يحيى محمد
الشر والحجج المناهضة للاهوت:
1ـ تناقضات الحجة اللاهوتية
تعتبر اثارة ماكي هي الأساس لما جاء من مناقشات لاحقة حول علاقة الشر بالإلحاد، أو على الأقل نفي الكمال الإلهي. ويستمد روحها من الاشكالية التي سبق ان طرحها أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، والتي ايدها ديفيد هيوم خلال القرن الثامن عشر. فقد اظهر ماكي ان في الحجة اللاهوتية تناقضاً سافراً يفضي إلى نسفها، واكتفى بهذا الحد دون ان يذهب إلى أبعد من ذلك في نفي وجود الاله، وهو خلاف ما صوّرته بعض الكتابات التي جعلت من ماكي يضع فرضياته حول الحجة اللاهوتية لينتهي إلى عدم وجود الإله لما تتضمنه من تناقض. ومن ذلك ان اللاهوتي دانيال سبيك (Daniel Speak) صوّر فرضيات ماكي حول تناقض الحجة اللاهوتية في كتابه (مشكلة الشر) بالشكل التالي:
1- الله موجود..
2- الله كلي القدرة..
3- لا توجد حدود لما يمكن ان يفعله الكائن الكلي القدرة..
4- الله كلي الخيرية..
5- الكائن الخير يقضي على الشر بقدر ما يستطيع..
6- لذا فالشر غير موجود..
وحيث ان الشر موجود؛ لذا فإن كل المقدمات التي سبقت ذلك غير صحيحة، بمعنى ان الله غير موجود.
هذه هي الفرضيات التي أسقطها دانيال سبيك على مقالة ماكي. في حين ان مراجعة هذه المقالة لا يجدها تثير جميع الفرضيات السابقة. فماكي لم يطرح ضمن افتراضاته مسألة وجود الله، بل اكتفى بايضاح ان هناك تناقضاً في الحجة الإلهية التي تركز على كمالات صفات الله من القدرة والخيرية الكليتين. وبالتحديد انه رأى بأن هناك تناقضاً سافراً بين ثلاثة افتراضات لا يمكن الجمع فيما بينها، فلا بد من ان أحدها خاطئ تماماً، وهي ان الله تام القدرة، وانه تام الخيرية، وان الشر موجود. فهذه الأطراف الثلاثة تعتبر متناقضة من وجهة نظر ماكي، بحيث ان أي اثنين منها يكون صحيحاً فإن الثالث سيصبح خاطئاً.. رغم ان هذا الثالوث يعتبر أساسياً في معظم المواقف اللاهوتية. وبالتالي فإن تمسك الحجة اللاهوتية به يجعلها متناقضة. وهو قد اعترف بأن خيرية الله وقدرته لا تستلزمان انعدام الشر بشكل صارم، لكن ذلك لا يعفيه من القضاء على الشر بقدر ما يستطيع باعتباره خيراً، وأنه لا توجد حدود لما يمكن أن يفعله هذا الإله الخير، وبالتالي لا بد من ان الشر زائل تماماً. أما والشر موجود فذلك يعني إما أن الإله مقيد القدرة، أو أنه ليس بخير. وبالتالي فإن ماكي رأى أن التناقض حاصل في الحجة اللاهوتية طالما ما زال الشر موجوداً، خاصة المروع منه. وأشار إلى ان المشكلة يمكن ان تزول فيما لو تم التخلي عن واحدة على الأقل من الاقتراحات التي تشكل الحجة اللاهوتية.
وكما قال: ‹‹إذا كنت مستعدًا للقول بأن الإله ليس كلي الخير، أو أن قدرته ليست تامة، أو ان له حدوداً لما يمكن ان يقوم به، أو أن الشر غير موجود، أو أن الخير لا يعارض الشر الموجود.. ففي هذه الحالة سوف تنتفي المشكلة بالنسبة لك››. هذا بغض النظر عما إذا كان ماكي ملحداً بالفعل كما يُصنف عادة، أم أنه ربوبي يؤمن بوجود إله من دون صفات كمالية، أو هو من اتباع مذهب اللاأدرية.
عموماً إن حجة ماكي لا تختلف مضموناً عما قدمه أبيقور في تساؤلاته التي لم تجد لها حلاً.. وبلا شك انها حجة منطقية بحسب الظاهر، حيث يظل السؤال وارداً عن علة وجود الشر إذا ما كان الإله يتصف بالقدرة الكلية والخيرية التامة.
وإذا كانت هذه الحجة مدعاة إلى الإلحاد أحياناً، للخلط بين الإله وصفاته الكمالية، فإنها مدعاة أيضاً إلى التخلي عن الإلحاد أحياناً أخرى. فقد يكون منشأ الإلحاد قائماً على مجرد الاعتراض على الفهم اللاهوتي للصفات الإلهية وليس على وجود الإله جملة. وهذا ما تنبّه إليه الفيلسوف البريطاني انتوني فلو Antony Flew بعد أن استمر (50 عاماً) ملحداً، ثم أعلن إيمانه بوجود الإله عام 2004 وكان عمره آنذاك (81 سنة)، ونشر كتاباً حول إيمانه بعنوان (الله موجود There is a God) عام 2007. ويبتعد الإله الذي دعا إليه عن الرؤى اللاهوتية، حيث لا يحمل صفات العلم والقدرة والخير اللانهائية، وذلك انسجاماً مع الحجة المنطقية لمشكلة الشر. وقيل إن ما دعا اليه يقترب من المفهوم الأرسطي..
2ـ الشر المجاني
وعلى شاكلة ما قدمه ماكي ظهرت فكرة الشر المجاني للباحث وليام رو، فقد قسّم الإلحاد إلى صنفين، فتارة يأتي بالمعنى الواسع، حيث فيه نفي لوجود الإله جملة وتفصيلاً، وأخرى يأتي بالمعنى الضيق، وفيه نفي لكمالات صفات الإله كما يؤكد عليها اللاهوتيون، كالقدرة التامة والخيرية. وقد اشار إلى ان مقاله مخصص حول الإلحاد بالمعنى الضيق لا الواسع، وهو من هذه الناحية لا يختلف عن ماكي في مناقشته للصفات الإلهية وليس الوجود الإلهي برمته، بخلاف ما صوّره بعض الكتاب. بمعنى ان ما سعى اليه ماكي هو الإلحاد بالمعنى الضيق لا الواسع كما رأينا، وكذا فعل رو، وذلك بغض النظر عن موقفهما خارج دائرة الأدلة التي قدماها؛ إن كانا ملحدين تماماً أم لا؟ ففي إحدى الاحصائيات بلغ عدد الفلاسفة الملحدين عبر التاريخ حوالي (120 ملحداً)، وكان من بينهم الباحث ماكي، كما تضمنت القائمة عربياً واحداً من سوريا هو المفكر القومي زكي الارسوزي. وقد لا تكون الاحصائية دقيقة حول مسألة الإلحاد عند الأخذ بعين الاعتبار المعنيين الواسع والضيق كما افاده رو. فالمنكر للصفات الإلهية تارة يُعبّر عنه بأنه ربوبي، وأخرى يُعبّر عنه بأنه ملحد رغم اعترافه بوجود إله على نحو الاجمال أو غير تام الصفات.
ومختصر مذهب رو هو ان العالم يتضمن شراً مروعاً ليس له مبررات منطقية تجعل الإله الخير والقدير يسمح به، وبالتالي فهو شر مجاني (gratuitous evil)، بمعنى ان من الممكن ازالته دون ان يكون وجوده ضرورياً أو شرطاً في خير أقوى، خلافاً لسائر صنوف الشر التي من الممكن ان تكون ضرورية أو انها داعية لخير أعظم. وعليه انتهى إلى انه لو كان الإله الخير والقدير موجوداً فسوف لن تحدث شرور مجانية. ومن ذلك ما عرضه – في أول مقال له حول الموضوع - من نموذج مفترض حول ظبي محاصر بين النيران وسط غابة، وبقي لعدة أيام حتى مات متأثراً بحروقه البالغة. ثم أضاف في دراسة لاحقة نموذجاً آخر يتعلق بطفلة في الخامسة من عمرها من ولاية ميشيغان (Michigan) الامريكية، حيث تعرضت للضرب بوحشية واُغتصبت وخُنقت حتى الموت على يد صديق والدتها في عيد رأس السنة لعام 1986.
وتبرز حجة رو خلال النموذجين في عدم وجود أي وجه من وجوه الخير يدعو الإله القادر والخير إلى جعل الضحية أن تعاني الألم والعذاب. بمعنى ان تصوراتنا لا تجد أي مجال لوجوه الخير يمكن ان تكون واردة في مثل تلك الحالات من الشر المروع. وبالتالي فهناك تعارض بين وجود إله قادر وخير، وبين حصول مثل هذا الشر المجاني.
ومن الواضح انه لا الباحث رو ولا ماكي قد ذهبا إلى الاستدلال على نفي الإله جملة وتفصيلاً من خلال حجة الشر. وما عرضناه من استدلال يبدو منطقياً للمشاهد المحايد.. إذ كيف يمكن التوفيق بين القدرة التامة والخيرية الكلية وبين وجود ما يبدو انه شر مجاني لا معنى له ما دام لا يحقق هدفاً أعظم وأجل، كالذي ركز عليه رو؟..
وهنا يرد الاشكال المتردد حول قدرة الإله وخيريته، فهو إما ان يكون عاجزاً عن ان يفعل شيئاً ازاء الشرور التي لا فائدة فيها، أو انه ليس بخيّر؛ مثل ان يكون غير مبال بما يحدث لخلقه من ألم ومعاناة. وهناك من يفترض انه لو كان الإله موجوداً فهو شرير. كما قد يطرح افتراض آخر وهو ان الإله لا يعلم بما يحدث في خلقه، كالذي سبق للكثير من الفلاسفة ان قالوا بذلك. وحديثاً ثمة من طرح فكرة ان الإله لا يعلم بالمصير الناشئ عن الارادة الحرة للانسان، وهو ما رجحه الباحث دانيال سبيك.
ومن الواضح إننا هنا ازاء افتراضات مختلفة حول مشكلة الشر وعلاقتها بالصفات الإلهية، فقد يكون الإله مقيد القدرة، كما قد يكون غير مبال بما يجري في خلقه، كما قد يفتقر إلى العلم الخاص بما يسفر عن الارادة الحرة للبشر.. الخ.
3ـ الاحتجاب الإلهي
لقد تم طرح طريقة أخرى لاثبات الإلحاد وفق فرضية الاحتجاب الإلهي العائدة إلى الباحث شيلينبرج في كتاب له بعنوان (الاحتجاب الإلهي والعقل البشري) عام 1993، ثم اعقبه بنشر مقالين حول الموضوع عام 2005 . وتعتبر من أكثر العروض المعاصرة تأثيراً وجدلاً. ومختصر الفكرة هو انه إذا كان هناك إله محب تماماً فإن الانعدام المعقول للإيمان لا يحدث، لكننا نجد هذا الانعدام، لذا فلا وجود لإله محب، ومن ثم لا وجود للإله مطلقاً..
وقد أُعيدت صياغة حجة شيلينبرج من خلال تبيان طبيعة الإله المحب، وهو انه سوف يجعل البشر قادرين على ان يقيموا علاقة حميمية تبادلية مع الله، لكن حيث لا يمكن اقامة علاقة حميمية إلا إذا كان الآخر موجوداً، وحيث لا توجد مثل هذه العلاقة التي تدفع البشر نحو الإيمان بالله، لذا فالأخير غير موجود. وتعتبر هذه الحجة شبيهة بقاعدة أصول الفقه القائلة (لو كان لبان).
وبلا شك ان شيلينبرج يستدل على نفي وجود الإله مطلقاً وليس مجرد صفاته الكمالية كما كان يفعل كل من ماكي ورو.
مع هذا من الممكن ان نقيم حجة على نفس منوال ما أراد التوصل اليه شيلينبرج ولكن بشكل معكوس. فنقول لو أن الله غير موجود لكان الانسان مفتقراً لتحصيل كافة احتياجاته التي تبقيه على قيد الحياة في الدنيا، مثل توفر الهواء والماء والغذاء وغيرها من الظروف والأسباب الملائمة للحياة.. لكن حيث ان هذه الأسباب والظروف متوفرة بحيث يمكنه العيش والبقاء كجنس بشري، فذلك يعني ان الله موجود وفق هذه العناية العامة.
***
هذه هي أبرز النظريات التي تناولت موضوع الشر وعلاقته بالإلحاد، سواء بحسب معناه الواسع أم الضيق. وقد لاقت جدلاً متنوعاً من قبل المؤمنين طبقاً للثيوديسيا المعاصرة، كالذي تصدى لها كل من جون هيك وبلانتنجا وسوينبرن ومارلين آدامز وغيرهم. وقد اتخذ أغلب الجدل فيها جانب الاعتبارات الكلامية أو اللاهوتية، حيث تبنى المؤمنون الاطروحة الدينية التقليدية حول الإله كما في صيغته المسيحية، فيما طرح المعارضون اشكالات حول هذا المفهوم التقليدي للإله، ولم يتوسع الجدل للبحث عن مختلف التصورات المتعلقة بالاله وعلاقته المباشرة بكيفية الخلق.
كذلك انحصر بعض الجدل في معالجة الشر الأخلاقي، فيما تنوّعَ البعض الآخر ليشمل مناقشة الشر الوجودي، وهو المناسب باعتباره معنياً بتفسير مختلف حالات الشر. بمعنى ان التعويل على مناقشة الشر الأخلاقي لا يفي بالغرض، لأنه يعجز عن تفسير الشر الوجودي خارج اطار الفعل الأخلاقي والارادة الحرة، في حين ان معالجة الشر الوجودي تفي بالمطلوب باعتبارها شاملة لكل أنواع الشر، سواء كان على نحو الارادة الحرة، أو على نحو القوانين الطبيعية الفاعلة في الكون.
ويلاحظ ان بعض الأدلة المطروحة سابقاً ضد الحجة اللاهوتية لا توجب انعدام الشر كلياً، كما هو صريح ما قدمه رو، وكذا ما قدمه ماكي ضمنياً. وحقيقة أصبح من الثابت ان الشر والمعاناة والآلام لا غنى عنها في أغلب الأحيان، فهي من لوازم الحياة الطبيعية الباعثة على التطور والتكامل. ومن ذلك ان الآلام الجسدية تعتبر منبهة على الخلل الذي يصيب الكائن الحي، وبالتالي فلا غنى عنها للاصلاح، وهي بذلك ليست بشر، وانما عامل مساعد للخير. بل للمعاناة والآلام فوائد كثيرة وكبيرة، وقد أحصاها بعض الغربيين إلى (12 فائدة)، فيما أوصلها آخر إلى (15 فائدة). كما ظهرت أبحاث ودراسات كثيرة حول أهمية الألم وفوائده، وكان أبرزها كتاب (هبة الألم The Gift of Pain) العائد إلى الطبيب بول براند (Paul Brand) بالاشتراك مع فيليب يانسي (Philip Yancey)، وقد تم نشره عام 1997، وذلك بعد أن نُشر قبل أربع سنوات بعنوان آخر هو (الألم: الهبة التي لا يريدها أحد Pain: The Gift Nobody Wants). وقد قضى الدكتور براند خمسين سنة من حياته كمعالج كما في مرض الجذام وغيره، ومن ثم القيام بالتحقق من سر الألم والكشف عن أهميته. وهو يعتبر أول طبيب يقدّر أن الجذام لم يحدث نتيجة تعفن الأنسجة، بل بسبب فقدان الإحساس بالألم، فغياب هذا الأخير هو ما جعل المرضى عرضة للإصابة. وفي دراسته انتهى إلى أن الحياة من دون ألم تكاد تكون مستحيلة، فهو أمر حيوي للحفاظ على الأنسجة السليمة لدى أي شخص. لذلك قال: ‹‹لو كان لي القدرة على إزالة الألم الجسدي من العالم؛ فلن أفعلها››. وعليه اعتبر الألم هو أحد أعظم هدايا الله لنا، مع أنه هبة لا يريدها أحد منا ولا يمكننا الاستغناء عنها. ولا تتكشف قيمة هذه الهبة بشكل أوضح إلا عند غيابها.
وقد يغفل الكثير عن أن أغلب حالات المتعة التي يحصل عليها الناس انما تأتي من خلال المعاناة والمكابدة والآلام، وبدونها تبدو الحياة بلا معنى وبلا احساس بالمتعة. فالمعنى معلق على الغاية، وتحقيق الغاية يتطلب الوسيلة، وفي الوسيلة تحدث المشقة والآلام، التي تقترن بها المتعة باعتبارها هادفة. فأغلب الناس يزاولون مهاراتهم وأعمالهم الهادفة بمعاناة وآلام، لكنهم يستمتعون بذلك، بل ويستمتعون حتى مع غياب الغاية والهدف، كما في بعض حالات الشهوة الجنسية التي يمتزج فيها الألم مع اللذة. فالمعاناة والآلام لا تتعارض بالضرورة مع البهجة والخير، انما يحصل التعارض عندما تكون تلك المعاناة والآلام حادة وصادمة من دون أن يتحقق غرض صالح منها.
وحتى الآلام النفسية كثيراً ما تكون ذات فائدة جمة على الصعيد الفردي والاجتماعي، ففي حالات فقد الأحبة يفيض الحب والحنان وتلتئم النفوس وتزول الأحقاد بين المعنيين بالحدث.
وكما تقول الكاتبة تيس جيرتسن Tess Gerritsen في روايتها (الجرّاح The Surgeon): إن أغلب المشاعر الحميمية يمكن ان تكون قابلة لأن يتشارك فيها الناس، لكن ليس من خلال الحب أو الكراهية، بل عبر الألم.
لذلك فإن أغلب ما تنكره الأدلة الآنفة الذكر لا يتعدى الشر المروع والصادم؛ إما باعتباره قائماً من دون وجود ما يعمل على تقليصه، ومن ثم زواله، أو لكونه مجانياً، فيما اعتبر البعض ان الشر دال على الاحتجاب الإلهي من دون تفاعل ومحبة، سواء تعلق الامر بالشر الصادم والمجاني، أو بجميع الحالات الأخرى للشر بما فيها تلك التي تعتبر ضرورية للحياة.
كما يلاحظ ان بعض الاستدلالات الآنفة الذكر اعتبر الشر لازماً موضوعياً للإلحاد بمعناه الواسع، فيما قيد البعض الآخر اعتباره لازماً موضوعياً بمعناه الضيق، وبالتالي فهو ليس دليلاً قاطعاً على نفي الإله، بل اقتصر الاعتراض على ما ينسب للإله من صفات كمالية. فالثيولوجيون قديماً وحاضراً يؤكدون على ان للإله صفات تامة من العلم والقدرة والعدل والرحمة والاحسان وغيرها من خصائص الخير. لكن شذّ عن هذا الاجماع أو التسالم القليل من اللاهوتيين، أبرزهم الحاخام هارولد كوشنر Harold Kushner الذي أصدر كتاباً بعنوان (عندما تحدث الأشياء السيئة للناس الصالحين) عام 1981، وهو يتضمن تفسير ظاهرة الشر كرد فعل على المأساة الشخصية التي حلت بالمؤلف بعد موت ابنه (هارون) بسبب الشيخوخة المبكرة.
ويعبّر الكتاب عن قلق في تفسير ظاهرة الشر المتكرر باستمرار، إذ لم يقتنع صاحبه بالحجة اللاهوتية التقليدية، لذلك اضطر إلى ان يتخذ موقفاً جريئاً عبر التنازل عن بعض الصفات الإلهية، فهو بين موقفين صعبين، فإما ان يحتفظ بالصفة الكمالية للقدرة الإلهية مع التنازل عن صفة الخير من العدل والرحمة، أو على العكس يحتفظ بصفة الخير الكمالية ويتنازل عن صفة القدرة الكلية، وقد انحاز إلى صفة الخير مع اضطراره للتخلي عن صفة كمال القدرة، معتبراً ان المعاناة التي نتعرض لها ليست من فعل الله ولا أمكنه ان يمنعها، فهو لا يتدخل مثلاً لإنقاذ الناس الطيبين من الزلازل أو الأمراض أو أي كوارث أخرى. بل كل ما في الوسع فعله هو مساعدتنا عند اللجوء اليه بعد المحن والمصائب، طبقاً لعدالته وخيريته، فهو الذي يمدنا بالقوة والطاقة عند الطوارئ رغم أننا لا نمتلكها قبل الوقوع في المحن، وهو الذي يلهم الناس لمساعدة بعضهم البعض عند المآسي بشكل يدعو للدهشة والاعجاب.
أما الشر فقد عزا حدوثه إلى ثلاث علل كالتالي:
1ـ حوادث الشر المتعلقة بنتائج الارادة البشرية. فالله لا يتدخل في هذه الارادة لانها تفضي إلى الانتقاص من انسانية الانسان الذي يكتمل بارادته.
2ـ الخضوع تحت رحمة نتائج القانون الطبيعي. فالأخير أعمى ولا يخضع للاستثناءات ولا القيم الأخلاقية، ومنه تحصل الزلازل وسائر الكوارث المعروفة. والله لا يتدخل بفعل القانون الطبيعي لانقاذ هذا أو ذاك مهما كان الشخص صالحاً.
3ـ العشوائية الحاصلة من دون سبب، أي ما يحصل من حوادث نتيجة عدد من المصادفات العشوائية التي قد يتعرض لها البعض فيصاب بالمعاناة والشر.
لقد تقبل كوشنر القول بالعشوائية والفوضى لتسبيب الكثير من المصائب بدل جعلها من فعل الله كي لا يتصف بالقسوة والظلم من دون رحمة.
ويلاحظ ان هناك تداخلاً بين العلتين الأخيرتين. ويبدو ان ما قصده كوشنر من العشوائية؛ هي ما لا يمكن ردها إلى سبب محدد، بل إلى مجموعة أسباب متغيرة، فتفضي إلى نتائج غير متوقعة، كتلك التي عبّر عنها عالم الأرصاد ادوارد لورنتس (عام 1972) بأثر جناح الفراشة، خلافاً للقوانين الثابتة والقابلة للتنبؤ بدقة.
لقد عزا كوشنر تنظيم الكون إلى الله، والذي حسبه ذا قيمة كبيرة. رغم ان فيه بعض الفوضى والعشوائية التي تسبب جزءاً من الشر. فترتيب الكون ما زال لم يكتمل، ولهذا تحدث الفوضى والشرور العشوائية هنا وهناك، فهي ظرفية قد تحدث في المكان والزمان الخطأ، ولا معنى للبحث عن سبب لها، فهي تحدث من دون سبب كلازم من لوازم التشكل الكوني قبل الاكتمال. لكن يبقى أغلب العالم منظماً غاية التنظيم، لخضوعه إلى قوانين دقيقة وثابتة يمكن التنبؤ من خلالها، رغم حصول الفوضى، ومن ثم الشر، خارج مجال هذه القوانين.
وهنا نقطة ضعف كوشنر عندما جعل الفوضى ومن ثم الشر خارج دائرة القوانين، إذ في هذه الحالة ما الذي يجعل الإله عاجزاً عن فعل شيء بسيط يمنع به عارضاً عشوائياً لانقاذ الناس الصالحين، طالما ان هذه العشوائية خارج القوانين الثابتة؟ فمثلاً انه لم يوضح كيف يعجز الإله عن انقاذ طفل صغير يقترب من مسبح ليغرق به من دون علم ذويه، إذ كان يكفي ان يلهمهم بمكان هذا الطفل مثلاً، كالذي حدث مع ابن صديقة الباحث اللاهوتي دانيال سبيك وفق ما أشار إليه في مستهل الفصل الأول من كتابه (مشكلة الشر).
لقد تجنب كوشنر الحديث عن الأسباب التي تجعل الله عاجزاً عن ان يمنع الشر باسهل ما يكون، طالما ان عشوائية الشر ليست على الضد من قوانين الكون الثابتة.
هذه نقطة ضعف البحث لدى كوشنر، ولو انه جعل هذه العشوائية ليست خارجة عن قوانين الكون لكان بحثه متسقاً، كالاتساق الذي جعله ينفي ان تكون هناك معجزات للانبياء بفعل القوانين الثابتة للطبيعة. وكما ذكر بأن الناس يعتقدون طيلة قرون مضت بأن الانبياء والاولياء محميون ومدعومون من قبل الله، وذلك عبر تعطيل قوانين الطبيعة وخرقها عبر المعجزات. أما اليوم فابدى تشكيكه بهذه القصص، واعتبر الدليل على خلافها بفعل ما نجده من دقة موثوقة لقوانين الطبيعة التي لا تقبل التغيير. وهي بهذا لا تستثني الصالحين بشيء من المعجزة. فليس للرصاص ولا الاورام الخبيثة أدنى ضمير. وبالتالي فالله لا يوقف العمل بنظام الطبيعة وقوانينها لحماية هذا الصالح أو ذاك، مؤكداً بأن الطبيعة رغم انها لا تحمل قيماً أخلاقية، باعتبارها تتعارض مع قوانينها الخاصة، لكن الله لا يتصف بالعمى الأخلاقي. فالزلزال القاتل ليس فعل الله، انما فعله هو تشجيع الناس لإعادة بناء حياتهم بعد الإصابة بهذه الكارثة، ودفع الآخرين لمساعدتهم بأي طريقة ممكنة.
لقد طرح كوشنر سؤالاً مفاده: إذا كان الله قد صمم العالم لتحقيق أقصى فائدة ممكنة، فلماذا لم يستطع خلق قوانين ثابتة للطبيعة من دون إضرار بأحد من الناس؟ فهذا ما تساءل به هذا اللاهوتي دون ان يجيب عليه صراحة سوى ما تضمن بحثه من وجود العشوائية التي لا محيص منها في ظل إطار اكتمال بناء الكون بالتدريج. وهو يعترف بأنه قد ناقش بعض مظاهر الشر، كالألم والموت من حيث فائدتهما، لكنه لم يتطرق إلى جواب لماذا لم يخلق الله عالماً من دون ألم وموت؟ بل رأى ان من الضروري تغيير السؤال: لماذا فُرض علينا الألم؟ إلى سؤال: ماذا نفعل مع ألمنا بحيث يصبح ذا معنى وليس مجرد معاناة فارغة لا معنى لها؟ معتبراً أن كل ما نفعله هو محاولة الارتقاء إلى ما وراء السؤال (لماذا حدث ذلك)؟ ومن ثم البدء في طرح بديله: ماذا أفعل الآن بعد الحدث الذي ألمّ بي؟
وقد استشهد في ذلك بالنبي أيوب، حيث طالب ان لا يكون سؤالنا عند المصائب كسؤال هذا النبي: إلهي لماذا تفعل بي هذا؟ وانما ينبغي السؤال: إلهي انظر ما يحدث لي، هل يمكن أن تساعدني؟
هكذا فإن دور الله الأهم بحسب كوشنر هو انه مصدر النظام الأخلاقي في العالم باعتباره خيّراً.
للبحث تتمة..