-
ع
+

صخرة الإلحاد (3)

 يحيى محمد

تبين لنا خلال الحلقتين السابقتين أن مشكلة الشر لم تعالج كقضية لها علاقة تحليلية بالافتراضات التي يمكن طرحها حول كيفية ما جرى من خلق من حيث المبدأ. فاذا كان الخلق بالنسبة للمؤمن يعبر عن علاقة فاعل بمنفعل، فإن الخلل والقصور تارة يفترض من جهة الفاعل، وأخرى من جهة المنفعل، وبالتالي هناك تصورات مختلفة حول الموضوع المناط بتفسير الشر. ويمكن تحديد الافتراضات الممكنة بهذا الصدد كالتالي:

1ـ أن يعود مصدر الخلق إلى منفعل من دون وجود فاعل مستقل.

2ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام من دون وجود منفعل مستقل.

3ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر رغم عدم وجود منفعل مستقل.

4ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر مع وجود منفعل مستقل.

5ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام مع قصور في المنفعل المستقل.

والسؤال الذي يرد بهذا الصدد هو: كيف يمكن ان نرجح أحد الافتراضات السابقة على غيرها؟ فما هي نقاط ضعف الافتراضات المطروحة طبقاً للحاظ مشكلة الشر وطبيعة ما عليه الوجود عموماً؟

وكجواب على ذلك لا بد من تحليل هذه الافتراضات كالتالي:

فالافتراض الأول ينكر ان يكون للموجودات إله مستقل خالق، وهو ما تتبناه الرؤية الإلحادية، وعليها يمكن تفسير لماذا الشر موجود. لكن هذا الافتراض غير معقول، لأن شواهد طبيعة النظام الكوني الدالة على وجود الإله لا تعد ولا تحصى، وكل يوم يزداد هذا الدليل قوة ومتانة عند كل كشف جديد، وهو موضوع يتعدى بحثنا الحالي.

مع هذا يمكن ان يكون لهذا الافتراض مصداقية فيما لو لم يكن لدينا أدنى ترجيح لصالح اثبات وجود الاله، كإن لا يدلنا النظام الكوني على شيء من التوقعات المتعلقة بالاثبات المشار إليه، أو ان دلالته تتخذ طابعاً سلبياً، بمعنى انه دال على ترجيح النفي لا الاثبات، كالذي يزعمه الملحدون. في حين عندما يكون لهذا النظام الدقيق دلالات لا تعد ولا تحصى على اثبات الوجود الإلهي؛ فإن ذلك سوف لا يتيح لظاهرة الشر أن تكون معارضة له. لذا فمن الناحية المنطقية تحتاج هذه الظاهرة إلى تفسير طولي ضمن منظومة الاعتقاد الإلهي لا في عرضها.

أما الافتراض الثاني فيجد تأييداً من قبل اللاهوتيين، إذ كان أتباع الأديان السماوية وما زالوا يعولون على فكرة ان الله خلق الأشياء من العدم المحض، حيث له العلم الكلي والقدرة الشاملة والخير التام. لكن هذه الصفات تتناقض مع الشرور التي ركزت عليها الحجج الإلحادية، إذ كيف يمكن ان يكون هناك إله خيّر ذو علم كلي وقدرة شاملة ومع ذلك يسمح بمثل هذه الشرور؟.

وعليه لا يفي هذا الافتراض بالمطلوب كما هي ملاحظة الملحدين. فمن غير المعقول ان يتصف الإله بالصفات الكمالية وانه لا يعجز عنه شيء؛ ومع ذلك لا يفعل ما يمنع به ظهور الشر جملة، أو على أقل تقدير المروع والصادم منه. وهو إشكال منطقي غير قابل للجواب وفق هذا الافتراض.

ولو انتقلنا إلى الافتراض الثالث فسنجد انه يتفق مع الثاني في كون الإله قد خلق كل شيء من العدم المحض، لكنه يعاني من مشكلة تتعلق بناحية أو أكثر من نواحي العَطل والقصور في الصفات. وكثيراً ما تم توظيف هذا النقص لصالح الإلحاد كما عرفنا. لكن من حيث التحليل ترد في هذا المجال تصورات مختلفة يمكن ادراجها في خمسة قد يجتمع بعضها مع البعض الآخر كعلامة على شدة النقص والقصور. وهي كالتالي:

أ ـ إن الإله لا يمتلك علماً شمولياً رغم خلقه للأشياء من العدم، فإما ان يكون علمه كلياً من دون علم بالجزئيات، على شاكلة ما ذهب اليه الكثير من الفلاسفة القدماء من أمثال الفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وغيرهم، أو ان لا يكون له علم بغيره اطلاقاً، كالرأي الذي يعود إلى ارسطو. ورجّح بعض المعاصرين بأن الإله تام العلم وكلي المعرفة، رغم انه عاجز عن التنبؤ بالأحداث المستقبلية المتوقفة على الإرادة الحرة للبشر، ضمن ما يسمى بنظرية الإيمان المنفتح. وهي الفكرة التي مال اليها الباحث اللاهوتي دانيال سبيك.

ب ـ إن الإله ليس كلي القدرة، فإما ان تكون قدرته معدومة تماماً على شاكلة رأي الفلاسفة القدماء، أو انها مقيدة، رغم انه يخلق الأشياء من لا شيء.

ج ـ إن الإله ليس كلي الخير، فإما ان يكون شريراً تماماً أو ان خيريته محدودة.

د ـ إن الإله غير مبال لما يجري في خلقه، شبيه بما قرره الفلاسفة القدماء من قاعدة (عدم التفات العالي للسافل)، وهو بذلك ليس بخير ولا شرير، لكن مع فارق ان تلك القاعدة قائمة على أسس حتمية لا مجال فيها للقدرة وحرية الاختيار. أو مثلما لا نلتفت نحن البشر إلى ما نسببه من بعض الألم في ذبح الحيوانات التي نأكلها، أو قتل للحشرات الصغيرة مثلاً من دون مبالاة. رغم انه يرد في هذا المجال إشكال، فلو ان لهذه الحيوانات والحشرات شيئاً من الادراك العقلي لاعتبرتنا أشراراً في تعريضها للألم، أو سلبها الوجود؛ ما لم تجد حياة أفضل. لذا لا تختلف هذه الفقرة عن الفقرة التي سبقتها.

هـ ـ إن الإله في حاجة للفعل الأزلي المتطور، إذ بدون ذلك يصبح عاطلاً عن الفعل والخلق، فهو بحاجة إلى فعله في خلقه مثلما ان خلقه بحاجة اليه. وهو يذكّر ببيت شعر لإبن عربي:

فيحمدني وأحمده                ويعبدني فأعبده

هذه هي تصورات الافتراض الثالث، ويلاحظ انها غير معقولة. ذلك اننا لو افترضنا بأن الإله قد خلق كل شيء من العدم فما الذي يمنعه من خلق ما هو خير محض من دون شر طالما ان الخلق هو من العدم التام، والعدم متساو، لا فرق بين ان يكون موضوعاً لخلق هذا أو ذاك؟ ولو فرضنا ان النقص في العلم الإلهي، كيف نفسر الدقة العظيمة للكون وهي قائمة على هذا العلم؟ وحتى لو افترضنا ان الإله لا يعلم سلفاً بمصائر ما يفضي عن الإرادة البشرية الحرة، فذلك لا يمنع من ان يكون له علم كلي بما يسفر عن مجمل الارادات البشرية، شبيه بمن يرمي مليون قطعة زهر متكافئة الوجوه، فسوف يعلم مجملاً ان نسبة ما سيظهر لكل وجه هو السدس، رغم انه لا يعرف على نحو التشخيص ما ستسفر به العملية لكل قطعة فردية. أما لو فرضنا أنه لا يعلم أي شيء يتعلق بمصائر مخلوقاته الحرة سلفاً، سواء على نحو الجزئيات أو على نحو ما هو كلي، ففي هذه الحالة يصبح خياره قائماً على المغامرة والمقامرة، وهو ما لا يفعله حكيم. هذا ناهيك عن ان من الشر ما لا يتوقف على الإرادة البشرية الحرة، وهو ما يعرف بالشر الطبيعي أو الوجودي.

كذلك يمكن ان يجاب على التصور المتعلق بالقدرة المقيدة، فطالما ان قدرة الله مشهودة في دقائق الأمور الكونية فما الذي يمنعه من ان يخلق من العدم كل ما هو خير لخلقه؟ أيضاً فإن العناية الإلهية الدقيقة كما نراها في خلقه لا تدع مجالاً للانتقاص من خيريته. كيف لا؟ وهو غني عن فعل الشر، خلافاً لما يحصل عندنا نحن البشر. وعليه فالعناية دالة على انكار صفة الخبث وعدم المبالاة لما يحدث لخلقه من نقص وشرور. فلو ان قدرته كانت متعلقة بالخلق من العدم المحض فسوف لا نجد للشر من أثر؛ لخيريته التامة.

يبقى الإشكال المتعلق بحاجة الإله الدائمة إلى الخلق المتطور، فيمكن الاجابة عنه بأن الخلق من العدم لا يمنع مثل هذا الفعل على الدوام من دون حاجة لتعريض مخلوقاته لصنوف الشر والمعاناة.

هذا كل ما يخص تصورات الافتراض الثالث. أما الافتراض الرابع فهو يعترف بوجود مادة أصلية أزلية جرى عليها الخلق من قبل الإله، ناكراً امكانية ان يكون الخلق قد نشأ من العدم المحض، بيد ان الإله رغم ذلك لا يمتلك صفات تامة، فهناك نقص في صفة أو اكثر، سواء من حيث العلم أو القدرة أو غيرهما، الأمر الذي يفسر لنا علة حدوث الشر.

لكن هذا الافتراض لا يمتلك مبرراً في عزو النقص إلى الصفات الإلهية رغم وجود مادة مستقلة. فالعناية الإلهية البادية في خلقه تمنع من جعل هذا النقص عائداً إلى الذات الإلهية وليس المادة المستقلة التي جرى عليها الخلق. فهي أولى بهذا القصور، وبسببها جرى الخلق المتطور المقتضي للشر، حيث من المحال تجاوز الأخير لوجود هذه المادة القاصرة. وهو المعنى الذي نرجحه كما يبديه الافتراض الخامس والأخير.

فمضمون هذا الافتراض انه يعترف بوجود شيء منفصل أو مادة أصلية مستقلة هي ما جرى عليها الخلق، لكن قابليتها محدودة، فرغم كمال الصفات الإلهية من العلم والقدرة والعدالة والرحمة ومجمل عناصر الخير الأخرى؛ فإن ما تمخض عن صنعه كان متأثراً بوجود هذا القيد من المادة القاصرة. فالثغرة الواردة في الشر لا تعود إلى نقص في الصفات الإلهية، بل إلى عجز المادة التي تم صنع الخلق منها، خلافاً للافتراض الرابع الآنف الذكر. وهو ما نعول عليه كما فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة[1].

***

إن مشكلة الشر هي أعقد مشكلة فلسفية يواجهها الانسان عموماً والمؤمن خصوصاً، ولا يبدو ان علاجها سهل أو من غير تنازلات، لكن طبيعة القضايا الفلسفية الكبرى للوجود تبعث على تقبل ما هو صعب بأقل كلفة، باعتبار ان ما عدا ذلك يجر إلى محالات أو صعوبات أعظم. ففي مسألة أصل الأشياء، لا محيص من افتراض وجود شيء ما متأصل تولدت عنه سائر الخلائق، وبدون الأخذ بهذا الافتراض غير المألوف سنقع في صعوبات أعظم أو محالات، مثل صدور الخلق عن العدم المحض، أو التسلسل اللانهائي للأشياء من دون أصل. وكذا هو حال مسألتنا حول الشر، فمن غير الأخذ بأقلها كلفة فسنقع في اشكالات مستعصية عن الحل. حتى ان الطريقة الإلحادية النافية لوجود الله عاجزة عن علاج هذه المشكلة، رغم انها تعتبرها صخرة الإلحاد. فالأخذ بالإلحاد يعني ترجيح ما هو فوضى على ما هو نظام، وان سيادة الفوضى – لو قُدّر لها وولدت الحياة – تبعث على هيمنة الشر، فالفوضى تنتج الشر أصالة، خلافاً للنظام القصدي الذي ينتج الشر عرضاً، لذلك لو ان الرؤية الإلحادية صادقة لوجدنا الشر في كل ناحية وصوب ولتعطلت سبل الحياة، وهذا ما لا نجده أبداً.

ومن حيث الدقة لا تبعث الفوضى على ايجاد حياة وبشر، ولا معنى للخير والشر في جو خال من الحياة. لكن لو فرضنا جدلاً ان الحياة نشأت عبر تطور الفوضى؛ فسيبعث ذلك على الشر دون الخير. مع ان المنصف يرى ان حالات الشر قليلة جداً مقارنة بالخير. وما ذلك إلا لوجود النظام الذي يحكم العالم مع شيء من الهامش الذي يجعل من الحياة ينتابها القليل من العشوائية الظاهرة، ونحسب انها لا تخرج عن قوانين العناية الإلهية الكلية، ويمكن ان نطبق عليها منطق الاختبار غير المباشر لادراك ما تنطوي عليه من عناية مجهولة، كما سيأتي بيان ذلك لاحقاً.

ومن المنطقي ان تصاغ حجة الخير والشر لصالح الإيمان لا الإلحاد. ويمكن ابراز هذه الحجة عبر النقاط التالية:

1ـ ليس في الوجود إله قط..

2ـ الفوضى هي السائدة دون النظام..

3ـ من لوازم الفوضى سيادة الشر في الحياة..

هذا هو الدليل المنطقي لنفي وجود الإله من خلال ظاهرة الشر. لكن من حيث الواقع فإن الشر والفوضى ليسا سائدين. وهو ما يعني نسف المقدمات السابقة، أو جعلها تنقلب إلى أضدادها وفق قياس الخلف، ومن ثم فالإله موجود.

على ذلك لا يمكن اللجوء إلى مقالة الإلحاد النافية لوجود الإله في تفسير الشر ما لم نقع في استحالات وصعوبات لا مخرج منها، وهي مقالة لا تنسجم مع فكرة سيادة النظام الدقيق الدال على العناية الهادفة رغم جهلنا للكثير من تفاصيلها، خاصة وان العلم يفاجأنا كل يوم باكتشاف مذهل يوحي بروعة العناية الإلهية ومقاصدها.

وتبقى عقدة النقص في مقالة الإلحاد انها تفكر من خلال القفز من عدم العلم بالعناية إلى نفيها كلياً، مع ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. ويمكن أن ينطبق هذا الحال على الشر الصادم، رغم وجود أكثر من افتراض يبرر وجود هذا الشر. ومن حيث المبدأ ترد أربعة افتراضات مختلفة حول أهمية هذا الشر وعلاقته بالنظام الحياتي والانساني لدى المؤمن، وذلك كالتالي:

1ـ ليس للشر الصادم أي ارتباط لزومي ضمن علاقات النظام الحياتي والانساني.

2ـ للشر الصادم الشخصي فضلاً عن النوعي أهمية لا غنى عنها وفق عناية هذا النظام.

3ـ للشر الصادم النوعي بالخصوص أهمية ضمن عناية النظام المشار اليه.

4ـ إن الشر الصادم هو من مقتضيات الارتباط الحياتي والانساني وفق علاقات السببية الضرورية دون ان يشكل في حد ذاته شيئاً من عناية النظام الحياتي. وهو بهذا المعنى يصبح شراً لا بد منه، باعتبار ان ازالته تعني تغيير النظام الحياتي الى تشكيلة أخرى مختلفة.

هذه أربعة افتراضات نطرحها لمعالجة الشر الصادم. ويمكن إلقاء الضوء عليها كالتالي:

فالافتراض الأول لا يصدق إلا مع فرضية الاعتقاد اللاهوتي التقليدي من ان الله خلق الأشياء من العدم المحض، وان له القدرة المطلقة في ان يفعل ما يشاء.

لكن ترد على هذا الاعتقاد مشكلة تبرير رضا الله بهذا الشر المروع رغم كمال قدرته وخيريته. فوجود الشر في هذه الحالة لا ينسجم مع اطروحة خلق الأشياء من العدم. ولتجنب هذا الاعتراض لا غنى عن الأخذ بمقالة الخلق من مادة أصلية مشتركة، ومن ثم يستبعد الافتراض المطروح ليبقى التنافس بين الافتراضات الثلاثة الأخرى.

ولو تحولنا إلى الافتراض الثاني فسنجد أنه لا ينسجم مع مشاهداتنا التي ترينا ان من الشر الصادم ما لا فائدة فيه، رغم ان بعض حالات هذا الشر يعتبر ذا فائدة عظيمة. فمثلاً ان العمل الوحشي في قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي قد حرّك الضمير العالمي للحث على ايقاف عدد من السياسات الهمجية، ومن أبرزها الحرب الفضيعة الدائرة في اليمن. لكن ليس كل الشرور الصادمة تؤدي إلى مثل هذه النتائج المثمرة، وبالتالي يُستبعد الافتراض المتعلق به أعلاه.

يبقى التنافس الحقيقي انما هو بين الافتراضين الثالث والرابع. فالافتراض الرابع هو الحد الأدنى للقبول، حيث الاكتفاء بأن ما يحصل من شر صادم هو من اللوازم الحتمية الناتجة عن علاقات السببية وتداخلاتها من دون أن يكون لها فائدة قوية في حد ذاتها. في حين ان الافتراض الثالث يقتضي الرابع من دون عكس، لذا يحتاج الى مزيد من الدليل. فوفقاً له ان للشر المروع عناية تخصه من الناحية النوعية، مثل العناية التي تخص بعض حالات هذا الصنف من الشر الشخصي، رغم أننا لا ندرك هذه العناية لحد الآن، وقد يأتي اليوم الذي تتجلى فيه هذه الفرضية، مثل معرفتنا للكثير من الوظائف الحيوية التي كنّا في يوم من الأيام نحسبها عديمة الفائدة والغرض.

فإذا كنّا لم نعلم الحكمة والغرض من وجود الشر الصادم – عموماً - ضمن النظام الكوني فذلك لا يتيح لنا نفي هذا الغرض كلياً، وربما من الممكن ترجيح وجود هذه العناية بشكل منطقي غير مباشر. وسبق ان طبقنا هذه الطريقة على عدد من القضايا، مثل المسائل الفلسفية عندما اختبرنا مقالاتها العلمية ومن ثم أخضعنا القيمة المعرفية لمقالاتها الميتافيزيقية تبعاً لنتائج الاختبارات الخاصة بالأولى. وكذا يمكن تطبيق الحال في قضيتنا الحالية من خلال اثبات العناية المذهلة للنظام الكوني الذي انتج الحياة والكائن الذكي، وحافظ عليه من مختلف ضروب الفناء الممكنة التي يعج بها الكون خارج حدود البقعة الضيقة التي تسعنا في الكون. فهذه العناية المثبتة تنمّي قدر احتمال حضور العناية الخاصة بالشر الصادم نوعياً. فالحالة الفردية من هذا الشر قد تبدو خالية من الفائدة، لكن عموم الشر الصادم يتقبل ان يكون ذا فائدة ضمن النظام الحياتي العام. وهو على شاكلة بقية أنواع الشر الأخرى، حيث لا يبدو في بعضها الخير واضحاً، مع ان من المعلوم ان وجود الشر بشكل عام مهم في تطور الحياة الانسانية، وأن الشر الصادم له أهميته في هذا المجال من تطور الحياة البشرية، خاصة وانه يعمق الروابط العاطفية والروحية بين البشر ويخفف من الأحقاد ونوازع الشر بينهم.

وبعبارة أخرى، يمكن التفرقة بين الشر الصادم الفردي، والشر الصادم النوعي، فخلو الأول من الفائدة القوية في كثير من الأحيان لا يعني غيابها من الشر الثاني، وهو الأهم لما له من علاقة بالنظام الحياتي العام. فهو مثل التفرقة بين موت الأفراد وبقاء النوع على قيد الحياة، فعندما نفترض ان الأنواع الحية يرتبط بعضها بالبعض الآخر، وقد تتوقف حياة بعضها على الآخر، يصبح ان موت بعض أفراد النوع لا يؤثر على طبيعة التوازن الحياتي، إذ لا تتوقف بقية الأفراد والأنواع على هلاك البعض منها، وهو خلاف الحال عند افتراض فناء النوع الذي تتوقف عليه بقية الأنواع أو جملة منها، كما هو معترف به علمياً.

وبلا شك ان الحال السابق هو على شاكلة ما يعترض البحث العلمي أحياناً من وجود زوائد عضوية بلا فائدة، لكن عند لحاظ ان أغلب الأعضاء لدى الكائنات الحية المعروفة تمتلك وظائف هامة معلومة، لذا فإن وجود بعض الشذوذ لا يتيح لنا التسرع في نفي ان يكون لها فوائد ووظائف مهمة، خاصة وان بعضها تم لحاظ فائدتها بعد نفيها مسبقاً. وكذا ان العناية الشخصية نجدها لدى الكائنات الحية، فكل كائن مزود بقوى تحافظ على حياته وحمايته وتعمل على تجديدها واصلاح ما يصيبها من خلل ضمن حدود لا تتعداها، حيث الكل مبتلى بالموت، وحتى مع حالة الموت ليس بمقدورنا الجزم ان حياته انتهت وانقطعت من دون حياة أخرى أعظم وأتم، وبها يصبح الشر الصادم لا قيمة له قبال البهجة الدائمة في حياة أخرى تنعم بالسلام والسعادة. فقد تكون حياتنا القصيرة بمعاناتها قنطرة لحياة أخرى دائمة، فنحن هنا أشبه بالجنين الذي لا يعي ان معاناة الأم ومخاضها سينتهي بالولادة إلى حياة ثانية أوسع وأمتع مما هو عليه في بطن أمه، كما لا يعي الطفل الرضيع ان العناية تنتظره ليتجاوز حد الرضاعة إلى ما هو أكمل من ذلك، حيث يلعب ويرتع ويتعلم كيف يألف واقعه الجديد مثل جنة عدن.. وكذا الحال مع الأطوار البشرية الأخرى..

ومن حيث التحليل تعتبر الحجة الإلحادية النافية لوجود الإله مطلقاً ضعيفة للغاية، ذلك انها لم تأخذ بنظر الاعتبار افتراضات عديدة ممكنة قد يطرحها المؤمن، فقد يمكن تصور العلاقة بين الإله والمخلوق جارية حتمياً كالذي اعتقده الفلاسفة القدماء، كما من الممكن تصور ان القدرة الإلهية معنية بالأنواع لا الأفراد. كذلك يمكن افتراض ان تكون طبيعة الإله معنية بالقوانين العامة والنظام الكلي، ومنه تنشأ العناية الشاملة مع وجود العوارض الشاذة التي تقتضيها طبيعة المزاحمة بين القوانين الفعلية. وهذا ما نرجحه على غيره من الافتراضات.

فمثلاً ان الإرادة والعقل البشري هما هبة السماء التي لا يعادلها شيء، لكنهما قابلان لأن ينشطا في اغراض منافية للأخلاق، كجرائم القتل وغيرها. فلو ان الله منع هذه الجرائم كلياً لكانت الإرادة الانسانية صورية، حيث يراد منها ان لا تختار الا الصحيح. ومع ان الحياة تكون بهذا الشكل خيرة، لكنها غير قابلة للتطور والتكامل بفعل الاتكاء، إذ ليس على الانسان ان يهتم بشيء، أو أن  يبحث عن خلاص يجنبه مختلف الآفات والكوارث والأمراض.. أما عندما تكون قوانين الطبيعة نافذة، والإرادة نافذة هي الأخرى فسيتعلم الانسان ما الذي ينبغي عليه تجنبه وكيف يحقق ما يتوق إليه من كمالات، وهو ما يدفع الانسان نحو التطور، وعندما تقع بعض العوارض المهلكة فإنها لا تؤثر على المنحى العام للعناية الإلهية الخاصة بهذا التطور.

ومن الواضح ان قوانين الطبيعة صارمة غير قابلة للخرق والتعطيل وفق التجارب والحسابات العلمية، وهي من هذه الجهة تحافظ على النظام العام، إذ ليس من المعقول تعطيل هذه القوانين لعوارض استثنائية من الشر والمصائب التي يتعرض لها الناس. فالقوانين ثابتة وهي مصممة لاغراض ذات عناية نوعية واضحة، إلى درجة يتهيأ لنا بأن الارض محفوظة، وان كل نوع من الكائنات الحية محفوظ ما لم تنتهِ أهليته لأهداف مفترضة ما زالت مجهولة بالنسبة لنا.

لكن ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ان كل فرد منا تصيبه من العناية بالقدر الممكن، ونجد بعض القوانين الكونية تبدي تحنناً على الضحية بتسكين آلامها ومعاناتها. فالألم محدود وزائل دون ان يكتب له الدوام، وكذا المعاناة، بل حتى الموت هو رحمة على الضحية، وقد تلاقي من البهجة والسعادة ما لا نعلمه. فالتحنن جار على الكل، وهو أحد القوانين الذي يتحسس بمفعوله كل فرد منا، فحتى مع الآلام والمصائب والمعاناة نجد الكثير من المهدئات والمسكنات الطبيعية. ومعنى ذلك انه لا وجود للاحتجاب، وقد يمكن التمثيل على ذلك بعلاقة الأم بالرضيع، فهي تتحنن عليه وتسهر على راحته أو تسكّن من آلامه، رغم انه لا يدرك هذا العطف والحب والحنان. كذلك نحن البشر نعاني ونكابد ونحاول ان نجد سبلاً لتخفيف الآلام والمعاناة بشتى الوسائل، وهو ما يجعلنا نتطور، لكننا لا ندرك المسكنات الوجودية التي تهبها لنا العناية الطبيعية، وأبرز ما يرد من أمثلة في هذا المجال: الخطوط الدفاعية المختلفة للمناعة الحيوية. وفي بعض درجات الوعي والترويض قد يتحول العذاب إلى عذوبة، والآلام إلى بهجة وسعادة، وهي درجة متقدمة من الذوق الصوفي، وقد يأتي اليوم الذي يصبح هذا الحال مهيأً للجميع، وعندها تتبين أهمية ما اعتاد عليه البشر من تطور، وتصبح الاشكالات على الشر الوجودي في مهب الريح.

وللإلحاد دواع وأسباب كثيرة، ولم تكن مشكلة الشر بارزة كسبب أصيل للإلحاد قبل اطروحة ماكي منتصف خمسينات القرن الماضي، كما لم نسمع عن تحول بعض الناس من حالة إيمان إلى ضده بسبب هذه المعضلة، إنما برزت الأخيرة حديثاً، وكانت أحياناً تمثل أحد الدواعي الرئيسية للإلحاد.

ورغم كثرة الجدل المحتدم بين اللاهوتيين ومعارضيهم حول هذه المشكلة، لكن يلاحظ ان أغلب الناس لا يتذرعون بها كعلامة على الإلحاد ونقص الكمالات الإلهية، بل على العكس من ذلك فانهم يرون فيها دلالة على الإيمان والرضا بقضاء الله. وهي ظاهرة متناسلة لتأثرها بالرؤى الدينية التي تعمل على توريثها دون ان يزعزعها شيء، خاصة في مجتمعاتنا الإسلامية التي ترى الشر عقوبة إلهية ضد الفساد المستشري بين البشر عادة، لذلك نجد الدراسات الخاصة حول فلسفته تكاد تكون منعدمة، إذ لا يوجد قلق وجودي ازاء هذه القضية كما نجده في الغرب.. نعم هناك اهتمام محدود لدى بعض المواقع الالكترونية المسيحية كما يظهر من خلال عرضه لعدد من الكتب العربية حول الموضوع، وهي مصطبغة بالرؤية الدينية المسيحية اجتراراً لما هو حاصل في الغرب. كما ظهر حديثاً كتاب بعنوان (مشكلة الشر ووجود الله) عام 2013 للدكتور سامي عامري، ويتضمن عرضاً مباشراً لحجج الملحدين المعاصرة حول الشر والردود عليها، أما الحلول التي طرحها فليست جديدة، حيث انها نابعة من ذات الرؤى الدينية التقليدية بلا تجاوز..


[1] انظر: فلسفة الشر ونظرية عجز المادة الأصلية، موقع فلسفة العلم والفهم:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=112

comments powered by Disqus