يحيى محمد
شهد عصرنا الحالي منذ اواخر القرن العشرين وحتى يومنا هذا جدلاً ملفتاً للنظر بين العلماء المختصين حول تفسير النظام الكوني والحياتي ان كان بحاجة الى مصمم ميتافيزيقي ام لا؟ ولهذا الجدل اهمية بالغة، اذ لأول مرة يناقش العلماء مسألة ميتافيزيقية لها مقدمات علمية دون ان تكون فلسفة خالصة.
فلقد تركز هذا الجدل حول ما تشهده الظواهر الكونية والحياتية من نظام يبدي الغرض والغائية ضمن ما يعرف بالتصميم الذكي Intelligent design. وعرفت الحجة بحجة التصميم، وهي تفترض ان للطبيعة غرضاً دالاً على التصميم استناداً الى النظام المعقد والمحدد بفعل التماسك الوظيفي الدقيق.. وهي نفسها تعرف بالدليل الغائي Teleological evidence، رغم ان لهذا الدليل صيغاً مختلفة دون ان تتخذ قالباً موحداً كما سنعرف..
الفلاسفة والغائية
قديماً اعتقد اغلب الفلاسفة بان النظام الكوني محكوم بالغائية، رغم انهم لم يعيروها اهمية كدليل مستقل على وجود إله او آلهة لهذا الكون. فالاعتقاد بالغائية شيء، والاستدلال بها على الالوهة شيء آخر. وربما يعود سبب ذلك الى ان فكرة الغائية تأتي بالتبعية بعد الاعتقاد بالالوهة، او لأنها ليست قطعية. وفي كلا الحالين انها لا تُطرح كدليل مستقل مثلما يُطرح غيرها من الادلة التجريدية عادة.
وللغائية ارتباط وثيق بالنظام الكوني والحياتي، وان الادلة الطبيعية المطروحة حول الالوهة تارة تشير الى النظام الكوني فحسب، واخرى الى الغائية فحسب، وثالثة الى كليهما بشيء من التداخل. فالعلاقة بين النظام الكوني والغائية هي ذاتها يمكن التعبير عنها بلغة البايولوجيا الحديثة انها علاقة بين البنية التكوينية والوظيفة.
ولهذا التمييز اهمية بالغة عند التعرض الى نمط الادلة المقدمة حول الالوهة، وهو ما يجب ان يقف عنده الباحث الفلسفي. وقديماً كانت هذه الاشكال الثلاثة تعرض بصيغة او اخرى، وقد يتعامل معها الباحث من غير تمييز.
لقد اعتاد الباحثون ان يردوا دليل الغائية من حيث الاصل الى الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم سقراط وديوجينس وافلاطون وارسطو وغيرهم. وعلى الرغم من ان هؤلاء القدماء قد تمسكوا بالغائية، الى ان ذلك لا يثبت انهم جعلوها دليلاً مستقلاً، فاحياناً يشار اليها كاعتقاد لا غنى عنه من غير دليل مستقل، او يشار اليها عند الحوارات المباشرة كأدلة اقناعية وليست منطقية او منضبطة، كما قد يشار الى جزئيات لها دلالة خاصة دون ان ترفع الى مستوى الدليل الفلسفي المستقل.
فسقراط مثلاً تعرض الى الغائية عبر حوار يشير الى جزئية خاصة كشاهد عليها، فهو يرى ان العين البشرية حساسة اتجاه ما حولها، لهذا اعدت الجفون مثل الابواب حيث تفتح وتغلق كلما لزم الامر. كذلك ان الفم الذي من خلاله يدخل الطعام يكون بالقرب من الانف والعينين لمنع كل ما هو مضر وغير مناسب للتغذية. وعليه انتهى هذا الفيلسوف الى القول وهو يخاطب ارسطوديموس Aristodemus : بان مثل هذه الاشياء لا يمكن ان تكون بفعل الصدفة وانما بفعل الحكمة والابداع.
وأرى ان غرض سقراط لم يكن الاستدلال على وجود الله او المصمم، بل على حكمته وحسن ابداعه، وانه نفى الصدفة بما يقابل هذه الحكمة، فحاله في ذلك حال الامام الغزالي في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله) كما سنعرف.
كذلك قدّم ديوجينس Diogenes خلال القرن الرابع قبل الميلاد نصاً دالاً على النظام اقرب منه على الغائية كما بدت لدى بعض الباحثين الغربيين مثل باروBarrow وتبلر Tipler في كتابهما (المبدأ الانثروبي الكوني). فقد شعر ديوجينس بالاعجاب بالدورة العادية لفصول المواسم، معتبراً مثل هذا التوزيع لم يكن ممكناً من دون ذكاء، فكل شيء وجب ان يكون بقدر موزون؛ الشتاء والصيف والليل والنهار والمطر والرياح وفترات الطقس الجيد، وأشياء أخرى أيضاً، إذا درسها المرء عن كثب فسيتم العثور على أفضل ترتيب ممكن لها.
فالملاحظ هنا ان ديوجينس يؤكد اعجابه بالنظام المشهود الدال على الذكاء، وانه يتحدث عن بعض الجزئيات الكونية دون ان يربطها بغائية واضحة ولا بالوهة ميتافيزيقية. فبحسب فلسفته ان الاله يتمثل بالهواء الذي تتكون منه الاشياء قاطبة باشكال مختلفة، وقد سبقه في ذلك اناكسيمينس Anaximenes خلال القرن السادس قبل الميلاد، وهو حال ينسجم مع ما يعتقده اصحاب نظرية وحدة الوجود، اذ يعتقد ديوجينس ان الهواء يمتلك الحياة والذكاء، وكذا كان اناكسيمينس يرى ان الهواء إلهي وانه نفس الحياة.
وهناك شخصية اغريقية اخرى قد استعرضت فكرة النظام كدليل على الالوهة بما يختلف عن دليل الغائية. فالفيلسوف سلينياس Cleinias، وهو فيلسوف فيثاغوري كان صديقاً لافلاطون، رأى ان ما يدل على وجود الالهة؛ وجود الارض والشمس والنجوم والكون، والنظام المتزن لمواسم الفصول وتقسيمها الى سنوات وشهور.
***
ومن وجهة نظري ان اقدم صورة واضحة وصلتنا حول حجة الغائية هي تلك التي جاءت في كتاب الفيلسوف الروماني شيشرون Cicero (طبيعة الآلهة On the Nature of the Gods) خلال القرن الاول قبل الميلاد. ثم تكررت هذه الحجة بصيغ مختلفة لدى عدد قليل من الفلاسفة كان ابرزها تلك التي وردت لدى الفيلسوف اللاهوتي توما الاكويني (1225-1274) ضمن حججه الخمسة التي طرحها حول اثبات واجب الوجود، مستفيداً في ذلك مما ذكره ارسطو حول العلل الاربع للاشياء. كما وردت الحجة بصيغ اخرى لدى عدد من الفلاسفة المسلمين، كالذي سبق اليه يعقوب بن اسحاق الكندي (المتوفى عام 873م)، ومن بعده ابن رشد الاندلسي (المتوفى عام 1198م). أما في الفترة الحديثة فقد تعرضت الحجة المذكورة الى ساحة ساخنة من جدلية النقد والدفاع حتى يومنا الحالي.
لقد تضمن كتاب (طبيعة الالهة) حوارات استمع اليها شيشرون لدى عدد من الفلاسفة - المجهولين -دون ان يساهم في الحوار، وكما ذكر انه استدعي للحضور في مناقشات طويلة لدى منزل صديقه الخطيب كايوس كوتا Caius Cotta، وكانت الحوارات تدور بين صاحب المنزل كوتا والابيقوري كايوس فيليوس Velleius Caius والرواقي كوينتوس لوسيليوس بالبوس Quintus Lucilius Balbus. وينقسم الكتاب الى ثلاثة كتب او اجزاء، وقد فُقد قسم كبير من الاخير، وكان ابرز ما جرى في الكتاب الاول هو استعراض النظرية الابيقورية على يد فيليوس ونقدها بحدة من قبل كوتا، اما الكتاب الثاني فكان مخصصاً لاستعراض النظرية الرواقية ونقد الابيقورية من قبل بالبوس، رغم ان فقرات النص تبدي بان المتحدث هو شيشرون وليس بالبوس. في حين تخصص الكتاب الثالث لرد كوتا على بالبوس ومناقشة نظريته الرواقية. وقد ابدى شيشرون في اخر كتابه انه يرجح نظرية بالبوس الرواقية، وكما قال في كلماته الاخيرة: «النتيجة هي أن فيليوس يعتقد أن حجج كوتا أكثر صحة، بينما اعتقدت أن حجج بالبوس اقتربت مما بدا أنه الحقيقة».
وما يهمنا هنا هو ان الكتاب الثاني قد تضمن ذكر الحجج الغائية على التصميم، كما استعرضها بالبوس، دون ان يُعرف مباشرة انه المتحدث فعلاً لا شيشرون.
لقد قدّم بالبوس الحجة على الغائية والتصميم فوظّف فكرة الساعة والفنون البشرية قبل ان يوظفها علماء وفلاسفة النهضة الحديثة باكثر من سبعة عشر قرناً، فاستعرض نماذج من الاثار البشرية الدالة على الفن والذكاء؛ كرؤية تمثال، او صورة، او مسار سفينة من بُعد؛ حيث من المؤكد انها تتحرك عن طريق الفن، وكذا الساعات المهيئة بالفن والذكاء لا بالصدفة. واعتبر ان لهذه الامثلة دلالتها، وان منتجات الطبيعة تمتاز باكثر واروع من منتجات الكائن البشري. ومن ثم انتهى الى انه إذا كان الفن لا ينتج شيئاً من دون استخدام الذكاء، فكذا هو الحال مع الطبيعة لا ينبغي اعتبارها فاقدة للذكاء. فترتيب اجزاء الكون مجتمعة لا يمكن ان يأتي بالصدفة، وانما من خلال التوجيه والعناية الالهية.
لقد استشهد بالبوس بوقائع عديدة من ظواهر الكون للدلالة على العناية والغرضية والتصميم باعظم ما يكون، الى درجة انه اعتقد بان اي تعديل لبعض من اجزاء هذا الكون سيجعله سيئاً. فكل شيء فيه يدار من قبل الذكاء الالهي لغرض سلامة جميع الاشياء والحفاظ عليها، وانه ليس هناك اجمل واكمل منه، بل لا يمكن تخيل ما هو اكمل من ذلك. وبحسب التعبير الفلسفي التقليدي انه ليس بالامكان ابدع مما كان.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان بالبوس كان يستعرض النظرية الرواقية كما لدى مؤسسها الاغريقي زينو Zeno (الذي عاش خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد)، ولم يفصل حجته عن المنظومة الفلسفية المتعارف عليها من قبل. فمن جانب انه اعتبر غاية ما موجود في الكون هو لاجل الكائنات العاقلة من الرجال والالهة، لان العقل اكمل الاشياء، لذا فكل الاشياء مصنوعة ومسخرة لهم. كما من جانب ثانٍ انه لم يفصل الروح الالهية وذكاءها عن منتجاتها الطبيعية ضمن وحدة وجود شاملة. حتى انه صرح – كما جاء في الكتاب الثالث ضمن الفقرة الثامنة – انه لا شيء في الطبيعة اعظم من الكون، لذا فالكون هو الله. فهو يتصف بالذكاء والعقل والروح والحكمة والعناية. ومن ثم فهناك تناغم متبادل بين جميع اجزاء الكون تجمعها روح الهية واحدة منتشرة على الكل. وهي فكرة سوف نجدها تتكرر بشكل مشابه لدى الفيلسوف المعروف ديفيد هيوم بعد تجريدها من العناية والتصميم والغرضية.
هذه هي نظرية بالبوس الرواقي.. أما الدليل الذي قدّمه توما الاكويني على الغائية والتصميم – خلال القرن الثالث عشر الميلادي – فكان أورع ما يكون، اذ جاء مميزاً وصريحاً في تعلقه بحركة جميع الاشياء نحو غاياتها المحددة بشكل طبيعي، وذلك ضمن البرهان الاخير من براهينه الخمسة حول وجود الله، كما في كتابه الضخم (الخلاصة اللاهوتية). وكانت براهينه عبارة عن كل من: دليل الحركة والحاجة إلى محرك غير متحرك، ودليل العلية أو حاجة المعلول إلى علة مؤثرة، ودليل حاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود، ودليل مراتب الكمال والغاية في الخير والحق والشرف وما إلى ذلك، ودليل غايات أفعال الطبيعة. وقد عبّر الاكويني عن الحجة الغائية مجملاً بقوله: «إننا نرى أن بعض الموجودات التي تفتقر إلى المعرفة، وهي الاجرام الطبيعية ، تفعل لغاية، وهذا ظاهر من انها تفعل دائماً او في الاكثر على نهج واحد الى ان تدرك النهاية في ذلك. وبهذا يتضح انها لا تدرك الغاية اتفاقاً بل قصداً. على ان ما يخلو من المعرفة ليس يتجه الى غاية ما لم يسدد اليها من موجود عارف وعاقل كما يسدد السهم من الرامي. فاذاً يوجد موجود عاقل يسدد جميع الاشياء الطبيعية الى الغاية، وهذا الذي نسميه الله».
وواضح ان هذا الدليل يستمد فعله من العلة الغائية وفق التصور الارسطي للعلل الاربع في حركة الاشياء، وهي العلة المادية والصورية والفاعلية والغائية. فكل شيء طبيعي تتلبس فيه المادة والصورة، فاحداهما بحاجة الى الاخرى، اذ المادة في حد ذاتها هي قوة او مجرد امكان للشيء فحسب، لكن الاخير يصبح فعلاً ووجوداً بفضل الصورة عند الحركة. فالمادة تبقى على حالها كما هي في حيز الامكان والقوة، اما الصورة فتدخل في سلسلة من التحولات الوجودية التي تستهدف كمال الصورة وغايتها، حيث التحول الى صورة مجردة عن المادة عبر اتحادها بالعقول السماوية المجردة، ومن ثم الانتهاء الى صورة الصور واكملها، وهي الغاية العظمى من التحولات، كما تتمثل بالمحرك الثابت الذي لا يتحرك والذي يجذب اليه الاشياء بالعشق المتجذر في الصور. وهذا يعني ان كل الاشياء محكومة بالحركة المتصاعدة نحو غاياتها المحددة.
على ان الشيء المهم في الموضوع هو ان ارسطو استعان بفكرة الغائية كتفسير لحركة الاشياء ضمن منظومته الفلسفية دون ان يطرحها كدليل على اثبات واجب الوجود. وحتى الفلاسفة الذين جاءوا بعده – مع بعض الاستثناء - لم يطرحوا هذه الفكرة ضمن الادلة على وجود الله. بل اعتمدت ادلتهم على جانب من التجريد؛ كاستخدامهم مفاهيم الوجود والعلية ونفي التسلسل. لذلك يمثل الاكويني مرحلة فاصلة في استخدام صيغة محددة للغائية كدليل على واجب الوجود.
وضمن الحضارة الاسلامية سبق للكندي – خلال القرن التاسع الميلادي – ان طرح نصاً يتضمن الاشارة الى الدليل القائم على النظام والتسخير والاتقان والتدبير، وهي امور دالة على الغائية كالتي تبشر بها الاديان السماوية، لكنها تختلف عن الطريقة التي انتهجها الاكويني بعده باربعة قرون. فقد عرض الكندي حجته المجملة في رسالة (الابانة عن العلة الفاعلة)، وكما قال: «فان في نظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه في بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض واتقان هيئته على الامر الاصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل.. لأعظم دلالة على اتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى احكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم.. ».
كما ان لابن رشد دليلاً اخر حول الغائية، وقد اصطلح عليه بدليل العناية الذي نبّه عليه القرآن الكريم في عدد من اياته، ويتميز بان له خصوصية محددة بالبشر، حيث ان ظواهر الكون مشهود لها بملائمة حياة الانسان وان خلق جميع الموجودات جاء من اجلها، ولا تفسير لذلك سوى انها جاءت مصممة لهذا الغرض. وقد اعتبر ابن رشد ان هذا الدليل مع دليل الاختراع يمثلان الطريق الشرعي الذي نبّه عليه القرآن ودعا الجميع اليهما حصراً.
وما يهمنا فيما قدّمه ابن رشد هو النظر في «الواقع» بغض النظر عن التنبيه الديني، فالدليل مستقى من الواقع اصلاً، رغم العمومات والمجملات بما يجعل الدليل صندوقاً اسود يحتاج الى الكثير من الاضواء العلمية العلمية الدقيقة للكشف عما فيه من تفاصيل موثوقة. واذا انطلقنا من هذه النقطة فمن الممكن ان نجد صياغة لمثل هذا الدليل بالتفصيل العلمي المميز حديثاً، كالذي فعله مايكل دنتون اواخر القرن العشرين في كتابه (قدر الطبيعة)، والذي اعتمد فيه بشكل رئيسي على كتاب (ملائمة البيئة) للعالم المخضرم لورنس هندرسون عام 1913، كذلك ما فعله الباحثان جوليرمو جونزاليز وجي ريتشاردس في (الكوكب المميز) عام 2004. اضافة الى ان العديد من الفيزيائيين اعتقدوا بمركزية الكائن الذكي استناداً الى المبدأ الانساني وقاعدة الضبط الدقيق، بدءاً من ستينات هذا القرن وحتى يومنا هذا.
مهما يكن يبقى الدليل الذي قدمه ابن رشد ومن قبله الكندي مختلفاً عن حجة الغائية المتعلقة بحركة الاشياء جميعاً نحو غاياتها الخاصة تلقائياً، مثلما وردت لدى الاكويني صراحة. فهذه الاخيرة هي اكثر انسجاماً مع النهج الذي اختطه اصحاب حركة التصميم الذكي وعموم المسلك الذي اعتمده العديد من العلماء في البحث البايولوجي. فيما ان طريقة ابن رشد الانفة الذكر كانت اقرب الى النتائج الفلسفية التي تمخضت عن البيانات الفيزيائية المعاصرة.
وعموماً لم تلقَ الحجة الغائية اهتماماً من قبل الفلاسفة عادة، وان الفلاسفة التقليديين من اتباع ارسطو وافلاطون وغيرهما لا يولونها ادنى اهمية، او انها ليست دليلاً قائماً في حد ذاته، بل تعتبر من مترتبات المنظومة الفلسفية، ولو بالشكل العرضي لا القصد الذاتي، اذ ان واجب الوجود حسب اعتقادهم لا يفعل لغرض سوى ذاته، وان العالي لا يلتفت الى السافل بالذات وانما بالعرض، وكل ما نجده من نظام وترتيب في عالم التكوين هو نتاج النظام الدائر في العقل الالهي. مع هذا فبحسب هذه المنظومة ان الغائية حاضرة؛ لكنها تتجه من السافل الى العالي لا العكس، بمعنى ان واجب الوجود لا يفعل شيئاً او غرضاً لغير ذاته من حيث القصد الاولي، وانما من طبيعة السافل ان يحمل غرضاً ذاتياً هو اتباع العالي والتشبه به وفقاً لعلاقة المعلول بالعلة الفاعلة. فهذا ما يسلم به الفلاسفة القدماء وفق منطق السنخية. وحديثاً هناك من اشار الى مثل ذلك المعنى، كالذي نجده لدى زميل الجمعية الملكية في القرن التاسع عشر جون هوتن حيث يقول: «العلم الذي نعمل فيه هو علم الله، الله هو المسؤول عن قصة العلم بكاملها.. فالترتيب المذهل والاتساق والثبات والتعقيد المبهر الذي يميز التوصيف العلمي للكون ليس الا انعكاساً لما يتميز به النشاط الالهي من ترتيب واتساق وثبات وتعقيد».
العلم الحديث والغائية
يمكن تقسيم علاقة العلم بالحجة الغائية الى جانبين: احدهما يندرج في صميم المنهج المتعارف عليه، فيما يندرج الاخر على حافة هذا المنهج لارتباطه المباشر بالحجة اللاهوتية. وهما جانبان لا يخلوان من بعض الارتباط. وتفصيل الحديث عنهما سيأتي كالتالي..
1- المنهج العلمي والغائية
من المعلوم انه قبل النهضة العلمية الحديثة كانت العلوم التجريبية خاضعة لفلسفة ارسطو والمسلمات الدينية، وكانت فكرة العلل الاربع هي المعول عليها في دراسة هذه العلوم، لكن الحال تغير منذ هذه النهضة، اذ اصبح المنهج العلمي كما رسمه فرانسيس بيكون يستبعد العلل الغائية والقضايا التي لا تخضع للتجارب والملاحظات، ضمن ما يعرف بالقضايا الميتافيزيقية. كما اصبح العلم مديناً للمنهج الاجرائي كما يتمثل في الملاحظة والتجربة والاستقراء. وكان من السهل تطبيق ذلك منذ البداية على العلوم الطبيعية المادية كالفيزياء والكيمياء، اما مسار علم الاحياء فقد اختلف عن ذلك تماماً، فلم يكن من السهل التخلي عن طابعه الغائي، وكان حينها في نزاع مع النهج الآلي او الفيزيقي واستمر الجدل بينهما ردحاً من الزمن، ومن ثم تمخض الحال الى التخلي عن التصور الآلي والنهج الاختزالي الفيزيقي، كما استبدل مفهوم الغائية بالوظيفية التي هيمنت على التفكير البايولوجي خلال القرن العشرين وحتى يومنا هذا..
ومن حيث التفصيل؛ ان التزام العلم بالطريقة الاجرائية الصرفة مع استبعاد القضايا التي لا تخضع للتجربة والملاحظة ولّد نزعة الية ميكانيكية صرفة. وقد يكون في وقت ما من الاوقات ان هذه النزعة مناسبة للمنهج العلمي لدى العلوم الطبيعية على شاكلة الفيزياء والكيمياء. فبدون هذه النزعة قد تنفذ العناصر الروحية والنفسية الى العلمين المشار اليهما مثلما كانت الفلسفات القديمة تميل الى ذلك.. لكن هذه النزعة قد امتدت الى علم الاحياء، فاصبح لا يختلف عن العلمين السابقين، بل ان مرده اليهما.. وبالتالي فمن وجهة نظر المذهب الالي انه لا توجد فوارق جوهرية بين المادة الحية والجامدة.
وقد كرس ديكارت هذه النزعة من عدم الفصل؛ عندما اعتبر الكائنات الحية باستثناء الانسان عبارة عن آلات مادية خالية من الروح.
لقد قابل التطرف الآلي الذي كرسه ديكارت ظهور مذهب جديد يدعى بالحيوي vitalism، ومن ثم شهد القرن السابع عشر والقرنين الذين تلاه تأرجحاً بين النزعة الالية والفيزيقية من جهة، والنزعة الحيوية من جهة ثانية. لكن الغلبة في اغلب هذه المدة كانت لصالح المذهب الحيوي.
وهناك من يلقي المسؤولية على ديكارت واتباعه الذين كرسوا المذهب الآلي خلال القرن السابع عشر ومن ثم الفيزيقي الاكثر تخصصاً باعتباره مبنياً على جملة قوانين راسخة، وهما في جميع الاحوال قد جعلا الكائنات الحية لا تختلف عن المادة الجامدة كآلات خالية من النفس او الروح، ومن ثم لا غنى من ان تخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء فحسب. وهم يتهمون المذهب الغائي بأنه يشبّه الطبيعة بالانسان ومصنوعاته. ويقر المبدأ التفسيري العام للفيزيقيين باختزال ما في الكائن الى دائرة النشاط الميكانيكي للذرات. وهذا ما جعل تفاسير هذا المذهب تتصف بالسذاجة والقصور. فغالباً ما جاءت تصريحات الفيزيقيين في تفسير الظواهر الحياتية طبقاً للطاقة وحركة الذرات، وهي بالنتيجة اختزالية دون ان تفسر شيئاً من العمليات الحيوية للكائنات الحية. فالعلم المتعلق بهذه العمليات يصبح من وجهة نظر المذهب الاختزالي اشبه بجمع الطوابع حسب الوصف الذي ادلى به ارنست رذرفورد لكل علم باستثناء الفيزياء.
فمثلاً كتب دي بوا ريمون عام 1872 يقول: “ان فهم الطبيعة رهين بشرح كل ما في العالم من تغيرات كما احدثتها حركة الذرات”. كما ان عالم الكيمياء الفيزيائية ولهلم استوالد عرّف قنفذ البحر بانه “تجمع كميات من الطاقة ترابطت ثم استقلت”.
ان قنفذ البحر الذي تم تعريفه بانه مجرد طاقة متجمعة؛ كان السبب في تحول احد الفيزيقيين الى المذهب الحيوي، فقد قام عالم الاحياء والفيلسوف الالماني هانز دريش (1867-1941) بتجربة على هذا الحيوان واستنتج منها أن الحياة لا تدار بواسطة قوانين فيزيائية كيميائية، مستدلاً على ذلك بانه عندما يقطع المرء الجنين فان كل جزء ينمو إلى بالغ كامل.
ان اهم ما امتاز به المذهب الحيوي هو اعتقاده بوجود شيء لا تمتلكه المادة الجامدة، فمنذ اواسط القرن السابع عشر فما بعده، كان يعتقد ان هناك شيئاً حيوياً مائعاً يتوجب دراسته رغم خفائه، كالذي اكد عليه العالم الطبيعي الالماني بلومنباخ اواخر القرن الثامن عشر، فهو من هذه الناحية لا يختلف عن الخفاء الذي تمتاز به عدد من الحقائق الفيزيائية كالجاذبية مثلاً. وفي اوائل القرن التاسع عشر حاجج العالم الكيميائي جونس يعقوب بيرزيليوس Jöns Jakob Berzelius بأن هناك قوة تنظيمية يجب أن توجد داخل المادة الحية للحفاظ على وظائفها. لهذا توقع الكيميائيون الحيويون أن المواد العضوية لا يمكن تصنيعها من مكونات غير عضوية. كذلك قبل منتصف القرن التاسع عشر (بين 1833 و1844) كتب جوهانس مولر Johannes Müller كتاباً عن علم وظائف الأعضاء أظهر فيه التزاماته بالحيوية، وحدد السبب الذي يجعل المادة الحية تختلف عن المادة اللاعضوية وعبر عنها بالقوة الحيوية. وقد اصبح كتاب مولر رائداً ككتاب مدرسي في هذا المجال لجزء كبير من القرن التاسع عشر.
وبذلك اضحت هذه القوة بديلاً عن فكرة (المائع الحيوي) كتفسير لا غنى عنه لمظاهر الحياة المختلفة.
وقد لاقت فكرة القوة الحيوية لدى مولر قبولاً وترحيباً لدى الكثير من العلماء، ومن ثم اعتبر هذا المفهوم اقرب الى حقيقة البرنامج الجيني منه الى التفسيرات الضحلة التي قدمها الفيزيقيون من تلامذته المتمردين عليه، كالذي استعرضه عالم الحيوان والتاريخ الطبيعي ارنست ماير في كتابه القيم (هذا هو علم البايولوجيا).
وسواء فكرة المائع الحيوي او القوة الحيوية، فان سمة المذهب القائل بذلك تتسم بالغائية. فقد اعتبرت القوة الحيوية التي سادت ردحاً من الزمن علة تستهدف انتاج المظاهر الحيوية والسلوكية المختلفة لدى الكائنات الحية. الامر الذي يميزها عن المادة الجامدة. وبالتالي فان مذهب القوة الحيوية يتسق مع فكرة الحجة الغائية التي يدعو اليها اللاهوتيون، مثلما يتسق المذهب الالي والفيزيقي مع الفكر المادي واستبعاد القضايا الميتافيزيقية. لذلك ذكر ارنست ماير بان كتابات معظم الحياتيين فيها ارتباط واضح بالمذهب الغائي.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى انه ليس كل من يؤمن بالمنهج الالي يستلزم انكار اللاهوت او نفي تأثيره تماماً. فمن المعلوم ان علماء النهضة العلمية وعلى رأسهم نيوتن وغاليلو كانوا يطبقون النهج الالي في تصوراتهم ونظرياتهم حول الطبيعة وقوانينها الفيزيائية، لكنهم في الوقت ذاته يؤمنون باللاهوت. فالتفسير الآلي لم يمنع من الاعتقاد بوجود الاله، لكنه اله متعال يفترض ان لا يتدخل في تفاصيل الطبيعة، بل يكتفي فقط بالنفخة الاولى للنشئة الكونية. ومع ان علماء الطبيعة الميكانيكيين لم يكونوا جميعاً مخلصين لنهجهم الالي المعتمد على استبعاد الافتراضات الميتافيزيقية، الا ان المبدأ العام كان يدعو الى هذا الطرح، لذلك اعاب لابلاس على نيوتن وسعى الى تصحيح الرؤية الكونية بعيداً عن افتراضات الاخير الميتافيزيقية في التدخل الالهي المستمر لتصحيح المسار الكوني كما في النظام الشمسي، رغم انه لم يكن منكراً للاله كما قيل.
وعموماً ان المسار العام للعلوم الطبيعية اخذ ينظف ما يطلق عليه اله الفجوات، وبقي الخلاف محصوراً فقط حول النشئة الكونية إن كانت تحتاج الى اله ام لا.
كذلك ليس كل من يؤمن بالمنهج الغائي يقتضي منه الاعتقاد باللاهوت او مطلق الاله. فمثلاً ان توماس ناجل هو مفكر طبيعي لا مادي، فرغم انه ملحد لكنه في كتابه (العقل والكون) الصادر عام 2012 اعلن عن افلاس المادية بما فيها المادية الداروينية، ورأى ان في الطبيعة غائية جوهرية متأصلة دون حاجة لافتراض الالوهة. فالطبيعة بنظر ناجل اكثر من مجرد مادة، وهو يصف القوانين الغائية كقوانين تنظيم ذاتي للمادة في الاساس، وهي تختلف عن القوانين الفيزيائية والكيميائية، باعتبارها ليست حتمية، بل تسمح بكثير من الحرية للطبيعة لتُظهر الصور الغائية. وناجل من هذه الناحية يتفق مع بعض الالهيين الذين يرون ذات الشيء من ان الغائية هي خاصية متأصلة في صميم الطبيعة، وهي نظرية نجدها لدى بعض علماء القرن التاسع عشر من معارضي الفكر الدارويني مثل ريتشارد اوين، ويشاركهم في ذلك بعض العلماء المعاصرين المؤيدين لفكرة التصميم الذكي مثل مايكل دنتون.
لقد شهد القرن التاسع عشر احداثاً مثيرة متعارضة ازاء كل من المذهب الحيوي والفيزيقي. فبعضها قد مثّل انتكاساً للمذهب الحيوي، فيما كان البعض الاخر نصراً معززاً له. فبعض التجارب جاءت على خلاف توقعات هذا المذهب وتعزيزاً للمذهب الفيزيقي المعارض له، وادى ذلك الى انهاء سيادته الممتدة على طول المدة منذ عام 1780 وحتى عام 1828، وإن لم يتم القضاء عليه. فقد جاءت تجارب انتاج اليوريا التي قام بها فردريك فولر عام 1828 على خلاف اعتقاد المذهب الحيوي باستحالة انتاج المواد العضوية من مواد غير حية.. وهي تجارب قد اثرت على الاعتقادات المتعلقة بنشأة الحياة، حيث المتصور ان هذه النشأة امر سهل للغاية من خلال تفاعل عدد من العناصر الكيميائية الضرورية ضمن ظروف بدائية خاصة. ومع ذلك لم ينتهِ وجود المذهب الحيوي رغم النكسة الموجعة التي احدثتها تجارب فولر.
كذلك ان لظهور كتاب (اصل الانواع) لتشارلس داروين عام 1859 اثراً صادماً للاطروحة الحيوية ومجمل التفاسير التي تتبنى الاعتقادات الغائية. فقد كانت النظريات التي سبقت مذهب داروين تعتبر التنوعات الحية موجهة وغائية، سواء تلك التي تعترض على نظرية التطور، او التي تدعم هذه النظرية، مثل مذهب العالم الفرنسي لامارك الذي يعتقد بوجود دوافع حيوية داخلية تعمل على توجيه التطور.
وعليه فقد دشنت الداروينية تاريخاً جديداً في تفسير الحياة بالطرق المادية من العوامل الكيميائية والفيزيائية والبيئية ما لا يدع فرصة لافتراض العناصر الغائية والميتافيزيقية. وما زال اثرها قوياً حتى يومنا هذا..
يضاف الى ذلك انه في اواسط القرن التاسع عشر تمخضت الانتصارات في مجالي الفيزياء والكيمياء الى انبعاث فيزيقي جديد في البيولوجيا لدى المانيا لازدهار علم الحياة فيها. الامر الذي عزز عدم وجود فوارق جوهرية بين المادة الحية والجامدة. وخلالها برز علماء عديدون يهاجمون الحياتيين لاستشهادهم بالقوة الحيوية باعتبارها قوة ميتافيزيقية غيبية.
لكن في قبال تلك الانتكاسات اظهرت تجارب لويس باستور (1822-1895) انتصاراً للمذهب الحيوي، اذ تم القضاء على فكرة التحول الذاتي من المادة الجامدة الى المادة الحية، فالحي لا يأتي الا من حي.. وهي نتيجة صادمة للمذهب الفيزيقي، ومن ثم اظهرت هذه التجارب انها مكافئة لتجارب انتاج اليوريا من حيث اثرهما الصادم والمعاكس على المذهبين المتنافسين.
لقد ولّد الصراع بين النزعتين الغائية والفيزيقية بعض الاقتراحات الرامية الى وضع تفاسير متكافئة بين الجانبين المادي والغائي او الوظيفي.. كالذي استعرضه فيلسوف العلم ارنست نيكل. فمثلاً فيما يخص العملية الحيوية للتمثيل الضوئي يمكن التعبير عنها بتعبيرين متكافئين، احدهما غائي واخر فيزيقي، وذلك كالتالي:
التعبير الحيوي الغائي: “إن وظيفة الكلوروفيل في النبات هي تمكينه من أداء التمثيل الضوئي”.
التعبير الفيزيقي: “إن احتواء النبات على الكلوروفيل شرط ضروري لقيامه بعملية التمثيل الضوئي”. او القول: “لا يقوم النبات بعملية التمثيل الضوئي ما لم يحتو على كلوروفيل”.
ففي التعبيرين السابقين يوجد تكافؤ في ذات القضية، احدهما يشير الى الغائية الوظيفية والاخر يكتفي بصياغتها بشكل فيزيقي خالٍ من الوظيفة والغائية.
وعلى هذه الشاكلة يمكن التعبير عن قضية حيوية اخرى هي ما يتعلق بوظيفة الكريات البيضاء، حيث يمكن طرح عبارتين متكافئتين كالتالي:
التعبير الحيوي الغائي: “ان وظيفة الكريات البيضاء في الدم البشري هي الدفاع عن الجسم ضد العضويات الدقيقة الغريبة عنه”.
التعبير الفيزيقي: “ما لم يحتو الدم على عدد كاف من الكريات البيضاء فان الضرر يحل على انشطة الجسم العادية”.
ويلاحظ ان التعبيرين متكافئان. لكن بحسب ارنست نيكل فان هذا التكافؤ المقترح بين التفسيرين الغائي واللاغائي يواجه اعتراضاً اساسياً، وقد يكون جلّ علماء البايولوجيا على استعداد لقبول اعتبار التفسير الغائي يستلزم تفسيراً لا غائياً، بيد ان البعض منهم سينكر قدرة الثاني على استلزام الاول. ومن ثم لا يعد التكافؤ المقترح صحيحاً.
يبقى ان هذه مجرد تعابير لغوية ليس بالضرورة انها تطابق ما هو حقيقي، بدلالة ان العلماء يرفضون تطبيقها على القضايا الكونية، بحيث تعتبر كل قضية كونية معبرة عن تعبيرين احدهما غائي والاخر فيزيقي. ومن ذلك ان ما يعزى للشمس من وظيفة مثلاً هو امر ينافي العقل، فالشمس ومجموعتها لا تقيم اعتباراً للحفاظ على ذاتها عند التغيرات البيئية، فهي ليست كالجسم البايولوجي المستقل نسبياً عن البيئة. وبالتالي لا يحبذ الفيزيائيون اللغة الغائية، ويتعلق السبب جزئياً بخشيتهم من انه لو لم يتم جعلها دقيقة بشكل محكم عبر استعمال صياغات تكميمية فانها ستكون مدعاة لسوء الفهم؛ لايحائها بعمليات قصدية.
مع هذا ظهر منذ ستينات القرن العشرين وحتى يومنا هذا نزعات فيزيائية تدعم فكرة الغائية كتخطيط عام مسبق، دون ان يتعلق بالظواهر الجزئية للكون والحياة، باعتبارها تفتقد الى الحياة والقصد والوعي.
***
لقد اصبح العلماء منذ اوائل القرن العشرين غير مقتنعين بالتفسير الفيزيقي للظاهرة الحياتية لما يحمل من سذاجة بالغة لا تتناسب مع التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية. كما اعتبروا – في المقابل - التحليلات الغائية المشيرة الى القوة الحيوية زائفة، ووجدوا في المذهب الحيوي مشاكل عديدة ادت الى هجرانه وسقوطه. ويؤرخ البعض لهذا السقوط بعام 1930. ومن هذه المشاكل ان تفاسير اتباع هذا المذهب لم تكن موحدة ولا متماسكة، اذ تختلف هذه التفاسير حول طبيعة القوة الحيوية. كما لوحظ ان هذه القوة المفترضة لا تخضع للقوانين العلمية، وهي ايضاً غير قابلة للاختبار ودون ان يتمكن احد من البرهنة عليها، ومن ثم فانه يمكن اعتبارها فكرة ميتافيزيقية. فالفارق بينها وبين فكرة المجال المغناطيسي مثلاً، هو انه على الرغم من انهما سوية غير قابلين للملاحظة، الا ان الاخير محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك اصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً، فلم يعد هناك من يحتفي بالمذهب الحيوي او يعيد بناءه او يتبناه باستثناء القليل، وكان اخر من له هذا التوجه كل من أليستير هاردي وسيول رايت وتشارلز بيرش وبورتمان، وقد فارقوا الحياة اواخر القرن العشرين، كالذي اشار اليه ارنست ماير في كتابه (هذا هو علم البايولوجيا).
ومثل القوة الحيوية تمّ استبعاد مبدأ الغائية تماماً، رغم انه خلال العقد الثاني من القرن العشرين ظهر هناك من يحيي هذا المبدأ عند استقصائه لمختلف الظروف المناسبة لنشأة الحياة، كما هو الحال مع العالم والفيلسوف لورنس هندرسون في كتابه (ملائمة البيئة)، لكن الوسط العلمي العام لم يكن مهيأً لتقبل مثل هذه الافكار، فأخذ يبتعد عنها لعقود طويلة، ثم اعيد الاهتمام بها نتيجة الكشوفات العظيمة التي شهدتها الساحتين الفيزيائية والبايولوجية اواخر القرن المنصرم.
ومنذ بداية القرن الماضي ظهر بديل سرعان ما تقبله العلماء، وهو يتوسط بين المذهبين الفيزيقي والحيوي، فخلال العقود الاولى من هذا القرن ازداد الاحساس بان الكائنات الحية هي انظمة معقدة للغاية وديناميكية وتشتمل على مجموعة من الأنشطة التي لا نظير لها في عالم الآلات، ومن ذلك ما تتميز به من القدرات الذاتية للتنظيم، والتوالد والتضاعف الذاتي، اضافة الى استجابتها للمؤثرات البيئية وغيرها.. لهذا تجمعها رؤية شمولية تحت عنوان (العضوانية) التي تهتم بكيفية عمل الانظمة المعقدة الحية ككل، وذلك بعيداً عن كلا المذهبين المتنازعين الحيوي والالي او الفيزيقي.
ويرد في هذا المجال العالم جون سكوت هالدين الذي اعتمد نهجاً مناهضاً للميكانيكية في علم الأحياء. وأصبحت وجهات نظره معروفة على نطاق واسع مع كتابه الأول (الآلية والحياة والشخصية) عام 1913. وفيه اعتبر التفسير الآلي البحت لا يمكن ان يفسر خصائص الحياة. ومع ذلك لم يكن الرجل من انصار الفكر الحيوي. وقد عامل هالدين الكائن الحي ككيان منظم ذاتياً، مشيراً إلى ان كل جهد لتحليله إلى عناصر مختزلة وفق التفسير الميكانيكي سوف ينتهك هذه التجربة المركزية. وكان لعمل هالدين تأثير على مذهب العضوانية. وكتب عدداً من الكتب التي حاول فيها إظهار بطلان المقاربات الحيوية والميكانيكية في العلوم.
إن من خصائص مذهب العضوانية هو انه يركز على تنظيم الكيان ككل اكثر من تركيب الكيان. وهو يوجه جل اهتمامه الى الصفات المميزة للكائنات الحية ذات التركيب البالغ التعقيد والى تاريخ برنامجه الجيني.
ويعود مصطلح العضوانية الى الفيلسوف رتر Ritter عام 1919 الذي نشر مع زميله بيلي Baily بياناً علمياً عام 1928 حول ارتباط الكل باجزائه، وهذا الارتباط لا يقتصر على التكامل الكمي بينهما، بل يشمل ايضاً ما ينتج عن ذلك من سيطرة الكل على اجزائه. ومنذ عشرينات القرن العشرين شاع استخدام العضوانية والشمولية الكلية ضد النزعة الاختزالية القائمة على التحليل الفيزيائي الكيميائي الذي يرد النظم الحية الى وحداتها الاولية المادية دون اي اعتبار اخر. كذلك انها ضد النزعة الحيوية كما تتضمنه من مضامين ميتافيزيقية. رغم ان هذا الطرح يفضي الى مفارقة مع الطرح الدارويني بمنطقه القديم والحديث الى يومنا هذا. فتفسير الكائن الحي بانه كيان كلي يؤثر على اجزائه لا ينسجم مع تفسير الداروينية التقليدية والجديدة التي استعانت بالتغيرات الجينية في تحديدها لكيان الكائن الحي، اضافة الى الانتخاب الطبيعي. فما زال علماء الاحياء الداروينيون يعولون في تفسير الظواهر الحياتية على النهج الالي الميكانيكي كما يتمثل في التغيرات العشوائية للطفرات الجينية والانتخاب الطبيعي. وهو ما لا ينسجم مع التفكير الشمولي.
عموماً يمكن التمييز بين فئتين من التفكير الشمولي للكائن الحي، كالذي صوره جارلاند ألين: مادي ومفارق كما يتمثل بالمذهب الحيوي. وما يميز هذا التفكير هو اعتبار الكائنات الحية وحدات كلية تتأثر فيها الاجزاء ببعضها، كما يتأثر الجزء بالكل وكذا العكس. ورغم ان التفكير الشمولي المادي منقسم بين المعسكرين الغربي والشرقي كما لدى نهج المادية الديالكتيكية، الا انه في جميع الاحوال يولي اهمية للتمييز بين مستويات التنظيم في نظام معقد. لقد استبدل تشبيه الكائن الحي بالالة بعضوية تعبر عن الكائن الحي ككل وظيفي وليس فسيفساء من اجزاء منفصلة او قابلة للتحليل الاختزالي. ومن الواضح انه لم يعد التفكير الشمولي مشكوكاً فيه لدى مجموعة متنوعة من المجالات، كعلم الجينوم وعلم وظائف الاعضاء وعلم الاحياء التنموي وعلم الوراثة الجمهري (السكاني) وغيرها. لكن لوحظ ان اي اشارة الى هذا التفكير الشمولي يمكن ان ينظر اليها على انها منحدر زلق من شأنه ان يؤدي الى الميتافيزيقا والحيوية المفارقة. ومن ثم يؤدي الى التفكير الغائي..
***
ومثلما يمكن التمييز بين فئتي التفكير الشمولي المادي والمفارق، فاننا نجد ايضاً نوعين مختلفين ومتمايزين من التفكير الوظيفي، احدهما مادي منكر للغايات، كما في التفكير التطوري الدارويني، واخر غائي قد يكون متأصلاً او مفارقاً غير متأصل، كما قد يكون المتأصل طبيعياً بحت او انه مصمم ومخطط له سلفاً.
لقد احتفظ اغلب علماء الاحياء بفكرة الوظيفة مع استبعاد الغائية. وسادت الوظيفية الداروينية التي تنكر التخطيط والتصميم المسبق، بل وتستبعد مطلق الغائية المفارقة والطبيعية.
وتمثل الوظيفية الداروينية تجمعات عرضية للوظائف التكيفية نتيجة خضوعها لسلطة الانتخاب الطبيعي وتخدم غرضاً تكيفياً بحسب ما تفرضه البيئة والمحددات الخارجية. وهي ليست شمولية كالذي تميل اليه الوظيفية الغائية عادة، اذ يمكن ان تزول الوظيفة باعتبارها عرضية دون ان تخضع لقانون محدد سوى الانتخاب الطبيعي، لذلك يمكن للعضو ان يفقد وظيفته ويصبح مجرد عضو ضامر كعيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، او بقايا مخلفات غير وظيفية للتطفر العشوائي المتراكم والذي لم يمحه التطور كالذي كان يعتقد حول الحامض النووي الرايبوزي منقوص الاوكسجين (الدنا DNA)، والمسمى بالدنا الخردة منذ بداية سبعينات القرن الماضي.
أما الوظيفية الغائية فهي ليست عرضية سواء كانت مفارقة اعجازية او متأصلة في صميم الطبيعة. وتميل اغلب توجهاتها الفكرية حتى عصر داروين الى التكيفية الوظيفية الشاملة مع الخضوع لسلطة ميتافيزيقية مفارقة. فلقد كان الكثير من علماء النهضة الحديثة وحتى منتصف القرن التاسع عشر هم وظيفيون غائيون من النوع الشمولي، فكل شيء له غرض تكيفي وظيفي، حتى حلمات الذكور لها هذا المعنى الوظيفي المتأصل، كالذي صرح به جون ري. وهي الفكرة التي ظلت ملاصقة لدى اللاهوتيين الخلقيين حتى يومنا هذا.
ومن وجهة النظر المادية يمثل التفكير الوظيفي تأويلاً للمظاهر التي تبدو مصممة وغائية. ولهذا التأويل غرض مزدوج لدى بايولوجيي القرن العشرين، فمن جهة انه يطرح الوظيفة كبديل عن الغائية والتصميم. لكن من جهة ثانية ان هذا التأويل جاء ليقطع السبيل امام التفاسير الالية والفيزيقية الصرفة في نهجها الاختزالي، حيث يتحول الكائن الحي الى مجرد الة صماء، ومن ثم سيرتد ذلك الى منهج الاختزال الالي الذي حذّر منه علماء القرن الماضي.
وحقيقة الحال ان هناك نقطتين داعيتين للانزلاق نحو الغائية، احداهما تبني فكرة الكلية او الشمولية كما سبق عرضها، والثانية تبني فكرة الوظيفية.. فالتفكير الوظيفي هو الاخر يمثل نوعاً من المنحدر الزلق نحو الغائية. فبحسب فيلسوف العلم كارل همبل ان التحليل الوظيفي يعتبر من الناحية التاريخية تعديلاً للتفسير الغائي، فهو تعديل لا يشير الى علل تنتج الحدث، بل الى الاهداف التي تحدد سلوكياته. وبلا شك ان هذه النقطة هي اقرب للتفكير الحيوي منه الى التفكير الفيزيقي الصرف، رغم النقد الموجه للمذهب الحيوي في صيغته التقليدية، باعتباره يحتوي على عناصر غير قابلة للاختبار، مثل القوة الحيوية. لكن يبقى التفكير الوظيفي المسلم به علمياً بعيداً عن التفكير الغائي، كالذي تبنّاه النسق الدارويني ضمن التكيف الوظيفي الذي يمارسه الانتخاب الطبيعي غير الموجه والاعمى.
لقد كان داروين متحفظاً من هذه الناحية تماماً، فهو لا يعترف بالوظيفة الا من حيث انها اداة تكيفية ناتجة عن الانتخاب الطبيعي، وبالتالي فهي وظيفة عمياء غير موجهة ولا غائية.. وبلا شك انه مضطر لاستبعاد الغائية باعتباره يعول على الاسباب الطبيعية كعلل دافعة نحو النتائج المترتبة عليها.. اي ان العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة شرطية ضمنية وليست مفارقة، من دون افتراض غايات تعمل على هذا المسار، ولا انتظار نتائج محكومة بمثل هذه الغايات المفترضة.
ان الخلاف بين الوظيفية الغائية والوظيفية العرضية للداروينيين يتداخله صنف ثالث يعبر عنه بالبنيوية structuralism او التشكل العضوي (المورفولوجيا morphology).
لقد اشار ستيفن جاي جولد في كتابه (بنية نظرية التطور) ان البايولوجيين قد التزموا لقرنين من الزمان بنظريتين متناقضتين هما البنيوية (التشكل) والوظيفية.
وعادة ما يقصد بالوظيفية – هنا - هي الوظيفية التاريخية او العرضية التي تتبناها الداروينية بشقيها التقليدي والحديث.
وبحسب البنيوية ان البنية هي الاساس والاصل الذي تتحدد بموجبه الوظيفة، خلاف النزعة الوظيفية التي ترى العكس هو الصحيح.
ان اهم ما ترتكز عليه البنيوية – كالذي يستعرضه مايكل دنتون في كتابه المميز (التطور: ما يزال في ازمة) - هو ان في الطبيعة قانوناً متأصلاً بغض النظر عن الوظائف المباشرة. وهي من هذه الناحية تختلف عن الوظيفية التكيفية الشمولية (الغائية)، كما تختلف عن الوظيفية العرضية.. بمعنى انها تعتقد بان بعض اشكال الحياة قد تشكلت بفعل القانون الداخلي الطبيعي دون ان تخدم غرضاً تكيفياً محدداً، وهذا هو منشا اختلافها عن الوظيفية بفرعيها.. بل وترى ان المحددات الداخلية للنماء تقيد اتجاهات التطور دون اعتبار للوظائف التكيفية. وبحسبها اننا لا نتوقع من الخنزير – مثلاً - ان يتمكن من الطيران، ليس بسبب المحددات الوظيفية، بل بسبب المحددات البنيوية الداخلية لتركيب الخنزير، فالنماء هو المهيمن.
على ان البنيوية هي ايضاً على قسمين: غائية وان لم تعترف بالوظائفية الشمولية، واخرى حتمية طبيعية من دون تخطيط ولا غرض قصدي، وان الغائية قد تكون قصدية تم التخطيط لها بشكل لاهوتي، واخرى غائية طبيعية كالذي يميل اليه توماس ناجل.. ويبدو ان البنيوية القصدية هي التي شاعت لدى قرن النهضة العلمية وما بعده حتى منتصف القرن التاسع عشر.
وبحسب مايكل دنتون فان جميع البايولوجيين تقريباً آمنوا بداية القرن التاسع عشر بالبنيوية. لكن الحدث الذي جعل البنيوية تتراجع هو ظهور (اصل الانواع) عام 1859، حيث تضاءل الفكر البنيوي مثلما تضاءل الفكر الوظيفي الغائي.
لقد كان ريتشارد اوين واغاسيز من ابرز البنيويين الغائيين الذين عارضوا الفكر الدارويني خلال القرن التاسع عشر، وبحسب اوين ان ترتيب الطبيعة هو خطة الهية لغايات محددة، وقد جاءت قوانين الطبيعة لتحقيق هذه الغايات، ومنها ما يتعلق بالبشر، مثل ان الحصان مقدر له سلفاً ان يكون مسخراً لهم. لهذا نقد اوين التكيف الوظيفي كما تنادي به الداروينية، ورأى الطبيعة تبدي دليلاً على التصميم. اما اغاسيز فقد اعتقد ان النظام التصنيفي الكامل للكائنات الحية هو جزء من خطة الله العظيمة للخلق، معتبراً التصنيف ما هو الا ترجمات افكار الخالق الى لغة البشر.
ورغم ان انتشار الداروينية وهيمنتها على التفكير العلمي قد اضعفت الفكر البنيوي، الا ان القرن العشرين احتفظ بقائمة هامة من البنيويين البارزين كما استعرضهم دنتون.. مثل ويليام باتيسون وتومبسون وستيوارت كوفمان وروبرت ريدل وستيوارت نيومان وبراين جودمان. بل حتى ستيفن جاي جولد تبنى البنيوية اواخر حياته.
ويعتبر دنتون ابرز عالم معاصر يؤيد هذا المسلك، كما اظهر ذلك في كتابه القيم (التطور: ما يزال نظرية في ازمة). فهو يعتقد بمثل ما اعتقده اوين وعدد من بايولوجيي القرن التاسع عشر، وهو ان الحياة جزء لا يتجزء من الطبيعة، وهي تتبع قوانين محددة، وان اشكالها الاساسية مندمجة بطريقة ما في الطبيعة. ورأى ان هذه الفكرة مدعومة بشكل كبير جداً من علم الكونيات في القرن العشرين، ومن ذلك ما يظهر بان قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة لملائمة الحياة. وسبق له في كتاب (قدر الطبيعة) الصادر عام 1998 ان اظهر تفاصيل ملائمة هذه القوانين والتطورات الكونية لنشأة الحياة وظهور الكائن الذكي، وانتهى الى ان الدليل يوحي بوجود غاية في الطبيعة وانها تتبع طريقاً سبق رسمه الى نهاية متوقعة. فما دامت قوانين الطبيعة مضبوطة لتسهيل صيرورة الحياة لذا من المعقول منطقياً ان تكون نشأة الكائنات الحية وتطورها قد حُددت عبر قانون طبيعي ايضاً، او ان نشوء الحياة مقدر ومبرمج سلفاً بطريقة ما في بنية الكون او ضمن هذه القوانين، رغم ان الاله قد وهب الكائنات الحية شيئاً من الابداع الذاتي الحر. بل وتقبل فكرة ان اكتشاف مركزية الانسان قد سبق ترتيبه سلفاً في طبيعة الاشياء. كذلك اعتقد انه توجد ادلة متزايدة على ان التطور يتحرك قفزاً، وان التحولات التطورية الكبرى قد حدثت بسرعة كبيرة لتوحي الى ذلك الهدف، فكلما زادت سعة قفزات المسار التطوري اصبح سهلاً تصوره كنتيجة برنامج مدمج معد سلفاً.
وتبدي جميع هذه التصورات ان دنتون كان يميل الى النهج البنيوي منذ زمن مبكر نسبياً، لولا انه كان يعتقد – كما يبدو – ان الصفات البايولوجية تحمل كل منها غرضاً تكيفياً خاصاً.
لقد اعترف هذا العالم الحيوي انه في كتابه السابق (التطور: نظرية في ازمة) الصادر عام 1985 كان مازال يتبع الفكر الوظيفي. فقد كانت الكائنات الحية من وجهة نظره هي اشبه بالساعة المعقدة غير القابلة للاختزال وعبّر عنها بالحزم التكيفية التي تحتوي على صفات؛ كل منها يخدم نهاية تكيفية خاصة. فهذا ما جاء في كتابه الاول (التطور: نظرية في ازمة). لكن بعد ثلاثين سنة ادرك ان صفات الاشياء الحية لم توجد كلها لخدمة هدف تكيفي معين، واورد عدداً من الشواهد الدالة على ذلك واعتبرها تحدياً للداروينية، واستشهد بكتاب ريتشارد اوين (طبيعة الاطراف) المطروح قبل (اصل الانواع) بعشر سنوات. ونبّه الى ان مارسيل بول شوتزنبرغر Marcel–Paul Schützenberger هو من كان له تأثيره الاعظم عليه في تحوله الى البنيوية، وذلك من خلال إشارته إلى المظهر المجرد لكثير من الأشكال النباتية أثناء الزيارات المتعددة إلى حديقة النباتات في باريس أواخر الثمانينيات. يضاف الى ان احد العوامل الاساسية المؤثرة في تحوله الى البنيوية هو تزايد ادراكه بان نموذج مركزية الجينات فاشل على المستوى الخلوي، وان هندسة الخلايا هي قضية فوق جينية ونتيجة للتنظيم الذاتي للمادة الخلوية. كما اشار الى انه كان محرجاً بعض الشيء لاكتشافه المتأخر للنهج البنيوي، ولفشله في الإبصار عبر سراب الانتقاء الشامل للطبقة العميقة من التنظيم اللاوظيفي الذي يتخلل الكائنات الحية، وقد هوّن على نفسه هذا الحال باعتباره ليس الوحيد في ذلك، فحتى ستيفن جاي جولد اعترف بأنه محرج بسبب حماسته لقناعات مذهب التكيف والتي حملها مبكراً في مهنته، قبل أن يدرك أهمية النهج البنيوي والتحدي الذي يطرحه في وجه الداروينية.
ان اهم ما استدل عليه دنتون حول مصداقية البنيوية هو ثبات الكائنات البدائية المدهش والذي يشير الى حالتها الطبيعية الثابتة، وهو يعني ان المحددات والعوامل السببية هي اجزاء من النظام الطبيعي، وان السبل التطورية التي مهدت لها كانت متضمنة في الطبيعة منذ البداية تماماً كما تشير الى ذلك البنيوية.
على ان اهم دعم للنظرية البنيوية هو ما قدمته ثورة الايفو ديفو (النمائية التطورية) خلال الربع الاخير من القرن العشرين. فقبل هذه الثورة لم يكن يتخيل احد نشوء كمية هائلة من التركيب العضوي بفعل المسببات الداخلية ضمن الكائنات الحية ذاتها، لكن اصبح اليوم ما كان يعتبر هرطقة قبل عقود قليلة مذهباً معترفاً به. لقد تم اكتشاف ان اساس تكوين الكائنات هو مجموعة من الدارات الجينية والوحدات النمائية المصونة جداً، فهي التي توجه وتقيد تطور السلالة بغض النظر عن الحاجات التكيفية. ومن ثم غيرت هذه الثورة مفهوم الكائن الحي ذي المرونة اللانهائية، كما لدى الانتخاب الطبيعي، الى تقييد المرونة بعوامل سببية داخلية. وهذا ما تتبناه البنيوية او تتلاقى معه في الاعتقاد بوجود مسببات داخلية هي المسؤولة عن توجيه تطور الحياة. مع هذا يوجد فارق بين الايفو ديفو والبنيوية كالذي استعرضه دنتون. فاغلب الباحثين في الايفو ديفو يرون ان العوامل الداخلية التي توجه الحياة لم تظهر نتيجة الخواص المادية الناشئة للانظمة العضوية كما يعتقده البنيويون، بل من دورات سابقة للتطور التكيفي، اي المحددات التي فرضها التاريخ وليس طبيعة المادة العضوية. لذلك يختلف تفسير الاتجاهين حول وجود الجينات والدارات الجينية المصونة ان كانت تكيفية او انها من الخواص الذاتية للمادة، وانها مقدرة سلفاً في نظام الاشياء لتتلاءم مع ظهور الحياة، مثلما اعتقده اوين خلال القرن التاسع عشر.
ويبدو ان الاتجاه العام للبنيوية في القرن العشرين يميل الى البنيوية الطبيعية دون الغائية والقصدية، اي خلاف ما كان عليه الامر خلال القرون الثلاثة التي سبقته، حيث الميل الى البنيوية القصدية.
كما يلاحظ ان اقوى الاتجاهات الحالية المؤثرة في العلم هي الوظيفية العرضية التاريخية كما تتمثل في الداروينية الحديثة. رغم ان العقود الاخيرة قد اضعفت هذه النظرية كثيراً، خاصة ان الابحاث المعاصرة تبدي ان النظام العضوي معقد للغاية ومن الصعب تفسيره وفق الانتخاب الطبيعي والتكيفات الوظيفية العرضية.
***
إن الحياة مرتع يكثر فيها الانزلاق نحو الفكر الغائي. فكلما اشتدت الدراسات البحثية كلما ازداد حضور هذا الافتراض، حتى وان حاول العلماء الابتعاد عنه بشتى الوسائل الممكنة. اذ تشير الدراسات الحديثة منذ حوالي سبعة عقود الى هذا المعنى باضطراد. فقد فرضت الطبيعة الهندسية والمعلوماتية للتركيب الخلوي الانزلاق المشار اليه..
وقد تبدو فكرة الغائية جلية للعيان كما نشهدها في تكاثر الكائن الحي ونزعته نحو البقاء. وكلما اشتد البحث العلمي كلما تبين ان هذه الغائية متأصلة في ادق تفاصيلها، كما في الجزيئات الحيوية الضخمة والانظمة الخلوية المعقدة.
فالكائن الحي ليس آلة او روبوت كما يُشبّه عادة. فسواء من حيث سلوكه، او وظائف اعضائه، وحتى جزيئاته الخلوية، نجدها كلها تبدي مظاهر غائية تختلف عن الآلة والروبوت.
وعليه نجد الحديث عن الغايات بالتصريح او الايحاء أمراً شائعاً لدى علماء التطور، سواء من هم من الداروينيين او غيرهم، كالذي استعرضه فيلسوف العلم المعاصر ستيفن ماير لعدد من نصوص العلماء الدالة على ذلك في كتابه القيم (توقيع في الخلية)، منها قول مؤرخ البايولوجيا تيموثي لينوار: “لقد قاوم علم البايولوجيا الحديث باصرار التفكير الغائي، ولكن حتى الان يجد علماء البايولوجيا صعوبات جمة في كل مجالات هذا العلم تقريباً في ان يجدوا لغة لا ايحاء فيها بان الاشكال الحية لها غاية”. بل ان منهم من يقع في التناقض كما نصّ على ذلك فيلسوف العلم مايكل روس Michael Ruse، فكما ذكر ان “عالم علماء التطور مليء بشخصنة الغايات، ومن التناقض ان اشد منتقدي هذه اللغة التي تتحدث عن الغاية يقعون في فخ استخدام نفس اللغة التي ينتقدونها بهدف وصف الامور بسهولة”.
لقد بدأت ثورة البايولوجيا الجزيئية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وكان لها دلالتان متضادتان ازاء الصراع بين النزعتين الفيزيقية والحيوية. فقد اُعتبرت في البداية نصراً لوجهة نظر المذهب الفيزيقي في قبال المذهب الحيوي. اذ اكدت الاليات الجزيئية المكتشفة لتخزين المعلومات، ونقلها في الخلايا، ان الخصائص المميزة للحياة يمكن تفسيرها بلغة المفاهيم العادية للفيزياء والكيمياء او باضافات بسيطة لها، كالذي صرح به أحد مكتشفَي بنية الدنا (DNA) فرانسيس كريك عام 1966. وهذا ما جعل ريتشارد دوكينز يعتبر اكتشاف دور الدنا في الوراثة قد “سدد الضربة القاضية للاعتقاد بان المادة الحية مميزة للغاية عن المادة غير الحية”. وكانت الفكرة الموضوعة حول هذه الجزيئات الخلوية انها تمثل آلات ذات طابع لا يختلف عن الآلات المادية الصرفة.
لكن بفضل الكثير من البحوث المتتالية إلى يومنا هذا اصبح من الواضح ان التعابير الاختزالية عن البايولوجيا الجزيئية غير دقيقة ولا تمت الى الحقيقة بصلة، فهي لا تشير الى الطابع المعلوماتي الذي تتميز به سلسلة الدنا مما يجعلها غير قابلة للاختزال وفق المفاهيم الفيزيائية والكيميائية. كذلك ان المشابهة بين الجزيئات الخلوية والالات المادية لا يلغي وجود عناصر فيهما لا تُفسر بمحض الفيزياء والكيمياء. بمعنى انه حتى الالات المادية المعقدة تمتلك من العناصر ما لا يمكن تفسيرها بمحض القوانين الطبيعية والمفاهيم الفيزيائية والكيميائية.
واهم ما تم كشفه فيما نحن بصدده هو وجود تشابه مدهش للغاية بين النظم الخلوية والنظم الحاسوبية الناتجة بفعل الذكاء. لهذا وصف عالم البايولوجيا الخلوية جيمس شابيرو بان نظام البروتينات المتكامل والذي يؤلف نظام تخثر الدم لدى الثديات بانه “يشبه نظاماً حاسوبياً منتشراً وفعالاً ويعمل في الزمن الحقيقي”. كما نوّه الى ان العديد من الانظمة الكيميائية الحيوية في الخلية تشبه “مخطط الوصلات في الدوائر الالكترونية”.
واغرب ما في الامر ان داعية الالحاد ريتشارد دوكينز قد عبّر عن هذه الحقيقة بقوله: “ان صرفنا النظر عن الاختلافات في لغة العلمين؛ يمكن استبدال صفحات مجلة البايولوجيا الجزيئية بصفحات من مجلة هندسة الحاسوب”. كما اشار الى ان شفرة الجينات تشبه الحاسوب بطريقة غريبة. اذ ان الشفرة الجينية تناظر الشفرة الحاسوبية، وكلاهما معقد ومؤلف من تسلسل غير متكرر ومتخصص للغاية ومتعلق بالمتطلبات الوظيفية ومتطلبات الاتصال.
ومعلوم لدى الجميع ان هندسة الحاسوب لا يمكن تفسيرها بغير عامل الذكاء والغائية. وبالتالي فان هذه النتيجة تلقي بظلالها على التفسير المتعلق بالشفرة الجينية.
وعموماً ظهرت تعابير كثيرة تصف العديد من المظاهر الحياتية باوصاف لا يمكن تفسيرها بغير العلاقات الوظيفية المنطوية على جانب كبير من الذكاء، ومن ثم فانها تضمر حقيقة انها غائية بمعنى ما من المعاني، كالذي نجده لدى مفردات علم البايولوجيا الجزيئية من تعابير مستعارة من علم الحوسبة والهندسة الكهربائية والاتصالات. فالشفرة والمعلومات الوراثية والنسخ والترجمة وتعديل الانزيمات ودوائر توصيل الاشارة والتغذية الراجعة ونظام معالجة المعلومات وغيرها؛ كلها لها دلالة على الذكاء والتصميم.
إن الصراع بين الفكر الغائي والفكر المادي الطبيعي مازال قائماً حتى يومنا هذا، ولم يجد الفكر المادي أداة للتفسير يستند اليها غير التشبث في الغالب بالنهج الدارويني، معتبراً التشكيلات الحيوية تنطلق دائماً من الاسفل والبسيط الى الاعلى والمعقد؛ تدريجياً من دون قفزات ولا طفرات كبيرة. لذلك تم التشبث بالظاهرة الجينية وطفراتها العشوائية كأساس يعمل عليه الانتخاب الطبيعي.. حتى قيل ان “الدنا يصنع الرنا، والرنا يصنع البروتينات، والبروتينات تصنعنا”.
لكن اثبتت الدراسات المعاصرة ان الجينات ليست هي العامل الرئيسي في تشكيل وحدة الكائن الحي بتراكيبه المختلفة، رغم ما لها من تأثير كبير، فهناك عوامل اخرى غير محددة تدعى بفوق جينية تمتلك تأثيراً أعظم على الظاهرة الحيوية. لذلك حقّ الرد من قبل البعض على المقولة المشار اليها سلفاً بالقول: ان “الدنا لا يصنع الرنا، والرنا لا يصنع البروتين، والبروتين لا يصنعنا”.
وبلا شك ان لهذه النتائج آثارها البارزة على التفكير الشمولي ومنزلقاته الغائية.
فقد تبين ان الحياة لا يمكن تفسيرها وفق القوانين والتحليلات الكيميائية والفيزيائية، كما لا يمكن اختزالها وفق تصور التراكمات الكمية التدريجية غير المحسوسة كما تدعيه الداروينية. فالتعقيدات التي تحملها ضخمة تفوق حد التصور، وهي لا تجد تفسيراً مقنعاً بغير افتراض وجود العوامل الذكية والغائية. ويمكن المقارنة بين من ينفي الغائية من الطبيعة ومن يثبتها دون التمكن من الاحاطة بها؛ بان الاول لا يرى سوى ارتباطات مادية لزومية أو عرضية عادية وعشوائية دون ان تبعث على الدهشة والتعجب مع كل بحث واستكشاف. في حين ان من يؤمن بالغائية يرى في كل بحث جديد ما يدعو للدهشة والتعجب باضطراد. ويمكن التمثيل على هذا التمايز بالمقارنة بين من شاهد الخلية عبر المجهر الضوئي خلال القرن التاسع عشر، ومن رآها عبر المجهر الالكتروني خلال القرن العشرين، كالذي توضحه الفقرات الرائعة التالية والمقتبسة من كتاب مايكل دنتون المتميز (التطور: نظرية في ازمة):
”إذا عُرضت الخلية الحية تحت مجهر ضوئي بتكبير إلى نحو عدة مئات المرات – كما كانت الإمكانيات في زمن داروين– فستظهر بمشهد محبط نسبياً، فلا تبدو سوى قالب دائم التغير مضطرب ظاهرياً من النقاط والجسيمات التي ترميها قوى عنيفة غير مرئية جزافاً في جميع الجهات. لكن لكي ندرك حقيقة الحياة كما أظهرتها البايولوجيا الجزيئية يجب علينا أن نكبر الخلية ألف مليون ضعف، حتى يصل قطرها إلى عشرين كيلو متراً، وتشابه منطاداً ضخاًا لدرجة تكفي أن يغطي مدينة ضخمة، مثل لندن أو نيويورك، وما سنراه عندئذ سيكون شيئاً فريداً من التعقيد والتصميم التكيفي، سنرى على سطح الخلية ملايين الفجوات التي تشبه كروات سفينة فضائية ضخمة، تفتح وتغلق لتسمح لتيار مستمر من المواد أن يتدفق داخلاً وخارجاً. ولو أردنا أن ندخل إحدى هذه الفجوات، فسنجد أنفسنا في عالم من التكنولوجيا العالية والتعقيد المذهل؛ حيث سنرى أروقة لا تحصى عدداً وقد نظمت إلى حدٍ كبير، ونجد أقنية متشعبة في كل جهة، متجهة إلى خارج حدود الخلية، بعضها يصل إلى بنك الذاكرة المركزي في النواة، وبعضها الآخر إلى مصانع التجميع ووحدات المعالجة، وستكون النواة بمفردها على شكل حجرة كروية واسعة، بقطر طوله أكثر من كيلومتر مثل قبة جيوديسية، نرى في داخلها أميالاً من السلسل الملتفة من جزيئات الحمض النووي تتكدس جميعها معاً في مصفوفات مرتبة، وسيمر نطاق ضخم من المنتجات والمواد الخام عبر الأقنية المتشعبة بشكل منظم تنظيما عالياً، من وإلى جميع مصانع التجميع المختلفة في المناطق الخارجية من الخلية.
وسنتعجب من مستوى التحكم الكامن في حركة كثير من الأشياء على طول ما يبدو أنه أقنية لا نهاية لها، تتحرك جميعها بانسجام تام، وسنرى حولنا وكيفما قلبنا النظر جميع أنواع الآلات التي تشبه الروبوتات الآلية. سنلحظ ونذهل من أن أبسط المكونات الوظيفية للخلية الجزيئات البروتينية هي آليات جزيئية معقدة، كل منها يتكون من ثلاثة آلاف ذرة مرتبة بهيئة ثلاثية الأبعاد منظمة تنظيمًا دقيقاً، وسنتعجب أكثر عندما نشاهد نشاطات هذه الآلات الجزيئية العجيبة التي نستغرب أنها نشاطات هادفة، لا سيما عندما ندرك أنه رغم كل معرفتنا التراكمية في الفيزياء والكيمياء تبقى مهمة تصميم آلة جزيئية واحدة كهذه - أي جزيء بروتيني وظيفي واحد فقط - خارج نطاق قدراتنا تمامًا في الوقت الحاضر.. فكيف إذن تعتمد حياة الخلية على النشاطات المتكاملة لآلاف الجزيئات البروتينية - بالتأكيد عشرات الآلاف - وربما مئات الآلاف.
سنرى أن كل ميزة تقريباً من ميزات آلاتنا المتقدمة لها نظير في الخلية؛ كاللغات الاصطناعية وأنظمة تشفيرها، وبنوك الذاكرة المخصصة لتخزين المعلومات واستردادها، وأنظمة التحكم الراقية التي تنظم التجميع الذاتي للقطع والمكونات، وأجهزة الوقاية من الأعطال وأجهزة التدقيق اللغوي المستخدمة في التحكم بالجودة وعمليات التجميع التي تتضمن مبدأ التصنيع المسبق والبناء الجزيئي. في الحقيقة سنعيش شعورَ الديجافو (deja–vu) – أي وهم سبق المشاهدة - بشكل عميق جداً، وسيكون التشابه مقنعاً جداً لدرجة أننا سنقتبس الكثير من مصطلحات عالم تكنولوجيا في أواخر القرن العشرين لوصف هذا الواقع الجزيئي الساحر. سيكون ما سنشهده شيئاً يشبه مصنعاً ضخماً أكبر من مدينة، ينفذ وظائف تساوي بعددها تقريباً كل نشاطات الإنسان التصنيعية على وجه البسيطة، لكنه سيكون مصنعاً له قدرة واحدة لا توجد في أي آلة من أكثر آلاتنا تقدماً؛ إذ سيكون في استطاعته أن ينسخ بنيته بأكملها في غضون ساعات قليلة، وبمشاهدة عمل كهذا بتكبير ألف مليون ضعف سيكون مشهداً مهيباً وملهماً”.
وعود على بدء، ان ما اتضح قبل قليل من وجود فارق عظيم بين تصور القرن التاسع عشر للخلية والقرن العشرين، انما يعكس الفارق الكبير بين من ينفي الغائية ومن يثبتها. فالاول يتعامل مع الكائن الحي كشيء حتى وان بدى عليه التعقيد لكنه قابل للاختزال، والشاهد على ذلك ان توماس هكسلي وارنست هيكل وغيرهما من علماء القرن التاسع عشر كانوا يعتقدون بان الخلية التي تطورت منها سائر الكائنات الحية هي بسيطة للغاية، وانها نشأت تلقائياً من طين البحر. فهذا ما ينسجم مع الاعتقاد بنفي الغائية، بخلاف المعتقد بالغائية والذي يرى في الخلية وسائر الكائنات الحية تعقيدات عظيمة غير قابلة للاختزال، كما هي اطروحة مايكل بيهي. ورغم انه ما زال عمل الخلية والكائن الحي يحمل اسراراً عظيمة هي بمثابة صناديق سود مقارنة بالبحوث المستقبلية.. ورغم ان من الصعب تكهن ما ستسفر عنه هذه البحوث، لكن بفعل الخبرات الماضية المضطردة يمكن التكهن بما ستنجم عنه من اطياف جديدة ساحرة ومدهشة تجعل العالم البايولوجي يقف عاجزاً عن تفسيرها بمحض العلاقات الفيزيائية والكيميائية، وبالتالي لا محيص من ان يكون لها دلالات غائية، بحيث كلما اشتد البحث العلمي كلما كان التفسير اقرب للغائية منه الى الصيغ المادية المتعارف عليها. لذلك سيلجأ العلماء اضطراراً لايجاد صيغ جديدة للتعبير عن عنصر الذكاء وزجه ضمن القوالب العلمية، مثلما نفعل عادة عندما نريد ان نفسر التركيبات المعقدة للآلات المادية، كالسيارة والطائرة والحاسوب وغيرها، رغم انها لا تعد شيئاً في قبال التعقيد العظيم الحاصل في ادنى خلية، فكيف الحال مع الكائنات الحية المعقدة، وعلى رأسها الانسان؟!.
وهنا نستحضر ما قاله لينوس باولنك linus pauling الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء: إن “خلية حية واحدة فقط من جسم الانسان هي اعظم تعقيداً من مدينة نيويورك“.
***
أخيراً يبدو انه لا يوجد حالياً عالم معترف به رسمياً يعتقد بوجود القوة الحيوية ليفسر الطابع المعلوماتي الذي تختزنه الجينات وغيرها من النظم المعقدة الخلوية. لكن ظهرت حركة جديدة تستبعد جميع التفاسير المادية للتركيب الجيني والبروتيني وسائر النظم الخلوية، وترجح عوضاً عن ذلك فكرة التصميم الذكي. وقد تكون هذه الفكرة الوجه الاخر او البديل المكافئ للمذهب الحيوي؛ خاصة الاتجاه الذي يرى التصميم متأصلاً ذاتياً في الطبيعة كبرنامج يستقبل المعلومات او يحتفظ بها لاهداف واغراض معينة خفية. ومن ذلك اعتقاد بعض زعماء التصميم الذكي بان من ضمن الاحتمالات والامكانات التي يفترضها اصحاب التنظيم الذكي هو ان الذكاء لا يشترط ان يكون فوق طبيعي (ميتافيزيقي)، فقد يكون مبدأً تنظيمياً غائياً بني في الطبيعة، لذا فهو طبيعي بشكل كامل.
2- حافة المنهج العلمي والغائية
لقد تحدثنا فيما سبق عن علاقة الغائية بالمنهج العلمي الحديث، وبقي علينا أن نتحدث عن علاقتها بحافة هذا المنهج. فقد ظهرت مناقشات تدور حول مسائل ميتافيزيقية لها علاقة بالنتائج العلمية المتولدة عبر هذا المنهج، ومنها مسألة الغائية التي نالت بعض الاهتمام من قبل علماء الطبيعة منذ بداية النهضة العلمية الحديثة وطيلة القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، ثم توالت التطورات عليها بالدقة والضبط بفضل الجدل الدائر بين المؤيدين والمعارضين لها، بعيداً عن الاجواء الفلسفية الصرفة. وابرز من ظهر في هذا المجال اسحاق نيوتن وجون ري وريتشارد بنتلي ووليام ديرهام وغيرهم من الذين وظفوا الاكتشافات العلمية لاثبات هذه المسألة.
فقد تساءل نيوتن في كتابه (البصريات The Opticks) عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالحجة الغائية ليستدل منها على وجود كائن ذكي قادر وحكيم، ومن هذه الاسئلة: من أين نشأ ذلك النظام والجمال الذي نراه في العالم؟ وكيف أمكن للكواكب ان تتحرك جميعاً بالطريقة نفسها لدى الافلاك السماوية؟ ما الذي يمنع النجوم من ان يتساقط بعضها على البعض الاخر؟ كيف جاءت اجسام الحيوانات لتكون مبدعة بالكثير من الفن؟ ولأي غرض كانت اجزاؤها العديدة؟ فهل خُلقت العين من دون مهارة في البصريات، والأذن بدون معرفة بالصوتيات؟ وكيف تنبعث حركات الجسم باتباع الارادة؟ وكيف نشأت غريزة الحيوانات؟.. ألا يبدو من هذه الظواهر وجود كائن حي ذكي غير مخلوق وموجود في كل مكان؟!
وفي خاتمة كتابه (المبادئ Principia) اشار نيوتن الى هيمنة الإله على الكون، فقال: «إن هذا النظام الأجمل للشمس والكواكب والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا بتوجيه وهيمنة كائن ذكي وقوي».
كما رجّح ان تكون الجاذبية قوة مرتبطة بعامل ميتافيزيقي غير مادي. ففي رسالته الثالثة من رسائله الأربع الى صديقه بنتلي خلال العقد الاخير من القرن السابع عشر (عام 1693) صرح بانه لا يمكن تصور ان تؤثر المادة الجامدة على اخرى مثلها من دون احتكاك متبادل، في الوقت الذي نفى ان تكون العلاقة بينهما حتمية. بمعنى ان الجاذبية لا تعتبر متأصلة ذاتياً في المادة، لذلك افترض ان يكون سببها عائداً الى عامل آخر، سواء كان مادياً او غير مادي، تاركاً الامر الى نظر القارئ وتقديره. لكنه مع ذلك اقترح بمرور الوقت عدة انواع من الاثير التي يمكن ان تتوسط في العمل عن بعد، بعضها مادي ميكانيكي يتكون من جسيمات دقيقة بحيث ان كتلتها لا تكاد تذكر، وبعضها الاخر غير مادي. ورغم ان المحققين في فكره وجدوه متذبذباً بين هذين النوعين من الأثير، الا ان ما يبدو عليه هو ميله الى هذا الاخير كعنصر روحاني او الهي، خاصة وانه سبق ان نسبَ اليه التدخل المستمر لضبط حركات الكواكب.
وبذلك فان نيوتن رغم انه من ابرز العلماء الميكانيكيين لكنه كان يميل الى الغائية بقوة، ليس فقط من حيث التنظيم، وانما ايضاً كقوة حياة كما نجدها لدى المذهب الحيوي.
ومن مصاديق هذا المعنى انه افترض تدخل الإله باستمرار في تعديل مدارات كواكب المجموعة الشمسية عند الانحراف. اذ واجه مشكلة تتعلق بحساب الجاذبية الناتج عن تأثير اكثر من كوكبين على بعضها البعض، اذ ذلك يجعل من الحساب غير دقيق، وهذا ما جعله يفترض التدخل الإلهي على الدوام.
لكن الوصف السابق للعلاقة بين الله والنظام الكوني وجد معارضة من قبل عدد من العلماء والفلاسفة، وكان ابرزهم معاصره الفيلسوف الالماني لايبنتز، والرياضي الفرنسي لابلاس.
فقد اعترض الاخير على التدخل الالهي الذي حشره نيوتن في منظومته العلمية بغية اعادة الكواكب المضطربة الى مداراتها، ورأى في المقابل ان الاضطراب هو جزء من القانون المضطرد، وان الكواكب لا تحتاج الى اصلاح هذا الاضطراب من الخارج، وذلك تعويلاً على مدارات المشتري وزحل، لكونهما الاثقل، واحدهما يتمدد والاخر ينكمش. وكل ذلك يخضع لحتمية صارمة تجعل كل شيء يتحتم مساره، الى درجة انه لو تعرفنا على الشروط الاولية لنشأة الكون لكان من الممكن ان نستنتج كل شيء قد اتى وسيأتي في المستقبل. وهو ما لا يدع مجالاً للتدخل الالهي. حتى قيل بان نابليون سأله: كيف يمكن افساح المجال لله في هذا التصور الحتمي؟ فرد عليه لابلاس: سيدي، أنا لست بحاجة الى مثل هذا الفرض.
أما الفيلسوف الالماني لايبنتز Leibniz فقد اتهم نيوتن بانه اقحم الخواص السحرية والمعجزات ضمن فلسفته في قوة الجذب، وهو النقد الذي اشار اليه داروين فيما بعد لكونه ينسجم مع اطروحته في التطور الطبيعي. وقد اعتبر لايبنتز انه طبقاً لعقيدة نيوتن فان الرب ليس صانعاً ماهراً للساعات، اذ يحتاج ليعدل ساعته من وقت لآخر؛ وإلا فستتوقف عن الحركة.
فقد جاءت اطروحة نيوتن على الضد من فلسفة لايبنتز الذي اعتمد على مبدأ الأفضلية وما يستند اليه من قانون الاستمرارية law of continuity. ويعني المبدأ المشار اليه ان الله قد اختار عالمنا باعتباره افضل العوالم الممكنة تبعاً لمبدأ السبب الكافي. اذ لا يمكن ان يختار شيئاً ما لم يكن هناك سبب كاف لهذا الاختيار، وهو ما يفي به مبدأ الافضلية. ويختلف الاخير عن القاعدة الارسطية (ليس في الامكان ابدع مما كان)، اذ تتضمن هذه القاعدة وجود حتمية صارمة تحكم الوجود بكافة ابعاده ومراتبه من دون استثناء. وهي فكرة لا يتقبلها لايبنتز باعتباره يسلّم بقدرة الله وارادته الحقيقيين، لذلك عوّل على مبدأ الافضلية من حيث الكمال. لكن الافضلية من وجهة نظره لا تتحقق ما لم يتم التسليم بقانون الاستمرارية، وهو القانون الذي اعتمده في الرياضيات وطبقه على عالم الميتافيزيقا. ويعني انه لا شيء يحدث فجأة البتة. بمعنى ان الطبيعة منتظمة ولا تعمل بالقفزات ولا التوقفات، فالتغيرات والتطورات الحاصلة تتصف على الدوام بالتدرجية، وان هناك وسائط لهذه التغيرات والتطورات لا تعد ولا تحصى من دون ان نراها ونلاحظها.
هكذا يصل لايبنتز الى ان الكون قد تم انشاؤه بطريقة يستغني فيها الإله عن التدخلات المباشرة. فكل تدخل يعتبر فعلاً خارقاً او اعجازياً لا يتناسب مع قانون الاستمرارية، ومن ثم لا يحقق مبدأ الافضلية في النمذجة الفيزيائية.
فهذه هي النقطة المركزية التي نقد فيها نيوتن في التدخلات الالهية، باعتبارها تتنافى مع قانون الاستمرارية ومن ثم مع مبدأ الافضلية. وهو المبدأ الذي عرّضه فولتير للنقد والسخرية في روايته (كانديد).
ويعد قانون الاستمرارية مهماً للغاية بالنسبة للفلسفة التي بنى عليها داروين نظريته، لذا اشار الى نقد لايبنتز لنيوتن خلال عرض فكرته عن التطور في (أصل الانواع).
ومن وجهة نظر لايبنتز، ان جميع في ما في العالم يتألف من جواهر روحية غير متناهية وصغيرة جداً لا تقبل الانقسام، وهي الاساس الذي تشكّل عليه مختلف المظاهر الكونية والحياتية، ويُطلق على كل منها (الموناد Monad). وتتصف بانها منعزلة ومتمايزة عن بعضها البعض كتمايز افراد البشر، وكل منها تمثل مرآة العالم ككل من زاويتها الخاصة. وهي مع ذلك تخلو من التفاعل والتأثير السببي. ومثلما ان لكل منها مادة من حيث الظاهر فان لها نفساً وروحاً من حيث الباطن، كما هو حال البشر، وهما متناغمان من دون ان يؤثر احدهما على الاخر. فلكل منهما قانونه الخاص المغاير للاخر وبقية المونادات.
هكذا خلق الله العالم بعلاقات تنظيمية متبادلة في تناغم بين الجانبين النفسي والمادي، من دون علاقات سببية، اذ تعمل الاجساد كما لو انه لا توجد ارواح، كما تعمل الارواح كما لو لم تكن هناك اجساد. وكلها تتصرف بتناغم وانسجام بفعل وجود سبب مشترك يجعلها سائرة نحو المزيد من الانسجام والتناغم، ومن ثم الحفاظ على النظام.
ان لفكرة الانسجام مكانة هامة على الصعيد الغائي لدى نظرية لايبنتز، وهي لا تدور حول مركزية الانسان. فلايبنتز لا ينحاز الى هذا المعنى من الغرضية، لذلك صرح باننا نجد في العالم اشياء لا ترضينا ونتوقعها ونعرف انها لم تصنع لنا وحدنا. ورأى ان العلم الميكانيكي الذي يدافع عنه نيوتن لم يترك للغرض المركزي أثر او مجال. ومن وجهة نظره انه لا يمكن ان يكون مثل هذا الغرض واضحاً الا من خلال دمج المبادئ الهندسية المثالية في الفيزياء. لهذا جادل بانه على الرغم من وجود عوالم محتملة كثيرة تتصف بالمنطقية والاتساق ذاتياً، لكن الاختيار وفق مبدأ السبب الكافي كان من نصيب هذا الكون باعتباره يمتلك خصائص الافضلية مقارنة ببقية العوالم الممكنة.
هذه هي اطروحة لايبنتز ونقده لنظرية نيوتن في التدخلات الالهية، وقد انبرى للدفاع عن هذه النظرية صديق نيوتن الفيلسوف اللاهوتي صموئيل كلارك في مراسلاته الحوارية الشهيرة مع لايبنتز؛ والتي طالت مدة سنة حتى وفاة الاخير (عام 1716). ويعتبر كلارك المتحدث الرئيسي باسم الفلسفة النيوتنية الطبيعية، وكان يعتقد ان الجاذبية ليست خاصية ذاتية للمادة، بل حتى قوانين الحركة لا تمثل هذه الخاصية، وانما جميعها تعبر عن اثار تصرفات الله في المادة مباشرة او غير مباشرة من خلال وكلائه او ملائكته، مشيراً الى ان الارادة الالهية هي التي تمثل السبب الكافي من دون لحاظ شيء اخر كالافضلية التي يركز عليها لايبنتز.
لقد اعتبر كلارك انه لا ضير من الاعتقاد بان الله يتدخل باستمرار لتصحيح الانحرافات في تركيب الطبيعة كما يرى صانع الساعات احياناً ان عليه ان ينظم ساعته ويصلحها، خلافاً للفيلسوف لايبنتز الذي اعتقد ان ذلك يجعل عدم وجود فرق بين الطبيعي والخارق او المعجز، وان هذا الرأي يعني ضمناً إما ان قوانين الطبيعة لم تكن كاملة، او ان الاله يفتقر الى البصيرة في تقدير ان العالم بحاجة الى الاصلاح، وانه مضطر للتفكير في نفسه مرة بعد اخرى.
في حين رأى كلارك بان فكرة ان العالم عبارة عن آلة تعمل من دون تدخل وتنظيم مستمر هي مثل ساعة تدق من دون مساعدة، وهي مثل وجود ملك لا يتدخل في مملكته، فهو مجرد ملك بالاسم ولا يستحق هذا اللقب، بل ان هذا ما يدعو الى الشك في وجوده، وكذا هو الحال فيما يتعلق بالله. لكن لايبنتز ردّ عليه بان اعتبر العكس هو الصحيح، حيث لله الدور الديناميكي الثابت للحفاظ على نظام الكون.
هذه هي خلاصة النزاع بين الغائية النيوتنية كما تتمثل في الساعة الكونية التي تحتاج الى الاصلاح باستمرار، وبين الغائية اللايبنتزية كما تتمثل بالنظام الكوني المثالي الذي لا يحتاج الى اي اصلاح.
ونشير الى ان هناك تصوراً اخر يختلف عن فكرة الساعة الدقيقة في وصف الكون كما ادلى بها نيوتن. فقد سبق للكاتبين الهولنديين ليزيوس Lessiusوغروتيوس Grotius خلال القرن السابع عشر ان وصفا البنية المعقدة في العالم بانها اشبه بالمنزل، ومن ثم فمن غير المرجح ان تنشأ عن الصدفة.
على ان تشبيه الكون بالمنزل قد سبق اليه ابو حامد الغزالي في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله) ، وإن لم يكن غرضه اثبات وجود الله، بل اراد تبيان الاسرار والعجائب التي تتصف بها المخلوقات لترسيخ اليقين لدى قلوب عباده المتفكرين، كما صرح بذلك في المقدمة.
وبلا شك إن تشبيه الكون بالمنزل يجعل بانيه معمارياً لا انه ساعاتي. ومن ابرز العلماء الذين رأوا في وصف الاله بالمعماري هو ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، فمن وجهة نظره ان الاله لا يشبه صانع الساعات الخارق، بل هو اشبه بالمعماري الاسمى، وهو ذاته المخطط الاساسي للطبيعة، وانه وظف قوانينها لتخدم البناء الفعلي فيها.
ومن المهم ان نشير هنا الى ما قدمه كل من جون راي واللاهوتي وليام ديرهام في هذا المجال. فقد جمع جون راي في كتابه الغائي الشهير (حكمة الله في أعمال خلقه) بيانات واسعة حول الاجرام السماوية والارض والكائنات الحية وكيفية تكيفها لأجل البقاء على قيد الحياة. وكان مما اشار اليه اعتراضه على الرأي الشائع بان جميع الاشياء والحيوانات كلها مجرد آلات أو دمى خلقت لاجل الانسان، معتبراً هذا الرأي أنانياً لا يتناسب مع جلالة الله وحكمته وقوته. بل واعتقد ان من غير المعقول ان تكون المخلوقات التي لا حصر لها قد تم صنعها فقط للإنسان، وليس لها استخدام آخر، مشيراً الى ان من السخف وغير المعقول الاعتقاد بأن الأجسام ذات الاحجام الضخمة مثل النجوم الثابتة تم صنعها فقط لتتلألأ علينا.
أما وليام ديرهام فقد نشر ثلاثة كتب تتعلق بالدليل الغائي، وهي (اللاهوت الفيزيائي عام 1713، واللاهوت الفلكي عام 1714، واللاهوت المسيحي عام 1730)، وكان اهمها اللاهوت الفيزيائي الذي قدم فيه دليلاً على وجود الله وخصائصه من اعمال خلقه، واستحضر فيه قانون الجاذبية الشامل في الكون؛ معتبراً ان له دلالة على المصمم الذكي، كما استحضر مختلف انواع الظواهر الفيزيائية والحياتية الدالة على التصميم الالهي والغائية المتمثلة بمركزية الانسان. لكنه تخلى في وقت لاحق عن هذا الرأي المبتذل والخاص بمركزية الانسان الغائية. والبعض يعتقد ان لهذا العالِم أثراً مباشراً على وليام بيلي صاحب دليل الساعة كما سنعرف.
هذه هي خلاصة فكرة التصميم والحجة الغائية لدى النهضة العلمية الحديثة التي شاع فيها القول بان الله معروف من أعماله، كما يظهر من اصدقاء نيوتن امثال ريتشارد بنتلي وصموئيل كلارك ووليام ويستون. وقد استند اصحاب حركة التصميم الذكي المعاصرة الى مثل تلك الاعمال القائمة على العلم.
بل ان الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند رسل رغم عدم ايمانه بوجود خالق، فانه استحسن هذه الحجة للتصميم من حيث ان مقدماتها تجريبية وليست عقلية صرفة كما هو ديدن طريقة الفلاسفة القدماء. وكما ذكر وهو بصدد عرض آراء الفيلسوف لايبنتز انه يمكن تحويل أحد أدلته التي قدمها الى ما يسمى بالحجة المستندة الى التصميم. وخلاصتها هي اننا عندما ننظر الى العالم المعروف نظرة شاملة سنجد اشياء لا يمكن تفسيرها بشكل مقبول عند افتراض قوى طبيعية عمياء، بل الارجح ان تعتبر شواهد على قصد الخير. واعتبر رسل هذه الحجة ليس فيها نقص منطقي صوري، فمقدماتها تجريبية، ونتيجتها تعني اننا نتوصل اليها بما يتوافق مع القواعد المألوفة للاستدلال التجريبي. ومسألة ما اذا كان علينا تقبل هذه الحجة ام لا؛ لا تتوقف على القضايا الميتافيزيقية، بل على اعتبارات تفصيلية نسبياً.
وعموماً اخذت الحجة الغائية جدلاً متواصلاً بين المؤيدين والمعارضين لها على طول القرون الثلاثة الاخيرة. فأول من تعرض الى نقدها هو فيلسوف الشك الحسي ديفيد هيوم (1711 - 1776) ضمن حواراته الشهيرة المتعلقة بالدين الطبيعي، اذ لم يتقبل تشبيه الكون بالمنزل او الساعة العظيمة او اي شيء يمت الى الكائن الذكي او النتاج البشري. ثم جاء وليام بيلي ليجعل من حجة الساعة دليلاً منطقياً متماسكاً على اثبات المصمم الذكي، وقد عُرف عمله الضخم بصانع الساعات الذكي. لكن هذا الدليل جوبه ببديل طبيعي قدمه تشارلس داروين (منتصف القرن التاسع عشر) دون حاجة الى افتراض ذلك المصمم. واستمر هذا البديل – بشكل او بآخر - لأكثر من مائة عام، وبعد ذلك جوبه باعتراض جذري ومن ثم العودة من جديد الى الحجة الغائية التي دافع عنها بيلي ومن قبله علماء وفلاسفة النهضة العلمية الحديثة، لكن في هذه المرة ظهرت في الواجهة صياغات محددة دقيقة للحجة من خلال الاعتماد على المعطيات العلمية المعاصرة والتي شهدت الكثير من الاكتشافات الباهرة، سواء في العالم الفيزيائي او الحياتي، خاصة فيما يتعلق بمصانع الخلية الحية من الجينات والبروتينات وغيرها.. وقد اشتهرت الحجة بعنوان التصميم الذكي التي مازال الجدل حولها قائماً حتى هذه اللحظة..
وخلاصة الحال انه مع ولادة النهضة العلمية الحديثة ظهر اول استخدام علمي للحجة الغائية، لكن لم تمر مدة طويلة حتى برزت اول معارضة نقدية ضدها من قبل الفيلسوف ديفيد هيوم. ثم بعدها اخذ الجدل الفلسفي والعلمي يتنامى حول قيمة هذا الدليل قبل ان يستعيد حضوره وتطوره بقوة خلال عصرنا الحالي.
هيوم ونقد الحجة الغائية
معلوم ان ديفيد هيوم لم يسلّم بالافكار العقلية المخبرة عن الواقع الموضوعي. وهو من هذا المنطلق اعترض على فكرة الصنع والتدبير، ومن ثم عموم الحجة الغائية، كما في كتابه (حوارات في الدين الطبيعي)، وذلك من خلال نقده للمبدأ العقلي القائل بأن «المعلولات المتماثلة تنشأ عن علل متماثلة»، وهو المبدأ الارسطي المعروف بالتناسب او الانسجام؛ والمستخدم لاثبات التعميمات الاستقرائية وفقاً للمذهب العقلي التقليدي. ومن تطبيقاته انه تم الاستدلال به على وجود الله، حيث الاعتقاد بان العالم الكوني قد انشأه صانع عاقل مدبر مثل صناعتنا للمنزل او الساعة او اي شكل من اشكال الفنون والاثار البشرية. فهذا هو المعنى الذي اعترض عليه هيوم، معتبراً انه لا دليل على وجود الله من دون التجربة، او انه لا دليل على الفكرة القائلة بان العالم اشبه باعمال الابداع البشري، وكذا علته تكون شبيهة ايضاً بعلة هذه الاعمال. فبحسب هيوم ان هذه الفكرة تنطوي على قياس التشبيه، فهي تقيس العالم كله على صنع الانسان وابداعاته رغم ضيق حجمها ومحدوديتها، الامر الذي يجعل مادة القياس مختلة التناسب بشكل فضيع.
وبتعبير اخر، ان هناك تعميماً بغير حق، اذ كيف يجوز لنا ان نعمم عملاً محدوداً جداً للانسان على عالم غير محدود هو الطبيعة بضخامتها المشهودة، ومن ثم نعتبر الاخيرة مصنوعة من قبل كائن ذكي جداً مثلما نعتبر البيت والساعة وغيرهما من الفنون مصنوعة من قبل الانسان..؟!
مع هذا لم يعترض هيوم على المبدأ العقلي الانف الذكر بشكل حاسم ونهائي، بل جعل المسألة مفتوحة للجدل، وطرح فكرة تجريبية لا تقل بنظره اقناعاً عن ذلك المبدأ إن لم تفوقه، وحددها كالتالي: «حيثما لوحظ تشابه بين ملابسات عديدة معروفة؛ لزم ان نجده ايضاً بين الملابسات المجهولة. فمثلاً عندما نرى اطراف بدن بشري نستخلص انها مصحوبة كذلك برأس بشرية وان كانت محجوبة عنا. كذلك اذا رأينا من فرجة في حائط جزءاً صغيراً من الشمس خلصنا بانه اذا انزاحت الحائط استطعنا ان نرى الجسم كله».
على هذا استنتج ان هناك تشابهاً عظيماً بين العالم ككل وبين الحيوان او النبات، فالعالم مثار «بمبدأ مشابه للحياة والحركة، ودورة متصلة للمادة لا يتولد عنها خلل ما، وفساد متصل في كل جزء يعوض عنه دون انقطاع تعاون وثيق ندركه في جوانب النظام بتمامه. وكل جزء يعمل في انجاز وظائفه الخاصة لحفظ بقائه وحفظ بقاء الكل».
وهو يعتبر العالم بمثابة كائن حي ازلي مؤلف من جسد ونفس، وان الإله هو ذات هذه النفس للكائن الحي تثيره وتثار به.
وبلا شك ان هذه الفكرة لا تختلف عن مذهب المجسّمة لعدد من الفلاسفة القدماء الذين تصوروا ان العالم هو جسم الله الظاهر، كالذي اشار اليه هيوم ورجحه معتبراً انه ليس عليه اشكالات كبيرة، خاصة انه يستبعد وجود عقل بلا جسم.. وبالتالي فان العالم هو اشبه بجسم حيوان او بشر او نبات منه بالاعمال الفنية والابداعات الانسانية، كالساعة او المنزل او غيرهما من الفنون. واذا كانت علة الفنون والابداعات البشرية تتمثل بالعقل، فان علة وجود الكائن الحي تتمثل بالتوالد او الانبات. ويبدو ان هيوم قد استحضر – هنا - الحوار الدائر بين الابيقورية والرواقية كما في كتاب شيشرون (طبيعة الآلهة)، مع الانتصار للابيقورية.
وبحسبه فان العقل والتوالد والانبات؛ كلها تدل على قوى وطاقات معينة في الطبيعة آثارها معلومة ولكن جوهرها غير مفهوم. وليس لواحد من هذه المبادئ ميزة على الاخر تجعل منه معياراً للطبيعة باسرها. فآثار هذه المبادئ معروفة لنا من التجربة، ولكن المبادئ عينها وطريقة عملها مجهولة تماماً. وليس القول بان العالم نشأ بالانبات من بذرة نثرها عالم اخر باقل مواءمة واتساقاً مع التجربة من القول بانه نشأ من عقل او ابداع او تدبير الهي.
مع هذا فانه رجح فكرة التوالد والانبات على الابداع والتصميم. ورأى ان توالد العالم منذ الازل قائم على شاكلة ما تنثره الشجرة من بذور في الحقول المجاورة فتولد اشجاراً اخرى، وكذا هو الحال مع العالم والنظام الكوكبي، حيث ينتج من نفسه بذوراً معينة بانتثارها في الهيولى المحيطة فتنبت عوالم جديدة. فمثلاً ان نجماً مذنباً هو بذرة عالم قابل ان ينضج تماماً بانتقاله من شمس الى شمس اخرى ومن نجم الى اخر فيندفع في النهاية حتى يصير عالماً جديداً.
كما يمكن افتراض ان العالم هو حيوان ضخم، وان النجم المذنب هو بيضة هذا الحيوان، حيث وضعها على نحو ما تضع النعامة بيضتها على الرمال. وتفقس البيضة دون عناية اخرى من الحيوان وتولد حيواناً جديداً وهكذا.. ويعترف هيوم ان تجربتنا محدودة، لكن هذه الفكرة لديه اعظم شبهاً بالعالم من اي آلة صناعية تنشأ من العقل والتدبير.
ثم ان هيوم طرح اعتراضاً جدلياً على فكرته، وهو وجود التدبير في النظام حتى مع فرض التوالد او الانبات. اذ من اين تنشأ ملكة التوالد او الانبات على روعتها العظيمة ان لم يكن من التدبير؟ او كيف يمكن لنظام ان ينشأ من شيء لا يعي هذا النظام الذي يضعه؟
هذا هو الاعتراض الذي طرحه هيوم واجاب عنه جواباً سطحياً وفق معايير عصره، فقال: وفق الشاهد المعلوم: ان الشجرة لتضع النظام في انباتها دون ان تعرف النظام، وكذا الحيوان مع وليده والطائر مع عشه. والامثلة كثيرة تزيد على الامثلة الخاصة بالنظام الذي ينشأ من العقل والابداع. وهو يعتبر ان الانبات والتوالد شأنهما شأن العقل يعتبران من مبادئ النظام في الطبيعة، وان تجربتنا ناقصة، ولو حكّمناها لكان للتوالد بعض الميزات على العقل، اذ اننا نشاهد العقل ينشأ من التوالد من دون عكس مطلقاً.
لكن لو كان هيوم معاصراً لنا فلربما انحاز - وفق المبدأ الذي اتخذه على عاتقه - الى التدبير منه الى التوالد والانبات. فقد اتضحت اليوم علة وجود التوالد والانبات واصبحت مفهومة وفق الآلات الحاسوبية العضوية المعقدة التي تعمل على صناعة هذا التوالد وكذا الانبات، كما في الاحماض النووية والجينات وغيرها من النظم الخلوية المعقدة.
ونشير بهذا الصدد الى ان هيوم طرح فكرة قد تكون هي البذرة التي استند اليها دعاة بعض نماذج نظرية الاكوان المتعددة من الفيزيائيين. فهو يقول: «اذا استعرضنا سفينة فاية فكرة رفيعة يلزم ان نكونها عن عبقرية النجار الذي بنى مثل هذه الالة المعقدة المفيدة الجميلة؟ واية دهشة يلزم ان نستشعرها عندما نجده صانعاً غبياً يقلد الاخرين وينقل عن فن قد تقدم بالتدريج بعد ان مر بعصور طويلة متعاقبة وبعد محاولات عديدة واخطاء وتصويبات ومشاورات ومجادلات؟. لا بد وان عوالم جديدة قد لفقت ورقعت منذ الازل قبل ظهور هذا النظام واستنفد الكثير من الكدح والمحاولات الفاشلة واطرد في بطء اصلاح متصل لفن صناعة العالم خلال عصور لا نهاية لها. ففي مثل هذه الموضوعات من ذا الذي يستطيع ان يتكهن بمكان الرجحان بين عدد حاشد من الفروض التي يمكن اقتراحها وبين عدد اعظم منها يمكن تخيله؟».
وقديماً ذهب لوكريتوس في قصيدته (طبيعة الاشياء) الى ان عامل الصدفة وطول الزمان هما من أديا الى تكوين الاشياء وتراكيبها المعقدة.
***
ننتهي الى ان هيوم اعتبر تفسير العالم إما ان يكون على شاكلة التدبير والعقل، او على شاكلة التوالد والانبات، وقد رجح الكفة الاخيرة على الاولى لكثرة الامثلة عليها، ولأن الجسم ينتج العقل من دون عكس. لكن فاته انه لا قيمة للكثرة التي لاحظها لولا النظام الذي تتأسس عليه، فالتوالد والانبات ما كان لهما ان يكونا من دون نظام دقيق كالذي انكشف في عصر الجينات والبروتينات.. وكذا يمكن القول فيما يخص العلاقة الدائرة بين الجسم والعقل. فاذا كان هيوم قد رأى الجسم ينتج العقل من دون عكس، فان الجسم في حد ذاته قائم على نظام معلوماتي ما زال لا يُعرف عنه الا القليل، وكذا العقل ايضاً.
ومن حيث الاساس استند هيوم في ادارته للجدل بين الفكرتين الانفتي الذكر الى مبدأ التشابه، فاحدى الفكرتين تتصف بالتشابه الضيق، كما في حالة الابداعات البشرية التي تم توظيفها وفق المبدأ العقلي الارسطي لتفضي الى نتيجة مفادها ان العالم يحتاج الى مبدع مدبر، فيما تتصف الفكرة الثانية بالتشابه الاوسع، كما في حالة رؤيتنا لظاهرتي توالد الحيوان وانبات النبات، ومنها يمكن استنتاج ان العالم كله قائم على التوالد او الانبات. فالمبدأ الاساس الذي استند اليه هيوم في المعالجة هو التشابه ومن ثم القياس والتعميم..
لكن يؤسف له ان هيوم لم يولِ اهمية للنظام الدقيق في العالم بحسب مقاييس عصره بعيداً عن ظاهرتي التوالد والانبات، فمثلاً ان من المتعارف عليه آنذاك ان للمجموعة الشمسية نظاماً دقيقاً للغاية وفق علاقتي الحركة والتجاذب، فاي خلل في هذا النظام الدقيق يجعل المجموعة الشمسية في مهب الريح، وهي ظاهرة لا يمكن تشبيهها بالتوالد والانبات، بل هي اقرب للساعة المصممة مثلما رآها نيوتن واتباعه..
بالي وصانع الساعات الذكي
ان اشهر حجة كلاسيكية على التصميم هي ما قدمه العالم اللاهوتي وليام بيلي في كتابه الشهير (اللاهوت الطبيعي) عام 1802. فهي الاولى من نوعها في المجال العلمي من حيث الدقة والتفصيل قياساً بما سبقها.. وما زالت حجته تناقش حتى يومنا هذا.. وكثيراً ما تُعارض بحجة هيوم السابقة وبنظرية داروين اللاحقة.
وأصل هذه الحجة يستند الى الفارق بين العثور على شيء معقد ومنظم ذي غاية كالساعة الدقيقة مثلاً، وآخر بسيط وغير منظم كالحجر في مكانه المعين.
ففي الفصل الاول من (اللاهوت الطبيعي) اشار بيلي الى هذا المعنى بمقالته الشهيرة: هب اني اثناء عبوري مرجٍ عثرتُ بحجر وتساءلت: ما الذي جاء بهذا الحجر في هذا المكان؟ وقد أُجيبُ على ذلك بانه يقبع هنا منذ الازل، اذ لا اعرف شيئاً خلاف هذه الاجابة، وليس من السهل تبيان سخفها. لكن لنفترض اني وجدت ساعة على الارض، وتساءلت: ما الذي اتى بها في هذا المكان؟ وحينها استبعد ان تكون الاجابة كالسابق مع الحجر، بل لا اجد جواباً شافياً غير ان شخصاً ما قام بصنعها. فهناك بعض المزايا التي تدل على ان الساعة جاءت بفعل الصنع والتصميم: فهي تتميز بالغائية لتأديتها وظيفة محددة، وهي لكي تفعل ذلك كان لا بد من ان تكون أجزاؤها وآلياتها دقيقة الحجم والترتيب، وان تكون مغطاة بمادة زجاجية تسمح بقراءة الوقت فيها. فقدرة الساعة على الحفاظ على الوقت تعتمد على الشكل الدقيق والحجم والترتيب لأجزائها، وهذا ما يوحي بأنها مصنوعة من قبل شخص صممها قصداً بهذا الشكل الدقيق الذي يفي بالغرض..
وعليه استنتج بيلي بان هذا التركيب الدقيق والغائي كما تفي به الساعة وغيرها من التصاميم البشرية هو ذاته نراه بشكل اعظم بما لا يقاس في الطبيعة، فهي غنية بالقوانين الكونية وعوالم الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات. فمثلما ان الساعة تستوجب ان يكون لها مصمم صانع، فكذا العالم بظواهره المختلفة التي تتفوق على الساعة بكثير هي الاخرى تستوجب ان يكون لها مصمم صانع.. وهو التطبيق الذي اكد عليه خلال الفصل الثالث من كتابه. وقدّم بهذا الصدد مثالاً يتعلق بالتركيب الغائي المعقد لعضو العين في الحيوانات ومقارنتها بالتلسكوب، منتهياً الى ان العين تتفوق على التلسكوب بامرين: احدهما انها تتكيف بدرجات مختلفة من الضوء، والثاني هو انها تتكيف مع التنوع الكبير للمسافة ورؤية الأشياء بسلاسة، فمن بضع بوصات الى عدد من الأميال.. لذا كانت العين معقدة ودقيقة للغاية لتفي بمثل هذه الاغراض المختلفة.
لقد جاءت حجة بيلي حول الساعة مختلفة تماماً عما افاده ديفيد هيوم الذي انطلق من منطق المشابهة بين العالم الكوني والابداعات البشرية. فحجة بيلي لا تعير اهمية الى مثل هذه العلاقة القياسية، بل تركز على النظام الغائي المتضمن للتركيب المعقد، فكل ما هو معقد ودقيق التركيب ويؤدي غرضاً محدداً ذا قيمة فانه لا بد ان يكون نتاج صنع وتصميم. لهذا استخدم مثال الساعة ومقارنته بالحجر. وعُرفت حجته بحجة الساعة، وان مصمم الكون قد عُرف بدوره طبقاً لهذه الحجة بانه الساعاتي او صانع الساعات.
هذه هي حجة بيلي من حيث الاجمال، وقد لاقت استحساناً وتأثيراً قوياً في الاوساط الفلسفية والعلمية. ومن ذلك ان داروين كان من اشد المعجبين والمنبهرين بعمل بالي، حتى انه كان في شبابه مقتنعاً به تماماً، وكما ذكر في سيرته الذاتية بان حجة بيلي قد بدت له في الماضي انها جازمة الى اقصى حد، لكنه وجد ان جميع البراهين القديمة الخاصة بوجود تخطيط وتصميم في الطبيعة مثلما تم تقديمها من قبل بيلي هي ساقطة بعد ان تم اكتشاف قانون الانتخاب الطبيعي، وذكر مثالاً حول ذلك وهو انه من غير المتوقع ان تكون المفصلة الجميلة الخاصة باي قوقعة ثنائية المصراع قد تم صنعها من قبل كائن ذكي؛ مثلما تم صنع مفصلة الباب بواسطة الانسان. وانتهى الى استبعاد ان يكون هناك اي تخطيط في القابلية على التغاير الخاصة بالكائنات الحية بمثل ما نراه في هبوب الريح، ففي جميع الاحوال ان كل شيء موجود في الطبيعة هو نتاج قوانين ثابتة.
هكذا انقلب داروين على بيلي بالبديل الذي رجحه والمتمثل بالانتخاب الطبيعي الذي رآى انه يفسر الظواهر المعقدة للحياة بما يعجز عن تفسيرها المصمم الذكي. فهي تبدو مصممة لكنها من غير مصمم واع..
ونجد ذات هذا التقييم لدى عالم الحيوان الشهير ريتشارد دوكينز، فقد ابدى اعجابه الشديد بكتاب بيلي ووصفه بانه قدّم اجابة تقليدية متقنة وموسعة واشد اقناعاً مقارنة بمن سبقوه لحل الاحجية، لكنه مع ذلك اعتبر الظواهر المعقدة في عالم الحياة لا يفسرها مبدأ صانع الساعات الذكي، بل يفسرها صانع الساعات الاعمى كما يتمثل بالانتخاب الطبيعي على شاكلة ما طرحه داروين. واعتبر نفسه يعمل اليوم في الكفاح لاجل تفسير لائق يتعلق بهذا الصانع الاعمى بمثل ما نجح بيلي في ان يفعل في عصره ما يدعو الى الاقناع طبقاً للمصمم الذكي.. وذلك قبل مجيء داروين الذي قلب الطاولة على بيلي بفكرة الانتخاب الطبيعي.
على ان النقطة التي اثارها دوكينز ضد بيلي رغم اعجابه بدراسته الثرية في البايولوجيا هي تلك المتعلقة بالتمثيل بين التلسكوب والعين، وكذا بين الساعة والكائن الحي، معتبراً هذا التمثيل زائفاً، وكما قال: ان «صانع الساعات الحقيقي له تبصر للامام، فهو يصمم تروسه وزنبركاته ويخطط ما بينها من ترابطات، وقد وضع نصب عينيه هدفاً مستقبلياً، أما ما يصنع الساعات في الطبيعة، وهو الانتخاب الطبيعي، فهو تلك العملية الاوتوماتيكية العمياء غير الواعية التي اكتشفها داروين والتي نعرف الان انها تفسر بايولوجيا الحياة، فليس له عقل ولا هدف، فهو اعمى بالنسبة للمستقبل وليس له هدف على المدى الطويل، انه بلا عقل، وبلا عين لعقل، وهو لا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية، ولا بصيرة للامام، ولا بصر على الاطلاق، واذا كان من الممكن ان يقال عنه انه يلعب دور صانع الساعات في الطبيعة، فهو صانع ساعات أعمى». او انه بحسب ما يصفه عالم الجينات فرانسوا جاكوب بان التطور الدارويني او الانتخاب الطبيعي ما هو الا مصلح جاهل وليس مهندساً.
لكن لو استعرنا الكلمات الاخيرة التي يصف بها دوكينز والكثير من رجال التطور الانتخاب الطبيعي في صنعه الاعمى للكائنات الحية، وهو انه (بلا عقل ولا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية ولا بصيرة للامام..)، فالملاحظ ان هذا العامل المسمى بالانتخاب الطبيعي قد افضى الى صنع كائنات تعمل من غير استثناء لغايات معينة كثيرة ومختلفة، وهي وان كانت – باستثناء البشر – بلا عقل ولا تخطيط ولا بصيرة للامام مثل الساعة، لكن افعالها غائية موجهة على عكس صانعها الاعمى المزعوم الذي انتجها من دون غاية.. ويا لها من مفارقة؟!
اخيراً لا بد من ان نشير الى ان حجة بيلي تعتبر تتويجاً وتدقيقاً للحجة الغائية العلمية التي قدمها علماء القرنين السابع والثامن عشر، فهي حجة تستند الى تحليل العلم بالتفصيل والتدقيق، وهو ما يميزها عن الحجة الغائية المؤطرة باللباس العلمي لدى العلماء السابقين، كما انها تتميز عن الحجة الفلسفية بطابعها العلمي، يضاف الى انها تعتبر تدقيقاً لمطلق الحجة الغائية التي يدركها الانسان، سواء كان عادياً او عالماً او فيلسوفاً، فالانسان العادي ومنذ زمن بعيد جداً كان يدرك ان النظام الكوني والحياتي ينطوي على غايات وحكم مصممة من قبل إله عالم قدير، كما ان الاديان السماوية هي بدورها تشهد على هذه الحالة التي يدركها الانسان مهما كان ساذج التفكير..
تبقى فقط نقطة كانت موضع إشكال على هذه الحجة، وهي وجود ما يسمى الاعضاء الضامرة او تلك التي بدت لا فائدة فيها لدى بعض الحيوانات، فقد كانت الاراء السائدة في القرن الثامن عشر والنصف الاول من القرن التاسع عشر تكتفي باظهار ملائمة الوسائط للغايات لاثبات وجود الله، ومنها العلاقة بين اعضاء الكائن الحي ووظائفها الغائية. لكن هذه العلاقة قد تم نقدها عبر لحاظ الكثير من الاعضاء التي بدت لا فائدة فيها، مثل حلمات ذكور الثديات، واسنان فك الحوت التي لا تنغرز في اللثة، واجنحة بعض الطيور والحشرات التي لا تطير، وعيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، وعدد من الاعضاء البشرية... الخ. في حين وجد اصحاب نظرية التطور ما يمكن تفسير مثل هذه الظواهر بعيداً عن الحجة الغائية وافتراض صانع الساعات الذكي.. وما زالت هذه القضية موضع جدل حتى يومنا هذا.