضوئية.
وحيث ان هناك كواركات فستفضي الطاقة الحرارية المتعاظمة بفعل تصادم الفوتونات وغيرها من الجسيمات الى عملية التخليق النووي للبروتونات والنترونات عبر نشاط القوة النووية الشديدة المتمثلة بالگليونات المصاحبة للكواركات.
وما نفترضه هو ان الجسيمات الاولية كانت تتحرك في البداية ببطء شديد بفعل البرودة القصوى، وينطبق هذا الحال على سرعة الضوء بما يتفق مع الاكتشافات الحديثة التي بينت انها تتناقص عند البرودة باضطراد، كما انها ترتفع عند الحرارة، لكنها لا تتجاوز السرعة القصوى المعروفة. ففي (عام 1998) تم تبطئة الضوء الى (17 متر في الثانية) عند امراره على ذرات غاز الصوديوم البالغة البرودة، وقد نشرت تفاصيل هذه العملية في مجلة الطبيعة Nature (عام 1999). وفي (عام 2001) استطاع الفيزيائيون ايقاف الضوء تماماً لمدة كسر من الثانية، وفي (عام 2004) استطاع الباحثون من تبطئة الضوء الى (9.7 كم في الثانية). ثم بعد ذلك تمكنوا من ايقافه لمدة (16 ثانية)، وفي (عام 2013) تم ايقافه لمدة دقيقة واحدة. وقد حدث كل ذلك بفعل تأثير البرودة، بمعنى ان ازدياد سرعة الضوء تتناسب عكسياً مع البرودة، وطردياً مع الحرارة.
ويمكن تخيل ان الفضاء اللامتناهي يمتاز بالبرودة القصوى، وقد تتوافر فيه مناطق تبلغ درجة الصفر المطلق او ما يقاربه، فأي حركة للجسيمات في هذا الفضاء البارد ستكون في غاية البطْء، ثم يأتي التسارع بعد ذلك بفعل تجاذباتها مع بعض، مما قد تؤدي الى تكوين كتل حارة جداً، او بؤر كثيفة من البلازما، فيبدأ عند ذلك كسر التناظر الاولي. ومنذ تلك اللحظة تبدأ عملية طبخ الجسيمات بجعلها ملتحمة لصنع الانوية، وذلك من خلال التحام الكواركات وتكوين انوية الهايدروجين كأبسط العناصر الكيميائية. ويمكن توقع ان عملية التخليق النووي تسفر عن انفجارات كبيرة كالبراكين الهائجة التي تقذف ببعض حممها الى الخارج، ثم تأخذ هذه الحمم والمنتوجات بالابتراد فتسهل بذلك عملية اصطياد الالكترونات الهائمة هنا وهناك، وبذلك تتكون الذرات الاولية وعلى رأسها ذرة الهايدروجين. وبهذه الطريقة ايضاً يمكن للعناصر الخفيفة ان تتخلق عبر الاندماج النووي ومن ثم ذراتها.
اما ما يتعلق بسحب المجرات والنجوم الفتية فيمكن تصور انها تتشكل من خليط عائد الى البلازما وذرات العناصر الخفيفة وعلى رأسها الهايدروجين والهليوم. فقد لوحظ ان التيارات الكهرومغناطيسية تولد لفائف من الخيوط المشابهة للمجرات الحلزونية. وهو ما يعني ان لهذه التيارات تأثيراً ملحوظاً على صنع المجرات جنباً الى جنب التأثير الجاذبي. وعندما يزداد تجاذب وتفاعل سحب البلازما اكثر فاكثر فانه يؤدي الى اندماج النجوم والمجرات فيما بينها، وعند ذلك تنشأ المجرات الكبيرة. وهكذا الحال مع المجرات العنقودية الضخمة.
لقد حدثت هذه العمليات بفعل التلاحم والتجاذب وازدياد الحرارة لا الاتساع والتنافر والتبريد. ولحد الان تمثل المجرات والنجوم الضخمة اعظم حالات درجات الحرارة والطاقة بفعل كثافتها المروعة. فما زالت مشكلة صنع هذه الهياكل الضخمة تقف حائلاً لا ينسجم مع فكرة التوسع الكوني المتجه نحو التبريد. فالتخليق النووي يحصل داخل هذه الهياكل مثلما يفترضه الفيزيائيون بداية الانفجار العظيم، وبالتالي ليس بالضرورة ان تكون عملية التخليق النووي مشروطة بذلك الانفجار. فدرجات الحرارة العالية متوفرة في قلب النجوم، كما انها متوفرة لدى غازات البلازما الساخنة المحيطة بها. ففي النجوم تبلغ درجة الحرارة (10 مليون كلفن) فاكثر، وهي كافية للتخليق النووي وصنع العناصر الخفيفة وابرزها الهليوم من خلال الاندماج النووي للهايدروجين. وعندما تزداد حرارة النجم فان الاندماج النووي يزداد اكثر فاكثر حتى يصل الى انتاج العناصر الثقيلة المشعة كاليورانيوم..
فمن المعلوم انه تبلغ درجة حرارة قلب بعض انواع السوبرنوفا حوالي مائة مليار كلفن، اي اكثر من حرارة قلب الشمس بـ (10000 مرة). وبلا شك انه يصعب تفسير ذلك طبقاً لعالم يسير باتجاه التوسع والتبريد. في حين يسهل هذا التفسير وفقاً لعالم متجه نحو الانكماش ومن ثم الاحترار.. فلولا حالة التسخين المتصاعد للحرارة الى درجات ضخمة جداً ما تهيئت الفرصة لصنع العناصر الثقيلة المشعة.
وينطبق هذا الحال على البلازما، فهي ايضاً تحمل درجات حرارة مرتفعة لدى الكثير من المناطق الكونية، الى درجة ان الفيزيائيين تمكنوا من تقليد هذا الحال بصنع كمية منها ذات درجات حرارية عالية تفوق بكثير تلك التي في قلب الشمس. فقد بلغت درجة سخونتها حوالي (7.2 تريليون فهرنهايت)، اي ما يعادل اربعة تريليونات درجة مئوية، في حين تصل الحرارة في قلب الشمس الى تسعة مليارات درجة فهرنهايت، اي ما يعادل خمسة ملايين درجة مئوية فقط.
لذا يتكرر ذات الإشكال: كيف امكن لهذه الدرجات الهائلة ان تحدث اذا ما كان الكون يتجه نحو التبريد..؟ فلماذا يحدث هذا الحال في مختلف مناطق كوننا المحلي، سواء تعلق الامر بالمجرات ام البلازما؟
فما زالت النجوم والمجرات تحمل هذه الطاقات الهائلة، وانها اتخذت سبيلاً معاكساً لعملية التوسع والتبريد. والفيزيائيون يعترفون بان المجرات والنجوم والكواكب قد تكونت (نتيجة انقباض تدريجي وتشظي سحب غازية ضخمة واهية معظمها من الهايدروجين). وكل ذلك يبرر عملية الانكماش والاحترار دون التمدد والتبريد.
كما يعترف الفيزيائيون بان التجمعات العنقودية للمجرات تتشكل وتتبخر باستمرار. ومن هذه التجمعات ما هو حديث العهد. وكل ذلك ينسجم مع الفضاء غير المتناهي الذي تتشكل فيه المجرات وتتبخر باستمرار هنا وهناك، خلافاً لما رآه البعض من ان هناك دليلاً على ولادة المجرات جميعاً بنفس العمر او في حقبة واحدة من تاريخ الكون، وذلك لظهور نجوم لدى كل مجرة قديمة بنفس العمر، رغم انه اشار قبل ذلك الى وجود مجرات تتصف بانها اقل عمراً بالنسبة لبداية الكون باعتبارها بعيدة عناً، فكلما كانت المجرات ابعد كانت اقل عمراً بالنسبة لبداية الكون وبالتالي اكثر حرارة.
كذلك فبحسب التصور الحديث ان النجوم ما زالت محتفظة بذات الطاقة التي يتحول فيها الهايدروجين الى هليوم مثلما كان الحال بعد الدقائق الاولى من الانفجار العظيم. والحال ان هذا التصور يبدي تناقضاً ، فاذا كان الكون يتوسع ويزداد برودة كيف امكن للنجوم ان تحتفظ بذات الطاقة تقريباً دون ان يؤثر فيها مفعول القانون الثاني للثرموداينميك؟ في حين ان اعتبار العملية معاكسة يحل هذا الاشكال، حيث تزداد النجوم والمجرات حرارة عما كانت عليه من قبل؛ بفعل الزخم المتزايد للبلازما الكونية.
ان من دلالات الاندماج الكوني هو ان العناصر الكيميائية كلما زاد عددها الذري (عدد البروتونات) كلما احتاجت الى طاقة اعظم لتكوينها. واذا كانت العناصر الثقيلة قد تكونت في اجواء الطاقة المرتفعة والانفجارات التي تنتاب النجوم الضخمة مثل السوبرنوفا البالغة الحرارة، وليس قبلها كما هو اعتراف الفيزيائيين، فهذا يدل على ان حرارة النجوم وطاقتها اعظم بكثير مما كان عليه الامر قبل تكوينها، خلافاً للتصور الفيزيائي الذي يرى ان هذه الفترة قد شهدت حالة من التبرد بسبب التمدد الكوني، وانه بفضل هذا التمدد نشأت المجرات والنجوم وظلت ممستعرة ومتألقة. فصنع العناصر الثقيلة يوحي بان الكون سائر من البرودة الى السخونة، وان هذه العملية جعلت صيرورة الاندماج النووي تزداد اكثر فاكثر، وقد افضى الحال الى ان تكون بعض العناصر غير مستقرة لكثرة الاندماج؛ فسهّل بذلك قابليتها على الانشطار، كما في العناصر المشعة التي تفوق الحديد باعدادها الذرية.
وبذلك فان لهذا الكون مساراً معاكساً لما تقوله نظرية الانفجار العظيم، فهو سائر نحو التسخين وتجميع الطاقات الضخمة وليس العكس.. وكل ذلك بفضل التجمع المستمر للجسيمات والبلازما الكونية.
وبلا شك ان الطرح السابق حسب اطروحة الانكماش الكوني يتجاوز تماماً نظرية النسبية العامة لاينشتاين، فهذا الاخير يعول على كون متناه، على الاقل فيما يخص النشأة الاولى. كما يتجاوز نظرية الانفجار العظيم برمتها. فالكون لم ينشأ من انفجار اولي ضخم، اي انه لم ينشأ من توحد فاندفع الى الانشطار والتشتت، بل العكس هو الصحيح، اي انه نشأ من تجمع ضمن فضاء لا متناه. وعقلياً يترجح ان يكون الكون ناشئاً بفعل الاندماج والتجمع من البسيط الى المركب وليس العكس؛ باعتباره غير قابل للاختزال كالذي تزعمه نظريات الفيزياء المعاصرة. ولا يمنع العقل ان تكون هناك اكوان كثيرة نشأت على شاكلة هذه الصورة من تجمع الجسيمات الاولية بعضها مع بعض، ومن ثم كونت تراكيباً على هيئة اكوان مختلفة او متعددة. ويمكن التمثيل على ذلك بجزيئات الابخرة والسحب، حيث تتحرك وتتلاقى ومن ثم قد يتهيء لبعضها فرصة التحول الى مطر يختلف من حيث الكم والنوع، هنا وهناك.
***
هكذا جرت عملية التخليق لدى اطروحة الانكماش الكوني بشكل معاكس للتصور السائد حول علاقة الطاقة بخلق الجسيمات والاندماج النووي. فمن المنطقي ان يبدأ الحال من الابرد فالاكثر سخونة، اما التصور الحديث فقد رأى ان هذه العملية تمت تبعاً لانخفاض الحرارة وليس ارتفاعها. وهناك وصف لهذا السيناريو وفق درجات الحرارة والزمن خلال الثانية الاولى وما بعدها من الانفجار العظيم، كالذي قدّمه الفيزيائي الشهير ستيفن واينبرغ (Steven Weinberg) لاول مرة خلال سبعينات القرن الماضي (1977)، ثم توالى بعده وصف العملية مع تقديرات اخرى مختلفة بعض الشيء.
وبحسب واينبرغ، انه بعد الانفجار العظيم بلحظات لا يعلم عنها شيء، بدأت المادة الكونية من البلازما الاولية المتجانسة والمتوهجة تشكل دوامات وتجمعات ضمن درجة حرارة تفوق عتبة (1500 مليار كلفن)، وكان الكون خلالها يحتوي على جسيمات تتبادل التأثير بقوة شديدة جداً مع الجسيمات النووية، وتدعى باي ميزونات (pi mesons)[1]، وتقدر كتلتها بحوالي (1\7) من كتلة الجسيمات النووية، وهي المسؤولة عن قوى جذب تماسك الجسيمات الاخيرة، فهي تقفز ذهاباً واياباً بين البروتونات والنيترونات فتكون سبب القوة الشديدة التي تمسك بالنواة.
وبعد حوالي جزء من مائة من الثانية اصبحت الاشياء باردة بما يكفي لتجمد بلازما الجسيمات وتجمع الكواركات معاً في مجموعات من ثلاثة متحدة لتكوين الهادرونات (hadrons) من البروتونات والنترونات وغيرهما. وفي تقدير احدث بدأ انجذاب الكواركات الى بعضها بعد جزء من مائة الف من الثانية لتشكيل البروتونات والنترونات، كما في تقدير اخر بدأ الانجذاب المذكور بعد جزء من مليون من الثانية لعمر الكون.
وقد كانت الحرارة انذاك تقدر بحوالي مائة مليار كلفن (1011)، وهي درجة كافية لمنع تكوين نواة ذرة نموذجية. فالصدامات العنيفة وسط هذه الحرارة سرعان ما تجعل الانوية تنهدم فور تخلقها. فكل جسيم كان يتعرض لصدمات سريعة جداً من الجسيمات الاخرى، وكان الكون مليئاً بحساء غير مميز من المادة والاشعاع، وكان عدد المقادير المصانة للشحنة الكهربائية والعدد الباريوني والعدد الليبتوني؛ كلها تقدر بالصفر تقريباً.
وبعد عدد قليل من الثواني انخفضت الحرارة الى ستة مليارات كلفن، وهي تمثل بحسب واينبرغ عتبة الالكترونات والبوزيترونات (Threshold of electrons and positrons)، حيث تعبّر عن حد النصاب لتولد هذه الجسيمات من الاشعاع الضوئي او الفوتونات. ففي هذه العتبة وما فوقها تتولد تلك الجسيمات بحرية نتيجة تصادم الفوتونات مع بعضها، وهو ما يجعل اعدادها كبيرة جداً. وفي تقدير حديث ان درجة حرارة العتبة لخلق الالكترونات والبوزيترونات من الفوتونات هي اقل من السابق وتساوي (4 مليار درجة مئوية). وخلال هذه الحقبة تمثل هذه الجسيمات مع الفوتونات والنيترينوات ومضاداتها العدد الاكبر مقارنة بغيرها، وكانت الاعداد فيما بينها متقاربة النسبة من دون زيادة بعضها على البعض الاخر، وليس هو الحال بالمقارنة مع الباريونات. فقد كان كل بروتون او نترون يقابل مليار فوتون او الكترون او نيترينو. لذلك كان الكون في هذه الحقبة مكوناً بشكل رئيسي من الفوتونات والليبتونات liptons – كالالكترونات - والليبتونات المضادة، مع شيء قليل من الكواركات والكواركات المضادة.
أما عندما انخفضت درجة الحرارة الى ثلاثة مليارات كلفن فقد امكن لبعض الانوية الخفيفة ان تتخلق؛ مثل نواة الهليوم.
وخلال الدقائق الثلاث الاولى اصبحت الانوية السائدة عبارة عن الهايدروجين والهليوم مع قليل من انوية العناصر الخفيفة الاخرى، وتعرف هذه الفترة بالتخليق النووي البدائي (primordial nucleosynthesis)، او التخليق النووي للانفجار العظيم (BBN). وحديثاً هناك من يقدر ان تخلق انوية هذه العناصر تمّ خلال العشرين دقيقة الاولى. وبعد مرور هذه الدقائق وصلت درجة الحرارة الى حوالي مليار كلفن، وفي هذه الحقبة اختفت معظم الالكترونات والبوزيترونات، وبقي الكون يتألف بشكل رئيسي من الفوتونات والنيترينوات ومضاداتها، ورفعت الطاقة المحررة من تفاني الالكترونات والبوزيترونات درجة حرارة الفوتونات الى حوالي (35%) مقارنة بالنيترينوات. وعند حوالي (34 دقيقة و40 ثانية) بلغت درجة الحرارة (300 مليون كلفن)، وفي هذه الحقبة تفانت الالكترونات والبوزيترونات كلها باستثناء نسبة طفيفة للالكترونات نجت من الفناء (annihilation)، وتقدر بواحد من مليار فقط، ومن هذه النسبة الضئيلة بُني كوننا الحالي. وقد ساعدت الطاقة المحررة من الفناء على رفع درجة حرارة الفوتونات الى حوالي (40%) بالنسبة الى حرارة النيترينوات. اما التخليق الذري فقد بدأ – بحسب واينبرغ - بعد حوالي (700000 عام). لكن الحسابات الحديثة اعتبرت المدة التي تم فيها هذا التخليق تقدر بحوالي (380000 عام) بعد الانفجار العظيم. ومنذ تلك الحقبة اصبح الكون شفافاً نتيجة سفر الفوتونات الضوئية بحرية، وقبل ذلك كان هناك حساء متأين غير متمايز من المادة والاشعاع .
ومن خلال العرض السابق يلاحظ ان الجسيمات المادية قد تخلقت خلال جزء بسيط من الثانية، وان صنع انوية العناصر الخفيفة لم يستغرق اكثر من بضع دقائق محدودة من عمر الكون، في حين ان صنع ذرات العناصر قد تأخر مدة طويلة جداً تقارب ثلث مليون سنة. فطيلة هذه المدة الكبيرة لم يحدث شيء مهم سوى التمدد والتبرد، وهو ما هيء الفرصة للتخلق الذري. فقد انخفضت درجة الحرارة حتى وصلت الى حوالي (3000 كلفن)، وعندها بدأ اسر الالكترونات الحرة الهائمة واقتناصها لتصنيع الذرات، وهي المرحلة التي اصبح فيها الكون شفافاً، فاصبح من المتاح للاشعاع الضوئي السفر بحرية من دون ان تعترضه سحب الالكترونات الهائمة. ومع مرور الوقت اصبح الحال مهيئاً لتكوين المجرات والنجوم عبر السحب الكثيفة للهايدروجين مع شيء قليل – نسبياً - من الهليوم. وقبل ذلك لم يكن من الممكن للمجرات ان تتكون في ظل انعدام الذرات والجزيئات وسطوة الحساء البلازمي المظلم، او غير المتمايز للمادة والاشعاع.
فبعد انخفاض حرارة الكون وبلوغها بضعة الاف من الدرجات؛ انخفض ضغط الاشعاع واصبح لا يقاوم تجمع المادة او جاذبيتها، ومن ثم اصبح تخلق المجرات لا يحتاج في مثل هذه الحالة سوى الوقت الكافي للمزيد من التجمع والتجاذب، اذ تقدر فترة تخليق المجرات الكبيرة بحوالي ملياري عام، اما المجرات البدائية والصغيرة فقد تمت بعد ما لا يقل عن (200 مليون عام).
***
هذا هو السيناريو السائد حول تخلق الجسيمات والذرات والمجرات وفق معايير نظرية الانفجار. فبحسبها ان عامل التمدد والتبريد هو ما افضى الى خلق الجسيمات، ومن ثم الذرات، ومن بعدها المجرات والنجوم. وهي تفترض ان لكل حقبة من التخلق خضعت الى قوة من قوى الطبيعة الاساسية، فقد بدأ الدور الاول مع القوة النووية الشديدة لتخليق الانوية عندما كانت درجة الحرارة مرتفعة جداً، ثم بعد ان انخفضت هذه الحرارة برز دور القوة الكهرومغناطيسية لتخليق الذرات، ثم هيمنت بعد ذلك قوة الجاذبية لتخليق المجرات والنجوم. ومع ذلك فان اطروحة الانفجار العظيم، وفق نظرية التضخم، واجهت صعوبة تتمثل بان التضخم المفاجئ للكون البدئي يسبب انخفاضاً شديداً لدرجة الحرارة، وقد يقترب الانخفاض الى الصفر المطلق. ومن وجهة نظر بعض الفيزيائيين انه لا شيء يمنع من حدوث تجمد تدريجي ومن ثم تقييد الانتفاخ او كبحه دون مواصلته الى الحد المفترض. وقد اشار جوث في رؤية مبكرة لهذه الفكرة المتعلقة بامكانية مرور الكون بفترة تعرف بالتبريد الشديد.
اما بحسب نظرية الانكماش فلا حاجة لمثل هذه الحقب والازمان الفاصلة بين التخلق النووي والذري. فقد بدأ التخلق الاخير بعد ان انتهى الاول مباشرة دون حاجة لافتراض الفترة الزمنية الطويلة التي اقترحها الفيزيائيون استناداً الى فرضية تحول الكون مما هو ضيق وحار جداً الى كون منبسط شفاف وبارد نسبياً.
فبحسب سيناريو الانكماش تعتبر تلك الافتراضات مجانبة للصواب لابتنائها على مقالة الانفجار العظيم التي تقتضي ان يكون الكون قد بدأ بطاقة وحرارة عظيمتين للغاية.
وحقيقة لو كان هناك انفجار فريد او تضخم بالفعل، كما يشار اليه عند زمن بلانك من عمر الكون، لكان الانشطار والتشتت والفوضى العارمة بلا حدود. في حين ان ما حصل ليس انشطاراً بل انكماش واندماج تدريجي عمل على تكوين الانوية بفعل القوة النووية الشديدة، ومن ثم الذرات لالتحام الالكترونات بالانوية عبر القوة الكهرومغناطيسية، وبعد ذلك اخذت الذرات تتجمع بفعل تأثير الجاذبية التي ازدادت سلطتها مع وفرة البلازما فقادت الى صنع المجرات والنجوم؛ حيث التجاذبات المستمرة بين البقع والجيوب الضيقة المتفاعلة والمحاطة بالبلازما الكونية في كل مكان..
ففي الفضاء تكثر المناطق التي تحتوي على قوى الجذب والتفاعل الكهرومغناطيسي المفضية الى تكوين بقع حارة قابلة للتطور باستمرار، ومن ذلك تتخلق الانوية والذرات والجزيئات ومن ثم المجرات والنجوم. وكل ذلك لا يحتاج الى انفجار كوني ليتم صنع الانوية والذرات وسائر الاشياء تبعاً لعملية التمدد وانخفاض الحرارة. فما حصل – وما زال يحصل - هو العكس تماماً. اذ ترتهن عملية تخليق الانوية والذرات الى التجاذبات الحاصلة بفعل الانكماش المؤدي الى الاندماج الكوني وليس الانشطار والتنافر. ففي البداية تتعاظم الطاقة بفعل تجمع طاقات بسيطة باردة حتى تصل الذروة فيحدث الالتحام والاندماج، ويبقى الحال هكذا حتى بعد وجود المجرات والنجوم التي تتم فيها عملية تخليق العناصر الثقيلة ومنها العناصر غير المستقرة لكثرة الاندماج وارتفاع الحرارة، كما عرفنا.
ان عملية التخليق النووي والذري والمجري وغيرها من الاشياء جارية ابداً دون انقطاع، وان توافر الجسيمات وتصادمها وقابليتها على صنع تلك الاشياء مستمر على الدوام.. فالخلق لا ينقطع فعله ودوامه.
ولا يستبعد ان تكون المجرات اكواناً وعوالم مختلفة، واننا نعيش ضمن عالم مواز لها، دون ان يتطور بعضها من البعض الاخر. فهي اشبه بالفقاعات الكثيرة التي اخذت تنمو وتتطور باستقلالية مع امكانية ان تتجاذب وتتصادم لتكوين ما هو اعظم منها، كما هو الاعتقاد الفلكي الحديث.
وقد يرد السؤال: لماذا لا تسقط المجرات والنجوم بعضها فوق البعض الاخر بفعل الانكماش؟ وبحسب الاجابة الحديثة وفقاً لنظرية الانفجار العظيم فان السبب يعود الى ظاهرة التوسع الكوني او اندفاع المجرات بعضها عن بعض، كالذي كشف عنه قانون هابل. اما بحسب اطروحة الانكماش الكوني فهو ان المسافات الشاسعة التي تفصل فيما بينها يجعلها لا تتأثر كثيراً بجاذبية بعضها للبعض الاخر، فهي كالقارات التي تفصلها البحار والمحيطات العظيمة..
وتمتاز حالة الاندماج لدى الكثير من الظواهر الطبيعية بانها اسهل من حالة التفكك والعودة الى عناصرها الاولية. فمن السهل مثلاً خلط الفواكه مع بعض لتكوين عصير (كوكتيل) منها، لكن من الاستحالة عملياً ارجاع الخليط الى مكوناته الاصلية، ومثل ذلك خلط السكر بالشاي. وكذا هو الحال مع العمليات الاندماجية المعقدة مثل المركبات الكيميائية، فهي تتلاحم ضمن ظروف خاصة، لكن يصعب اعادتها الى ما كانت عليه. فمثلاً من السهل على الهايدروجين والاوكسجين ان يندمجا سوية بطرائق عديدة لتكوين الماء دون حاجة لحرارة كبيرة؛ وفق المعادلة الكيميائية التالية:
2H2 + O2 → 2H2O + ENERGY
فيما يصعب العكس، اذ تبلغ حرارة تفكك الماء اكثر من (2000 درجة مئوية) ليتحلل الى هذين العنصرين وفق المعادلة المعاكسة التالية:
2H2O + ENERGY → 2H2 + O2
والحال ذاته ينطبق على الكثير من العمليات الفيزيائية النووية، فمن المعلوم ان الهايدروجين يندمج ضمن حرارة معينة ليتحول عبر مراحل الى هليوم، ولكون الهليوم مستقر جداً فمن الصعب عليه ان يعود الى ما كان عليه كهايدروجينات مضاعفة، وهي العملية التي ساعدت على كثرة الاندماج النووي الى حد الاشباع والاستقرار كما في حالة الحديد الحاوي على (26 بروتون) مع (30 نيترون)، ثم بدأ الخط التنازلي بعد ذلك بعدم الاستقرار كلما زاد الحشر والانضمام، ومن ثم اصبحت قابلية التفكك والتحلل سهلة لكثرة الحشر والامتزاج. وتمثل العناصر المشعة ابلغ حالات القابلية على التفكك، مثل ما يحصل مع (اليورانيوم – 235) الحاوي على (92 بروتون) مع (143 نيترون).
هكذا يمثل الحديد العنصر الوسط في سلسلة الانوية الذرية، فهو يقع بين العناصر الخفيفة التي تقبل الاندماج؛ كالهايدروجين والهليوم والليثيوم والاوكسجين والكاربون، والعناصر الثقيلة التي تقبل الانشطار كالعناصر المشعة وغيرها. لذلك يجري استخدام التفاعل النووي كما في صنع القنابل النووية اما بقذف الانوية الثقيلة للتحول الى انوية اكثر ثباتاً مع اطلاق طاقة عظيمة، او العمل على دمج الانوية الخفيفة لتصبح اكثر ثقلاً وثباتاً مع اطلاق طاقة عظيمة ايضاً، كالحال مع القنبلة الهايدروجينية التي يتم فيها تحويل ذرات الهايدروجين الى هليوم مثلما يحصل في قلب النجوم.
والقاعدة العامة التي تتحكم في الانشطار والاندماج تعتمد على التنافس بين القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الشديدة في البروتونات. ففي حالة الحديد يكون التأثير متساوياً بين هاتين القوتين، واذا كانت القوة الاولى اكبر من الثانية فستصبح النواة قابلة للانشطار، والعكس بالعكس، حيث اذا كانت اضعف فستكون النواة قابلة للاندماج. ومعلوم ان للقوة الكهرومغناطيسية تأثيراً على المسافات البعيدة في النواة لدى البروتونات باعتبارها مشحونة، فيما يقتصر تأثير القوة الشديدة على المسافات القصيرة. وعليه يضعف تأثير القوة النووية الشديدة عندما تزداد المسافة بين البروتونات، كالذي يحصل في حالة زيادة عددها. ويقدر عدد بروتونات الانوية غير المستقرة باكثر من (83 بروتون)، حيث يطغى فيها تأثير القوة الكهرومغناطيسية. لذلك فان نسبة العناصر غير المستقرة تعتبر قليلة مقارنة بالمستقرة.
مع ذلك يعتقد الفيزيائيون ان بعض الانوية المستقرة تمتاز بكثرة بروتوناتها بما يفوق العدد المذكور بكثير، وهي تعود الى ما يطلق عليه الاعداد السحرية (magic numbers). ويُقصد بها تلك التي تتميز اغلفتها او قشورها (nuclear shell) بانها مكتملة او ممتلئة بجسيمات النيوكليونات (البروتونات او النترونات) على شاكلة ما موجود لدى الالكترونات، لذلك تكون محظوظة بشدة استقرارها، وتمتاز بكثرة نظائرها في الطبيعة مقارنة بالاعداد القريبة منها. ويتوفر منها لدى الطبيعة - بحسب المعلومات الحالية - سبعة انوية اغلبها مقدر بحسب عدد البروتونات، وهي الهليوم (2)، والاوكسجين (8)، والكالسيوم (20)، والنيكل (28)، والقصدير (50)، والرصاص (82)، بالاضافة الى نواة (126)، والاخيرة انما مقدرة بحسب النيترون وليس البروتون. لكن الفيزيائيين تنبأوا بالاضافة الى ذلك بوجود انوية مستقرة رغم انها فائقة الثقل، وهي انوية تحمل الاعداد السحرية التالية: (114 و122 و124 و164 للبروتونات)، ويقابلها (184 و196 و236 و318 للنيوترونات). مع هذا لم يتم لحد الان اكتشاف هذه الانوية في الطبيعة ولم يتم صنعها في المعجلات. رغم انهم انتجوا انوية ثقيلة جداً غير مستقرة وسرعان ما تتفكك الى انوية اخرى، وتمتاز بانها اكثر من الانوية الطبيعية من حيث عدد البروتونات، ومن ذلك انهم نجحوا في انتاج انوية ذات (106 بروتون).
ويلاحظ انه لولا العملية الخطية لاندماج الانوية بنحو الاجمال لما امكن تخلق النجوم، ولما كان من الممكن صنع العناصر الثقيلة ومن ثم خلق الحياة بعدها. بمعنى لولا ان عملية الاندماج هي اسهل من التفكك والعودة الى الاصول؛ لما تكونت الذرات ولا المجرات والنجوم ولا العناصر الثقيلة ولا الحياة، بل لاصبح الكون مليئاً بغاز الهايدروجين فحسب.
كما ان اضطراد تحول الهايدروجين الى الهليوم كما في النجوم يدل على ان اغلب ما في الكون من مادة متجه نحو الاندماج والانكماش.
للبحث صلة..
[1] تختصر باي ميزونات باسم بيونات (pions)، وتم اكتشافها من قبل الفيزيائي الانجليزي سيسيل فرانك بويل Cecil Frank Powell (عام 1947)، وهي شبيهة بالغليونات (gluons)، فكلاهما من البوزونات الحاملة للطاقة النووية الشديدة.