يحيى محمد
منذ اوائل القرن العشرين اصبح العلماء غير مقتنعين بالتفسير الفيزيقي للظاهرة الحياتية لما يحمل من سذاجة بالغة لا تتناسب مع التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية. كما اعتبروا – في المقابل - التحليلات الغائية المشيرة الى القوة الحيوية زائفة، ووجدوا في المذهب الحيوي مشاكل عديدة ادت الى هجرانه وسقوطه. ويؤرخ البعض لهذا السقوط بعام 1930. ومن هذه المشاكل ان تفاسير اتباع هذا المذهب لم تكن موحدة ولا متماسكة، اذ تختلف هذه التفاسير حول طبيعة القوة الحيوية. كما لوحظ ان هذه القوة المفترضة لا تخضع للقوانين العلمية، وهي ايضاً غير قابلة للاختبار ودون ان يتمكن احد من البرهنة عليها، ومن ثم فانه يمكن اعتبارها فكرة ميتافيزيقية. فالفارق بينها وبين فكرة المجال المغناطيسي مثلاً، هو انه على الرغم من انهما سوية غير قابلين للملاحظة، الا ان الاخير محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك اصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً، فلم يعد هناك من يحتفي بالمذهب الحيوي او يعيد بناءه او يتبناه باستثناء القليل، وكان اخر من له هذا التوجه كل من أليستير هاردي وسيول رايت وتشارلز بيرش وبورتمان، وقد فارقوا الحياة اواخر القرن العشرين، كالذي اشار اليه ارنست ماير في كتابه (هذا هو علم البايولوجيا).
ومثل القوة الحيوية تمّ استبعاد مبدأ الغائية تماماً، رغم انه خلال العقد الثاني من القرن العشرين ظهر هناك من يحيي هذا المبدأ عند استقصائه لمختلف الظروف المناسبة لنشأة الحياة، كما هو الحال مع العالم والفيلسوف لورنس هندرسون في كتابه (ملائمة البيئة)، لكن الوسط العلمي العام لم يكن مهيأً لتقبل مثل هذه الافكار، فأخذ يبتعد عنها لعقود طويلة، ثم اعيد الاهتمام بها نتيجة الكشوفات العظيمة التي شهدتها الساحتين الفيزيائية والبايولوجية اواخر القرن المنصرم.
ومنذ بداية القرن الماضي ظهر بديل سرعان ما تقبله العلماء، وهو يتوسط بين المذهبين الفيزيقي والحيوي، فخلال العقود الاولى من هذا القرن ازداد الاحساس بان الكائنات الحية هي انظمة معقدة للغاية وديناميكية وتشتمل على مجموعة من الأنشطة التي لا نظير لها في عالم الآلات، ومن ذلك ما تتميز به من القدرات الذاتية للتنظيم، والتوالد والتضاعف الذاتي، اضافة الى استجابتها للمؤثرات البيئية وغيرها.. لهذا تجمعها رؤية شمولية تحت عنوان (العضوانية) التي تهتم بكيفية عمل الانظمة المعقدة الحية ككل، وذلك بعيداً عن كلا المذهبين المتنازعين الحيوي والالي او الفيزيقي.
ويرد في هذا المجال العالم جون سكوت هالدين الذي اعتمد نهجاً مناهضاً للميكانيكية في علم الأحياء. وأصبحت وجهات نظره معروفة على نطاق واسع مع كتابه الأول (الآلية والحياة والشخصية) عام 1913. وفيه اعتبر التفسير الآلي البحت لا يمكن ان يفسر خصائص الحياة. ومع ذلك لم يكن الرجل من انصار الفكر الحيوي. وقد عامل هالدين الكائن الحي ككيان منظم ذاتياً، مشيراً إلى ان كل جهد لتحليله إلى عناصر مختزلة وفق التفسير الميكانيكي سوف ينتهك هذه التجربة المركزية. وكان لعمل هالدين تأثير على مذهب العضوانية. وكتب عدداً من الكتب التي حاول فيها إظهار بطلان المقاربات الحيوية والميكانيكية في العلوم.
إن من خصائص مذهب العضوانية هو انه يركز على تنظيم الكيان ككل اكثر من تركيب الكيان. وهو يوجه جل اهتمامه الى الصفات المميزة للكائنات الحية ذات التركيب البالغ التعقيد والى تاريخ برنامجه الجيني.
ويعود مصطلح العضوانية الى الفيلسوف رتر Ritter عام 1919 الذي نشر مع زميله بيلي Baily بياناً علمياً عام 1928 حول ارتباط الكل باجزائه، وهذا الارتباط لا يقتصر على التكامل الكمي بينهما، بل يشمل ايضاً ما ينتج عن ذلك من سيطرة الكل على اجزائه. ومنذ عشرينات القرن العشرين شاع استخدام العضوانية والشمولية الكلية ضد النزعة الاختزالية القائمة على التحليل الفيزيائي الكيميائي الذي يرد النظم الحية الى وحداتها الاولية المادية دون اي اعتبار اخر. كذلك انها ضد النزعة الحيوية كما تتضمنه من مضامين ميتافيزيقية. رغم ان هذا الطرح يفضي الى مفارقة مع الطرح الدارويني بمنطقه القديم والحديث الى يومنا هذا. فتفسير الكائن الحي بانه كيان كلي يؤثر على اجزائه لا ينسجم مع تفسير الداروينية التقليدية والجديدة التي استعانت بالتغيرات الجينية في تحديدها لكيان الكائن الحي، اضافة الى الانتخاب الطبيعي. فما زال علماء الاحياء الداروينيون يعولون في تفسير الظواهر الحياتية على النهج الالي الميكانيكي كما يتمثل في التغيرات العشوائية للطفرات الجينية والانتخاب الطبيعي. وهو ما لا ينسجم مع التفكير الشمولي.
عموماً يمكن التمييز بين فئتين من التفكير الشمولي للكائن الحي، كالذي صوره جارلاند ألين: مادي ومفارق كما يتمثل بالمذهب الحيوي. وما يميز هذا التفكير هو اعتبار الكائنات الحية وحدات كلية تتأثر فيها الاجزاء ببعضها، كما يتأثر الجزء بالكل وكذا العكس. ورغم ان التفكير الشمولي المادي منقسم بين المعسكرين الغربي والشرقي كما لدى نهج المادية الديالكتيكية، الا انه في جميع الاحوال يولي اهمية للتمييز بين مستويات التنظيم في نظام معقد. لقد استبدل تشبيه الكائن الحي بالالة بعضوية تعبر عن الكائن الحي ككل وظيفي وليس فسيفساء من اجزاء منفصلة او قابلة للتحليل الاختزالي. ومن الواضح انه لم يعد التفكير الشمولي مشكوكاً فيه لدى مجموعة متنوعة من المجالات، كعلم الجينوم وعلم وظائف الاعضاء وعلم الاحياء التنموي وعلم الوراثة الجمهري (السكاني) وغيرها. لكن لوحظ ان اي اشارة الى هذا التفكير الشمولي يمكن ان ينظر اليها على انها منحدر زلق من شأنه ان يؤدي الى الميتافيزيقا والحيوية المفارقة. ومن ثم يؤدي الى التفكير الغائي..
***
ومثلما يمكن التمييز بين فئتي التفكير الشمولي المادي والمفارق، فاننا نجد ايضاً نوعين مختلفين ومتمايزين من التفكير الوظيفي، احدهما مادي منكر للغايات، كما في التفكير التطوري الدارويني، واخر غائي قد يكون متأصلاً او مفارقاً غير متأصل، كما قد يكون المتأصل طبيعياً بحت او انه مصمم ومخطط له سلفاً.
لقد احتفظ اغلب علماء الاحياء بفكرة الوظيفة مع استبعاد الغائية. وسادت الوظيفية الداروينية التي تنكر التخطيط والتصميم المسبق، بل وتستبعد مطلق الغائية المفارقة والطبيعية.
وتمثل الوظيفية الداروينية تجمعات عرضية للوظائف التكيفية نتيجة خضوعها لسلطة الانتخاب الطبيعي وتخدم غرضاً تكيفياً بحسب ما تفرضه البيئة والمحددات الخارجية. وهي ليست شمولية كالذي تميل اليه الوظيفية الغائية عادة، اذ يمكن ان تزول الوظيفة باعتبارها عرضية دون ان تخضع لقانون محدد سوى الانتخاب الطبيعي، لذلك يمكن للعضو ان يفقد وظيفته ويصبح مجرد عضو ضامر كعيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، او بقايا مخلفات غير وظيفية للتطفر العشوائي المتراكم والذي لم يمحه التطور كالذي كان يعتقد حول الحامض النووي الرايبوزي منقوص الاوكسجين (الدنا DNA)، والمسمى بالدنا الخردة منذ بداية سبعينات القرن الماضي.
أما الوظيفية الغائية فهي ليست عرضية سواء كانت مفارقة اعجازية او متأصلة في صميم الطبيعة. وتميل اغلب توجهاتها الفكرية حتى عصر داروين الى التكيفية الوظيفية الشاملة مع الخضوع لسلطة ميتافيزيقية مفارقة. فلقد كان الكثير من علماء النهضة الحديثة وحتى منتصف القرن التاسع عشر هم وظيفيون غائيون من النوع الشمولي، فكل شيء له غرض تكيفي وظيفي، حتى حلمات الذكور لها هذا المعنى الوظيفي المتأصل، كالذي صرح به جون ري. وهي الفكرة التي ظلت ملاصقة لدى اللاهوتيين الخلقيين حتى يومنا هذا.
ومن وجهة النظر المادية يمثل التفكير الوظيفي تأويلاً للمظاهر التي تبدو مصممة وغائية. ولهذا التأويل غرض مزدوج لدى بايولوجيي القرن العشرين، فمن جهة انه يطرح الوظيفة كبديل عن الغائية والتصميم. لكن من جهة ثانية ان هذا التأويل جاء ليقطع السبيل امام التفاسير الالية والفيزيقية الصرفة في نهجها الاختزالي، حيث يتحول الكائن الحي الى مجرد الة صماء، ومن ثم سيرتد ذلك الى منهج الاختزال الالي الذي حذّر منه علماء القرن الماضي.
وحقيقة الحال ان هناك نقطتين داعيتين للانزلاق نحو الغائية، احداهما تبني فكرة الكلية او الشمولية كما سبق عرضها، والثانية تبني فكرة الوظيفية.. فالتفكير الوظيفي هو الاخر يمثل نوعاً من المنحدر الزلق نحو الغائية. فبحسب فيلسوف العلم كارل همبل ان التحليل الوظيفي يعتبر من الناحية التاريخية تعديلاً للتفسير الغائي، فهو تعديل لا يشير الى علل تنتج الحدث، بل الى الاهداف التي تحدد سلوكياته. وبلا شك ان هذه النقطة هي اقرب للتفكير الحيوي منه الى التفكير الفيزيقي الصرف، رغم النقد الموجه للمذهب الحيوي في صيغته التقليدية، باعتباره يحتوي على عناصر غير قابلة للاختبار، مثل القوة الحيوية. لكن يبقى التفكير الوظيفي المسلم به علمياً بعيداً عن التفكير الغائي، كالذي تبنّاه النسق الدارويني ضمن التكيف الوظيفي الذي يمارسه الانتخاب الطبيعي غير الموجه والاعمى.
لقد كان داروين متحفظاً من هذه الناحية تماماً، فهو لا يعترف بالوظيفة الا من حيث انها اداة تكيفية ناتجة عن الانتخاب الطبيعي، وبالتالي فهي وظيفة عمياء غير موجهة ولا غائية.. وبلا شك انه مضطر لاستبعاد الغائية باعتباره يعول على الاسباب الطبيعية كعلل دافعة نحو النتائج المترتبة عليها.. اي ان العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة شرطية ضمنية وليست مفارقة، من دون افتراض غايات تعمل على هذا المسار، ولا انتظار نتائج محكومة بمثل هذه الغايات المفترضة.
ان الخلاف بين الوظيفية الغائية والوظيفية العرضية للداروينيين يتداخله صنف ثالث يعبر عنه بالبنيوية structuralism او التشكل العضوي (المورفولوجيا morphology).
لقد اشار ستيفن جاي جولد في كتابه (بنية نظرية التطور) ان البايولوجيين قد التزموا لقرنين من الزمان بنظريتين متناقضتين هما البنيوية (التشكل) والوظيفية.
وعادة ما يقصد بالوظيفية – هنا - هي الوظيفية التاريخية او العرضية التي تتبناها الداروينية بشقيها التقليدي والحديث.
وبحسب البنيوية ان البنية هي الاساس والاصل الذي تتحدد بموجبه الوظيفة، خلاف النزعة الوظيفية التي ترى العكس هو الصحيح.
ان اهم ما ترتكز عليه البنيوية – كالذي يستعرضه مايكل دنتون في كتابه المميز (التطور: ما يزال في ازمة) - هو ان في الطبيعة قانوناً متأصلاً بغض النظر عن الوظائف المباشرة. وهي من هذه الناحية تختلف عن الوظيفية التكيفية الشمولية (الغائية)، كما تختلف عن الوظيفية العرضية.. بمعنى انها تعتقد بان بعض اشكال الحياة قد تشكلت بفعل القانون الداخلي الطبيعي دون ان تخدم غرضاً تكيفياً محدداً، وهذا هو منشا اختلافها عن الوظيفية بفرعيها.. بل وترى ان المحددات الداخلية للنماء تقيد اتجاهات التطور دون اعتبار للوظائف التكيفية. وبحسبها اننا لا نتوقع من الخنزير – مثلاً - ان يتمكن من الطيران، ليس بسبب المحددات الوظيفية، بل بسبب المحددات البنيوية الداخلية لتركيب الخنزير، فالنماء هو المهيمن.
على ان البنيوية هي ايضاً على قسمين: غائية وان لم تعترف بالوظائفية الشمولية، واخرى حتمية طبيعية من دون تخطيط ولا غرض قصدي، وان الغائية قد تكون قصدية تم التخطيط لها بشكل لاهوتي، واخرى غائية طبيعية كالذي يميل اليه توماس ناجل.. ويبدو ان البنيوية القصدية هي التي شاعت لدى قرن النهضة العلمية وما بعده حتى منتصف القرن التاسع عشر.
وبحسب مايكل دنتون فان جميع البايولوجيين تقريباً آمنوا بداية القرن التاسع عشر بالبنيوية. لكن الحدث الذي جعل البنيوية تتراجع هو ظهور (اصل الانواع) عام 1859، حيث تضاءل الفكر البنيوي مثلما تضاءل الفكر الوظيفي الغائي.
لقد كان ريتشارد اوين واغاسيز من ابرز البنيويين الغائيين الذين عارضوا الفكر الدارويني خلال القرن التاسع عشر، وبحسب اوين ان ترتيب الطبيعة هو خطة الهية لغايات محددة، وقد جاءت قوانين الطبيعة لتحقيق هذه الغايات، ومنها ما يتعلق بالبشر، مثل ان الحصان مقدر له سلفاً ان يكون مسخراً لهم. لهذا نقد اوين التكيف الوظيفي كما تنادي به الداروينية، ورأى الطبيعة تبدي دليلاً على التصميم. اما اغاسيز فقد اعتقد ان النظام التصنيفي الكامل للكائنات الحية هو جزء من خطة الله العظيمة للخلق، معتبراً التصنيف ما هو الا ترجمات افكار الخالق الى لغة البشر.
ورغم ان انتشار الداروينية وهيمنتها على التفكير العلمي قد اضعفت الفكر البنيوي، الا ان القرن العشرين احتفظ بقائمة هامة من البنيويين البارزين كما استعرضهم دنتون.. مثل ويليام باتيسون وتومبسون وستيوارت كوفمان وروبرت ريدل وستيوارت نيومان وبراين جودمان. بل حتى ستيفن جاي جولد تبنى البنيوية اواخر حياته.
ويعتبر دنتون ابرز عالم معاصر يؤيد هذا المسلك، كما اظهر ذلك في كتابه القيم (التطور: ما يزال نظرية في ازمة). فهو يعتقد بمثل ما اعتقده اوين وعدد من بايولوجيي القرن التاسع عشر، وهو ان الحياة جزء لا يتجزء من الطبيعة، وهي تتبع قوانين محددة، وان اشكالها الاساسية مندمجة بطريقة ما في الطبيعة. ورأى ان هذه الفكرة مدعومة بشكل كبير جداً من علم الكونيات في القرن العشرين، ومن ذلك ما يظهر بان قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة لملائمة الحياة. وسبق له في كتاب (قدر الطبيعة) الصادر عام 1998 ان اظهر تفاصيل ملائمة هذه القوانين والتطورات الكونية لنشأة الحياة وظهور الكائن الذكي، وانتهى الى ان الدليل يوحي بوجود غاية في الطبيعة وانها تتبع طريقاً سبق رسمه الى نهاية متوقعة. فما دامت قوانين الطبيعة مضبوطة لتسهيل صيرورة الحياة لذا من المعقول منطقياً ان تكون نشأة الكائنات الحية وتطورها قد حُددت عبر قانون طبيعي ايضاً، او ان نشوء الحياة مقدر ومبرمج سلفاً بطريقة ما في بنية الكون او ضمن هذه القوانين، رغم ان الاله قد وهب الكائنات الحية شيئاً من الابداع الذاتي الحر. بل وتقبل فكرة ان اكتشاف مركزية الانسان قد سبق ترتيبه سلفاً في طبيعة الاشياء. كذلك اعتقد انه توجد ادلة متزايدة على ان التطور يتحرك قفزاً، وان التحولات التطورية الكبرى قد حدثت بسرعة كبيرة لتوحي الى ذلك الهدف، فكلما زادت سعة قفزات المسار التطوري اصبح سهلاً تصوره كنتيجة برنامج مدمج معد سلفاً.
وتبدي جميع هذه التصورات ان دنتون كان يميل الى النهج البنيوي منذ زمن مبكر نسبياً، لولا انه كان يعتقد – كما يبدو – ان الصفات البايولوجية تحمل كل منها غرضاً تكيفياً خاصاً.
لقد اعترف هذا العالم الحيوي انه في كتابه السابق (التطور: نظرية في ازمة) الصادر عام 1985 كان مازال يتبع الفكر الوظيفي. فقد كانت الكائنات الحية من وجهة نظره هي اشبه بالساعة المعقدة غير القابلة للاختزال وعبّر عنها بالحزم التكيفية التي تحتوي على صفات؛ كل منها يخدم نهاية تكيفية خاصة. فهذا ما جاء في كتابه الاول (التطور: نظرية في ازمة). لكن بعد ثلاثين سنة ادرك ان صفات الاشياء الحية لم توجد كلها لخدمة هدف تكيفي معين، واورد عدداً من الشواهد الدالة على ذلك واعتبرها تحدياً للداروينية، واستشهد بكتاب ريتشارد اوين (طبيعة الاطراف) المطروح قبل (اصل الانواع) بعشر سنوات. ونبّه الى ان مارسيل بول شوتزنبرغر Marcel–Paul Schützenberger هو من كان له تأثيره الاعظم عليه في تحوله الى البنيوية، وذلك من خلال إشارته إلى المظهر المجرد لكثير من الأشكال النباتية أثناء الزيارات المتعددة إلى حديقة النباتات في باريس أواخر الثمانينيات. يضاف الى ان احد العوامل الاساسية المؤثرة في تحوله الى البنيوية هو تزايد ادراكه بان نموذج مركزية الجينات فاشل على المستوى الخلوي، وان هندسة الخلايا هي قضية فوق جينية ونتيجة للتنظيم الذاتي للمادة الخلوية. كما اشار الى انه كان محرجاً بعض الشيء لاكتشافه المتأخر للنهج البنيوي، ولفشله في الإبصار عبر سراب الانتقاء الشامل للطبقة العميقة من التنظيم اللاوظيفي الذي يتخلل الكائنات الحية، وقد هوّن على نفسه هذا الحال باعتباره ليس الوحيد في ذلك، فحتى ستيفن جاي جولد اعترف بأنه محرج بسبب حماسته لقناعات مذهب التكيف والتي حملها مبكراً في مهنته، قبل أن يدرك أهمية النهج البنيوي والتحدي الذي يطرحه في وجه الداروينية.
ان اهم ما استدل عليه دنتون حول مصداقية البنيوية هو ثبات الكائنات البدائية المدهش والذي يشير الى حالتها الطبيعية الثابتة، وهو يعني ان المحددات والعوامل السببية هي اجزاء من النظام الطبيعي، وان السبل التطورية التي مهدت لها كانت متضمنة في الطبيعة منذ البداية تماماً كما تشير الى ذلك البنيوية.
على ان اهم دعم للنظرية البنيوية هو ما قدمته ثورة الايفو ديفو (النمائية التطورية) خلال الربع الاخير من القرن العشرين. فقبل هذه الثورة لم يكن يتخيل احد نشوء كمية هائلة من التركيب العضوي بفعل المسببات الداخلية ضمن الكائنات الحية ذاتها، لكن اصبح اليوم ما كان يعتبر هرطقة قبل عقود قليلة مذهباً معترفاً به. لقد تم اكتشاف ان اساس تكوين الكائنات هو مجموعة من الدارات الجينية والوحدات النمائية المصونة جداً، فهي التي توجه وتقيد تطور السلالة بغض النظر عن الحاجات التكيفية. ومن ثم غيرت هذه الثورة مفهوم الكائن الحي ذي المرونة اللانهائية، كما لدى الانتخاب الطبيعي، الى تقييد المرونة بعوامل سببية داخلية. وهذا ما تتبناه البنيوية او تتلاقى معه في الاعتقاد بوجود مسببات داخلية هي المسؤولة عن توجيه تطور الحياة. مع هذا يوجد فارق بين الايفو ديفو والبنيوية كالذي استعرضه دنتون. فاغلب الباحثين في الايفو ديفو يرون ان العوامل الداخلية التي توجه الحياة لم تظهر نتيجة الخواص المادية الناشئة للانظمة العضوية كما يعتقده البنيويون، بل من دورات سابقة للتطور التكيفي، اي المحددات التي فرضها التاريخ وليس طبيعة المادة العضوية. لذلك يختلف تفسير الاتجاهين حول وجود الجينات والدارات الجينية المصونة ان كانت تكيفية او انها من الخواص الذاتية للمادة، وانها مقدرة سلفاً في نظام الاشياء لتتلاءم مع ظهور الحياة، مثلما اعتقده اوين خلال القرن التاسع عشر.
ويبدو ان الاتجاه العام للبنيوية في القرن العشرين يميل الى البنيوية الطبيعية دون الغائية والقصدية، اي خلاف ما كان عليه الامر خلال القرون الثلاثة التي سبقته، حيث الميل الى البنيوية القصدية.
كما يلاحظ ان اقوى الاتجاهات الحالية المؤثرة في العلم هي الوظيفية العرضية التاريخية كما تتمثل في الداروينية الحديثة. رغم ان العقود الاخيرة قد اضعفت هذه النظرية كثيراً، خاصة ان الابحاث المعاصرة تبدي ان النظام العضوي معقد للغاية ومن الصعب تفسيره وفق الانتخاب الطبيعي والتكيفات الوظيفية العرضية.
وللبحث صلة..