يحيى محمد
وجد داروين ان من الممكن تفسير التعقيدات المرصودة لدى الكائنات الحية واعضائها ووظائفها وفق عملية تدريجية بطيئة من التغيرات والتحولات التي يدفع اليها الانتخاب الطبيعي في تفاعله مع البيئة، فبسبب الصراع من أجل الحياة فإن أي اختلاف مهما كان طفيفاً سوف يحتفظ به الكائن الحي إن كان مفيداً، ومن ثم ترثه ذريته من بعده فتصبح ذات امكانية افضل للبقاء. وهكذا تتراكم الفوائد باستمرار وتتطور الكائنات الحية وتصير اعضاؤها معقدة أكثر فأكثر، كما هو ملاحظ في تكوين التراكيب المدهشة لاذن الخفاش وعيون الكثير من الحيوانات، ومنها الانسان، ومثل ذلك صنع الغرائز المذهلة التي تسلكها الحيوانات المختلفة، كالنحل الذي يقوم بصنع الخلايا الشمعية. ومن وجهة نظر داروين ان الانتخاب الطبيعي يعمل بالتدريج البطيء على قيادة الحيوانات باقتدار اكثر فاكثر، مثل النحل الذي يتولى اعمالاً مذهلة دون ان يعرف حكمة ذلك.
هذه هي فكرة عامة حول التطور التدريجي البطيء بقيادة الانتخاب الطبيعي، لكنها تخلو من اي برهان. وكان داروين يعي ذلك ويشير اليه، وانه مضطر لاتخاذ مسلك لتفسير ظواهر حياتية عديدة مستقلة قابلته عوض البحث غير المجدي عن برهان مباشر يدل على التطور.
وبحسب عالم التاريخ الطبيعي لويس اغاسيز فان سبب تمسك داروين وغيره بالتطور التدريجي انما يعود الى تجذر مفهوم الاستمرارية عند أتباع المذهب الطبيعي وانجذابهم له، مما جعلهم يميلون لتفسير الطبيعة وفق المصطلحات التطورية. ونبّه إلى أن السعي لإثبات ذلك هو أمرٌ عبثي. وسبق للفيلسوف الالماني لايبنتز ان استند الى مبدأ الاستمرارية كقانون عام للطبيعة، حيث لا شيء يحدث بالقفزات والطفرات، وانما الطبيعة تنمو وتتطور بالتدريج. وكان عالما التاريخ الطبيعي ستيفن جاي جولد ونايلز ايلدردج يعتبران الاعتقاد بالتدرجية هو موقف ميتافيزيقي مترسخ في التاريخ الحديث للحضارات الغربية؛ وهو ليس مستمداً من الملاحظات التجريبية المستقرأة من الدراسة الموضوعية للطييعة. ولعالم النبات السويدي كارل لينيوس (1707-1778) عبارة شهيرة تلخص هذا الموقف بالقول: (ان الطبيعة لا تعمل بالقفزات)، وهي ذات المبنى الذي سبق اليه الفيلسوف لايبنتز كما اشرنا.
مع هذا كان داروين مضطراً للتسليم بنظرية التطور التدريجي، فبدونها سيواجه ثلاث نظريات اعتبرها غير علمية. فاما نظرية الخلق المستقل التي اعتبرها اعجازية غير علمية. او نظرية القفزة التطورية، وهي من وجهة نظره تشبه النظرية الخلقية او الاعجازية لصعوبة تفسيرها، لذا اعتبر ان من يعترف بالتحولات الكبيرة والفجائية مثل جورج ميفارت هو كمن يدخل في عوالم المعجزات وترك عوالم العلم. او نظرية لامارك التي تتضمن الدوافع الداخلية الموجهة، وهي بنظره ميتافيزيقية غامضة، فمثلاً انه استبعد تفسير تطور استطالة رقبة الزرافة بالاعتماد على القوى والموجهات الداخلية التي عوّل عليها لامارك.
لهذا فانه لم يجد نظرية علمية مقبولة غير التطور التدريجي.
وشبيه بهذه النتيجة ما ذهب اليه عالم الحيوان والتشريح المقارن ديفيد واتسون D.M.S. Watson، اذ كتب مقالة حول التكيف بمجلة الطبيعة عام 1929 اوضح فيها ان التطور يعتبر مقبولاً عالمياً او لدى علماء الحيوان؛ ليس لأنه يمكن ملاحظة حدوثه، او لكونه مدعوماً بحجج متماسكة منطقياً او من خلال أدلة ليكون صحيحاً، بل لأنه يلائم جميع حقائق التصنيف وعلم الحفريات والتوزيع الجغرافي، ولأنه لا يوجد تفسير بديل ذي مصداقية ينافسه، لأن البديل الوحيد في قباله هو الخلق الخاص (المستقل)، وهو أمر لا يصدق.
لكن اذا كان داروين مضطراً لاتخاذ النظرية التدريجية مع ما كان ينتابه من بعض الشكوك؛ فان الكثير من اتباعه قد اصابهم الغلو في اعلاء شأن نظريته، كما هو الحال مع عالم الحيوان المعاصر ريتشارد دوكينز الذي اعتبر نظرية التطور التدريجي ليست صحيحة فحسب، بل انها الوحيدة المعروفة التي تستطيع ان تحل من حيث المبدأ لغز وجودنا. لذلك رأى ان التشكيك بها يشبه التشكيك بحركة الارض حول الشمس.
ليس هذا فحسب، بل تحولت الداروينية الى ايديولوجيا يعادى من يعارضها من العلماء. وبلا شك ان هذه الدوغمائية بعيدة جداً عن الروح التي كانت تنتاب مؤسس النظرية نفسه، خاصة انه هو ايضاً سبق له ان عانى من المعاداة للسبب ذاته.
لقد انتقد داروين ما اساء فهمه العديد من الكتاب معترضين على مصطلح الانتخاب الطبيعي الذي يقود عملية التطور التدريجي. فبعضهم تصور انه يسبب التغاير او التمايز بين الكائنات الحية، لكن داروين رد على ذلك بان الانتخاب الطبيعي لا يتضمن الا الحفاظ على التغايرات كما تظهر وعندما تكون مفيدة للكائن الحي تحت تأثير ظروفه. أما التغايرات المضرة فانها تؤول الى الاندثار ويتم اهمالها دون ان تتأثر بهذا الانتخاب.
وهذا ما يعني كما صرح به عالم النبات الالماني هوجو دي فريس بداية القرن العشرين ان الانتخاب الطبيعي قد يفسر بقاء الأصلح، لكنه لا يمكن أن يفسر ظهور الأصلح او وجوده، او انه يفسر بقاء الاكثر تكيفاً دون ظهوره كما يشير الى ذلك عدد من علماء الاحياء الداروينيين.
وحقيقة ان المشكلة الاهم هي بظهور الكائن الحي لا ببقائه وشدة تكيفه؛ سواء كان الاصلح والاكثر تكيفاً او غيره. بمعنى كيف نفسر ظهور الكائنات الحية وتمايزات اعضائها واجزائها؟ ولو اردنا تضييق مساحة السؤال فسيكون كالتالي: كيف نفسر وجود التغاير لهذه الكائنات؟
ويعترف داروين باننا نجهل قوانين التغاير جهلاً عميقاً جداً، فنحن لا نستطيع ان ندعي ولا حتى في حالة واحدة من مائة حالة يمكننا ان نحدد السبب وراء تغاير هذا الجزء او ذاك عن الجزء نفسه في الاصل.. وكرر هذا المعنى من الجهل الفضيع عن السبب وراء كل تمايز بسيط او اختلاف فردي، بما في ذلك ما يحصل من تمايزات لدى حيواناتنا المدجنة. وفي بعض المواضع اعتبر ان التمايز الحاصل بفعل الطبيعة ينتج عبر المصادفة، لكنه استدرك وقال بان هذا تعبير خاطئ لجلهلنا للاسباب التي تؤدي الى التمايز. وبلا شك ان داروين لا يشير الى ما يدل على وجود امر موجه لهذه التمايزات؛ سوى بعض الحالات التي افترض فيها وجود خالق كفيل بوضع قوة لصنع التعقيدات العالية التنظيم، كالعين مثلاً. وعدا ذلك انه اعتبر التغيرات تحدث بلا توجيه بسبب الجهل، أما الانتخاب الطبيعي فهو يحافظ على التغير مادام مفيداً. بمعنى ان هذا الانتخاب لا يصنع التغير ومن ثم التطور، بل يحافظ عليه عندما يكون مفيداً.
والى يومنا هذا ما زال التحدي قائماً امام الداروينية حول شرح كيفية ظهور اصل التمايزات او الصفات المستجدة، كالذي اشار اليه فاغنر ولينش، مثل شرح اصل الازهار والريش وصدفة السلاحف، وكذا شرح اصل وتشعب شبكات الجينات المنظمة المستجدة التي تعطي الابتكارات المورفولوجية هويتها النمائية والتطورية الفريدة، وهو المجال المعروف بالتطور النمائي (او الايفو – ديفو: evo - devo).
مهما يكن فان المحصلة النهائية لنظرية التطور الدارويني هي انها صيرورة عشوائية صدفوية عرضية تاريخية. ومنها يصبح ما يبدو لنا من تصاميم عظيمة ما هي الا نتاج تقلبات الصدفة ولو بتفاعلها مع ضرورات الانتخاب الطبيعي. لكن يبقى الاساس يتمثل في الصدفة والعشوائية وليس بضرورة الانتخاب الطبيعي. وان التصميم الاعمى انما يعود في الاساس الى العشوائية لا الانتخاب المذكور.
ومن حيث الدقة تتأسس نظرية داروين على ثلاثة عوامل، هي: التغايرات المتنوعة، والانتخاب الطبيعي، والوراثة. وتعتبر التغايرات المتنوعة عشوائية، ويعترف داروين انه يجهل اسبابها الحقيقية. أما الانتخاب الطبيعي فهو لا يعمل شيئاً من دون هذه التغايرات، حيث يُبقي ويحافظ على المفيد منها فيما يزول غير المفيد، وهذا ما جعل البايولوجي السويدي سورين لوفتروب يعبر عن علاقة الانتخاب الطبيعي بالتمايزات بقوله: “لا انتخاب بدون تمايز، ولا تطور بدون انتخاب”.
كذلك انه لا بد من توارث هذه الخصائص المفيدة التي يحافظ عليها الانتخاب الطبيعي. وكان داروين يتبنى نوعين من الوراثة، احداهما ما تُعرف بالوراثة المكتسبة كما تلقفها من لامارك ابتداءاً منذ الطبعة الاولى لأصل الانواع. فكما اشار في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (نشأة الانسان والانتقاء الجنسي) انه قد صرح في الطبعة الاولى لـ (اصل الانواع) بان وزناً كبيراً يجب ان يعزى الى التأثيرات الموروثة للاستعمال وعدم الاستعمال فيما يتعلق بكل من الجسم والذهن. ومعلوم انه ذكر فصلاً في (اصل الانواع) يتعلق بالاستعمال وعدمه كما في بعض الطيور التي لا تتمكن من الطيران، وكذا عيون بعض الحيوانات التي تفتقد للرؤية، وغيرها.
أما النوع الثاني من الوراثة التي تبناها داروين فهي المسماة بالتوليفية او المختلطة، وقد شكلّت البنية الرئيسية لمشروعه في الوراثة، لكنها كانت خاطئة ولم يتبين الحال الا بعد وفاته بحوالي عقدين من الزمن، رغم ان اصول الوراثة الصحيحة قد اكتشفت اواسط ستينات القرن التاسع عشر من قبل مندل لكنها لم تكن معروفة لدى العلماء. وكان داروين يعتمد على الوراثة التوليفية او المختلطة. وهي تعني توليد صفات توليفية بشكل متوسط من الابوين للابناء، فاذا كان لون الشعر لدى الاب ابيض، ولدى الام اسود فسيحظى الابن بخليط متوسط من هذين اللونين، اي ان شعره سيكون رمادي اللون.
وقد رأى البعض ان الاعتماد على هذه الوراثة لا يتوافق مع الانتخاب الطبيعي. فمثلاً كتب فليمنغ جينكينز عام 1867 قائلاً: “من المستحيل أن يحفظ أي نوع من التنوعات العرضية في فرد وحيد، مهما كان ملائماً للحياة، وينتقل عبر الانتخاب الطبيعي، لأن ما هو أكثر عدداً وأقل أهمية، سوف يفوق هذه الميزة –مهما كانت– كليًّا. فمثل هذه التنوعات سوف تُغمر تماماً مثلما لا يستطيع أبيض واحد، ولو كان أكثر تفضيلاً ، تبييض أمة من الزنوج”.
وفي القبال اعترف داروين في الطبعة الخامسة لاصل الانواع بهذه الصعوبة التي ذكرها فليمنغ وصرح قائلاً: “لقد رأيت أن عملية الحفاظ على أي من انحرافات البنية العرضية في حالة الطبيعة، مثل المسخ، سوف تكون حدثاً نادراً؛ وأنه في حال الحفاظ عليها، سوف تُفقد عموماً بوساطة التهجين مع الأفراد الطبيعيين. مع ذلك، وإلى حين قراءتي لمقالة قديرة وقيمة في كتاب (مراجعة لشمال بريطانيا( عام 1867، لم أكن قد قدرت بعدُ كم هي نادرة استدامة التنوعات الفردية، سواء الطفيفة منها أو الملحوظة بقوة”.
لقد حظيت الداروينية في حياة صاحبها بقبول واسع النطاق، ثم سرعان ما تراجعت منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، واستمر ضعفها لاكثر من خمسين سنة. ومن بعد ذلك زاد عدد مؤيديها قبل ان تتعرض الى النقد من جديد.. وهكذا كانت تقوى وتضعف دواليك حتى يومنا هذا.
وبلا شك ان اغلب ما اصاب هذه النظرية من ضعف يتعلق بالانتخاب الطبيعي الذي وجد نقداً من قبل العلماء، تطوريين وغير تطوريين، فهناك صعوبة مفادها “انه ليس من السهل دائماً معرفة فيما اذا كانت هذه الصفة مفيدة، وفيما اذا كان وجودها يتوافق فعلاً مع ما يفرضه الانتخاب الطبيعي”. كما اعتبرت هذه النظرية للانتخاب الطبيعي لا تستثني حالة الانسان، الامر الذي ادى الى امتعاض الكثير من العلماء، وبعضهم زملاء واصدقاء داروين، مثل عالم النبات أسا غري وعالم الحشرات توماس ولاستون، وصديق داروين القديم ومستشاره تشارلس لايل الذي انتهى الى قبول فكرة التطور كشيء ممكن بعد قراءته لأصل الانواع. كذلك هربرت سبنسر الذي اعلن بعد وفاة داروين باحدى عشرة سنة فكرته في مقال بعنوان (عدم ملائمة الانتخاب الطبيعي). يضاف الى اخرين مثل جورج ميفارت الذي استبدل الانتخاب الطبيعي بقوة داخلية في الكائنات تدفع نحو التطور، وقد استثنى من ذلك عقل وروح الانسان البعيدين عن هذه العملية.
وحتى والاس الذي كانت اراؤه متفقة مع اراء داروين قد تغير رأيه وابتعد عن الرؤية التي شارك فيها نظيره. فمنذ عام 1869 بدأ والاس يهتم بمذهب الارواح وانه لم يتقبل تفسير تكون المخ البشري ونشأة الذكاء تبعاً للانتخاب الطبيعي، كما كتب في ذات العام مقالاً في احدى المجلات العلمية ركز في معظمه على جيولوجيا لايل، لكنه استطرد في موضوع الانتخاب الطبيعي فكتب انه لا يمكن لهذه الالية ان تنتج المخ البشري ناهيك عن «الطبيعة الاخلاقية والثقافية الارقى للانسان». واشار الى ان العالم الحي محكوم بالطبع بالقوانين، وفي الوقت ذاته ان عمل هذه القوانين خاضع تحت مراقبة ذكاء يحكمه، ومن ثم فان وجه التغايرات هو الذي يحدد تراكمها بحيث تنتهي الى ابداع قدرات الانسان واكثر الكائنات روعة. وكان والاس قد اعتبر ايضاً ان الصلع لدى ذكور الانسان يصعب تفسيره عبر الانتخاب الطبيعي. فيما كان داروين يفسره وفق الانتخاب الجنسي مع ظواهر بشرية اخرى مختلفة، حيث يختلف الذكر عن الانثى في خواص كثيرة حتى من جهة تعدد الزوجات التي هي امر طبيعي لدى داروين، معتبراً المرأة تشاكل الذكر الصبي لا البالغ.
ومن الاهمية بمكان التأكيد على ان الانتخاب الطبيعي رغم انه يعتبر لدى داروين الوسيلة الاكثر اهمية، لكنه ليس الوحيد للتعديل او التطور، لذلك اشار الى ان استنتاجاته قد تم تحريفها بشكل كبير لدى المعترضين؛ معتبرين اياه بانه يجعل التطور او التعديل قائماً على وجه الحصر على الانتخاب الطبيعي، وردّ على ذلك مذكّراً بانه في مقدمة الطبعة الاولى لاصل الانواع اشار الى ان الانتخاب الطبيعي يمثل الوسيلة الرئيسة، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة للتعديل، حيث يوجد ما هو اقل اهمية منه مثل الانتخاب الجنسي، واستعمال العضو وعدم استعماله كما في الاعضاء الضامرة احياناً. وكرر هذا المعنى من الاعتراض والاجابة ذاتها في المقدمة الثانية لكتاب (نشأة الانسان والانتخاب الجنسي)، فأشار الى ان المنتقدين قد افترضوا انني اعزو جميع التغيرات بما فيها القدرة الذهنية للانسان الى الانتخاب الطبيعي.
لذلك جعل العامل الاهم في نشوء الانسان او ذكائه والتمايز بين اعراقه يعود الى الانتخاب الجنسي لا الطبيعي، حتى انه ضمّن عنوان كتابه حول اصل الانسان بما يشير الى الانتخاب الجنسي صراحة كردّ على منتقديه. كما اعترف بدور الجمال في العملية التطورية، لكن ليس لامتاع الانسان، وانما لاجل الجمال ذاته ولاغراء الازواج الحيوانية تبعاً للانتخاب الجنسي. وقد اعترض على المذهب القائل بفكرة الجمال في الكائنات الحية لابهاج الانسان.
ومرة اخرى اتهم بعض الناقدين داروين بانه لم يتمكن من تفسير الكثير من التفاصيل الجسمية للانسان من خلال الانتخاب الطبيعي فاضطر الى اختراع الانتخاب الجنسي. لكنه اعاد الردّ بانه كان على وعي من التفسير بمبدأ الانتخاب الجنسي حتى في الطبعة الاولى لكتاب (اصل الانواع). واعترف بان معالجته للانتخاب الجنسي في كتابه حول نشوء الانسان قد جاءت متوسعة الى حد المغالاة مقارنة بما جاء حوله في (اصل الانواع)، واعتبر ذلك شيئاً لم يتمكن من تفاديه.
مع هذا نجد ان داروين قد اشار في سيرته الذاتية الى ان جميع الاعضاء الجسدية والذهنية للكائنات الحية قد تم تطورها من خلال الانتخاب الطبيعي او البقاء للاصلح، بالاضافة الى قانون الاستعمال كطرق لتطوير الاعضاء الجسدية والذهنية. وأردف قائلاً: بأن جميع الكائنات الواعية قد تم تطويرها بمثل هذه الطريقة من خلال الانتخاب الطبيعي.
وتعتبر هذه الاشارة داعمة لاتهام داروين بأنه يعزو التغيرات في القدرات الذهنية للانسان الى الانتخاب الطبيعي قبل صدور كتابه الخاص بنشأة الانسان.
مهما يكن وجدت العوامل الثانوية في التطور كما ذكرها داروين رفضاً حاسماً من قبل اتباع الداروينية الحديثة. وبقي التعويل منصباً على الانتخاب الطبيعي دون غيره من العوامل الاخرى، بالاضافة الى عامل الطفرات الجينية التي تخضع للعشوائية. ففي منتصف الخمسينات من القرن العشرين ظهرت دراسات تتبع الداروينية الجديدة وهي تستهدف تقديم هيكل تطوري وظائفي حصري، حيث قال اصحابها انه يمكن تفسير جميع التغيرات التطورية عبر الانتخاب الطبيعي التراكمي، وكان من بين من عمل في هذا الاطار علماء الوراثة مثل فيشر وهالدان وسيوارت رايت، وعلماء البايولوجيا مثل ارنست ماير وجوليان هكسلي، وعالم الحفريات سيمبسون. ومنذ الخمسينات وحتى الثمانينات كان هناك تشديد على التكيف لدى الداروينية الجديدة اكثر مما جاء في (اصل الانواع)، خاصة طبعاته الاخيرة التي أُتهم داروين فيها انه كان يغازل لامارك كما هو تعبير ستيفن جاي جولد، رغم ان اعتماد داروين على آليات لامارك قد سبق ذلك منذ الطبعة الاولى لأصل الانواع كما اشرنا من قبل.
عموماً ان الداروينية الحديثة تمسكت بالانتخاب الطبيعي كعامل منفرد في تفسير عمليات التطور المختلفة.
ومن الناحية التاريخية يبدو ان اول من اقتصر على الانتخاب الطبيعي دون غيره من العوامل الاخرى هو ألفريد رسل والاس في كتابه (الداروينية) عام 1889. فهو لم يتقبل ان يكون الانتخاب الجنسي عاملاً للتطوير، كما فسّر استخدام العضو وعدم استخدامه طبقاً للانتخاب الطبيعي، كذلك رفض الوراثة المكتسبة، واستبدل الوراثة التوليفية او المختلطة بنظرية اوجست وايزمان في الطفرة واستمرارية البلازما الجرثومية، او امرار الصفات الوراثية من جيل الى اخر بواسطة الخلايا الجنسية دون الجسمية، واعتبر اراء وايزمان والانثروبولوجي فرانسيس جالتون حول الوراثة متشابهة ومهمة، لذلك عدّهما مكتشفين لأهم مساهمة في نظرية التطور بعد ظهور (اصل الانواع). ومن وجهة نظر دينيس بويكان فان وايزمان يمثل أباً للداروينية الجديدة، ويعتبر اول من رفض الوراثة المكتسبة استناداً الى مجموعة من الحجج القوية.
وقد استثنى والاس العقل البشري من عملية التطور والخضوع الى قانون الانتخاب الطبيعي. فرغم انه اعتبر جسد الانسان متطوراً عن الحيوان بموجب هذا القانون؛ لكن طبيعته العقلية بملكاتها الفكرية والفنية والاخلاقية لم تتطور عن الحيوان، وانما لها منشأ اخر يتعلق بعالم الروح غير المرئي. وهو موقف شبيه بالرؤية الدينية التي تجعل جسد الانسان ناشئاً من التراب فيما نشأت نفسه من النفخة الروحية الالهية. أما من حيث الاستدلال فقد رأى والاس ان قانون الانتخاب الطبيعي هو قانون جامد يعمل على حياة او موت الافراد وفقاً لوجود الخصائص المفيدة او غير المفيدة، وهو ما لا ينطبق على المواهب والملكات الفكرية والفنية والاخلاقية التي هي من ثمار العقل البشري، مشيراً الى أن حب الحقيقة وسعادة الجمال والشغف بالعدالة وإثارة البهجة التي نسمع بها عن أفعال التضحية بالنفس الشجاعة، هي صنائع في داخلنا ذات طبيعة أعلى دون ان تتطور عبر قانون الصراع من أجل البقاء والوجود المادي.
وكان وايزمان هو الاخر كما اشار والاس يعتقد بان المواهب البشرية لم تنشأ عن طريق التطور المادي والخضوع لقانون الانتخاب الطبيعي، حيث لا تعتمد الحياة على وجود هذه المواهب ومن ثم لا تخضع لمنطق هذا القانون.
وقد اطلق جورج رومانيس على مذهب والاس الذاهب الى نظرية نقية للانتخاب الطبيعي بمذهب (الوالاسية Wallaceism). ويمثل هذا التفكير النقي للانتخاب الطبيعي الاساس الذي قامت عليه الداروينية الحديثة او الجديدة.
لكن الانتخاب الطبيعي الذي عولت عليه الداروينية الحديثة لم يخلُ بدوره من انتقادات تتعلق بتضخيمه، مثلما سبق انتقاد داروين لذات المشكل. ويحضرنا في هذا المجال كتاب (ما الذي ارتكبه داروين من خطأ What Darwin got wrong) الصادر عام 2010 للباحثين في علم الادراك فودور وبالماريني، فقد جاء فيه انه لا احد يعرف لحد الان كيف يعمل التطور، وان نظرية الانتخاب الطبيعي تحمل خطأً كبيراً قد يكون قاتلاً. والباحثان يتساءلان فيما اذا كان يمكنهما التصديق حقاً بانهما وجدا عيوباً قاتلة (fatal flaws) في نظرية كانت لفترة طويلة محل اجماع. وقد شددا على وجود قيود داخلية في الكائن الحي هي اعظم تأثيراً من دور البيئة، مثل تعقيد المسارات النمائية والبصمة الجينية والعوامل فوق الجينية وضجيج النماء وما الى ذلك.
وفي حياة داروين واجه اتهاماً من قبل صديقه عالم النبات جوزيف هوكر ومستشاره لايل في تضخيمه لدور الانتخاب الطبيعي، ففي رسالة بعثها اليه هوكر عام 1862، جاء فيها ان الانتخاب الطبيعي ليس خلاقاً، وان التنوع الوراثي هو ما يتيح للاختلافات ان تظهر، وليس التهجين ولا الانتخاب الطبيعي.. الا ان الاخير يعجل بالعملية ويضاعف من قوتها. وكما قال: “ما زلت متمسكاً للغاية بعجز التهجين فيما يخص اصل الانواع، واعتبر ان التغاير في الحيوانات هو بلا حدود. ويجب ان تتذكر انه لا التهجين ولا الانتخاب الطبيعي صنعا تشعبات الافراد البشرية، انما ببساطة ان من صنع ذلك هو التنوع الوراثي. وبلا شك ان الانتخاب الطبيعي قد عجّل بالعملية وكثّفها اذا جاز التعبير.. وباختصار ان هذا الانتخاب لا يستحق ان يُتخذ لأن يلعب دوراً على الاطلاق.. ولو انك تمسكت بان الانتخاب الطبيعي يمكنه ان يُحدث خلقاً، اي ان يخلق شخصية، فسينهار مذهبك بالكامل الى الارض، اذ انه عاجز مثل الاسباب الفيزيقية عن إحداث التغايرات، بل ان قانون (الشيء سوف لا ينتج مثيله) هو المهيمن في نهاية المطاف، لكنه غامض مثل الحياة نفسها. وهذا ما شعر لايل وأنا بانك فشلت في ايصاله بالقوة الكافية لنا وللجمهور. الامر الذي جعل خمسين بالمائة من الوسط العلمي يرفضون مذهبك. انك لم تبدأ كما ينبغي بمهاجمة العقائد الخاطئة القديمة القائلة بأن (الشيء ينتج مثيله). اذ يجب ان يكون الفصل الأول من كتابك مخصصاً لهذا الموضوع دون شيء آخر. ولكن هناك بعض الحقيقة التي أراها الآن في الاعتراض عليك، وهي أنك تجعل الانتخاب الطبيعي قوة ميئوساً منها في حل المشكل، لأنك تفعل ذلك - كما يبدو - من خلال تجاهل التفكير في حقائق التغايرات المستمرة بلا حدود”.
هذه فقرات منتخبة من خطاب هوكر في نقده لداروين، وقد ردّ الاخير عليه باعترافه باهمية ما جاء فيه من حقيقة، فقال: “إن جزءاً من رسالتك أذهلني وقلبني رأساً على عقب، حيث تذكر أن كل اختلاف نراه ربما يكون قد حدث من دون اي انتخاب. وأنا اوافق على ذلك وكنت متفقاً عليه دائماً، لكنك محق حول الموضوع، ونظرت إليه من الجانب المعاكس والجديد تماماً، وقد ادهشْتني عندما اخذتني الى هذه الناحية.. وكما يعتقد الرجال مثلك أنت ولايل أني ابالغ في توظيفي للانتخاب الطبيعي، وبذلك فانهم يحسمون الامر ضدي. ومع هذا فان من الصعب عليّ أن أعرف كيف يمكنني وضع جمل أقوى في جميع أجزاء كتابي. ربما كان ينبغي ان يتم اختيار العنوان بشكل أفضل، كما أشرت ذات مرة سابقاً”.
وفي (اصل الانواع) ردّ داروين على من اتهمه بانه يتحدث عن الانتخاب الطبيعي وكأنه قوة فعالة او إله خلاق، وأجاب بان تعبيراته مجازية مثلما يتم التعبير عن استخدام دور الجاذبية المتحكم في حركات الكواكب، وعادة ما تكون هذه اللغة مهمة للايجاز وتيسير المعنى المطلوب.
لقد اجتهد داروين في ان يجعل افكاره النظرية متوافقة مع المفاهيم الابستيمية لجون هرشيل، في حين ان الاخير اعتبر الانتخاب الطبيعي - الذي ركز عليه داروين في نظريته - قانوناً من خليط غريب عجيب، بمعنى هو نظرية ما هب ودب. ومعلوم ان هرشيل وهويل كانا يعتقدان بان العالم الحي يعبر عن مقاصد الله، خلاف ما توصل اليه داروين الذي رأى ان عملية التطور تبقى طبيعية ليست موجهة او غائية.
وبحسب زعيم الداروينية الجديدة ارنست ماير فان داروين لم يوفق في اختياره لمصطلح (الانتخاب الطبيعي)، اذ يوحي بوجود قوة عاقلة، في حين ما هو الا تطبيق لقانون البقاء للاصلح، وان القوة الانتخابية ما هي الا محصلة تأثر كيان الفرد بمجموعة العوامل البيئية المحيطة به. وفعلاً ان داروين صاغ المصطلح ليكون على شاكلة ما لاحظه من عمليات تكوين الاعراق المفيدة من خلال انتقاء الانسان وخياراته. فكان لهذا الانتقاء ذي الطابع العقلي الموجه بصمة في مصطلح (الانتخاب الطبيعي).
مع هذا فان الاعتراف بان الانتخاب الطبيعي يحافظ على التغيرات المفيدة للكائن؛ انما يقتضي شيئاً من التوجيه الضمني الداخلي لدى الكائنات الحية، وهو ما يعكس الطابع الغائي المتأصل في بنيتها الداخلية؛ حتى لو اضفي على الانتخاب الطابع الحتمي كما يرى ذلك الكثير من اتباع الداروينية الحديثة. والا كيف يميز هذا الانتخاب بين التغيرات المفيدة وغير المفيدة، وهي امور لا تخضع للقوانين المادية او الاسباب الفيزيائية والكيميائية. ويؤيد هذا المعنى ما ظهر من نتائج علمية حديثة تدعم ظاهرة التوجيه، ابرزها ما له علاقة بالمعلومات المشفرة الحيوية التي تعود اليها ظاهرة التخلق ونمو المخططات الجسدية ضمن البنية الداخلية لخلايا الكائن الحي خارج الدنا والجينوم، كالذي يؤكد عليه علماء التطور النمائي (الايفو ديفو). وباعتبار ان عملية التخلق ليست منفصلة عن مخطط هذه المعلومات (الحاسوبية)، لذا تتصف بالتوجيه الغائي لدقتها وتعقيدها المدهش. وعليه اذا كان هناك شيء يستدعي التغير المتوارث في بنية ووظيفة الكائن الحي فان ذلك لا يتحقق ما لم يحصل تغيير في مخطط تلك المعلومات، وعندما يكون التخليق ناجحاً فانه يعكس مدى الدقة المطلوبة في اجراء هذا التغيير كي يكون مفيداً ومناسباً للكائن الحي، وهو ما يعكس حالة التصميم والتوجيه الداخلي لدى الكائنات الحية.
وبلا شك ان هناك من اعتقد بوجود ميول متأصلة للتغير الموجه خلافاً لفكرة الانتخاب الطبيعي الاعمى. فمن التفاصيل المدهشة ما يتعلق باسنان الحيتان التي بعضها يختلف عن البعض الاخر بين القوية والاوتاد البسيطة، فهل كان هذا التغير قائماً على الانتخاب الطبيعي؟ لقد اعتبر الكثير من علماء الحفريات ان لهذه الظاهرة دلالة على التطور الموجه. فمثلاً كتب عالم الحفريات اوزبورن يقول: “اقنعتني دراستي للاسنان عند عدد كبير من مجموعات الثدييات في الازمنة الماضية ان هناك ميولاً متأصلة للتغير في اتجاهات معينة، حيث ان تطور الاسنان مرسوم سلفاً بفعل تأثيرات وراثية ترجع لمئات الالاف من السنين في الماضي. اثيرت هذه الميول بفعل اسباب محرضة محددة، واتخذ تقدم تطور السن شكلاً محدداً وهذا ما حوّل ما كان امكانية حتى الان الى امر واقع”.
كما رأى مايكل دنتون بان نموذج التطور باكمله كان مخططاً له قبل حدوثه في نظام الكون منذ البداية، مع اعتقاده بان معظم الصفات المستجدة قد تحققت بفعل قفزات نسبية.
إذاً ننتهي الى ان التطور النوعي لو كان حقيقة فعلية فان تفسيره لا يصدق بمعزل عن التوجيه الضمني للكائنات الحية وتعقيداتها المدهشة، من ابسطها تركيباً الى اعظمها تعقيداً، بلا استثناء. فأدنى قراءة احتمالية لظهور هذه التعقيدات المذهلة سوف لا تدع مجالاً للقول بان ذلك حدث بفعل العشوائية والعمى الانتخابي الطبيعي. لهذا اصبح الجميع يقر بأن الكائنات الحية تبدو مصممة، فهي من حيث الظاهر لا يمكن وصفها بغير هذا العنوان الخاص بانها (تبدو مصممة)، ومن حيث الحقيقة ليس هناك من تفسير لما تبدو عليه هذه الكائنات من تصميم غير انها مصممة بالفعل. الامر الذي ادركه الكثير من المعاصرين.