يحيى محمد
ما زال كتاب (اصل الانواع) لتشارلس داروين يُعد لدى اغلب العلماء من اعظم المشاريع الذي هزّ العالم وغيّر مجرى التاريخ العلمي. وهو حصيلة ما جمعه صاحبه من مشاهدات غنية حول الكائنات الحية ضمن رحلته الشهيرة على ظهر سفينة بيجل، والتي استغرقت خمس سنوات منذ عام 1831 وحتى عام 1836، وبعدها أخذ يزيد في جمع ملاحظاته وتساؤلاته وتجاربه الشخصية في الزراعة وتربية الطيور والاستفادة من المعلومات التي تلقاها من المربين للحيوانات والنباتات، فضلاً عن قراءاته الواسعة والمتنوعة.. حتى انتهى الى وجود ادلة قوية على التطور، كما توضحه الجغرافيا البايولوجية وعلم الاجنة والمورفولوجيا والتعاقب الجيولوجي للاحياء وصلاتها المشتركة؛ كما في التركيب الخلوي وتفاعلاته الكيميائية والفيزيائية، فضلاً عما لاحظه من التغايرات الحاصلة بفعل الانسان مع الدواجن. وكما ذكر في سيرته الذاتية ان استفساراته المنتظمة بدأت بفتح اول كراسة للملاحظات عام 1837، اي بعد سنة من انتهاء رحلة بيجل الشهيرة. وحكى انه بنى عمله تبعاً لمبادئ فرانسيس بيكون الدقيقة، اي القيام بالبحث العلمي من دون اي نظرية مسبقة في الذهن، وذلك بجمع الحقائق فيما يخص المنتجات الداجنة والاستفسارات وتبادل الحديث مع المربين والمزارعين البارعين وبفعل القراءة واسعة النطاق.. ومنذ ذلك الحين سرعان ما ادرك بان الانتقاء (الانساني) كان المرتكز لنجاح الانسان في تكوين الاعراق المفيدة من الحيوانات والنباتات، لكن ظل امكان تطبيق الانتقاء (الانتخاب) على الكائنات التي تعيش في البيئة الطبيعية لبعض الوقت لغزاً بالنسبة له. وقد ادرك بعد ذلك بعام عند قراءته لبعض المفكرين ما وجد فيه ضالته الاساسية كما سنعرف..
لقد تأثر داروين في قراءاته بعدد من العلماء والمفكرين، كان ابرزهم الباحث السكاني والاقتصادي توماس مالتوس والجيولوجي تشارلس لايل والمفكر هربرت سبنسر وعالم الحيوان لامارك وعالم النبات روبرت براون وعالم الجيولوجيا والاحاثة لويس أغاسيز وعالم الجغرافيا النباتية وصاحب كتاب (الرحلات) الكسندر فون هامبولدت وفلاسفة العلم امثال فرانسيس بيكون واوجست كونت وجون هرشيل ووليم هويل وغيرهم ممن جاء ذكرهم في سيرته الذاتية.
وكانت الاستفادة من فلاسفة العلم تقتصر على الاطر المنهجية والنظرية العامة. فمثلاً اعتمد على بيكون في طريقته الاستقرائية قبل بناء الاحكام النظرية، وعلى هرشيل في الكشف عن التفسيرات السببية دون الاكتفاء بالقوانين التي تصف الروابط، وعلى اوجست كونت في احلال المرحلة الوضعية كحالة نهائية من بين الحالات الثلاث التي تمر بها البشرية، خاصة وان داروين كان يعاني من المرحلة اللاهوتية التي دمغت عصره على غرار العصور الماضية، لذلك كان معنياً بان يجد نهاية لهذه المرحلة من خلال الاعتماد على التفسيرات الطبيعية الصرفة وإبعاد كل ما له اثر ميتافيزيقي. كما استفاد من الجيولوجي تشارلس لايل بعض المبادئ النظرية التي تعتبر الحاضر مفتاحاً للماضي، مثلما جاء في العنوان الثانوي لكتابه (مبادئ الجيولوجيا: محاول لتفسير التغيرات السابقة لسطح الارض بالرجوع الى الاسباب العاملة حالياً). وعليه اذا كان التطور الكبير قد حدث في الماضي السحيق، فان العوامل المسببة للتطور سوف تبقى مشتغلة بشكل او بآخر حالياً من دون انقطاع.
ولعل اهم من استفاد منهم في نظريته حول التطور هو مالتوس حول علاقة امدادات الغذاء بالتكاثر السكاني وتوليد الصراع من اجل البقاء، كما جاء في كتابه (مقالة حول المبدأ السكاني) عام 1798، والذي كشف فيه عن الاختلاف بين المتوالية الحسابية للغذاء والمتوالية الهندسية للتكاثر السكاني، مثلما اشار اليه داروين في مقدمة (اصل الانواع)، مقراً بان ذلك «مبدأ مالتوس المطبق على كل الممالك الحيوانية والنباتية». فالاهمية التي اولاها داروين للمبدأ المالتوسي هي ان الكائنات الحية تتخذ طريقاً ناجحاً للخلاص من النهاية البائسة التي فرضها مالتوس، وذلك عبر التغير ومن ثم البقاء للاصلح وفق الانتخاب الطبيعي.
وكما جاء في سيرته الذاتية انه تعرف على مبدأ مالتوس عن طريق الصدفة، فذكر انه في عام 1838 قرأ على سبيل التسلية كتاب مالتوس حول التعداد السكاني، ولأنه كان على استعداد تام لادراك دور التنازع على البقاء؛ فقد خطر في باله على الفور ان من شأن التغايرات المؤاتية المفيدة تحت تأثير الظروف الصعبة ان تميل الى ان يتم البقاء عليها مع تدمير التغيرات غير المفيدة. الامر الذي يفضي الى تشكل انواع حية جديدة. وفي النهاية اعتبر حاله قد حصل تبعاً لمبدأ مالتوس على نظرية يمكن الاستناد اليها في التفسير.
ورغم ان هناك من سبق داروين في بحث فكرة الانتخاب الطبيعي كما اعترف بذلك، لكنه اول من نحت هذا المصطلح وعرّفه بانه يحتفظ بشكل آلي بأي تمايز بسيط اذا كان مفيداً للكائن الحي، ومن ثم فانه يتميز عن قدرة الانسان على الانتقاء، وهو يعمل كآلية غير موجهة او ذات هدف محدد.
وللانتخاب الطبيعي علاقة بمصطلح البقاء للاصلح الذي استعاره داروين من الفيلسوف هربرت سبنسر، معترفاً بانه اكثر دقة من عبارة الانتخاب الطبيعي، وفي بعض الاحيان تكون العبارتان متساويتين من حيث الدقة. وقيل ان داروين وضع عبارة سبنسر للبقاء للاصلح لاول مرة في الطبعة الخامسة من (اصل الانواع) كمرادف للانتخاب الطبيعي. وقيل ايضاً ان الباحث الشاب ألفريد رسل والاس قد ألح على داروين لاستخدامه كمرادف لهذا الانتخاب.
وتعد فكرة الانتخاب الطبيعي بسيطة من حيث تعبيرها عن التنافس والبقاء للاصلح او الاقوى، وكثيراً ما نعبر عنها بالقدرة على البقاء والتكيف مع البيئة، ويظهر أثرها عند صراع الحيوانات وعند قساوة البيئة، وكذا المناعة عندما تصاب الكائنات الحية بالامراض، ومنها ما نحن اليوم نعانيه من جائحة فايروس كورونا (Coronavirus (COVID-19[1]، ومثل ذلك ما تتأقلم عليه الكائنات الحية البدائية كالبكتريا والفايروسات من مناعة ضد المضادات الحيوية بعد كثرة استخدام هذه المضادات... الخ.
مع ذلك فان هذه الفكرة حول الانتخاب الطبيعي لم تلفت نظر الا القليل من العلماء في عصر داروين، وكما قال صديقه توماس هنري هكسلي عندما سمع به لأول مرة: «يا له من غباء مطبق ألّا تكون لدى المرء فكرة عنه». رغم ان هكسلي لم يقتنع به ولا بالتحول التدريجي وانما بالقفزة التطورية المفاجئة. وقيل ان هكسلي خاطب داروين في اليوم الذي سبق مباشرة صدور (اصل الانواع) بقوله: “لقد حمّلت نفسك عبئاً غير ضروري بتبنيك مبدأ (الطبيعة لا تقفز) بلا اي تحفظ”.
وكما ان عبارة البقاء للاصلح تعود الى سبنسر، فكذا انه اول من أشاع مصطلح التطور للكائنات الحية في مقال له حول ذلك عام 1852، وكان داروين يستخدم مصطلح التعديل للدلالة على التطور دون ان يشير الى اللفظ الاخير في (اصل الانواع)، وكان الكثيرون يستخدمون مصطلح التحول بمعنى التطور. وقد استخدم داروين لفظ التحول احياناً كما في عنوانه (اساليب التحول). كما استخدم لفظ التطور عدة مرات، لكنها جاءت كما يبدو متأخرة لدى الطبعات التالية خاصة عند مناقشته للاعتراضات.
لم تكن لدى داروين فكرة مسبقة حول التطور، لكنه استنتجها بعد مدة طويلة من المشاهدات والملاحظات والتجارب الشخصية. ولعل اهم مشاهداته التي اكد عليها هي تلك المتعلقة بمنتجاتنا الداجنة والتي تتضمن عدداً لا نهائي من التمايزات البسيطة والاختلافات الفردية، واقل من ذلك تلك التي تحدث في الطبيعة، وهي قابلة للتراكم شيئاً فشيئاً. لهذا توصل بعد التأمل والاستنتاج الى ان الانواع تتغير بالتدريج وانها ذات اصول سلفية مشتركة. اذ كان دائماً يصطدم بالتكيفات البيئية، حتى اصبح بامكانه ايجاد تفسير لذلك، طالما لم يجد طريقة لاثبات التطور عبر البراهين المباشرة. وهو امر اكده في رسالته الى بنتام عام 1863، حيث اقرّ بانه لم يكن بالامكان اثبات نوع واحد قد تبدل، كما لم يكن بالامكان تفسير لماذا تبدلت بعض الانواع دون الاخرى. وبالتالي فالتطور – مثلما يرى هكسلي - هو فرضية قوية لكنها غير مبرهن عليها، وهي تضاهي من هذه الناحية فرضية اللجوء الى الاسباب الغائية.
لقد زعم داروين انه كان يطبق الطريقة الاستقرائية في التقصي الامبيريقي قبل الاستنتاج النظري وفق المنهج البيكوني، لكن بعض الناقدين كذّب هذه الدعوى معتمداً على دفاتره التي سجل فيها ملاحظاته الزاخرة بالقضايا النظرية التي كان يؤمن بها. ومن ذلك انه كتب عام 1863 الى عالم النبات جون سكوت قائلاً: “دع النظرية تقود مشاهداتك، لكن تريث بانتظار ان تنبني شهرتك جيداً في ان لا تكثر من نشر النظرية، لأن هذا يبعث الشك لدى الناس بمشاهداتك”. كما ان داروين كان منذ وقت مبكر يحمل اراء مادية صارمة، وهي ما قادته الى النتائج عبر تأويل المشاهدات. فمنذ عمله النظري عام 1837 كان يستند الى افتراضات فلسفية حول التطور المادي ومنه تطور الانسان وفق الشروط المادية.
مع هذا لا يوجد ما يدل على ان داروين كان يحمل فكرة مسبقة حول التطور خلال رحلة بيجل، او قبل مشاهداته العلمية. ولو اعتمدنا على ما سجله بهذا الصدد فسنجد بعض الارباك في تأريخ توصله الى نظرية التطور. فمن جانب ذكر بان فكرة التطور بدت واضحة تماماً لديه منذ عام 1839، اي بعد ثلاث سنوات من الانتهاء من رحلة بيجل، ولم تتزعزع هذه الفكرة حتى تم نشرها بعد صبر طويل عبر مشروعه الاساسي عام 1859، كما ذكر ذلك في سيرته وهو بصدد الحديث عما جرى من ملابسات تتعلق بورقة الباحث الفريد رسل والاس. ومن جانب اخر ذكر في ذات السيرة انه اصبح مقتنعاً بقابلية الانواع الحية للتغيير والتطور منذ عام 1837 او 1838. وايضاً اشار في مقدمة (اصل الانواع) الى ان المسودة التي انهاها حول نظرية التطور عام 1844 كانت تعبر عن استنتاجات مؤقتة بدت له محتملة انذاك حول التطور، انما ظهر اقتناعه التام فيما بعد..
واذا اردنا ان تكون هذه التواريخ غير متعارضة، ربما نضطر الى ان نعتبر داروين قد اقتنع بفكرة التطور قبل عام 1839 بسنة او سنتين، ولم يصل هذا الاقتناع الى الوضوح التام الا منذ العام المذكور، اما استنتاجاته المؤقتة والمحتملة لدى المسودة التي اتمها عام 1844 فقد يراد منها الاستنتاجات التفصيلية لنظرية التطور..
مع هذا فان داروين لم يصرح بعقيدته حول التطور الا عند عام 1844، حيث وجّه خطاباً الى القس وعالم التاريخ الطبيعي ليونارد جنينز معلناً فيه نظريته حول التطور لأول مرة. كما اشار فيه الى انه سوف لن ينشر عن هذا الموضوع لسنوات عديدة. وفي سيرته الذاتية ذكر انه لحرصه على تجنب الحكم المسبق فانه لم يقم لمدة من الزمن على كتابة مسودة مختصرة لنظريته حول التطور، وسمح لنفسه لاول مرة ان يكتب مسودة في (35 صفحة) حول الموضوع لاشباع رغبته عام 1842، ثم توسع الملخص الى (230 صفحة) عام 1844، وهي التي اعتمد عليها في اصل الانواع.
وخلال الاربعينات وحتى اواخر الخمسينات من القرن التاسع عشر نشر داروين العديد من البحوث والكتب العلمية في الجيولوجيا والاحياء فضلاً عن يومياته في رحلة بيجل، لكنه لم ينشر اي شيء يتعلق بتحول الانواع. وسبب ذلك هو انه اراد ان يكون عمله اشد اتقاناً وكمالاً، كما اشار اليه في خطابه الى صديقه المقرب مؤسس علم النبات الجغرافي جوزيف هوكر عام 1856، بناء على نصيحة لايل وهوكر لاعداد مادة عن تحول الانواع الحية. وجاء في سيرته الذاتية ان من ضمن اسباب تباطئه في العمل مرضه المزمن، ثم بدأ شغله المحموم عام 1858، فاضطر للاسراع باصدار مشروعه الذي وصفه بالخلاصة كما جاء في مقدمة (اصل الانواع)، حيث قال: «هذه الخلاصة التي انشرها الان هي بالضرورة ليست كاملة، فانا لا استطيع ان اسرد مراجع او استشهادات لتصريحاتي العديدة.. ».
والسبب في هذا التعجل يعود الى المنافسة مع العالم الشاب ألفريد رسل والاس الذي بحث في ذات الموضوع وكانت له رؤية شبه متطابقة مع داروين. لذلك هاله الامر عندما اطلع على اراء والاس المبثوثة في مخطوطة صغيرة ارسلها اليه عام 1858، وهي بعنوان (حول نزعة الضروب الحية للانفصال عن النمط الاصلي). اذ تحدث فيها والاس عن البقاء للاقوى وتغاير الانواع وتحولها، وجاء البحث متفقاً تماماً مع كل ما احتفظ به داروين من مخطوطة وملاحظات حول الموضوع بما في ذلك فكرة الانتخاب الطبيعي واصل الانواع.. وتفترض مخطوطة والاس وجود (مبدأ عام في الطبيعة) يدفع نحو التغايرات المتراكمة على نحو غير محدود حتى يفضي الى ايجاد نوع متميز بذاته. لكن والاس لم يسمِّ هذا المبدأ العام وإن اعرب عن اصابته للهدف بقوله: «كلما فكرت في الامر زاد اقتناعي بانني عثرت اخيراً على قانون الطبيعة الذي طال البحث عنه، الذي يحل مشكلة اصل الانواع». وقد جاء بحثه في صميم الهدف الذي ابتغاه داروين ومتفقاً معه، واستخدم مصطلح الصراع من اجل البقاء مثلما استخدمه داروين ايضاً. لهذا اشار الاخير في مقدمة (اصل الانواع) بانه كان مدفوعاً ومضطراً لنشر هذه (الخلاصة)، وذلك لأن السيد والاس «قد توصل بالكامل تقريباً الى نفس الاستنتاجات العامة التي توصلت اليها عن نشأة الانواع الحية». وكرر هذا المعنى في سيرته الذاتية.
وجاء في هذه السيرة انه لم يتمكن في البداية من كبت الشعور بخيبة الامل لما ظنه من قيام والاس بقطع الطريق امام كل الاعوام التي قضاها في العمل، فضلاً عن احساسه بالاسبقية، لكن هذا الاثر النفسي زال عند تذكّره للانكار الذاتي الذي أبداه والاس، ومرة ثانية أثبت والاس نكرانه لذاته عندما نشر كتاباً أسماه (الداروينية Darwinism) عام 1889، أي بعد وفاة داروين بسبعة أعوام. علماً بأن هذا العالم الجليل أصبح مؤمناً بالتطور عندما تعرّف على حقائق التنوع الجغرافي في أرخبيل المالايو أو جزر الهند الشرقية، وقبلها تعرّف على التنوع الحيوي في حوض نهر الأمازون. وكان يُطلق عليه احياناً «أبو الجغرافيا الحيوية».
أما حول قطع والاس الطريق امام داروين فبسبب انه اضطر الى اصدار (اصل الانواع) رغم نقصه، لهذا لم يكن في البداية راضياً عن نشره وهو يراه ناقصاً يحتاج الى سنوات لاتمامه، كما اشار الى ذلك في مقدمة الكتاب، حتى وصفه بالكريه والملعون، وكما جاء في احد خطاباته لبعض اصدقائه قوله: «وا اسفاه وا حصرتاه لكتابي الكريه هذا، انه مجرد خلاصة بائسة مضغوط وغير واف». وقال ايضاً: «ها قد انتهى كتابي الكريه الذي كلفني قدراً بالغاً من الجهد حتى اكاد اكرهه».
لكن هذه السلبية تحولت لدى داروين الى ايجابية، كما ادركها فيما بعد، حيث ذكر بان هناك عاملاً اخر مسؤولاً عن نجاح (اصل الانواع)، الا وهو حجمه المتوسط، واعتبر نفسه مديناً الى ظهور مقالة والاس، وكما ذكر انه «لو كنت نشرت اصل الانواع على نفس المستوى الذي بدأت في عام 1856 لكان من شأن الكتاب ان يصل الى اربعة او خمسة اضعاف حجم كتاب (اصل الانواع)، وكان من شأن العدد القليل من الناس ان يكون لديهم الصبر الكافي على قراءته».
على اي حال قام كل من العالم الجيولوجي لايل وهوكر بمساعدة داروين بترتيب نشر ورقة بحث مشتركة بينه وبين والاس في احدى المجلات العلمية رغم عدم استئذان الاخير، وحينها لم يلتفت احد الى اهمية الورقة، لكنها وجدت نقداً تقليدياً من قبل البروفسور هوتون، حيث اعتبر مضمون الورقة زائفاً، وان الحقيقة هي ما كان قديماً. وبرر داروين هذا النقد كون الورقة قصيرة تحتاج الى شرح مطول.
ومعلوم ان داروين اشار الى الورقة في مقدمة (اصل الانواع). وصار يُطلق على النظرية بورقة داروين – والاس. وبحسب رأي البعض ان التسمية كانت اجحافاً لحق والاس باعتبار الاسبقية.. هذا وان والاس لم يحتفظ بتماسك نظريته حول الانتخاب الطبيعي فيما بعد، وافترق في ذلك عن داروين كالذي تحدثنا عنه في دراسة مستقلة..
لقد انهى داروين (اصل الانواع) عام 1859 واستغرق العمل المنظم والشاق فيه اكثر من 13 شهراً، وعندما اراد ان يقدمه للمطبعة اقترح عنواناً يضفي عليه صفة الخلاصة، وسماه (خلاصة لاطروحة عن اصل الانواع والتغايرات عن طريق الانتخاب الطبيعي)، لكنه وجد من اقنعه بتغيير العنوان فتم حذف لفظ الخلاصة واقتصر على اصل الانواع، وبقي وصف الكتاب بالخلاصة شاخصاً حتى في مقدمته كما اشرنا. وعند صدوره في العام نفسه تلقى داروين تحفظاً شديداً من قبل علماء التاريخ الطبيعي، وكما ذكر بانه في كثير من الاحيان حُرّفت وجهة نظره بشكل جسيم، وتمت معارضتها بشكل مرير، بل والسخرية منها، لكنه التزم بنصيحة لايل الذي ادان له في تصميمه على عدم الدخول في مناقشات وجدل منذ ان وضع كتبه الجيولوجية قبل صدور (اصل الانواع).
لقد لاقت الداروينية عند صدور الطبعة الاولى لاصل الانواع امتعاضاً وتحفظاً شديدين، لكن بعد الطبعات التالية تحول الموقف لدى رجال العلم وغيرهم الى حفاوة منقطعة النظير، وهو ما اشار اليه داروين، حيث ذكر بانه عندما ظهرت الطبعة الاولى لاصل الانواع قد تحدثتُ الى عدد كبير جداً من علماء التاريخ الطبيعي عن الموضوع الخاص بالتطور، ولم يحدث ولا مرة واحدة ان قوبلت باي موافقة متعاطفة.. في حين تغير الامر فيما بعد وانقلب الموقف لصالحه، حيث ان كل علماء التاريخ الطبيعي تقريباً قد اعترفوا بالتطور. وأحدث الكتاب دوياً منقطع النظير سرعان ما انتشر في ارجاء اوربا وامريكا.
وكما اشار الى ان الكتاب قد تمت ترجمته الى اللغات الاوربية وغيرها كالاسبانية والبوهيمية والبولندية والروسية، بل وحتى اليابانية. كما من الطريف ما ذكره من ظهور مقالة عن الكتاب باللغة العبرية توضح ان النظرية موجودة في كتاب العهد القديم!.
أما حول طبعات الكتاب فقد توالت في عهد داروين الى ست طبعات اخرها عام 1872، وقد اهتم بتنقيحه والاضافة اليه في كل طبعة. ووجد الناقدون ان الكثير من اضافاته وتنقيحاته لم تكن مهمة او حتى انها تخلو احياناً من الترابط المنطقي. أما الطبعة السادسة والاخيرة فقد اتصفت بكثرة التنقيح والتضخيم بفعل تعامل داروين مع الاعتراضات والانتقادات، اذ انشأ باباً مستحدثاً لجمع الاعتراضات المختلفة على فكرة الانتخاب الطبيعي، وهو الباب السابع، وكان مكرساً في الغالب على ما جمعه عالم الحيوان جورج ميفارت من اعتراضات المعترضين، وقد وصفها داروين بانها تبدو كطابور هائل لا يقهر. لكنه حاول ان يرد عليها اجمالاً. واعتبر ان النقطة الوحيدة من جميع اعتراضات ميفارت والتي صدمت العديد من القراء هي ان الانتخاب الطبيعي عاجز عن تفسير المراحل البدائية للتراكيب المفيدة. واعتبر هذا الموضوع مرتبطاً بالتدرج في الصفات المصحوب غالباً بتغيير في الوظيفة، مثل تحول المثانة الهوائية لبعض الاسماك الى رئات. لكن الكثير من هذه الاجوبة اعتبرت بنظر النقّاد غير صحيحة. ومن ذلك ما ذكره دوكينز من ان الطبعة الاولى من (اصل الانواع) كانت تدافع عن قضية الكتاب بافضل من الطبعة السادسة؛ بسبب الاجابات المضللة للرد على النقّاد.
وعموماً انتشر الكتاب في العالم اجمع وحظي بطبعات ولغات كثيرة، وحتى عام 1977 هناك من احصى الطبعات المختلفة للكتاب وبلغات كثيرة فوجدها تبلغ 425 طبعة مختلفة.
وفي (اصل الانواع) لم يتعرض داروين الى مسألة اصل الانسان ونشوئه صراحة رغم انه كان لا يستثنيه من عملية التطور وفق المقاييس الطبيعية، وكما ذكر انه منذ ان اصبح مقتنعاً بنظرية التطور اواخر ثلاثينات القرن التاسع عشر لم يتمكن من تجنب الاعتقاد بان الانسان لا بد من ان يندرج تحت نفس القانون، وانه قام بجمع المذكرات الدائرة حول الموضوع للاشباع الذاتي من دون نية للنشر، لذلك لم يناقش الموضوع في (اصل الانواع). لكن عندما وجد الكثير من علماء الطبيعة قد تقبلوا بشكل تام مذهب تطور الانواع الحية، فقد استغل هذه الفرصة لتناول الموضوع كاملاً بغية نشره، وتأخر صدوره الى عام 1871، اي قبل سنة من صدور اخر طبعة لاصل الانواع. وكان عنوانه (نشأة الانسان والانتخاب الجنسي). والاصطلاح الاخير هو من نحت داروين كما اشار الى ذلك في مقدمة الكتاب.
وفي سيرته الذاتية ذكر انه رغب ان ينشر حول الموضوع تفادياً من ان يقوم بعض رجال العلم باتهامه باخفاء وجهات نظره حول هذه القضية الحساسة، خاصة بعد ان تقبلوا نظريته في (اصل الانواع) وحظي بترحيب منقطع النظير.
كما ذكر في مقدمة الطبعة الاولى من (نشأة الانسان) انه قام طوال سنوات عديدة بجمع مذكرات تتعلق بنشأة الانسان وانحداره، من دون نية للنشر، بل وتصميمه على عدم النشر تجنباً للمزيد من التعصب ضد ارائه، واكتفى ببعض الاشارات العامة لدى الطبعة الاولى من اصل الانواع التي تلوح الى ان الانسان غير مستثنى من عملية التطور.
ومن وجهة نظر اغلب العلماء ان ما جاء به داروين يعتبر من الثورات العلمية الكبرى التي شهدها تاريخ العلم الحديث، وان البعض ينسب اليه الفضل في اكتساب اسئلة السببية (لماذا) صفة المشروعية العلمية وادخال التاريخ الطبيعي برمته الى دائرة العلم، كما هو الحال مع ما يراه عميد الداروينية الحديثة ارنست ماير.. الا انه بنظر بعض الدارسين ان داروين لا يحظى بأي فكرة ابداعية مميزة؛ خلافاً لسائر العلماء الذين غيروا مجرى التاريخ العلمي، وقد يكون هو الوحيد الذي لم يحالفه الحظ في ابتكار فكرة اساسية تخصه من بين جميع العلماء المعروفين. فلا فكرة التطور ولا فكرة الصراع حول البقاء او الانتخاب الطبيعي الذي يدفع بالكائنات الى التطور، ولا غيرها من الافكار تعود الى ابتكارات داروين. وهو ما جعل بعض معاصريه يتهمونه بانه قد نسب لنفسه ما سبق اليه اخرون، لذلك ارفق في الطبعة الثالثة الصادرة عام 1861 ما اطلق عليه (مخطط تاريخي للتقدم الحديث في الاراء عن اصل الانواع)، وهو بمنزلة مسح لاراء الاخرين الذين سبقوه في افكاره، مثل لامارك وجيفري وروبرت جرانت ومؤلف كتاب (الاثار الباقية) الذي مازال مجهول الاسم الى يومنا هذا، وريتشارد اوين والكاتب باتريك ماثيو الذي ابدى استياءه لكونه قد ذكر فكرة الانتخاب الطبيعي عام 1831 دون ان يشار اليه، بالاضافة الى جده ارازموس داروين.
لقد كان داروين على دراية بمن سبقوه الى فكرة التطور، ومنه التطور التدريجي، فقد شاعت الفكرة لدى العديد من علماء القرن الثامن عشر، كما لدى كل من موبرتيوس وبوفون وكاباني وترفيرانوس وجون مارشانت ومالييت وجد داروين ارازموس. لكن يعود الى لامارك الفضل في صياغة تحولية شاملة، حيث بلغت نظريته اوجها مع نشر كتابه الاساسي (فلسفة علم الحيوان) عام 1809. وكل ذلك كان له اثره على (اصل الانواع)..
وهذا ما جعل البعض يسحب ادعائه بان (اصل الانواع) يمثل ثورة في العلم، كالذي صرح به مايكل روس في كتابه (تشارلس داروين) عام 2008، مشيراً الى ان داروين لم يمتلك اي فكرة خاصة به طوال حياته، فقد كان يحمل افكار الاخرين، خلافاً لما تصوّره من قبل في كتابه (الثورة الداروينية) عام 1979، مثلما اشار الى ذلك. مع هذا فقد اعترف بانه لاحظ اشياء لم تثر انتباه غيره وانه مفعم بدقة المعلومات وخصوبة الخيال.
لقد كان داروين يدرك اهميته كعالم مسؤول ومتفوق في بعض المجالات، ومن ذلك انه وصف نفسه بتفوقه على عموم الناس في ملاحظة الاشياء التي تفلت بسهولة من الانتباه، وفي المراقبة لها بشكل دقيق. وكما ذكر في سيرته الذاتية ان مثابرته كانت على اقصى قدر من الضخامة فيما يتعلق بالمراقبة والقيام بالتجارب وجمع الحقائق وانه قابل عدداً من العلماء ووجدهم كثيراً ما احجموا عن التجربة والقيام بالمراقبة، وان حبّه للعلوم الطبيعية كان متصلاً ومتقداً، وانه منذ شبابه المبكر كانت لديه رغبة عارمة للتفهم او ايجاد تفسير لاي شيء يلاحظه.. وقد قامت تلك الاسباب مجتمعة بمنحه الصبر على تقليب الفكر او التأمل لاي مقدار من السنين حول اي مشكلة لم يتم تفسيرها، كما حاول بشكل مستمر الحفاظ على ذهنه حراً بدرجة تجعله يقوم بلفظ اي فرضية مهما كانت محبوبة بمجرد ان تظهر المعارضة من قبل الحقائق لها. كما وصف نفسه كرجل علم ناجح ومؤثر لاتصافه بحب العلم والصبر الذي لا حدود له في تقليب الفكر حول اي موضوع ونصيب عادل من الابتكار علاوة على الحصافة. ومن وجهة نظر هكسلي فان داروين يعبر عن المثل الاعلى المجسد لرجل العلم وانه يمثل سقراط عصره.
[1] معلوم ان من مزايا هذا الفايروس انه خطر على كبار السن وبعض اصحاب الامراض المزمنة الخطيرة كأمراض القلب والجهاز التنفسي، أو من هم ضعيفو المناعة. ومع ان تفسيرات ظهوره عديدة ومازالت تحت البحث، لكن لا يمنع ان يكون الفايروس قد تم تصنيعه عمداً للتخلص من المسنين الذين فقدوا دورهم الوظيفي في الحياة واصبحوا يشكلون عبئاً على المجتمعات الرأسمالية، وفقاً للتطهير الدارويني، حيث البقاء للاقوى.