يحيى محمد
ماذا لو تقدمت البايولوجيا مثل الفيزياء؟!
لعل اكثر العلوم الطبيعية شهدت انحيازاً عظيماً هو ما جرى في علم الاحياء، وبالتحديد ضمن دائرة نظرية التطور الدارويني التي مازالت سائدة لدى المجتمع العلمي منذ نشأتها وحتى يومنا هذا. وقد اصبح من المسلم به تقريباً ان علم الاحياء ليس له معنى خارج نظرية التطور، وكما قال دوبزانسكي Dobzhansky في اوائل القرن العشرين: لا شيء في علم البايولوجيا يمكن ان يكون له معنى الا في ضوء التطور. وعلى هذه الشاكلة جاء عنوان مقالة أجيت فاركي Ajit Varki عام 2012 كالتالي: ‹‹لا شيء في الطب له معنى الا في ضوء التطور››.
على ان ما يراد من ذلك هو ان علم الاحياء لا يفهم الا من خلال النظرية الداروينية باعتبارها السائدة من غير منافس.
وحقيقة ان العلوم الطبيعية قائمة على انحياز فلسفي يمثل اصلاً موجهاً للتفسير والتوليد المعرفي. فهو يحمل قضية اساسية ذات قالب منهجي صوري تم تطبيقه على مختلف الدراسات العلمية كأداة قبلية تجعل اطار البحث مستبعداً كل ما قد يعارضه. ويتمثل هذا الاصل الانحيازي بالمنهج المادي والطبيعي الرافض لقبول النظريات الخارجة عن اطاره مهما كان لها من دعم علمي تجريبي ومنطقي. لذلك تواجه هذه النظريات آذاناً غير صاغية، خاصة حول ما جرى في علم الأحياء الذي ظل يحاكي فيزياء القرن التاسع عشر، رغم ان العلم الاخير قد تجاوز ذلك العصر وانفتح على آفاق جديدة رحبة، خلافاً للعلم الأول.
ويحضرنا حول النزعة المادية الطاغية في العلم كأصل موجه للاطار العلمي وتفكيره ما صرح به عالم الوراثة والتطور الامريكي ريتشارد ليونتن عام 1997، اذ قال: ‹‹إن استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تتعارض مع الحس المشترك هو مفتاح لفهم الصراع الحقيقي بين العلم والمفارق للطبيعة. نحن نأخذ جانب العلم رغم سخافة بعض أبنيته الفكرية، ورغم فشله في الوفاء بالعديد من وعوده المغالية بالصحة والحياة، بل ورغم تساهل المجتمع العلمي في تقبل القصص المفتقرة للأدلة.. وذلك لأننا ملتزمون سلفاً بالمادية. ليس لأن أساليب ومؤسسات العلم تجبرنا بطريقة ما على قبول تفسير مادي للعالم المدرك، بل على العكس، فإننا مضطرون بفعل التزامنا المسبق بالعوامل المادية إلى خلق أداة بحث ومجموعة من المفاهيم التي تنتج التفسيرات المادية؛ مهما كانت مخالفة للبداهة وغامضة بالنسبة للمبتدئين. علاوة على ذلك، فهذه المادية مطلقة، وعليه لا يمكننا السماح بولوج قدم مقدسة إلهية إلى الداخل. وقد كان العالم الكانتي البارز لويس بيك Lewis White Beck يقول إن أي شخص يمكن أن يؤمن بالله يمكنه أن يؤمن بأي شيء. فمناشدة إله كلي القدرة يعني السماح له في أي لحظة بتمزيق الطبيعة من دون انتظام، وقد تحدث المعجزات››.
وعلى شاكلة ما سبق صرح عالم المناعة سكوت تود Scott C. Todd في مجلة الطبيعة Nature عام 1999، فقال وهو بصدد نقد نظرية التصميم الذكي: ‹‹حتى لو كانت جميع البيانات تشير إلى مصمم ذكي، فإن مثل هذه الفرضية مستبعدة من العلم لأنها ليست طبيعية››.
وجاءت خلفية هذا الحديث على اثر ما جرى لمجلس التعليم في ولاية كانساس من حذف تعليم التطور الكبير والحفاظ على الصغير فقط.
لكن لماذا هذا الاستبعاد المتعمد لاي فكرة تتعلق بالتصميم الذكي حتى لو كانت المعطيات العلمية تشير اليها، كالذي صرح به سكوت تود؟
صحيح ان الاستبعاد المشار اليه جاء للخشية من الوقوع في محظورين هامين: احدهما يتعلق بإله الفجوات وما يترتب عليه من اتخاذه مبدأً لتفسير كل شيء لادنى مبرر ممكن بسبب الجهل في معرفة التفسير الطبيعي. والاخر هو ان التسليم بإله فوقي يعني وجود معجزات او قفزات لا تتناسب مع طبيعة القوانين العلمية. وهذا ما تؤكده نصوص كثيرة تشير الى هذين المحظورين، او واحد منهما على الاقل. لكن مع هذا نتساءل: هل بالضرورة ان الاثبات العلمي للمسألة الالهية يستلزم الوقوع في هذين النوعين من المحظور؟
حقيقة ان هذا ما يخشاه العلماء ويحذرون منه فعلاً، خاصة على الصعيد البايولوجي. لذلك فان التمسك بمعيار المادية والطبيعانية (او الطبعانية Naturalism) لا مفر منه؛ الى الحد الذي يبلغ العنت والتعصب احياناً. وان العلم يسعى نحو اختزال البايولوجيا الى الفيزياء والكيمياء، وكما صرح فرانسيس كريك في كتابه (الجزيئات والبشر Of Molecules and Men) عام 1966 بأن ‹‹االهدف النهائي للحركة الحديثة في علم الأحياء هو في الواقع شرح كل البايولوجيا استناداً الى مفاهيم الفيزياء والكيمياء››. وقد جاء ذلك بدافع معيار الطبيعانية.
ومن حيث التحليل ثمة اربعة مستويات لتطبيق معيار الطبيعانية في العلوم الطبيعية، وغرضها ابعاد الافتراضات الميتافيزيقية، واغلبها معني بابعاد فكرة الذكاء الميتافيزيقي تحديداً، اثنان منها يخصان علم الاحياء، واخران يتعلقان بالفيزياء، ويمكن تحديدها كالتالي:
1ـ الانتخاب الطبيعي كتفسير للتطور البايولوجي في قبال التفسير الغائي على شاكلة وليام بيلي.
2ـ التفاعلات الكيميائية لأصل الحياة كافتراض في قبال التفسير الحيوي غير الطبيعي او الميتافيزيقي.
3ـ الاكوان المتعددة اللامتناهية كتفسير في قبال الضبط الفيزيائي الدقيق.
4ـ التفسيرات الضمنية لنشوء الكون في قبال اطروحة السببية الخارجية (الالهية).
والملاحظ ان الثلاثة الاولى تتعلق بتفسير النظام والضبط المعلوماتي الدقيق، وهي معنية باشكالية النظام المعقد، والتي يتنافس حول تفسيرها معيارا الطبيعانية واللاطبيعانية (Non- Naturalism). اما الرابعة فتتعلق بمسألة السببية، وقد عالجناها في دراسة مستقلة[1]، وبقي ان نعالج مسألة النظام الكوني والحياتي من خلال المستويات الثلاثة الاولى.
وقبل الدخول في التفاصيل نود تقديم عدد من الملاحظات مع اشارات لما سنصل اليه من نتائج تتعلق بالمعيارين السابقين عبر النقاط التالية:
1ـ لقد استخدمنا مصطلح اللاطبيعانية ولم نستخدم مصطلح الميتاطبيعانية Metanaturalism، ولا مصطلح الخارق للطبيعة Supernaturalism، حيث المصطلح الاول يوحي بمفهوم دال على وجود مفارقة تامة عن الطبيعة، كما ان المصطلح الاخير دال بشكل واضح على ذلك، وهما بالنتيجة على شاكلة اصطلاح الميتافيزيقا. في حين ما نود تأكيده هو ان مفهوم اللاطبيعانية لا يحمل مفارقة ميتافيزيقية، وذلك لاقتران مصاديقه بالظواهر الطبيعية وان كانت في حد ذاتها غير طبيعية، اي غير قابلة للاختزال الفيزيائي والكيميائي، ويمكن التمثيل عليها بالتقسيم الفلسفي القديم للشيء الموضوعي، اذ يعبر عن علاقة متحايثة بين الاعراض المحسوسة والجوهر غير المحسوس، رغم ان الاخير لا يعد مفارقاً للطبيعة.
2ـ ان كلاً من المعيارين: الطبيعانية واللاطبيعانية يمتاز بسلبية التفسير لا ايجابيته. بمعنى انهما ليسا من المبادئ والقوانين التي تعمل على تفسير الظواهر الكونية والحياتية، رغم استناد هذه المبادئ والقوانين اليهما. فهما معممان الى اقصى حد ممكن، ولهذا لا يصلحان للتفسير الايجابي المباشر. فالطبيعانية معممة على مختلف الاسباب والقوانين العاملة في الطبيعة. كذلك اللاطبيعانية هي الاخرى معممة على مختلف الاسباب التي لا تمت الى الخلفية الطبيعانية بصلة، او انها لا تدخل ضمن هذا المعيار العام. وابرز الامثلة عليها النتاجات العقلية والقيمية العامة للبشر؛ كمبدأ الذكاء وقيم الاخلاق والجمال. وجميعها لا يخضع لمعيار التفسير الطبيعاني.
3ـ ان كل مستوى من المستويات الثلاثة الاولى - المذكورة سلفاً - قابل للتبرير وفق معيار الطبيعانية بشكل مستقل ومنفصل عن تبرير الاخر، فكل مستوى يخضع لتفسير مختلف عن تفسير غيره من المستويات. فللمستوى الاول تفسيره عبر الانتخاب الطبيعي، والثاني عبر التفاعلات الكيميائية، والثالث عبر الأكوان المتعددة اللانهائية. لكن جميع هذه المستويات لا تحمل مبدءاً مشتركاً للتفسير. في حين ان هذه المستويات الثلاثة تتقبل التبرير والتفسير بحسب معيار اللاطبيعانية وفق مبدأ مشترك واحد من دون فصل واستقلالية، وهو مبدأ الذكاء كما سنعرف. وتدل هذه العلامة على ان هذا المبدأ يحظى بالبساطة الشمولية في تفسير تلك المستويات خلافاً للمبادئ القائمة على معيار الطبيعانية.
لذلك فان صيرورة الكون والحياة التي أدت في النهاية الى وجود البشر تتناسب مع التفكير اللاطبيعاني لا الطبيعاني، اذ في التفكير الاخير ان ما حصل يمثل مصادفة سعيدة غير متوقعة، خلافاً للتفكير الاول القائم على وجود خطة كونية أدت الى هذه النتيجة. بل عند التحليل يمكن ان يتبين لنا ان هذه النتيجة ليست هي النهاية المستهدفة، كما سنعرف.
4ـ حتى الانتخاب الطبيعي رغم تمسك علماء الاحياء به كتفسير طبيعاني، الا انه يمتلك عنصراً غير طبيعي، بمعنى انه يحمل مبدأً لا يقبل الاختزال الى المعايير الفيزيائية والكيميائية. وسبق لفرانسيس كريك ان اعترف بان: ‹‹جزءاً من مبدأ الانتخاب الطبيعي يمكن شرحه عبر المفاهيم المألوفة للفيزياء والكيمياء، أو بالأحرى ملحقات بسيطة منها››. وهو ما يعني – لدينا - وجود جزء آخر لا يقبل الشرح وفق هذه المفاهيم، رغم ان كريك رأى في محل اخر من كتابه (الجزيئات والبشر) بان وجود عدد من المشاكل المتعلقة بالمفاهيم الحيوية، اضافة الى مجمل المعرفة التي نمتلكها، كل ذلك يجعل من المستبعد جداً وجود أي شيء لا يمكن تفسيره عن طريق الفيزياء والكيمياء. لهذا اعتبر هدف علم الاحياء النهائي هو شرح كل البايولوجيا استناداً الى المفاهيم المشار اليها، كما عرفنا من قبل.
ان ميزة الانتخاب الطبيعي هي الاحتفاظ بالفائدة الحيوية وازالة ما لا فائدة فيه، او حتى اقل فائدة. لكن هذه الميزة او ما يناظرها ليس لها شاهد في الاسباب الفيزيائية والكيميائية وقوانينها. بمعنى ان الاخيرة لا تعمل على الاحتفاظ بالنظم الكونية الدقيقة وازالة او إبعاد كل ما له علاقة بالهدم والخراب، فهي لا تنحاز الى التشكيلات المنتظمة في قبال غيرها من التشكيلات العشوائية، بحيث تحافظ على ما هو منتظم وتُبعِد ما هو عشوائي. بل على خلاف ذلك ان القانون الثاني للثرموداينميك يعمل على الاخلال بالنظام وتحويله الى العشوائية من دون عكس. لذلك لا نجد غير الانتخاب الطبيعي من يتكفل بحفظ النظام ‹‹الحيوي›› لفائدته الوظيفية.
وعليه نتساءل: ما الذي يجعل مبدأ الانتخاب ينحاز الى الاحتفاظ بالوظيفة الحيوية وتنميتها او تحويرها بالشكل الذي يناسب تكيف الكائن الحي؟
صحيح ان هذا المبدأ لا يمتلك خططاً واهدافاً بعيدة، لكنه في المقابل يحمل نزعة توجيهية قصيرة المدى هي التي تفسر وظيفته في الاحتفاظ بالفوائد الحيوية المناسبة، بما لا تفسرها العوامل الفيزيائية والكيميائية. وهذا ما جعل بعض العلماء المعاصرين لداروين يتهم الاخير بانه يتحدث عن الانتخاب الطبيعي وكأنه قوة فعالة او إله خلاق. وقد اضطر داروين الى ان يجيب بان تعبيراته مجازية غرضها الايجاز وتيسير المعنى المطلوب.
مع هذا فان ميزة الاحتفاظ بالفوائد الحيوية التي يعمل عليها الانتخاب الطبيعي لا تعتبر مجازية المعنى لدى داروين واتباعه الى يومنا هذا.
5ـ لا يعتبر معيار اللاطبيعانية بديلاً مطلقاً عن معيار الطبيعانية في تفسير الظواهر الكونية والحياتية، بل يقتصر فعله فقط على الحدود التي يعجز فيها الاخير عن التفسير خلافاً للاول. بمعنى انه اذا كانت هناك مبررات واضحة وكاشفة عن ظواهر لا تقبل الاختزال المادي وما شاكله، او انه لا يمكن تفسيرها وفق معيار الطبيعانية، فانه لا محالة من الاخذ بالمعيار الاول وترك الثاني، على شاكلة ما حصل في الفيزياء المعاصرة كما سنعرف. أما لو كان من الممكن تفسير ظواهر معينة بفعل معيار الطبيعانية، ولو تبعاً لافق التوقع والانتظار من دون مشاكل مستعصية، فانه لا يستغنى في ذلك عن التعويل عليه دون الاستنجاد بالمعيار الاول.
وفي المقابل لا يعتبر معيار الطبيعانية بديلاً مطلقاً عن معيار اللاطبيعانية، اذ من المسلم به ان ظواهر القيم البشرية، وعلى رأسها القيم الاخلاقية وما تقتضيه من الاعتراف بعنصر الارادة، ومثلها الاعمال البشرية كالفنون والعمران والصناعات وغيرها مما تعود الى مبدأ الذكاء.. كلها لا يمكن تفسيرها وفق معيار الطبيعانية؛ باعتبارها لا تخضع في النتيجة للاختزال الكيميائي والفيزيائي وما الى ذلك، رغم الادعاء بان لها اسباباً طبيعية غير مباشرة بفعل التطور البايولوجي.
6ـ ان ابرز ما يعنينا هو مبدأ الذكاء، ومنه الذكاء البشري كنتاج عقلي لا طبيعاني. وتوضيح ذلك هو عندما نرى منزلاً مؤثثاً او ساعة يدوية او حاسوباً الكترونياً فسوف ندرك انها نتاج الذكاء البشري لا الاسباب الطبيعية، فهي نتاجات لا تشابه الظواهر الفيزيائية والكيميائية؛ كظاهرة سقوط المطر او التجاذب بين الكتل المادية او تمدد المعادن بالحرارة او تفاعل الهايدروجين مع الاوكسجين لانتاج الماء. ورغم ان النتاجات الذكية مؤلفة من حيث الاساس والتحليل الى اشياء مادية طبيعية دون ادنى شك، فهي بالنتيجة تتألف من جسيمات وذرات وجزيئات ومن ثم قطع من الخام، لكنها بهذا الشكل المختزل لا يمكنها ان تتحول الى نتاجات معقدة النظام كالمنزل والساعة والحاسوب من دون ذكاء. بمعنى ان الاسباب الطبيعية عاجزة عن ان تفعل مثل تلك الاشياء المعقدة مثلما يصنعها البشر بفعل الذكاء. وهو الحال الذي يتفق عليه اتباع المعيارين: الطبيعانية واللاطبيعانية.
وللذكاء اطياف مختلفة، فمنه الذكاء البشري المألوف كما اشرنا اليه قبل قليل، ومثله الذكاء الفضائي على فرض وجوده. فمعلوم ان العلم ما زال يجري كشوفات للبحث عن هذا الصنف من الذكاء طبقاً لأفق التوقع والانتظار، عسى ان يصادف اشارات فضائية ذات ملامح لا يمكن تفسيرها طبقاً لمعيار الطبيعانية. كما توجد ظواهر متنازع حولها ان كانت صنيعة بعض انماط الذكاء ام انها وليدة الاسباب الطبيعية، كالجدل الحاصل حول ما يدور في عالم الاحياء، بدءاً من الجزيئات الخلوية الى ما فوقها من الكائنات الحية بتعقيداتها المختلفة.
وبلا شك ان جميع هذه الانماط من الذكاء تعتبر ناقصة وغير تامة الكمال. وفي قبالها ثمة ذكاء ميتافيزيقي متنازع حول وجوده، هو ذلك المتعلق بالذكاء الالهي، وهو مبحث فلسفي يخرج عن المعالجة العلمية.
7ـ فيما يخص انماط الذكاء القابلة للمعالجة العلمية، سنرى ان من المبرر له افتراض وجود اثير خاص به يمثل الاصل في وجوده وتنوعه وتطوره، ومنه الذكاء البشري. فلأثير الذكاء علاقة مقترنة بقوانين الطبيعة واسبابها ونتائجها، لكن السؤال الذي يرد في هذا الصدد: هل العلاقة بينهما مجرد اقتران محايث كاقتران الضوء بالاثير المفترض فيزيائياً مثلاً، ام ان بينهما علاقة سببية؟
وبحسب الافتراض الثاني، لا يمكننا اعتبار القوانين والاسباب الطبيعية أساساً لوجود هذا الاثير، اذ في هذه الحالة لا معنى لافتراضه أصلاً، اللهم الا اذا اعتبرنا الذكاءهو نتاج عملية تطورية عشوائية معقدة. بيد ان هذا الافتراض حتى لو كان صحيحاً فانه لا يصدق الا على الانسان العاقل الذي خرج الى الوجود منذ زمن جيولوجي قصير لا يتجاوز نصف مليون سنة، وهو يمثل آخر مراحل سلّم تطور الحياة. وبالتالي فالافتراض السابق لا يصدق على ما قبل الانسان من كائنات حية، ولا حتى على ما قبل الحياة.
في حين انه بحسب معيار اللاطبيعانية، يُفترض ان تكون نشأة النظم الفيزيائية المعقدة، ومن ثم الحياة وتطوراتها، مرهونة بأثير الذكاء. فتخلّق هذه النظم لم يأتِ عبر قوانين حتمية صارمة، كما ان العشوائية والمصادفات لا يسعفها المنطق الاحتمالي. لذلك نرجح وجود اثير منبسط يتصف بالبرمجة الذكية التي تهيء ذلك التخلّق.
فباعتقادنا ان هذا هو البديل المناسب لما يطرحه الفيزيائيون وعلماء الاحياء من فرضيات لا تقدم تفسيراً معقولاً حول كيف نشأ النظام الكوني الدقيق ومن ثم الحياة وبعدها التطور الذي ادى الى وجود كائنات ذكية غير معهودة.
أما السؤال عن مصدر اثير الذكاء فهذا يدخلنا ضمن البحث الفلسفي الذي يخرج عن المعالجة العلمية.
8ـ من المعلوم ان البشر يتبوأون أعلى مراتب التطور واكملها في العالم الارضي على الاقل، وانهم قد امتازوا عن غيرهم من الكائنات الارضية بملكات العقل والارادة والقيم، خاصة الاخلاقية منها، وان التطور الذي جرى هو من حيث الاجمال يعبّر عن رقيٍّ باتجاه التكامل والتعقيد اكثر فاكثر.. وعليه لو اعتقدنا باستمرارية التطور النوعي فسوف يمثل البشر نقطة انطلاق للتحول العقلي والارادي والقيمي. فلأول مرة يحدث تحول لسمات غير بايولوجية، وان التطورات اللاحقة ستستهدف من حيث الاساس هذه الناحية بالذات. فلا العقل ولا الارادة ولا القيم كانت معهودة لدى الكائنات الارضية قبل البشر، وهي بوجودها الحالي ينتابها النقص الشديد، لا سيما القيم الاخلاقية.
صحيح ان الاخيرة اصبحت مدركة لدى البشر لأول مرة ضمن سلسلة التطورات الحيوية، وهي نقطة تحول جوهرية جعلت البشر قادرين على اختيار القيم الصالحة وترجيحها على القيم المضادة لها، مع الوعي بقيمة هذا الاختيار وأهميته. لكن من حيث الأصل نجدهم يميلون الى الاختيار المعاكس غالباً.
ويمكن التدليل على هذه القضية بافتراض تجربة خيالية، كإن نتصور الحرية الفردية تامة من دون قيود ولا ضغوط سلطوية او اجتماعية.. ففي هذه الحالة ستسفر النتيجة عن بروز وحش مختبئ في أعماق اللاشعور الفردي. فمثلاً عند فقدان الأمن الإجتماعي وعدم القدرة على تطبيق القوانين المدنية يندفع الكثير من البشر إلى تحقيق مطامعهم من دون رادع داخلي. فالوعي العقلي يتضاءل ويتصاغر أمام هجمة الدوافع اللاشعورية من الأطماع، لهذا تسود الفوضى ويكثر القتل والخراب، فما أسهل ما يعمّ الشر، وما أصعب ما يُبنى الخير في قباله. فالعقل المنطقي يذهب هباء عند فقد النظام، وهو لا يصمد أمام همجية اللاوعي الباطني. فالذين يلجأون إلى الضمير الأخلاقي قلة، وهم مقارنة بمجتمعاتهم يمثلون أنبياء الله المرسلين، أو ملائكة الرحمن المنزلين. وهذا هو القانون النيتشوي الذي يحذرنا من تبعاته بعض دعاة ما بعد الحداثة. فمن وجهة نظرهم ان حقيقة الإنسان هي هذه الهمجية المتمثلة باللاوعي الباطني التي ينبغي تسليط الضوء عليها، فهي ذاتها تستعر عبر رغبات الليبيدو والأطماع المادية والنزعات النرجسية والعدوانية[2].
وبامكانك ان تختبر البشر في ثلاث، وستجد أنهم يبيعونك من دون حق، كما إنك تبيعهم، إلا ما رحم ربي: منصب أو جاه رفيع، وتجارة مدرّة للأرباح، وإمرأة – أو رجل – مغرية جداً.
وعليه فمن المتوقع ان تكون التطورات القادمة لما بعد البشر تستهدف بالدرجة الرئيسية التحولات الخاصة بالقيم الاخلاقية فضلاً عن التطور العقلي والارادي، شبيهاً بالحال الذي جرى في التطور البايولوجي من الخلية الى الكائنات الاكثر تعقيداً.
فضمن سلّم التطور تكون منزلتنا الحالية مقارنة بالتحول القادم اشبه بمنزلة القرود مقارنة بنا، أو النسانيس قياساً بما سيأتي من تحول. وعليه سيحظى الكائن الجديد بسمات تعطي لحياته معنى السمو والامل، فيما نحن نلهث وراءها (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) من دون امساك. فالمقارنة بيننا وبين الكائن القادم هي كمقارنتنا بالانبياء المقدسين. واذا كان من المستحسن اختيار اسم للكائن القادم فانه ينبغي ان يكون مناسباً لما يمتاز به من سمات تكاملية جديدة.
ويعتبر البحث في هذه الفرضية معاكساً للبحث عن اصل الكائنات الحية، خاصة تلك التي تبرر لوجود اصل فضائي للحياة ضمن نظرية ما يسمى بالبذور الكونية Panspermia، ومنها الموجهة Directed، والتي دعا اليها جملة من علماء الاحياء والفيزياء؛ وعلى رأسهم فرانسيس كريك. اذ تبحث هذه النظرية في اصل الحياة – كما لدى كريك - ضمن حيز مجهول من الفضاء، في حين تبحث الفرضية التي نعمل على تقديمها في المآل لا الاصل، كما وتبحث ضمن افق التوقع والانتظار الزماني لا المكاني. ولها عدة مبررات بعضها يقتصر على الجانب العلمي، فيما يذهب البعض الاخر الى ابعد من ذلك عبر اتخاذ المسالك الفلسفية، كما سنتطرق اليها فيما بعد.
9ـ ان افتراض مبدأ الذكاء لا يبرره التشابه والتمثيل بذكاء البشر، كما ترد الاتهامات عليه من قبل انصار الطبيعانية ضد خصومهم، مستخدمين الفوارق بين المصنوعات البشرية المصممة من جهة، والمنتجات الحيوية غير المصممة – من وجهة نظرهم - في عالم الاحياء من جهة ثانية. اذ يُعرف في الاولى مَن هو المصمم وقدراته، كما انها لا تتصف بسمة الحياة والاستنساخ والتكاثر الذاتي وما الى ذلك، خلافاً لما هو مفترض في حالة المنتجات الحيوية. وهي التهمة التي وردت لدى محكمة دوفر الشهيرة عام 2005 ضد انصار حركة التصميم الذكي.
مع هذا نلاحظان مبدأ التمثيل الذي رفضه علماء الاحياء؛ يعتبر مصدر قوة والهام لدى علماء الفيزياء المعاصرة، وقد تم تنبؤ وتفسير الكثير من الحالات الفيزيائية وفق هذا المبدأ، لا سيما تلك التي تجري وفق المألوف من الظواهر، ومن ذلك تفسير الضغط الجوي كما في تجربة تورشلي بلحاظ ضغط الماء. أو تفسير ظاهرة الضوء بالموجة شبيهاً بموجات الماء والصوت. وعبر هذا النمط من الإستدلال تمكن العلم من ان يوحد بين القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، ومن ثم التنبؤ بوجود جسيمين مراسلين. كما تم اكتشاف مجال القوة النووية الشديدة من خلال التمثيل بالقوة الكهرومغناطيسية. كذلك أُعتمد عليه في إفتراض جسيم بوزون هيجز ضمن مجال هيجز تشبهاً بالمجال الكهرومغناطيسي للفوتون. ومثل ذلك إفتراض جسيمة الكرافيتون للثقالة، اذ اغلب القوى الطبيعية تحملها جسيماتها الخاصة، ولم يبقَ الا الثقالة التي يتوقع ان تحملها جسيمة على هذه الشاكلة وفقاً للقياس التمثيلي. كذلك ان إفتراض وجود أبعاد فضائية خفية كان مديناً لهذا القياس التمثيلي، تشبهاً بعلاقة الجاذبية بالأبعاد الزمكانية. أيضاً فإن فكرة الأكوان المتعددة المتوازية جاءت على خلفية مشكلة قطة شرودنجر الكمومية وفقاً لهذا التمثيل. وكذا ان فكرة المدارات البيضوية للكواكب الشمسية جاءت بفعل هذا النمط من القياس، حيث اضطر كبلر الى تعميم ما لاحظه من الشكل البيضوي لحركة المريخ على سائر الكواكب وفقاً للدليل التمثيلي[3].
هذا من جهة، ومن جهة ثانية ان استنتاج وجود الذكاء لم يقم على دليل التماثل مع المنتجات البشرية المصممة، بل هو قائم على مبدأ الاحتمالات المنطقية، وهو مبدأ عام ينطبق حكمه على المنتجات البشرية وغير البشرية، سواء تعلق الامر بموضوع الذكاء او غيره من الموضوعات الخارجية، ولا يضير في ذلك الجهل في معرفة سمات سبب الذكاء. ففي علم الاثار والانثروبولوجيا قد تعطينا بعض القطع الاثرية دلالات معينة للاشارة الى اسباب ذات طبيعة عامة وان لم يتحدد بالضبط كل السمات التي نود معرفتها. بل في الفيزياء المعاصرة اعتبرت بعض الكيانات المفترضة تفسيراً لبعض الظواهر الكونية رغم الجهل كلياً بطبيعة هذه الكيانات كما سنعرف بعد قليل.
10ـ من المحتمل ان يتقبل المجتمع العلمي التفسير اللاطبيعاني اذا ما توفر شرطان محددان، اضافة الى وجود شاهد حسي داعم.
فالشرط الاول المطلوب هو ان ترتقي البايولوجيا بمثل ما حصل مع الفيزياء في تقبل الافتراضات غير المادية. فقد اضطرت الفيزياء الى ان تضع ضمن منظومتها كيانات مفترضة لتفسير بعض الظواهر التي عجزت عن تفسيرها قوى المادة والطاقة المألوفتين، ومن ذلك ما يسمى بالمادة المظلمة ومثلها الطاقة المظلمة، وغيرهما من الافتراضات، بل ان بعضها تبدو اسطورية لكنها مستوعبة ضمن النظريات الفيزيائية المعاصرة.
واول ما يلاحظ هو ان اصطلاح المادة المظلمة وكذا الطاقة المظلمة هو اصطلاح اعتباطي، اذ مثل هذه الكيانات المفترضة مجهولة الوصف والتحديد الا بالسلب، فلا يعرف عنهما ولا عن قوانينهما اي شيء مطلقاً، فهما لا تمتلكان اي شيء مما تمتلكه المادة والطاقة العاديين مثل البروتونات والالكترونات والفوتونات والنيترينوات وما اليها. وبالتالي فهما ليسا بمادة ولا طاقة كالتي نألفها، كما لا يمكن التحسس والاستشعار بهما رغم ضخامتهما اللتين تفوقان ما لدى المادة العادية باضعاف كثيرة، فهما يشكلان اكثر من 95 بالمائة من كثافة الكون. اذ تقدر المادة العادية حالياً بأقل من (5%)، فيما تقدر المادة المظلمة بحوالي (26.8%)، اما الطاقة المظلمة فتقدر بـ (68.3%). ومع ذلك تم افتراض المادة والطاقة المظلمتين اضطراراً لحل مشكلة التوازن الكوني ولحل بعض الظواهر الكونية الغامضة التي لا يمكن تفسيرها وفق القوانين الفيزيائية المألوفة والمتعلقة بالجاذبية. وكان من الممكن ان يعبر عنهما بأي رمز غامض دون التسمية بالمألوفات كالمادة والطاقة.
ومن الطريف ان هناك من اعتبر المادة المظلمة قد أنشأت مادة أخرى تدعى المادة الظل، لذلك تم افتراض وجود شمس شبحية مظلمة قرينة لشمسنا، سميت نمسيس. وهنا تبدو الافتراضات بعضها يجرّ إلى البعض الآخر، وكلما كثُر عددها زاد ضعفها بحسب منطق الاحتمالات[4].
وحيث ان هذه الكيانات ليست عادية، ولا يمكن تصورها بشكل ما من الاشكال، لذا فهي من هذه الناحية لا تعتبر طبيعية بالمعنى المألوف. فليس فقط انه لا يعلم عن هويتها شيء، بل ايضاً انها لا تمتلك اي شيء من المكونات التي تتألف منها المادة والطاقة. ومع ذلك تقبلتها الفيزياء المعاصرة اضطراراً لتعالج بعض مشاكلها المستعصية. وقبل ذلك كانت فكرة الاثير مفترضة، رغم انه لا يمتلك صفات مادية او طاقوية محددة، فلا يعرف عنه شيء على نحو الايجاب سوى كونه وسيطاً لانتشار امواج الضوء على شاكلة ما يحصل في الامواج المائية والصوتية..
وهو الحال الذي لم ترتقِ اليه البايولوجيا، فليس في جعبتها افتراضات تتعلق بكينونات لا يعرف عن هويتها شيء. وسبق ان تم نقد القوة الحيوية والاستعانة بمثال فيزيائي يتعلق بفكرة المجال المغناطيسي، فرغم ان هذا المجال هو مثل القوة الحيوية غير قابل للملاحظة، الا انه محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك اصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً[5]. لكن هذا الحال كما عرفنا قد تجاوزته فيزياء القرن العشرين، فيما بقيت البايولوجيا اسيرة إتّباع النهج الفيزيائي لما قبل هذا القرن، رغم انها اولى باتخاذ موقف متقدم في تقبل الافتراضات غير الطبيعية لحل مشاكلها المستعصية، وذلك لوجود شواهد حسية على مثل هذه الافتراضات النافعة، وبالذات ما يتعلق بمبدأ الذكاء، كما لدى البشر مما يفسر فنونه وصناعاته المختلفة.
لهذا لو تمّ إتّباع منهج الفيزياء المعاصرة في تقبل الافتراضات غير المادية والطبيعية، مع اضافة شاهد حسي متعلق بمبدأ الذكاء، لكان من الممكن ان تفسر به ظواهر محددة تعجز عن تفسيرها الانماط التقليدية القائمة على الاعتبارات المادية. فمبدأ الذكاء في البايولوجيا يعمل بمثل ما تعمل به المادة والطاقة المظلمتين المفترضتين لتفسير المشاكل المستعصية في الفيزياء. بل ان للذكاء اكثر من ميزة تجعل من قبوله اولى من الافتراضات الفيزيائية غير المألوفة. اذ الذكاء مألوف وعليه شاهد حسي خلافاً لهذه الافتراضات. كما ان الذكاء يحمل خاصية البساطة في تفسير ظواهر من عوالم مختلفة، بعضها بايولوجي، وبعضها الاخر فيزيائي، وكل ذلك ما لا نجده لدى الافتراضات السابقة.
اما الشرط الثاني فهو ان الذكاء المفترض في تفسير الظواهر الفيزيائية والبايولوجية، وخاصة الاخيرة، هو ذكاء غير مفارق او ميتافيزيقي، بمعنى انه ليس بالذكاء الالهي وما شاكله مما تدعو اليه الاديان السماوية. بل هو ذكاء عليه دلالات علمية تؤيد كونه يدخل ضمن اطار الطبيعة وليس خارجاً عنها. لذلك نسميه بأثير الذكاء، او الذكاء الاثيري، فله سمة تشابه سمة الاثير المفترض في الفيزياء الحديثة، وهو من هذه الناحية لا علاقة له بالافتراضات الدينية والفلسفية الصرفة.
وعليه نعتقد انه عند جمع الشرطين السالفي الذكر، مع الاخذ بعين الاعتبار الشاهد الحسي، سوف تزول - من الناحية النظرية - الاشكالات والتحفظات التي اعتاد ان يطرحها علماء الاحياء في وجه انضمام مبدأ الذكاء الى الدائرة العلمية والمساهمة في الصراع المنهجي والمعياري للعلم، كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد..
[1] انظر: الانبثاق الكوني والنظريات الضمنية، نشرت في حلقتين لدى موقعنا فلسفة العلم والفهم عام 2017: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=106
[2] انظر: يحيى محمد: تأملات في اللاشعور، مؤسسة العارف، 2014م.
[3] للتفصيل انظر: يحيى محمد: منهج العلم والفهم الديني.
[4] للتفصيل حول المادة والطاقة المظلمتين انظر: يحيى محمد: انكماش الكون، مؤسسة العارف، بيروت، 2019.
[5] للتفصيل انظر: يحيى محمد: تطورات الحجة الغائية: من بالبوس الرواقي الى داروين (3)، موقع فلسفة العلم والفهم، 17-4-2020:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=140