يحيى محمد
لقد كانت نظرية الانفجار العظيم وليدة اكتشاف هابل لتوسع الكون نهاية العشرينات، ومع ان فكرة التوسع الكوني تطورت منذ الثمانينات إلى التضخم الكوني، لكن المسائل الفيزيائية ظلت مستعصية عن الحل لدى اي نموذج يريد ان يفسر كيف نشأ النظام الكوني وصنع المجرات، فالكون البدئي كما تصوره نظرية الانفجار العظيم يتصف بالنعومة والتجانس مع العشوائية والصدفة منذ نقطة التفرد (singularity) وما بعدها.
ومعلوم انه ليست هناك اي ادلة تجريبية او رصدية تؤكد صحة هذه النظرية، ومنها نماذج التضخم الكوني، رغم تمكنها من تفسير عدد من الظواهر الفيزيائية، ولهذا اعتبرت مقبولة. فالعلماء متمسكون بها لغياب البديل الانسب، خاصة وان الفيزيائيين النظريين يميلون إلى الاخذ بالنظرية الموحدة الكبرى Grand Unified Theory ((GUT للجسيمات، وهي ما تفسر الزيادة الملحوظة للمادة في الكون على مضادتها، لذلك تعتبر اساس نظرية التضخم.
ان لإطروحة الانفجار العظيم نسخاً (versions) كثيرة مختلفة، ومنها النسخ المتعلقة بالتضخم الكوني التي سادت منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا؛ رغم كثرة افتراضاتها وتنبؤاتها من دون دليل رصدي او تجريبي يثبت ذلك، وهي من وجهة نظر العلماء تعتبر نموذجاً (model) مقترحاً وليست نظرية بالمعنى الدقيق للكلمة. فالنظرية يتوقع لها ان تكون مستقلة بذاتها تماماً، خلافاً للنموذج الذي يتصف بالنقص.
ان العيوب التي تنتاب نظرية الانفجار بنسخها الكثيرة تجعلنا نعود لنتساءل عن حقيقة ما قد قيل بان الكون يتوسع ويتمدد؟ فنموذج الكون السكوني قد لا يقل قيمة عن الكون التوسعي، طالما لا يوجد في الافق دليل مباشر او ملزم بان الكون يتوسع سوى علامات وقياسات عرضة للتفسير والتغيير على الدوام. ولكل من النموذجين مبرراته. لذلك ما زال بعض الفيزيائيين ينكر فكرة التوسع ويحتفظ بصورة الكون الساكن كما هو التصور التقليدي الذي سبق عشرينات القرن الماضي.
وانقل بهذا الصدد انه صادف ان احتدم الجدل بين الفيزيائي المعاصر نيل توروك Neil Turok (المولود عام 1958) ، والمعروف بانه ابرز المعارضين لفكرة التوسع الكوني، وفيزيائي اخر أصرّ على ان هذا التوسع هو الحل الوحيد لمشكلتي التسطح والأفق (التجانس)، فانكر عليه نيل توروك قائلاً: ان لديّ آلافاً من التأويلات والافكار البديلة تتصل بألغاز الانفجار العظيم. افترض انه عند ولادة الكون نشأ شيء ما، مبدأ يؤكد ان لا وجود الا لكون اقرب ما يكون إلى التناظر، ألا يفرض ذلك كوناً متجانساً ومسطحاً؟ وهذا في حد ذاته حل للغزي الافق والتسطح.
وما زالت فكرة الكون السكوني مطروحة في بعض الاوساط التعليمية، ومن ذلك ان بعض المجالس الاكاديمية في امريكا ما زالت تحتفظ بمثل هذا الاعتقاد من دون تغيير.
ومع ان النظريات قد تصاب بصدام مع الاكتشافات العلمية، لكنها ليست خاطئة بالضرورة؛ طالما من الممكن اصلاحها بما يتفق مع هذه الاكتشافات الجديدة. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان عموم علم الفلك يخضع للتغيير والمفاجئات باستمرار، وبعضها يعتبر من المفاجئات الانقلابية، كتلك المتعلقة بالتوسع الكوني، لذا لا يمتنع من اننا قد نواجه في المستقبل فكرة اخرى مختلفة قد تعود بنا إلى ما كنا عليه قبل عشرينات القرن الماضي.. او ان يكون التأييد العلمي لصالح نظرية اخرى مختلفة، وربما معاكسة لفكرة التوسع، مثل نظرية الانكماش الكوني التي ندعو اليها.
لقد سبق ان نشرت الصحف والمجلات العلمية العديد من العناوين التي تتضمن فشل نظرية الانفجار العظيم وانهيارها. فمنذ نهاية الثمانينات تزايدت البحوث الرافضة لهذه النظرية، ويكفي انه خلال ثلاث سنوات من ذلك الوقت ظهرت الكثير من هذه العناوين اللافتة للنظر، ومن بينها ما يلي:
فلتسقط نظرية الانفجار العظيم. نظرية الانفجار العظيم تنجرف نحو الانهيار. نظرية الانفجار العظيم تُنسف. للأسف؛ نظرية الانفجار العظيم تفشل. خريطة التحديات لنظرية الكون. بيانات الفلكيين الجديدة قد هزّت الجزء الحيوي من نظرية الانفجار العظيم. تكتلات الكوازار أوهنت النظرية الكونية.
لقد اعتبرت نظرية الانفجار العظيم غير مقبولة ولا متوقعة ان تبقى حية خلال عقد التسعينات، مثلما جاء في افتتاحية مقالة (فلتسقط نظرية الانفجار العظيم) المنشورة في مجلة الطبيعة Nature البريطانية (عام 1989) ، وهي للباحث جون مادوكس John Maddox؛ الذي اعتبر هذه النظرية متخبطة بما يجعلها ليست اكثر علمية من فكرة الخلق الواردة في الكتاب المقدس.
وبحسب الفيزيائي اريك لينر انه منذ بداية التسعينات بدأت الادلة ضد هذه النظرية تنمو بقوة، واصبح مستكشف اشعاع الخلفية الكونية (COBE) بعيداً عن ان يثبتها، معتبراً انه اذا كانت هذه النظرية خاطئة فان اساس الفيزياء الجسيمية ستنهدم ايضاً، ومؤكداً بان هذه الفيزياء تواجه تناقضات ايضاً بين النظرية والتجربة. وقد تساءل: لماذا كل هذا الاهتمام بنظرية الانفجار العظيم؟ حتى قضى علماء الكون حياتهم في اتباعها؛ فاصبحت لديهم مقالاً من الايمان وليست فرضية يمكن اثباتها او نفيها بحسب الدليل.
ان الدفاع (الايماني) عن هذه النظرية جعل لينر يتهم اتباعها بالتواطؤ في مؤامرة تشترك فيها سلطات ثلاث: العلم والسياسة والدين. فقد اخذ علماء الكونيات لا يبالون بما تتحدث عنه المشاهدات الفلكية، بل ويعتبرون كل مخالفة للنظرية بدعة غير مقبولة، شبيه بما حدث من تضييق على غاليلو عندما هاجم النظام البطليمي قبل اربعة قرون. واليوم يتكرر الحال نفسه في جعل الاعتقادات الكونية قائمة على الايمان لا المشاهدة.
لذلك شدد هذا الفيزيائي على ضرورة العودة إلى طريقة البحث الجارية لدى كبلر وغاليلو التي تعتمد على المشاهدات والملاحظات مع التجارب دون الافتراضات والاطر الرياضية المجردة. فهي طريقة تتمسك بالمنهج الاجرائي التقليدي في قبال المنهج الافتراضي الحديث وفق تقسيمنا لنظم الفكر العلمي.
هذا ما كان عليه الحال نهاية القرن الماضي، أما اليوم فقد تعالت الكثير من الاصوات الداعية إلى التخلي عن نظرية الانفجار العظيم واستبدالها بغيرها. ومن ذلك تم توقيع اكثر من ثلاثين صوتاً من اعضاء المؤسسات العلمية لدى بلدان عديدة اغلبهم من الولايات المتحدة الامريكية، وهم فيزيائيون وفلكيون ومهندسون، وقد طالبوا بالكف عن التمسك بها بعدما كثرت افتراضاتها من دون اثبات، واصبحت عقيدة من الصعب زعزعتها. ففي (عام 2004) كتب الفيزيائي اريك لينر مقالة في مجلة العالِم الجديد New Scientist بعنوان (معارضة الانفجار العظيم Bucking the big bang)، وبعدها نُشرت كرسالة مفتوحة إلى المجتمع العلمي مذيلة بتوقيع (34 عالِماً) وعلى رأسهم الفيزيائي الشهير هالتون آرب، وقد طالبوا بضرورة التغيير الجذري للنظرية المشار اليها. ثم اعقب ذلك زيادة عدد الموقعين من العلماء والمهندسين وغيرهم فبلغ المئات لدى بعض المواقع الالكترونية..
ونواجه بهذا الصدد سؤالاً يتعلق بمشكلة البديل، فهل يوجد ما هو افضل من نظرية الانفجار العظيم؟
بلا شك ان اغلب العلماء غير متحمسين للتخلي عن هذه النظرية رغم الاعتراف بانها تحمل عدداً من العيوب والتنبؤات التي لم يتم اثباتها لحد الان. مع هذا فهناك عدد من الفيزيائيين قدّموا بعض الاطروحات البديلة القائمة على نفي بداية محددة للكون، كالذي دعت اليه نظريات عديدة في الوقت الحاضر، فبعضها كان يدعو إلى فكرة الشكل الدوري من توسع الكون وانكماشه دون المرور بنقطة نهائية، فيما دعا بعضها الاخر إلى فكرة مرور الكون بحالات ازلية من خلق المادة والطاقة من دون بداية، وذلك على شاكلة ما نادت اليه نظرية الحالة الثابتة لفريد هويل ورفاقه منتصف القرن الماضي، وقد كانت المنافس الاعظم لنظرية الانفجار قبل ان يتم التخلي عنها بعد منتصف الستينات.
ولعل ابرز هذه النظريات ما يعرف بالبلازما الكونية كما طرحها عدد قليل من الفيزيائيين. وكان اول كتاب تعرّض لهذه النظرية بالتفصيل هو الانفجار العظيم لم يحدث ابداً (The Big Bang Never Happened) عام 1991.. ووفقاً لهذه النظرية فان التطورات الكونية حاضرة على الدوام من دون بداية ولا نهاية، كما انه ليس هناك شيء يظهر من العدم طبقاً لاعتبارات السببية. فهي تعول على الكثرة الهائلة من البلازما الحارة التي تتأسس على القوة الكهرومغناطيسية. فخلال ثلاثينات القرن العشرين شرع الفيزيائي ألفن بدراسة وشرح الطرق المتعددة للبلازما والتيارات الكهربائية والمجالات المغناطيسية التي تعمل على تركيز المادة والطاقة؛ لجعل الكون دينامياً ومعقداً وغير متكافئ.
ومنذ أواخر الستينات تم التأكد من وجود الخيوط الكهرومغناطيسية وتياراتها لدى المجموعة الشمسية. وبحسب ألفن فان ما ندرسه لهذه الخيوط والتيارات في المختبر نراه في نظامنا الشمسي، كما نراه لدى استخداماتنا اليومية، وبالتالي لماذا لا يكون الحال هو ذاته في نظام الكون كله، ولكن بشكل اعظم واكبر؟.
ولوحظ ان ما تنتجه التيارات الكهرومغناطيسية هو هياكل من الفتائل والخيوط غير المتجانسة في الفضاء. ففي (عام 1979) استطاع توني بيرات (Tony Peratt)، وهو احد طلبة ألفن السابقين، ان يولّد تيارات كهربائية قوية من البلازما في المختبر، ورأى ان هذه التيارات تتطور إلى خيوط ملتوية شبيهة بمجرة حلزونية صغيرة.
وفي (عام 1984) اكتشف الفلكي الايراني فرهاد يوسف زاده (Farhad Yusef-Zadeh) من جامعة كولومبيا، مع عدد من زملائه، مناطق كبيرة من الخيوط الدوامة المغناطيسية في قلب مجرتنا درب التبانة. وعليه تم افتراض هذا الحال في جميع اركان الكون. حتى قالت الفلكية مارغريت هاينز (Margaret Haynes): ان الكون هو مجرد وعاء من المعكرونيا.
ومن حيث المقارنة مع نظرية الانفجار العظيم تتأسس اطروحة البلازما الكونية على القوة الكهرومغناطيسية اساساً، فيما تتأسس الاولى على الجاذبية فحسب. ومن هذه الناحية فان الاولى تهتم بالكتل الضخمة وتفصل فصلاً تاماً بين السماوي والارضي، لذلك اصبح علم الكونيات مفصولاً تماماً عن الاتصال بالارض وتطبيقاتها الجارية يومياً، خلافاً لاطروحة البلازما المعتمدة على القوة الكهرومغناطيسية، ومعلوم ان لها مجالات واسعة للدراسة المباشرة على الارض، كما لها استخدامات كثيرة لدى حياتنا اليومية والعملية.
كما انه بحسب نظرية الانفجار العظيم يتصف الكون بالسلاسة والتجانس وهيمنة الجاذبية، في حين تتصف البلازما بانها ذات طبيعة غير متجانسة. لذلك اعتقد ألفن ان المجالات المغناطيسية والتيارات الكهربائية يمكنها ان تعمل على تركيز المادة والطاقة بشكل اسرع واكثر تأثيراً من حقل الجاذبية. فبامكان الخيوط المغناطيسية ان تتحرك بسرعة اللف والدوران، وتزداد السرعة كلما زادت كتلة الانقباض او اللف، مثل متزحلق الجليد الذي يسحب ذراعيه إلى الداخل، وهو ما يولد قوة طرد مركزية لمحاربة التقلص والانكماش، في حين ان الجاذبية لا يمكنها فعل ذلك.
وعليه فبنظر ألفن لا يحتاج التوسع الكوني إلى الانفجار العظيم، فهناك عدد من الامكانات التفسيرية لعلاقة هابل من دون حاجة إلى هذا الافتراض المكلف. ورغم انه لا شيء يؤكد حتى الآن أياً منها، لكن هناك اقتراح بسيط قد تمسك به هذا الفيزيائي واستاذه السابق اوسكار كلاين (Oskar Klein)، ويتعلق بفكرة المادة والمادة المضادة كما نعرضها كالتالي:
في (عام 1971) وسّع كلاين ما بدأ به ألفن من قبل، وتم طرح ما يعرف بنموذج (ألفن - كلاين) او (ما وراء المجرة metagalaxy)، وهو مصطلح يميز بين الكون ومجرة درب التبانة. والفكرة العامة حول النموذج المطروح هو ان الكون يتألف من مناطق واسعة ومتساوية الكمية من المادة والمادة المضادة، مثلما يظهر توليدهما في المختبر، لكن تفصلهما مجالات كهرومغناطيسية مؤلفة من طبقات مزدوجة. ولدى المناطق الحدودية الرقيقة تكون المادتان المتضادتان شديدتي الحرارة ورقيقتي الكثافة مما يسهل تفاعلهما بسرعة؛ فينتج عن ذلك الاشعة ومنها تتكون البلازما. وقد اقترح ألفن الطبقة المزدوجة المتفجرة كآلية ممكنة لتوليد الاشعة الكونية، وانفجارات الاشعة السينية (x) واشعة جاما.
واستخدم هذا الفيزيائي مصطلح (أمبي بلازما ambiplasma) للاشارة إلى البلازما التي تتكون من تفاعل المادتين المتضادتين والطبقات المزدوجة للمجالات الكهرومغناطيسية. ومن ثم تم تطوير هذه الفكرة إلى (الأمبي بلازما الثقيلة) المؤلفة من البروتونات ومضاداتها، و(الأمبي بلازما الخفيفة) المؤلفة من الالكترونات والبوزيترونات.
وبحسب شرح الفيزيائي لينر انه منذ مليارات السنين كان الكون يقدر بحوالي عُشر حجم ما عليه اليوم، ومن ثم بدأت المادة والمادة المضادة تختلطان لدى زاوية صغيرة من الكون اللامتناهي، وادى ذلك إلى فنائهما ومن ثم توليد كميات ضخمة من الطاقة الالكترونية والبوزيترونية. وكانت هذه الجسيمات محاصرة في حقول مغناطيسية، فقامت الجسيمات المشار اليها بسوق البلازما خلال مئات الملايين من السنين، وكانت التفجيرات لطيفة بما يكفي ان لا تحطم الخيوط البلازمية التي سبق تكوينها. وما زالت هذه البلازما القديمة موجودة إلى يومنا هذا، وتتصف بالتوسع، كالتصميمات المطبوعة على بالون وهو في حالة تضخم.
لقد فسّر نموذج (ألفن - كلاين) غياب المادة المظلمة لدى الكون الذي نعيش فيه بأنْ كانت هناك حالة اولية للتماثل والتساوي بين المادة والمادة المضادة ضمن جيوب منفصلة للأمبي بلازما الآخذة بالتوسع نحو الخارج، الا ان الفناء الحاصل بسبب التفاعل بينهما - عند الطبقة المزدوجة في الحدود - جعل بعض هذه الجيوب تقتصر على المادة في الغالب، فيما غلب على الجيوب الاخرى ان تتألف من المادة المضادة.
فهذا هو ما يعلل سبب عدم التماثل بين المادتين كما يلاحظ لدى عالمنا الخاص. كما ان بسبب الفناء والانفجارات الحاصلة عند الحدود بين الجيوب المتضادة فان الاخيرة خضعت للتوسع باستمرار. وهو ما يفسّر حالة التوسع الهابلي الملاحظ لدى الكون الذي نعيش فيه، فهو بحسب ألفن عبارة عن مرحلة خاصة بكوننا المحلي من تاريخ اكبر من ذلك بكثير.
ويعترف ألفن بأن هناك انفجاراً عظيماً، لكنه ليس ذاته ذلك الذي صنع المادة والفضاء والزمان، فهو مجرد انفجار ضخم في جزء معين من الكون اللامتناهي، وقد حدث ضمن فترة تتراوح من عشرة إلى عشرين مليار سنة مضت خلال التوسع الهابلي.
لقد حاولت هذه النظرية تفسير ظهور التجانس والنعومة لدى اشعاع الخلفية الكونية وذلك بردّه إلى الضباب الراديوي الكثيف والمتوهج لدى الاماكن التي تتوسط المجرات القريبة الحالية، فهو ضباب كثيف ويبدو ناعماً في كل اتجاه دون ان يكون له علاقة بما كان عليه الكون في البدء بعد الانفجار العظيم. اذ لو كان هذا الاشعاع قادماً الينا من مكان بعيد عبر المجرات ومليارات السنين؛ لكان هناك امتصاص للامواج الراديوية، وهو ما يشوّه طيف الجسم الاسود من اشعاع الخلفية، في حين ان هذا الطيف كما اظهر مستكشف اشعاع الخلفية (COBE) لم يُشوّه، وبالتالي ينبغي ان يكون مصدر الامواج الراديوية قريباً عناً، وذلك لدى الاماكن التي تتوسط بين المجرات، فهي ما تنتج طيف الجسم الاسود المرئي فقط.
هذه هي نظرية البلازما الكونية كما طرحها جملة من العلماء وعلى رأسهم ألفن، لكنها لم تقنع معظم الفيزيائيين، ففيها جملة من الثغرات والعيوب، منها انها لم تقدّم تنبؤات محددة دقيقة يمكن على ضوئها اخضاع النظرية للاختبار، ولم تفسر العديد من الظواهر الكونية، كما انها تفترض بان هناك طاقة كونية كبيرة وشديدة للفوتونات قد نتجت عن تفاني المادة والمادة المضادة عندما اختلطا مع بعض، لكن المشكلة هي انه لم يتبين أين ذهبت هذه الطاقة التي لم يظهر منها الا الشيء القليل عبر المشاهدة والرصد. في حين لجأت نظرية الانفجار العظيم إلى اعتبارها مصدر ما تحوّل فيما بعد إلى هيئة اشعاع الخلفية الكونية المايكروي كما عرفنا. يضاف إلى ان تضعيفها لأثر الجاذبية لم يقنع الفيزيائيين والفلكيين، فمن الواضح ان للكتل الكونية العظيمة قوة ثقالية ضخمة يمتد أثرها عبر المسافات البعيدة، وهي تتفوق في ذلك على غيرها من القوى الطبيعية بما فيها التيارات الكهرومغناطيسية، رغم ان للأخيرة قوة عظيمة للتفاعل لدى المسافات القريبة، فاذا ما كانت هذه المجرات مؤلفة في الغالب من البلازما – كما هو حاصل بالفعل - فان تأثيرها الكهرومغناطيسي سيفوق تأثير قوة الجاذبية على مستوى التفاعلات الداخلية.
وسبق أن علّق عالم الكونيات الكندي الامريكي جم بيبلز - وهو من رواد نظرية الانفجار العظيم - في نقده لهذه النظرية فقال: ان آراء ألفن هي مجرد افكار سخيفة. وفي (عام 1993) انتقد هذا العالم تلك النظرية واعتبر نتائجها لا تتسق مع الخواص الكونية لإشعاع الخلفية الكونية وخلفيات الأشعة السينية (x). واعتبر ان نماذج ألفن لا تتنبأ بقوانين هابل، ولا بوفرة العناصر الخفيفة، ولا بوجود خلفية مايكروية كونية.
يبقى ان هناك اطروحة جديدة اوسمناها (نظرية الانكماش الكوني)، وهي تمثل صياغة فكرية معاكسة لما تقوله نظرية الانفجار العظيم بجميع نسخها، مع الاحتفاظ بذات القوانين الفيزيائية، اذ لا يختلف حال هذه القوانين سواء في التوسع أم الانكماش، وقد خصصنا لها حلقة قادمة ابرزنا فيها المبررات المنطقية والفيزيائية التي تجعل حال الكون يسير نحو الانكماش لا التوسع والتضخم.