يحيى محمد
ذكرنا خلال الحلقة الاولى من هذا البحث وجود اربعة مستويات لتطبيق معيار الطبيعانية في العلوم الطبيعية، وغرضها ابعاد الافتراضات الميتافيزيقية، واغلبها معني بابعاد فكرة الذكاء الميتافيزيقي تحديداً، اثنان منها يخصان علم الاحياء، واخران يتعلقان بالفيزياء. وقد استعرضنا الحديث عن واحد من هذه التطبيقات الاربعة، ويتعلق بالانتخاب الطبيعي كتفسير للتطور البايولوجي في قبال التفسير الغائي. وسنواصل في هذه الحلقة استعراض التطبيق المتعلق بنشأة الحياة.
أصل الحياة
تكاد تكون مسألة اصل الحياة الوحيدة التي كلما زاد البحث فيها كلما اشتدت حيرة العلماء حولها، وذلك بعد ان تم اكتشاف التشفير الحاصل في نظامها الدقيق كما يتمثل في الحامضين النوويين الدنا والرنا وكيفية تعاونهما في صناعة البروتينات المعقدة، فيما يُعرف بنظام الترجمة.
وما زالت النظريات تدور حول ما اذا كانت الحياة قد نشأت عن طريق الصدفة، او القانون الحتمي، او التنظيم الاحصائي الذاتي، او الجمع ما بين الصدفة والقانون الطبيعي؛ حتمياً كان او احصائياً، او انها نتاج حدث او مسار غير طبيعاني؟.
لكن ما الذي يجعل العلماء عاجزين عن معرفة هذه النشأة الخفية؟ هل يمكن ان تكون نتاج قوانين مدفونة في اعماق البنية الكونية مما يجعلها عصية على الاكتشاف؟ او انها تعبر عن حدث عرضي استثنائي من دون ان تمت الى قانون محدد، وهذا ما يجعل نشأتها غير مفهومة؟
وبلا شك انه لو كانت الحياة نتاج بعض القوانين؛ الحتمية او الاحصائية، لكانت ظاهرة شائعة في الكون، حيث المتوقع ان تكون الظروف المناسبة لنشأتها كثيرة وسط البحر العظيم من الكواكب لدى مليارات المليارات من النجوم الكونية. أما لو كانت حدثاً عرضياً بالصدفة لكان المتوقع ان تعبر عن حادث فريد للارض من دون شيوع.
ومن الناحية القبلية قد يميل العقل الى الانفتاح على الشيوع الكوني للحياة، اذ لا يعقل ان تنفرد حبة رمل كالارض بالحياة وسط صحراء الكون الشاسعة بمجراتها ونجومها وكواكبها العظيمة. وبلا شك ان هذا الميل العقلي يستدعي الاعتقاد بانتشار الذكاء في الكون لذات العلة، او لأن الحياة على الارض قد انتجت الذكاء عبر التطور، فالمتوقع ان يحصل ما يشابه ذلك في مناطق اخرى من الحياة الكونية.
مع هذا تبقى هذه القضايا معبرة عن ظنون عقلية وتحتاج الى مبررات علمية او شواهد من الظواهر الطبيعية.
وعلمياً ما زال التفكير المتعلق بنشأة الحياة يعتمد على التفسير الطبيعاني وفق الخيارات التالية:
1ـ ان نشأة الحياة تدين الى عامل الصدفة كحدث عرضي صادف الارض بالذات دون ان يكون امراً شائعاً في الكون.
2ـ لقد نشأت الحياة بسبب القوانين الكونية المحتمة والعائدة الى المعايير الفيزيائية والكيميائية.
3ـ ان نشأة الحياة جاءت وليدة التفاعل بين عامل الصدفة والقوانين الطبيعية.
4ـ ان هذه النشأة وليدة التنظيمات الذاتية القائمة على القوانين الاحصائية ذات التوافيق الاحتمالية.
5ـ انها وليدة قوانين مجهولة مدفونة في عمق نسيج المادة الكونية.
لكن في قبال هذه الخيارات الطبيعانية، ثمة خيار غير طبيعاني يرى الحياة نتاج مسارات او قوانين لاطبيعانية، وتدل عليه بعض انماط التعقيد كما سنعرف في حلقة مقبلة..
وتتضمن الرؤية الاخيرة فكرة وجود تخطيط غائي يقف خلف الحياة سلفاً. وعند مقارنة ذلك بالخيارات الطبيعانية الخمسة الانفة الذكر نجد ان خيار الصدفة، وإن بتفاعلها مع القوانين، يقف في الطرف المضاد لفكرة التخطيط الغائي على طول الخط. في حين تبقى المسارات الاخرى قابلة للانحياز الى كل من التخطيط الغائي وعدمه.
تجارب البحث في نشأة الحياة
ان الحديث عن نشأة الحياة يبدأ من تجارب فولر عام 1828، اذ تعبر عن اول امكانية تحويل مادة غير عضوية الى عضوية هي اليوريا. ووقتها أوحت هذه التجارب بان المادة الحية لا يفصلها شيء عن المادة الجامدة، ومن ثم ان من السهل انتاجها عبر عدد من التفاعلات الكيميائية. وقد تطورت الفكرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وترسخ الاعتقاد بوجود مادة هلامية مؤلفة من مركبات كيميائية عديمة الشكل هي ما تمثل اساس الحياة، وتدعى البروتوبلازما، كالذي اعتقده العالمان توماس هكسلي وارنست هيكل.
ثم تطور الحال مع افكار الكسندر اوبارين Alexander Oparin منذ عام 1922، ويُعدّ اول من طرح نظرية مفصلة حول التولد التلقائي التطوري استناداً الى الظروف البدائية التي اتاحت فرصة نشأة الحياة عبر التفاعلات الكيميائية والفيزيائية، ومن ثم قام بتطويرها عام 1938، حيث كان المعتقد ان الحياة هي نتاج تركيبة كيميائية بسيطة في محلول زلالي قبل ان يتبين التعقيد في بنيتي الحامضين النوويين الدنا والرنا، ومن ثم البروتين. فبعد اكتشاف هذه المواد المعقدة وما تتضمنه من تشفير وترجمة اصبح اصلاح نظرية اوبارين بما يتفق مع هذه الاكتشافات لا بد منه، فقدّم بذلك نسخة متطورة عام 1968. وكان اوبارين اول من اقترح فكرة الغلاف الجوي المختزل ليسهل من خلاله ان تتخلق المركبات العضوية، مثلما تتصف به عدد من كواكب المجموعة الشمسية، فاقترح وجود مجموعة محددة من المركبات والعناصر الكيميائية، وهي الماء والميثان والامونيا والهايدروجين. ومعلوم ان المواد العضوية في الكائنات الحية تتألف من ستة عناصر اساسية هي: الكاربون (C) والهايدرجين (H) والنايتروجين (N) والاوكسجين (O) والفسفور (P) والكبريت (S)، وتختصر بهذه الصيغة (CHNOPS).
وفي جميع الاحوال اصبح الباحثون بعد اكتشاف بنيتي الدنا والرنا معنيين بعدة امور لا بد من اثبات امكانية حدوثها لتنتج الحياة كما تتمثل في الخلية.. ويمكن تحديدها بالنقاط التالية:
1ـ لا بد من توضيح كيف يمكن تحويل جزء من عالم مفتوح ومشتت الى نوع من الالتئام والاستقلالية الفردية، كما هو حال الخلية، حيث انها محاطة بغشاء يحافظ على انفصالها واستقلالها النسبي عن العالم الخارجي.
2ـ لا بد من توضيح كيف يمكن ان تتحول التفاعلات الكيميائية والفيزيائية لعدد من العناصر والمركبات غير العضوية الى مركبات عضوية اساسية للحياة.
3ـ لا بد من توضيح كيف يمكن تحويل المركبات العضوية الى نظم متماسكة تشكل اساس بناء الخلية الحية.
4ـ لا بد من توضيح كيف يمكن جعل هذه النظم متعايشة ومتعاونة مع بعض ضمن نسيج عضوي موحد كما في الخلية القادرة على القيام بوظائفها بيسر وسلاسة.
5ـ لا بد من توضيح كيف يمكن جعل هذا النسيج المتماسك ان يحافظ على ديمومته عبر القابلية على الاستنساخ والتوارث.
6ـ لا بد من توضيح كيف ينتج هذا الاستنساخ والتوارث القابلية على الاختلاف والتغاير والتطور كما نلاحظه في العالم الحي.
***
هذه جملة من النقاط التي تواجهها كل نظرية معنية بنشأة الحياة، ومن بينها فرضية اوبارين. اذ كان يتصور ان ذلك يمكن ان يحدث عبر تفاعلات في حساء بدائي مؤلف من عناصر ومركبات كيميائية تهيء التدرج الى نظم بسيطة جداً ومعزولة بغشاء واق عن العالم الخارجي، فتشكل ما يطلق عليه القوصرة، ومع تعريضها لملايين السنين للانتخاب الطبيعي يمكن ان تنتخب نفسها بنفسها.
لكن تبين ان نظرية اوبارين تحمل في طياتها عنصراً مرفوضاً، هو الانتخاب الطبيعي الذي جعله يعمل في عالم ما قبل التضاعف والاستنساخ الحيوي، مع ان هذا الانتخاب مشروط بالتضاعف ليقوم بوظيفته.
مع هذا قام طالب الدراسات العليا ستانلي ميلر باختبار الاساس الذي تقوم عليه نظرية اوبارين عام 1952؛ تحت اشراف هارولد اوري الذي اقترح تحضير فكرة الجو المختزل كما جاء بها اوبارين لاول مرة. وكما اشار ميلر بعد اكثر من اربعين عاماً ان الحال بين امرين: إما ان يكون للارض جو مختزل من الغازات والمركبات، او من المحال صنع المركبات العضوية المطلوبة للحياة، وبالتالي لا بد من البحث عن نشأتها في الفضاء الخارجي، ومن ثم الكشف عنها في المذنبات او النيازك او الغبار الكوني.
وحالياً تبين ضعف النظرية الشائعة عن نشأة الحياة على الأرض كما اتضح (اواخر عام 2020) طبقاً للظروف المفترضة، كما في نظرية اوبارين وتجربة ميلر، اذ ان الغازات الضرورية التي افترضتها هذه النظرية ومن ثم التجربة القائمة عليها لم تكن متوفرة بكثرة.
ومعلوم ان ميلر حاول ان يجعل تجربته تحاكي ما كانت عليه ظروف الارض البدائية قبيل نشأة الحياة، طبقاً لافتراض الجو المختزل غير المؤكسد، فاستحضر دورقاً فيه مزيج لجملة من الغازات والعناصر الخاصة بهذا الجو، وهي الميثان والامونيا والماء والهايدروجين، ثم قام بتسخينه، وبعد ذلك مرر في المزيج شرارات كهربائية مستمرة شبيهاً بما يحدث في حالة البرق، وقد كللت التجربة بالنجاح في تحضير بعض المركبات العضوية وعدد من الاحماض الامينية، بعضها تندرج ضمن اللبنات الاساسية لتكوين البروتينات الحيوية.
وفي مقابلة اجريت معه عام 1996 اشار الى ان هذه التجربة كانت مفاجئة لكل المعنيين بها، حيث الحصول على عدد كبير من الاحماض الامينية، في حين ان الجميع كان يمكن ان يُسعد فيما لو تم الحصول على مجرد آثار للاحماض الامينية، لكن التجربة اسفرت عن توليد 4% من مجمل هذه الاحماض، واحتمل ان يكون هذا العدد هو اكبر عائد لأي تجربة لها علاقة بما قبل الحيوي.
وبلا شك ان هذه النسبة لها علاقة بمجمل ما موجود من احماض امينية في الطبيعة، وهي تقدر بثمانين حامضاً امينياً، لكن اغلبها ليس معنياً بالبروتينات الحيوية، فالقدر المتعلق بهذه البروتينات لا يتجاوز 20 حامضاً امينياً. مع هذا فقد ذكر ميلر في ذات المقابلة قائلاً: ‹‹بمجرد تشغيل الشرارة في تجربة أساسية لما قبل الحيوي سيؤدي الى توليد 11 من أصل 20 حامضاً أمينياً››.
ويؤيد ما قاله انه في عام 1972 كرر ميلر ومعاونوه تجربة عام 1952، لكن باستخدام محللات كيميائية آلية متطورة، واستطاعوا من خلالها تصنيع 33 حامضاً امينياً، بما فيها عشرة احماض تندرج ضمن تلك التي تتكون منها البروتينات الحيوية. وفي عام 2008، اي بعد عام من وفاة ميلر، أعاد طلابه تحليل عينات تجربة 1952 باستخدام تقنيات أكثر حساسية، فأظهرت النتائج توليد 22 حامضاً امينياً، وكشفت أن تجربة ميلر الأصلية أنتجت مركبات أكثر بكثير مما تم الإبلاغ عنه عند نشر بحثه عام 1953.
لقد استطاعت تجارب ميلر ان تحضّر عدداً من الاحماض الامينية التي لها علاقة بالبروتينات الحيوية، لكنها لم تكن معزولة عن التدخل البشري، بما فيها تجربته الاصلية، حيث أُزيلت الشوائب المثبطة والغازات السامة عن عمد خلال عمليات التفاعل للحفاظ على النتائج المرجوة.
وقيل ان الاحماض الامينية التي تم توليدها اتصفت ببساطة التركيب الكاربوني، فابسط الاحماض الامينية التي يتألف منها البروتين يحمل ذرتين من الكاربون، وما احتوته تجربة ميلر كانت ما بين الذرتين والثلاث، وليس بين الاحماض الامينية من تحمل ذرتين وثلاث سوى اربعة احماض، اما البقية فاكثر من ذلك، واغلبها تحمل ست ذرات. لهذا كانت تجربة ميلر سهلة التحضير بشكل تلقائي من دون غرابة، فيما ان البروتين الحيوي يتضمن احماضاً كثيرة تتصف بالتعقيد.
لقد كانت التجربة الاصلية لميلر واعدة في وقتها، وظن العلماء – حينها - ان استحضار الحياة من المادة اللاعضوية امراً هيناً عند محاكاة هذه التجربة الرائدة، بل واعتبروا ان الاخيرة تثبت ان الحياة ليست وليدة الصدفة كما كان يعتقد في السابق، بل هي نتاج القوانين الحتمية.
ان كل ما جنته تجربة ميلر الاصلية هو التمكن من تحضير عدد قليل من الاحماض الامينية البسيطة المساهمة في تشكيل قطعة البروتين. ومعلوم ان في الطبيعة يوجد ثمانون نوعاً من الاحماض الامينية، لكن ثلاثة ارباعها لا علاقة لها بتركيبة البروتين الحيوي، فما يحتاجه الاخير هو فقط عشرون نوعاً محدداً دون غيرها.
ومع هذا اُعتبرت تجربة ميلر واعدة، وعلى ضوئها اقيمت تجارب اخرى من المحاكاة نهاية القرن العشرين، وبعد جهد جهيد تم الحصول على العدد الكامل للاحماض الامينية التي تحتاجها البروتينات، كما تم صنع عدد كبير من البروتينات القصيرة ذات الاحماض الامينية القليلة، اذ من الصعب صنع البروتينات الطويلة للكلفة الباهضة التي ينطوي عليها تخليق قطع من الحامض النووي لتشفيرها وترجمتها. وقد تبلغ صناعة بروتين واحد طويل السلسلة سنوات عدة. وعادة ما تستخدم البروتينات القصيرة كمضادات حيوية في الادوية الطبية المتعارف عليها. مع هذا نُقدت هذه التجارب باعتبارها لا تبين كيف ينشأ البروتين عفوياً، فضلاً عن نشأة الحياة ذاتها، اذ كانت التجارب محكومة بتدخل الذكاء البشري دون ان تترك تلقائياً، سواء كان ذلك بفعل القوانين الحتمية، او بفعل الجواذب الذاتية، او المصادفات العشوائية.
وكان ديدن عمل القائمين على هذه التجارب هو الاحتفاظ بالمواد المطلوبة والتخلص من الشوائب المفككة لها، وكذا السامة المثبطة للتفاعلات المرغوب فيها، مثل مادة القطران التي ترافق التحضيرات التجريبية، ومثل الاحتفاظ بالاشعة فوق البنفسجية القصيرة الموجة وازاحة الطويلة منها لكونها تساهم في تفكيك الاحماض الامينية.
مسالك تفسير نشوء الحياة
على صعيد البحث النظري ظهرت عدة فرضيات حاولت تفسير كيفية نشأة الحياة بعد ان تبين التعقيد الحاصل في الاحماض النووية والبروتينات. فبعضها اعتقد ان البداية كانت مع البروتينات لارتباطها بعمليات الأيض او التمثيل الغذائي، فيما رأى اخرون افتراض ان تكون الاحماض النووية هي ما تشكل البداية الفعلية لارتباطها بالتكاثر. كذلك ذهب جماعة الى ان نشأة الحياة مرتبطة بالفضاء لا الارض، تبعاً لعدد من الكيفيات. وفي الحياة الطبيعية ان عمليات الأيض البروتيني والتكاثر كلاهما ضروريان ومندمجان معاً. لكن المشكلة هي أيهما كان الاساس في نشأة الاخر؟ مع استبعاد ان تكون النشأة متضمنة لكلا النوعين من العمليات في الوقت ذاته، باعتبار ان هذا الافتراض يتنافى مع مبدأ البساطة العلمية
1ـ فرضية التنظيم الذاتي
تتمثل اهم النظريات التي تمثل البداية البروتينية باطروحة التنظيم الذاتي. فمع نهاية الستينات ظهرت فكرة الائتلاف الذاتي بين الاحماض الامينية في بناء البروتينات ضمن التفاعلات الكيميائية، كالتي بشّر بها كينيون وستاينمان في كتابهما (القدر الكيميائي الحيوي Biochemical Predestination). ومن ثم تبناها العديد من العلماء أمثال ستيوارت كوفمان Stuart Kauffman وبريان جودوين Brian Goodwin ودوين فارمرDoyne Farmer ونورمان باكارد Norman Packard وغيرهم.
وبداية أبدا الباحثان كينيون وستاينمان مديونيتهما لعدد من العلماء الذين لعبوا دوراً في تطوير البحث المتعلق بنشأة الحياة البدائية، وخصوا بالذكر بالاضافة الى اوبارين كلاً من كالفين Calvin وباتي Pattee وليليفيك Lillevik.
وكانت نظريتهما تقترح بان الحياة لم تنشأ بالصدفة والعشوائية كما كان يظن من قبل، كما لم يُحدِثها قانون حتمي صارم، بل نشأت بفعل الجذب الذاتي بين مكونات الحياة الكيميائية، وذلك اعتماداً على التفضيل وقوة الاحتمال، فلبعض الاحماض الامينية قوة جذب في الارتباط مع بعض اخر اكثر من غيرها، اي ثمة تفضيل لتسلسلات معينة لهذه الاحماض على غيرها، وهي عوامل جذب وتنظيم في الارتباط بين عدد من الاحماض بشكل مخصوص دون غيرها، ومنها تشكلت البروتينات؛ دون ان يكون لذلك اساس من الاحماض النووية مثل الدنا. فالعملية كانت كيميائية بحتة لا علاقة لها بالتشفير والمعلومات التي يختزنها الدنا، كما تطور الحال فيما بعد.
وبعبارة ثانية، ركزت هذه النظرية على بناء البروتينات كخطوة اساسية واعتبار الحامض النووي (الدنا DNA) يعتمد عليها، مع ان الحاصل في الحياة الفعلية هو العكس تماماً، حيث ان بناء البروتينات يعتمد على تخطيط الدنا للمعلومات، وبدونه لا يمكن للبروتينات فعل شيء.. لكن مع اخذ اعتبار ان الدنا ليس بوسعه فعل شيء دون مساعدة بعض البروتينات، لذا فالعلاقة بينهما دورية محيرة كعلاقة البيضة بالدجاجة.
وقد اعتبر الباحثان ان هذه العملية جرت بالطريقة نفسها التي تحصل في تفاعل وحدات بلورة غير عضوية لتوليد بلورة منتظمة ثلاثية الابعاد.
مع هذا تخلى احد الباحثين عن نظريته منذ حوالي منتصف السبعينات، وهو كينيون الذي ناصر في البداية حركة الخلقويين، ومن ثم التحق بركب انصار التصميم الذكي.
نظرية كوفمان
يعتبر الطبيب وعالم الاحياء النظرية ستيوارت كوفمان اشد المتمسكين بنظرية التنظيم الذاتي واكثرهم ابداعاً واشباعاً. فقد جعل من هذه الفكرة الاساس الذي تقوم عليه، ليس فقط النظم البايولوجية، وانما ايضاً تلك التي تتصف بها العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن النظم الفيزيائية والكيميائية وغيرها، كالذي فصّل الحديث عنه في كتاب (في بيتنا في الكون) عام 1995 وغيره من الدراسات.
وفي اطروحته العامة اعترض كوفمان على نظرية داروين وحسبها عاجزة عن تفسير تطور الكائنات الحية، منكراً ان يكون للانتخاب الطبيعي قدرة كافية على تفسير النظم الحيوية كما نراها في عالم الطبيعة. فمن وجهة نظره ان هذه الفكرة غير معقولة وتبعث على الذهول، حيث نجد نظاماً رائعاً جداً؛ سواء في نشأة الحياة او تطورها، فكيف يمكن للانتخاب الطبيعي ان يكون مصدره الاساس؟ لذلك صرح بالقول: ‹‹من حدسي، من أحاسيسي dreams، من عملي ثلاثة عقود، من عمل الكثير من العلماء الآخرين، لا أعتقد ذلك››.
وقدّم بهذا الصدد بعض النماذج الدالة على عجز الانتخاب الطبيعي في ان تكون له قدرة على تفسير ما يجري في نظم الحياة، من بينها الصيرورة التي تتحول فيها بيضة مخصبة الى طفل حديث الولادة. واضاف الى ان من الممكن ان ينشأ النظام المذهل من دون الاعتماد على الانتخاب الطبيعي، كما يلاحظ في عالم الكون من ظواهر فيزيائية، مثل تناسق ندفة الثلج السداسية الشكل.
وعادة ما ينظر الى التطور في علم الاحياء بانه احداث عرضية، في حين رأى كوفمان انه انعكاس للنظام العميق. وهذا ما جعله يتفاءل في ان يعثر على قوانين جميلة تفضي الى نشأة الحياة والتطور، رغم تعذر امكانية التنبؤ بالتفاصيل الدقيقة، معتبراً ان سمة هذه القوانين هي التزاوج بين التنظيم الذاتي والانتخاب الطبيعي الذي يعمل عليه.
ووفقاً لهذه القوانين فان معظم الترتيب الجميل في مرحلة التطور الحيوي طبيعي عفوي التنظيم . وهو من هذه الناحية يعتبر مجانياً، وابرز مثال عليه شبكات التنظيم الذاتي للجينوم. وبحسب كوفمان فان العلماء يدركون لاشعوراً وجود مثل هذه النظم التلقائية، لكنهم يتجاهلونها، ويكتفون بالتركيز على الانتخاب الطبيعي. واصبح الحال اشبه بما يحدث في الصور الجشطالتية، حيث التركيز على صورة معينة يخفي الثانية، وما لفت انتباه علماء الاحياء هو صورة الانتخاب الطبيعي، فيما ظلت الصورة الاخرى للتنظيم الذاتي خفية. مع انه من وجهة نظره ان كلا الصورتين يعبران عن الحقيقة بتمامها، بل وان التنظيم الذاتي المجاني هو الاساس في نشأة الحياة وتطورها.
وتتأسس القوانين العميقة، التي سعى كوفمان لاستحضارها، على الجواذب الذاتية التي تجعلها متوقعة الحدوث وفق الاحتمالات وتوافيقها المنطقية، وهو المعنى الذي اراده من عنوان كتابه (في بيتنا في الكون). حيث من الطبيعي ان نكون في هذا الموطن، فهو المتوقع بفعل هذه الجواذب، ولسنا نتاج احداث عرضية كما يتصورها اغلب العلماء، خاصة اتباع الداروينية الذين يؤكدون المعنى العرضي للحياة والتطور.
ولا شك ان كوفمان لم يلمح بعنوان كتابه المذكور ولا باطروحته الضمنية الى وجود مخطط او علة غائية، خلافاً لما اعتقده مايكل دنتون من انه لمّح الى العلة الغائية في هذا الكتاب؛ بدلالة قوله: “علينا ان نرى اننا باجمعنا تجليات طبيعية لنظام اعمق، وسنكتشف ختاماً في قصة خلقنا ان المشهد ينتظرنا في كل الاحوال”.
في حين لم يقصد كوفمان، سواء في هذا النص، او في مجمل ما طرحه في الكتاب المشار اليه، سوى التعبير عن فاعلية جواذب الائتلاف الذاتية لكل ما يحدث في الحياة دون اعتبارات اخرى اضافية باستثناء الانتخاب الطبيعي، مؤكداً على ان للذرات والجزيئات ميلاً ذاتياً نحو صنع الحياة والتطور.
كما ان كوفمان وغيره من اصحاب نظم الائتلاف الذاتي لم يكونوا من اتباع المذهب الحتمي، خلافاً لما اعتقده ستيفن ماير، حيث اعتبرهم يحملون توجهاً حتمياً في قبال المذهب القائم على الصدفة. وحقيقة ان نظريات الجذب والائتلاف الذاتي هي احصائية قائمة على التوافيق الاحتمالية، وان كانت النتيجة التي تنتهي اليها لا تختلف عن القوانين الحتمية الصارمة. وهو ما يذكر بالخلاف الذي حدث بين ماكس بلانك وبولتزمان.
لقد استعاد كوفمان المفاهيم الاحصائية لدى الفيزياء الحديثة، كما في علم الديناميكا الحرارية والميكانيكا الاحصائية لكل من كارنو وبولتزمان وجوزيه جيبس Josiah Gibbs ، مضيفاً اليها ما قدمه داروين حول الانتخاب الطبيعي. واشار الى انه اشتغل طيلة 30 عاماً على إظهار الظروف التي تُنتج الديناميكيات المنظمة. واعتمد بشكل اخص على الفهم الدقيق الذي قدمه بولتزمان للقانون الثاني للثرموداينمك، فعندما يكون لدينا صندوق مليء بالجزيئات سنتوقع انها تتوحد في الاتجاهات المختلفة للصندوق دون ان تتجمع في زاوية محددة، ليس لأن الامر ناجم عن حتمية معينة، انما هو نتيجة الاحتمالات الاحصائية التي يمكن ان يتوجه اليها كل جزيء من الغاز. ما يعني ان تجمع هذه الجزيئات في زاوية معينة هو امر محتمل، لكنه في غاية الضآلة. فهذا النوع من النظام البسيط قائم على قوانين العشوائية الصرفة. وعادة ان النظم الفيزيائية البسيطة تظهر ترتيباً تلقائياً، مثل كرة الزيت الطافية على الماء وندف الثلج السداسية الشكل. وهو ما يميز الفيزياء الاحصائية عن الفيزياء الحتمية وفيزياء الكوانتم.
ومعلوم ان ابرز من اشتغل على الديناميكا الحرارية التي تُظهر الانتظام عفوياً حتى في المجال الحيوي هو الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ايليا بريغوجين Ilya Prigogine، حيث حدد نشوء هذا الانتظام عندما يكون النظام مفتوحاً غير متوازن تبعاً للطاقة المتدفقة، مثلما يحصل في الاعاصير الدوامة وتيارات الحمل الحراري وتشكل هياكل البلورات وسائر اشكال التكرار المتغير المعروف بهندسة الفراكتال Fractal Geometry؛ كما حددها عالم الرياضيات المتميز ماندلبورت Mandelbrot عام 1975، وهي التي استقطبت اهتمام نظرية الشواش Chaos theory، ومن نتائجها ان النظام يستتر تحت الاضطراب بنسبة محددة ثابتة؛ هي ما تعرف بمعادلة الشواش او الجاذب الغريب، ومقدارها يساوي (4.6692016090).
ويسمى النظام الديناميكي في الفيزياء الاحصائية بالارجودي ergodicity كما صاغه بولتزمان. ويُقصد به أن نقطة نظام متحرك عشوائياً، ديناميكي أو تقلبات متنافية، ستزور في النهاية جميع أجزاء الفضاء الذي يتحرك فيه النظام بشكل موحد. وهذا ما يهيء لنا استنتاج متوسط سلوك النظام لدى العينات العشوائية الكبيرة؛ سواء في حالة العشوائية الديناميكية المحافظة على النظام وفقاً لما يسمى بمقياس سيجما، او في حالة التقلبات المتنافية، كوجهي العملة في الرميات الكبيرة التي تحافظ على النظام الثابت، وفقاً لما يسمى بمقياس برنولي. وتعتبر النظم الفيزيائية بهذا المعنى ارجودية.
لقد اعتبر كوفمان ان النظام العفوي (الارجودي) للعشوائية الديناميكية ينبسط على الحياة ايضاً، وبذلك تكون مساحته أكبر بكثير مما كان متوقعاً. وهو في (عام 2003) رشح وجود قانون رابع للديناميكا الحرارية يُعنى بالنظم الديناميكية المفتوحة لكنها ذاتية البناء، مثل المحيطات الحيوية.
فمن وجهة نظره ان النظم الحياتية هي ايضاً متولدة عفوياً من العشوائية وفقاً لبعض الشروط المتعلقة بالجواذب، شبيه بما يحصل عند انتشار جزيئات الغاز، حيث توجد جواذب صغيرة تعتبر مصدر النظام الحاصل بين مجموعة واسعة من السلوكيات المختلفة، فيستقر النظام في عدد قليل منها. فالنظم الحية هي نظم ديناميكية حرارية مفتوحة يتم إزاحتها باستمرار عن التوازن الكيميائي بفعل تدفق الطاقة والمادة، وبذلك تبنى الجزيئات المعقدة التي هي الرموز المميزة في لعبة الحياة.
فعوامل الجذب الصغيرة لا تُنشئ النظام مجانياً فحسب، بل هي ايضاً مصدر التوازن الذي يشكل ضمان استقرار النظام، وذلك من خلال مقاومة الاضطرابات الصغيرة.. فالحال اشبه ما يكون بتحول بخار الماء الى جليد، حيث يمر بمرحلتين انقلابيتين كحد للعتبة، هما السيولة والتجمد. وتمثل المرحلة الاولى وسطاً بين العشوائية والنظام.
واقرب مثال فيزيائي ركز عليه كوفمان بهذا الصدد هو ما يحصل من نظام عند اضاءة واطفاء مجموعة واسعة من المصابيح عشوائياً، فعند حد حرج يتحقق النظام، واعتبر ذلك شبيهاً بما حدث في نشأة الحياة.
هكذا اسقط كوفمان نظم الجواذب المعمول بها في الفيزياء الاحصائية على الحياة مع اضافة الانتخاب الطبيعي. وهو اختزال شبه تام لعلم الاحياء في الفيزياء، الامر الذي تداركه عام 2019 كما سنعرف.
ففي المجال الحيوي صرح بوجود نظام جماعي يمتلك خاصية مذهلة لا يمتلكها اي جزء من اجزائه، فهو قادر على اعادة انتاج نفسه ويتطور. ومن ثم فالنظام الجماعي حي، في حين ان اجزاءه مجرد مواد كيميائية لا اكثر. وينطبق هذا الحال على علاقة اجزاء الخلية بالخلية ككل. وهو المعنى الذي كرره بعد حوالي ربع قرن، حيث اعتبر الحياة ليست بسيطة ولا عارية كما في الرنا العاري، فهي كاملة ومعقدة كشبكة من ردود الفعل المتبادلة التحفيز، اذ لا تقع في خاصية أي جزيء منفرد، لكنها خاصية نظم الجزيئات المتفاعلة باجمعها. فالحياة ظهرت كاملة، وما زالت كاملة كخاصية جماعية ناشئة عن الكل الجماعي. وهي من هذه الناحية لا تحتاج الى قوة مستقلة كالقوة الحيوية، وان النظام الخلوي هو آلة دون ان يكون متألفاً من المادة وحدها، او الطاقة وحدها، او الانتروبيا وحدها، او الظروف المحيطة بها وحدها، بل انه تنظيم لها جميعاً في وحدة متكاملة.
وطبقاً لما سبق اعتقد أن الخلطات المعقدة بما فيه الكفاية من المواد الكيميائية يمكن أن تتبلور تلقائياً في نظم لها القدرة على تحفيز شبكة التفاعلات الكيميائية بشكل جماعي، وتحافظ مجموعات التحفيز الذاتي هذه على نفسها وتتكاثر، كما هو حال الببتيدات، وهي انزيمات بروتينية صغيرة، كما في بعض جزيئات الطعام.
وعادة ما يتم الاعتماد في تفسير نشوء الحياة على امكانية صنع الببتيدات، وبعضها يعتبر من المحفزات الانزيمية المستخدمة في الادوية، وتحتوي عادة على ستة احماض امينية، ويمكن في هذه الحالة انتاج 64 مليون بروتين مختلف منها، وفقاً لعدد التوافيق، ضمن قائمة العشرين حامض اميني، اي ان احتمال نشوء اي واحد منها عشوائياً هو واحد من ذلك المقدار (20-6).
وبهذا المعنى اعتبر كوفمان ظهور الحياة ليس غامضاً، وقد يكون أسهل بكثير مما كان متوقعاً. فتبعاً للاعتبارات الفيزيائية والكيميائية انه إذا تراكم مزيج متنوع بدرجة كافية من الجزيئات في مكان ما ، فإن احتمالية ظهور نظام التحفيز الذاتي والتكاثر الذاتي يصبح اقرب لليقين.
لقد راهن كوفمان على امكانية ظهور الحياة كنظم تحفيز ذاتي جماعي تدور في بعض الحساء من دون جينوم. اذ انكر وجود احماض نووية عارية تتضاعف بذاتها، واعتمد عوضاً عنها على البروتينات المحفزة، معتقداً بان التحفيز الذاتي الذي يمنح التكاثر ومعظم التحفيز الخلوي انما يكون بواسطة انزيمات البروتين لا الاحماض النووية. واعتمد في ذلك على تجارب البروفسور رضا غديري Reza Ghadiri وفريقه من معهد سكريبس للأبحاث في كاليفورنيا، والتي اثبتت صنع بروتين صغير جداً يتكاثر ذاتياً عام 1996. وقبل هذا الوقت كان الاعتقاد السائد ان البروتينات لا تمتلك القدرة الكافية على التكاثر لغياب الحلزون المزدوج للدنا. وعلى هذا الاساس اعتبر كوفمان ان تكوين الببتيدات الصغيرة وظهورها العفوي ما قبل الحيوي ينبغي ان يؤخذ بمحمل الجد.
وحول تجربة رضا غديري، فقد وجد فريقه أن النظم البيئية الجزيئية، التي تتكون من عدد قليل من البروتينات، يمكنها التكاثر الذاتي وتصحيح أخطاء النسخ المتماثل. ففي التجربة كان المضاعف عبارة عن ببتيد مكون من 32 حمض أميني شكّل السقالة التي ترسو عليها قطعتان أصغر ودمجت لتكوين ببتيد متطابق مكون من 32 حمض أميني.
وعبّر غديري عن هذه النتيجة قائلاً: ‹‹لقد فوجئنا بأن مثل هذه البروتينات البسيطة يمكن أن تتصرف وكأن لها عقلاً خاصاً بها››.
مع هذا فان الاصل في التجربة هو تحضير بروتين صغير موضوع سلفاً دون ان يتكون تلقائياً، كما ان المكرر الذي حصل يعتبر مكرراً بسيطاً لا يمكن مقارنته بالنسخ المعقد للدنا، ولا يمكن اعتباره الاصل في عملية الترجمة التي يقوم بها الدنا كما في تخليق البروتينات العملاقة.
يبقى ان كوفمان اعترف عام 2019 بوجود شيء مفقود في كتاباته السابقة، وهو ما جعله منزعجاً كما ابدى ذلك في مقدمة كتابه (عالم ما وراء الفيزياء)، وصرح بان عالم الحياة يمتلك معنى اصيلاً وعميقاً يتمثل بالوظائفية التي لا نجدها في عالم اخر مثل الفيزياء. واشار الى خطأ الاعتقاد القائل بانه كلما زاد بحثنا كلما تأكد لنا ان الكون بلا معنى، كالذي صرح به الفيزيائي المعروف ستيفن واينبرغ؛ استناداً الى التصور القائم على الافق الفيزيائي. أما كوفمان فذهب الى نتيجة مخالفة اعتماداً على الوظائفية التي تزدهر بها الحياة وتطوراتها، ورأى ان للكائن الحي وجوداً ووظائف في كون غير أرجودي nonergodic universe فوق مستوى الذرات.
لذلك لا ينفع في هذه الحالة الاستناد الى اسقاط النظم الفيزيائية على الحياة، ولا استعارة قوانينها واعتبار ما يحصل متوقعاً نتيجة قوانين الجذب العفوي. ففي الكون غير الارجودي لا يمكن استنتاج وتوقع ما حصل من تطور منذ بداية الكون؛ لعدم وجود قوانين تستلزم ظهور التنوعات ومجمل المحيط الحيوي.
وبلا شك ان هذا المعنى جاء مخالفاً للتأسيس القائم على التحفيز الديناميكي الذاتي وفق اُطر الكون الارجودي.
ولعل اهم نقد يمكن توجيهه الى نظرية كوفمان ومجمل نظريات الجذب والتنظيم الذاتي، هو انه لو كانت هذه النظريات صحيحة لكان من المتوقع صناعة الحياة تلقائياً بمجرد خلط مكوناتها واجزائها ضمن ظروف ملائمة. وعلى الاقل صناعة جزيئاتها الضخمة من الاحماض النووية والبروتينات عفوياً. لكن هذا لم يتحقق، وفي خصوص الحياة رغم ان التجارب مدعومة بالذكاء البشري المتطور فانها لم تتمكن من تخليقها عن قصد وعمد حتى يومنا هذا. والاعظم من ذلك ان الحياة تظهر ذاتها بانها غير عكوسية، فعندما تموت الخلية او الكائن الحي لم يكن بالمستطاع بث الحياة فيها من جديد، حتى وان بقيت كافة مكوناتها سليمة لم يصبها شيء من التحلل. ولهذه الظاهرة دلالة يمكن تسليط الضوء عليها في حلقة مقبلة.
وعموماً ان هذه النظريات عاجزة عن ايضاح كيف نشأت الحياة تلقائياً. كما انها عاجزة عن تفسير كيف تمت عملية تخصص الخلايا الحية وفق العشوائية التلقائية، وفي النمو الجنيني لماذا يتوقف بناء عضو كائن حي في وقت محدد ليبدأ بناء عضو اخر ضمن توقيت ملائم ومختلف؟ فأي قانون طبيعي؛ فيزيائي او كيميائي او غيرهما يمكنه تفسير مثل هذه العمليات المعقدة؟
ونشير اخيراً الى ان قوانين التنظيم الذاتي للعلوم الطبيعية على شاكلة الفيزياء والكيمياء مختلفة جذراً عما يحدث في اطار التنظيم الحيوي. فقوانين التنظيم في العلوم الطبيعية بنيوية تكرارية بسيطة عادة، فيما ان نظيرتها في المجال الحيوي وظيفية معقدة دون ان تكون تكرارية، وان العوامل المسببة للاولى مختلفة تماماً عن العوامل المسببة للثانية. وهذا ما سنفصل الحديث في حلقة مقبلة.
2ـ فرضية عالم الرنا
لقد واصل العلماء طرح فرضياتهم واقامة تجاربهم المتعلقة بنشأة الحياة، وفي الاخير سيطرت فكرة ان تكون نشأة الحياة مرتبطة بسيناريو الحامض النووي الرايبي (الرنا RNA). ومعلوم انه تم اكتشاف الرنا عام 1956، اي بعد ثلاث سنوات من اكتشاف بنية الدنا.
واهم وظيفة طبيعية يقوم بها حامض الرنا هو انه يستمد معلوماته من الدنا لأجل بناء البروتينات من سلاسل الاحماض الامينية الطويلة.
فقد بدأت التجارب حول الحامض النووي الرايبي (الرنا) منذ الثمانينات بعد فشل التفسير القائم على كل من البروتينات والحامض النووي الدنا. واول من اقترح فكرة وجود رنا عار من دون غشاء يمثل أساس خلق الحياة هو الكسندر ريتش عام 1962، ومن بعده عالم الاحياء الدقيقة كارل ووس Carl Woese، كما في كتابه (الشفرة الجينية The Genetic Code) عام 1967، كذلك ليسلي اورجيل عام 1968، ومثله فرانسيس كريك الذي اقترح في ذات هذا العام ان يكون الرنا قد صنع الرايبوسوم البدائي بالكامل. وكل ذلك كان مشجعاً للاعتماد على سيناريو الرنا الذي يعمل على صناعة البروتين كتمهيد لنشأة الحياة الاولية.
وصيغت هذه الفرضية بمصطلح (عالم الرنا) كالذي نحته الكيميائي الحيوي الحائز على جائزة نوبل والتر جلبرت Walter Gilbert في مقالة قصيرة له في مجلة الطبيعة بذات هذا العنوان (The RNA World) عام 1986، والذي كُتب له الشهرة والديمومة.
وبحسب هذه الفرضية يكون الرنا العاري اساس نشأة الحياة بفعل تجمع وارتباط لبناته الاساسية المتمثلة بجزيئات النيوكليوتيدات nucleotides. وفي الحالة الطبيعية اظهرت التجارب ان هذه الجزيئات لا تتكون من غير مساعدة الرنا نفسه. وبذلك تكون علاقة الاخير مع اجزائه كعلاقة البيضة بالدجاجة.
ومن حيث الاساس يتكون الرنا من امتدادات لسلسلة طويلة من نيوكليوتيدات معينة يتصف ارتباطها بنوعية محددة دقيقة لحمل المعلومات الوظيفية.
ومعلوم ان النيوكليوتيد هو جزيئة تتكون من قاعدة نايتروجينية مرتبطة بعمود فقري من السكر والفوسفات، والتي يتألف منها حامض الرنا، ومثله الدنا، ليشكل جزيئة ضخمة عبر سلسلة طويلة منها. ويوجد لكل من هذين الحامضين النوويين اربع قواعد نايتروجينية، تتماثل ثلاث منها في كل منهما، وهي (الجوانين G والثايمين T والسايتوسين C) مع اختلاف الرابعة، ففي حامض الرنا توجد قاعدة اليوراسيل U، فيما توجد لدى حامض الدنا قاعدة الأدنين A. وفي كلا الحامضين ترتبط القواعد النايتروجينية بكل من سكر الرايبوز ومجموعة الفوسفات. ويكون الرايبوز في الرنا حاوياً على الاوكسجين بخلاف الدنا الذي يخلو منه.
وتعتبر عملية تكوين جزيئة واحدة من النيوكليوتيدات معقدة للغاية. وفي الحالة العادية اوضحت التجارب فشل تخلق هذه الجزيئة عبر تفاعل وارتباط عناصرها الاساسية من القواعد النايتروجينية والسكر والفوسفات.
مع هذا اعتبرت تجارب الرنا خلال الثمانينات واعدة مثل تجارب ميلر الاصلية بداية الخمسينات. فالرنا يحمل عدداً من الخصائص الهامة التي تجذب الباحثين للتعويل عليه. فمن جانب انه ابسط من الدنا لاحتوائه على طوق واحد بدل الطوقين، وهو مشابه له بدرجة كبيرة، مع وجود بعض الاختلافات التي اشرنا اليها سلفاً. وفي بعض الحالات يمكنه تخزين المعلومات واستنساخها بطريقة مشابهة لما يحصل في الدنا، مثل ان بعض الفايروسات تستخدم الرنا كمادة وراثية حاملة للمعلومات بدلاً عن الدنا. كما يمكنه القيام بالتنظيمات الجينية مثلما يقوم بها الاخير، بما في ذلك قدرته على صنع نفسه بنفسه من دون مساعدة الانزيمات البروتينية، فله القدرة على التكاثر الذاتي بتصنيع جزيئات اخرى له، وهذا ما تعجز البروتينات عن القيام به، باستثناء ان بعض الاجزاء الصغيرة من سلاسل الببتيدات يمكنها التكاثر ذاتياً مع تصحيح اخطاء النسخ كما يفعل الحامض النووي الدنا، وهذا ما تم اكتشافه من قبل البروفسور رضا غديري كما عرفنا.
وفي بعض الكائنات المجهرية تكون للرنا قدرة على التجزء ليلعب دور البروتين المحفز ومن ثم التجمع والعودة كحامض نووي كما كان. وكما ثبت في عام 1986 ان بوسعه ان يكون في الوقت ذاته جيناً حاملاً للمعلومات وانزيماً يتداخل في تحوله الذاتي وهو من شأن البروتينات. وبذلك يمكنه تحفيز التفاعلات الكيميائية الضرورية للحياة، خلافاً للدنا الذي يتميز بالخمول ومقاومة التحفيز.
لكن تبقى مشكلة الرنا انه هش وغير مستقر وثابت نسبياً مثل الدنا، سواء من حيث درجة الحرارة حيث يتفكك عند المستويات المعتدلة والعالية، او من حيث التحلل المائي بسبب وجود مجموعة المركب العضوي الهايدروكسيل2 (2'-hydroxyl group) من سكر الريبوز. لذلك افترض البعض احتمال ان تكون نشأته الاولى قد حدثت وسط ظروف جليدية.
ورغم مشكلة هشاشة الرنا وشدة تعقيده رجّح الكثير من العلماء ان يكون هذا الحامض مقبولاً ليلعب دوراً مركزياً لحياة بدائية جداً كالحياة الاولية، ومن ثم تحوّل هذا الدور الى الدنا كما نشاهده في الخلايا الحية.
واستناداً الى هذه الاطروحة تم افتراض وجود حساء بدائي تشكلت فيه جزيئات النيوكليوتيدات كأشكال طافية حرة، رغم ان هذا السيناريو يواجه عدداً من المشاكل، منها ان قواعد هذه الجزيئات لم تكن متاحة بسهولة في وقت مبكر للارض، وكما اثبتت التجارب انها تخفق في ان تتشكل بهيئة مستقرة، خاصة الصعوبة التي تلوح السايتوسين لهشاشته وقابليته الكبيرة على التحلل، وكما قال روبرت شابيرو: إن تخلق هذه القاعدة في الوقت المبكر للارض هو شيء غير قابل للتصديق. يضاف الى ان تخليق السايتوسين له علاقة بإبعاد الاحماض الامينية.
كما افترض بعض اخر بانه قد لا يكون السايتوسين اول جزيء جيني، وهو ما يثير التساؤل عن ان يكون الجوانين غائباً ايضاً؛ لارتباطهما الثابت في الحامض النووي.
كذلك ان سكر الرايبوز هو الاخر يتصف بالتحلل وعدم الاستقرار كالذي اظهره ستانلي ميلر، لذا انكر ان تكون السكريات بكافة انواعها ممثلة لاساس المادة الجينية الاولى.
ومعلوم ان مثل هذه المشاكل بررت للقول بفكرة الجراثيم الفضائية. ومع التغاضي عنها، توقعت فرضية الرنا ان تكون جزيئات النيوكليوتيدات الطافية قد ارتبطت فيما بينها بانتظام في سلاسل قصيرة قبل ان تتحول الى سلاسل اطول لتفتح بذلك الطريق الى تشكيل جزيئة بدائية من الحامض النووي الرايبوزي. في حين اثبتت التجارب ان هذه العملية لا تتحقق من دون دعم بشري متعمد قائم على الذكاء المكثف.
لقد كانت المشاكل السابقة وما على شاكلتها مدعاة للعديد من السيناريوهات التي تبرر حدوث تخلّق الرنا. فبداية تم افتراض وجود نوعين لهذا الحامض، احدهما بدائي عاري يفترض تكونه في الحساء ما قبل الحيوي، ويتضمن نيوكليوتيدات قصيرة، واخر حقيقي يمتلك سلاسل طويلة من النيوكليوتيدات، كما نشاهده في الخلايا الحية. اضافة الى وجود نوع ثالث هو الرنا المصنع بشرياً. فاذا كان من المحال تخلق الرنا الحقيقي؛ فان من الممكن الاستعاضة عنه بنوع بدائي.
فمثلاً في دراسة حديثة حدد باحثون من معهد جورجيا للتكنولوجيا ثلاثة جزيئات مرشحة للقواعد التي ربما شكلت نسخة أولية من الرنا البدائي، هي حامض الباربيتوريك والميلامين و2،4،6-تريامينوبيريميدين. وتعتبر هذه الجزيئات الثلاث نسخاً أبسط من القواعد النايتروجينية الأربع في الرنا الطبيعي، والتي كان من الممكن أن تكون موجودة بكميات أكبر. لكن لم توضح هذه الفرضية كيف تم استبدال هذه الجزيئات بالقواعد المألوفة للرنا الاكثر مثالية؟ ومثل ذلك كيف نشأت النيوكليوتيدات الاكثر تعقيداً؟ وبعدها كيف نشأت سلسلة الرنا من هذه الجزيئات بنوعية محددة وسط عدد ضخم من امكانات الارتباط التي لا تنفع؟ فالتعقيد الحاصل في الرنا هائل، لذا يصعب تقبّل ان يشكّل الاساس البدائي للحياة.
ومع التغاضي عن هذه المشاكل تم افتراض ان جزيئات النيوكليوتيدات قد ارتبطت فيما بينها بانتظام ومن ثم تخلّقت جزيئة رنا قادرة على التكاثر والتضاعف الذاتي، وعندها ظهر دور الانتخاب الطبيعي في قيامه بوظيفة التحسين والتعقيد، فانتجت جزيئة الرنا مجموعة من الانزيمات الرايبوزية القادرة على صنع البروتينات بربط سلاسل الاحماض الامينية التي صادف وجودها في الحساء البدائي. هذا على الرغم من ان التحفيز في الرنا يعتبر خاصية نادرة في قبال آلاف الوظائف التي تنجزها البروتينات، كما انه محدود للغاية. فهو يعادل ما يقارب الواحد من مليون مرة اضعف من التحفيز البروتيني.
لذلك اُقترح أن الأحماض الأمينية قد تكون متورطة منذ البداية مع جزيئات الرنا كعوامل مساعدة تعزز وتنوع قدراتها الأنزيمية، قبل أن تتطور إلى ببتيدات أكثر تعقيداً. لكن الدراسات العلمية اظهرت بان وجود الاحماض الامينية يمنع تشكل السكر الذي يعتمد عليه الرنا، كالذي بينته دراسة روبرت شابيرو Robert Shapiro عام 1998. وهذا يعني انه لاجل ان يكون الرنا جاهزاً ومكتملاً ينبغي ان لا تتوفر حينها هذه الاحماض. لكن عدم توفرها يمنعه من القيام في تخليق البروتينات.
كما تفترض فرضية الرنا العاري انه بعد اكتمال تخلق جزيئة الرنا قامت الاخيرة باحاطة نفسها بغلاف دهني بدائي، او اصطناعه بهيئة حويصلة مزدوجة تتصف بالنفاذية والتكاثر والحماية بعد ان مرّت بعدد من التطورات والآليات المجهولة، فتشكلت بذلك خلية اولية، واصبح الرنا قادراً على التضاعف الخلاق. مع هذا اعتبرت الخلية الاولية الحاوية على نسخة منفردة من جينات الرنا عرضة للتلف، فاصابة واحدة في اي جزء منها يقتلها ويدمر الخلية، وهو ما يعني ضرورة افتراض نسختين او اكثر من الرنا ليمكن اصلاح التلف في جينات اي واحد منها عبر نظيراتها المماثلة في الرنا الاخرى، لهذا اُقترح نشوء خليتين اوليتين اندمجتا ليكوّنا خلية واحدة بنسختين من الحامض الرايبوزي. وقد اعتبرت هذه العملية هي اصل التكاثر الجنسي الذي تطور لدى الكائنات الحية.
وبعد نجاح الرنا في الخلية الاولية تم فتح الطريق لنشأة عدد من النظم البايولوجية المحمية من الشوائب والمواد الضارة. وتتصف هذه الخلية بنظام التكاثر والتمثيل الغذائي. ومعلوم انه في الخلايا الطبيعية يتصف الغلاف الخلوي بغاية التعقيد، فهو مؤلف من طبقتين معقدتين من البروتينات الخارجية والداخلية، اضافة الى طبقة الدهون الفوسفاتية، وله وظائف حيوية هامة في ادخال المواد المغذية والنافعة مع تصدير الفضلات الضارة، كما يتخذ دور المستقبل للرسائل الكيميائية ومعالجة المعلومات. لكن في الحساء البدائي لا يوجد مثل هذا النوع من الغلاف الساحر.
ثم اصبحت الخلية حاوية على الدنا الاكثر ثباتاً واستقراراً من خلال البروتينات المحفزة؛ فأخذ مكان الرنا في التنظيم وتخزين المعلومات الوراثية. وهي عملية ما زالت غامضة وغير معروفة. اذ ما الذي يجعل حصول هذا التحول، فاذا كان الرنا يعمل في البداية بنجاح فلماذا تغير الحال، الى درجة انه اصبح من غير الممكن التخلي عن الدنا والاكتفاء بالرنا وحده؟ وقيل ان الفايروسات هي من لعبت الدور في هذا المجال من التحول. لكن ذلك يجعل الطريق نحو الجراثيم الفضائية مفتوحاً.
وفي جميع الاحوال، ان اهم مشكلة تواجهها هذه الفرضية وغيرها من النظريات الطبيعانية هي معضلة المعلومات او الرسائل المشفرة. فمعلوم ان جزيئة الرنا - في هذه الفرضية - هي من تقوم بتخزين المعلومات ومن ثم الاستنساخ وتكوين البروتينات. لكن كيف نشأت المعلومات؟ فاذا كانت المعرفة العلمية لم تستطع ان تكتشف آلية تكوّنها؛ سواء عبر قانون محدد، او من خلال التنظيم الذاتي العفوي، فان ما يتبقى من الافتراضات اثنان، فإما الاعتماد على الصدفة، او افتراض الذكاء الخلاق. وعادة ما يميل العلماء الى الصدفة تجنباً لإله الفجوات، لكن مشكلتها هي انها تجعلنا نقف امام احتمالات لا يسعها عمر الكون كله، كما سنعرف ذلك في حلقة مقبلة.
هذا ناهيك عن ان فرضية عالم الرنا تتضمن العديد من المصادفات المفترضة التي تقبّلها العلماء رغم وضوح تهافتها. فنظم الرنا والدنا والبروتينات ومصانع الرايبوسوم والغلاف الخلوي وغيرها تعبّر عن كيانات معقدة تعجز التجارب العلمية عن تحضير اي منها بشكل طبيعي. ومع هذا افترض العلماء انها نشأت تحت وطأة عدد من المصادفات الناجحة بمساعدة الانتخاب الطبيعي. في حين لو كانت الصدفة – ومثلها القوانين والتنظيمات الذاتية - قادرة على بناء الكيانات المعقدة؛ لكان من المحتم ان يسهل صنعها في المختبر تحت الظروف الملائمة. والعكس بالعكس، اذ العجز عن صنعها رغم توفر مختلف الظروف المناسبة؛ ينبئ باستحالة ان يكون للصدفة والقوانين والتنظيمات الذاتية قدرة على تخليقها.
وسبق لفريد هويل ان صرح بانه اذا كان ثمة مبدأ اساسي من المادة دفعت بطريقة ما النظم العضوية الى الحياة؛ فينبغي ان يكون من السهل اثبات وجودها في المختبر. كذلك نقول: لو ان الصدفة – والقوانين الطبيعية - يمكنها تحقيق شيء كالحياة لكان من السهل تحضيره في المختبر، ولو نظرياً ان كانت مواده او ظروفه غير متوفرة.
وتعكس هذه النتيجة ما نعتقده من قاعدة عقلية هامة مفادها: لا يمكن للصدفة ان تتفوق على الذكاء مطلقاً. وهي نقطة سنفصل الحديث عنها في دراسة مستقلة.
اعتراضات العلماء
يضاف الى ما سبق، وجّه العديد من العلماء جملة اعتراضات على فرضية الرنا، ومن ذلك ما قدمه كوفمان من نقد في اربع نقاط كالتالي:
1ـ تمكن العلماء من العثور على جزيء واحد من الرايبوزومات ribozymes في المختبر قادر على نسخ جزء صغير من نفسه (حوالي 10%)، ومن خلال عمليات النسخ تم انتقاء بعض التحسينات الطفيفة في القدرة على التكاثر الذاتي عبر العديد من العمليات المتكررة، لكن مشكلة هذه التجارب هي انها كانت مدعومة بالذكاء البشري دون ان تكون تلقائية. يضاف الى ان هذا الجزيء يعتبر نادراً وسط تريليونات من جزيئات الرنا غير القادرة على نسخ ذاتها في الطبيعة.
2ـ ما زالت عملية الحصول على جزيء الرنا او حتى البوليمرات الطويلة من هذا الحامض بعيدة جداً تحت الظروف الكيميائية والطبيعية البحتة التي يفترض انها كانت مسببة لحدوثها.
3ـ لوحظ ان تسلسل الرنا لا يستقر على حاله عندما يقوم بالاستنساخ. وتسمى هذه المشكلة بكارثة خطأ إيجن – شوستر Eigen– Schuster error catastrophe. فمنذ سنوات اظهر هذان العالمان أنه مع زيادة معدل الطفرة لتسلسل الرنا قيد الانتخاب، كما في أنبوبة اختبار مثلاً، تبقى المجموعة في البداية قريبة جداً من التسلسل الرئيسي، لكن مع حد معين يبدأ انحراف الاجيال وتصبح اكثر اختلافاً عن الاصل، ثم تفقد المعلومات الموجودة في هذا التسلسل. وتنبعث هذه المشكلة من قاعدة عامة تقول: كلما كان الجينوم كبيراً، كما في الخلايا البشرية، كلما قلّت نسبة الاخطاء النسخية فيه مقارنة بجينوم اخر اصغر، كما في البكتيريا والفايروسات.
4ـ إن بوليميراز الرنا RNA polymerase القادر على إعادة إنتاج نفسه هو جين مكرر عاري. فهو مجرد تسلسل رنا يطفو بلا حماية. والمشكلة هي كيف يجمع حول نفسه عملية استقلاب متصلة ومحفزة لآلية صنع الدهون لتتشكل حويصلة شحمية لإيوائه، وبعدها تتكون الخلية الاولية؟ وبلا شك انه لا يوجد مسار واضح من بوليميراز الرايبوزيم لمثل هذه الاعمال.
كذلك ابرز ستيفن ماير الكثير من النقاط النقدية حول فرضية عالم الرنا، وجمعها ضمن خمس مشاكل رئيسية مفصلة، وكان من بينها ما يلي:
1ـ استحالة تشكّل الاسس النيوكليوتيدية. ومثل ذلك استحالة تكون الرايبوز كالذي اظهرته دراسة شابيرو.
2ـ ان وجود الاحماض الامينية التي يتكون منها البروتين يمنع تشكل السكر الذي يعتمد عليه الرنا.
3ـ ان الجزيئات التي يتكون منها الرنا، وكذا الرنا العاري باكمله، قابلة للتفاعل مع الشوائب الكيميائية التي تعمل على منع تكوينها بسلامة.
4ـ ان الانزيمات الرايبوزية نادرة ورديئة التحفيز ولا تقارن بانزيمات البروتينات. فالاولى لا تنجز الا عدداً قليلاً جداً من آلاف الوظائف التي تنجزها البروتينات العادية. لذلك لن تحصل من خلالها الترجمة، والتي هي بناء تسلسل محدد من الاحماض الامينية انطلاقاً من نسخة رنا محددة.
5ـ ان وجود نظام ترجمة لتكوين البروتينات وتشفيرها يعتبر امراً غير معقول. فالرنا لا يمكنه القيام بالترجمة من دون مساعدة البروتينات المحفزة.
6ـ ان كل فرد في عالم الرنا لا يحسن الا صنعة واحدة فقط. فحتى لو وجدت كل الاجزاء معاً فسينجز كل واحد تفاعله الخاص به على حدة.. لكن الترجمة معقدة وتتطلب ربط مهام متعددة محورية باسلوب متكامل ومتزامن تقريباً، وهي بذلك تحتاج الى الانزيمات الحقيقية المحفزة، أما الرنا فليس بوسعه فعل ذلك.
7ـ ان تسلسل الرنا نوعي جداً، فليس كل تسلسل يصلح لتكوين الرنا القادر على التكاثر الذاتي او الاستنساخ. فمثلاً تمكن بعض الباحثين من هندسة جزيئة رنا يمكنها ان تنسخ جزءاً من نفسها بقدر 10% فقط، وقد اختار العلماء هذا المتضاعف الذاتي جزئياً من بين مجموعة مهندسة مكونة من 1015 جزيئة رنا كلها تقريباً لا تمتلك هذه القدرة المحدودة على التضاعف الذاتي، لذا فالتسلسلات التي تتمتع بهذه القدرة نادرة جداً.. وستكون اندر من ذلك في عينة عشوائية غير مهندسة. علماً بان الانزيم الرايبوزي القادر على نسخ نفسه جزئياً يتطلب 189 اساساً نيوكليوتيدياً.
وعموماً نجد ان فرضية الرنا ليست جديرة بالاعتبار، رغم ان اغلب العلماء يعولون عليها منذ اكثر من ثلاثة عقود، وقد عبّر عنها البعض في مقالة بعنوان: (فرضية عالم RNA: أسوأ نظرية للتطور المبكر للحياة باستثناء جميع النظريات الأخرى). فهي كالديمقراطية اسوء أشكال الحكم باستثناء البقية.
عود على بدء
لقد كان طرحنا السابق مجرد عرض مجمل حول اهم الفرضيات والتجارب التي حاولت ان تحل لغز الحياة ونشأتها، سواء بالاستناد الى فكرة الايض البروتيني، او الى تكاثر الحامض النووي. وكانت الافتراضات القائمة في هذا المجال تعتمد تارة على عامل الصدفة كمفتاح للحل، وثانية على القوانين الحتمية، او على كليهما معاً، وثالثة على فكرة الجواذب الائتلافية القائمة على الميل الاحتمالي في جعل عناصر الحياة تتشكل بشكل ذاتي. لكن جميع هذه الافتراضات والتجارب التي اقيمت بشأنها قد باءت بالفشل.
فمنذ ما يقارب 200 سنة وحتى يومنا هذا اجريت الكثير من التجارب المتنوعة حول نشأة الحياة، مع وضع العديد من الفرضيات، لكنها فشلت في حل هذا اللغز العظيم. بل كلما زاد البحث في الكشف عن سر الحياة؛ كلما ظهرت مشاكل اشدّ مما كانت عليه في السابق، خاصة وان المعيار المتبع في البحث هو المنهج الطبيعاني. فمنذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين سادت فكرة ان الحياة مدينة لفعل المصادفات العشوائية، ثم ظهر التفسير القائم على القوانين الطبيعية الحتمية، وبعد ذلك تم التزويج بين هذه القوانين والمصادفات الناجحة، فيما ذهب القليل الى فكرة الجواذب الذاتية لنشأة الحياة، وما زالت فكرة المصادفة ولو باقرانها ببعض القوانين هي الحاكمة في عقول علماء الاحياء عادة.
واغرب ما في الامر هو ان العلم الذي سعى جاهداً للتخلص من الفكر الاسطوري والخرافي، نراه ساقطاً في مستنقع المصادفات الاسطورية، او ما يسميه هويل بعقلية الخردة، وهو وصف للعلماء الذين يعتقدون بان للحياة منشأً قائماً على الصدف العشوائية للتفاعلات الكيميائية؛ متجاهلين بذلك ضخامة تعقيد الحياة بما يفوق التصور والخيال.
لقد اعترف بعض العلماء بحقيقة ما يواجهونه في نشأة الحياة بانها معضلة تزداد تعقيداً كلما توغلوا في البحث اكثر فاكثر. وكما صرح الكيميائي الحيوي كلاوس دوس عام 1988 بان اكثر من ثلاثين عاماً من البحث في اصل الحياة ادته الى “فهم افضل لضخامة مشكلة اصل الحياة على الارض اكثر مما ساعدت في حلها. ففي الوقت الحالي كل المناقشات التي تتناول النظريات والتجارب الكبرى في هذا المجال اما ان تنتهي الى طريق مسدود او الى الاعتراف بالجهل”.
وسبق ان عبّر فرانسيس كريك عن حسرته في حل هذه المعضلة كما في كتابه (الحياة ذاتها Life Itself) عام 1981 قائلاً: “بعد كل مرة اكتب فيها بحثاً في موضوع نشأة الحياة احلف بانني لن اعود للكتابة فيه مرة اخرى، ذلك ان فيه الكثير من التأمل يجري خلف القليل جداً من الحقائق، لكني لا بد من ان اعترف بان للموضوع، بالرغم من كل شيء، سحره حتى ليبدو انني لم اخلص لقسمي ابداً”. وكان كريك قد صرح عام 1966 في (الجزيئات والبشر) بان الحياة ولدت بفعل الصدفة عن طريق تخلق بعض البروتينات والاحماض النووية البدائية في الارض، وذلك قبل ان تتطور فكرته الى نظرية البذور الكونية الموجهة (Directed Panspermia) منذ عام 1972 حتى وفاته. وهو في جميع الاحوال لم يتخلّ عن ذات المنهج المادي الاختزالي، ومن ذلك انه نصح علماء الاحياء بانه يجب عليهم “أن يضعوا دائماً في اعتبارهم أن ما يرونه لم يتم تصميمه، بل تطور”.
وكريك في هذه العبارة جعل التصميم في قبال التطور، وهو خطأ طالما سقط فيه الكثير من العلماء.
***
وهنا نتساءل: ما المعضلة التي يواجهها العلماء في البحث في نشأة الحياة كي تجعلهم يعبرون عن العجز في حلها؟
والجواب هو ان العلماء ادركوا ان معضلة الحياة تتمثل بمعضلة المعلومات المعقدة، فالبحث في نشأة الحياة يعني البحث في نشأة المعلومات؛ تخزينها وبرمجتها واستنساخها وتصحيحها وترجمتها وما الى ذلك من وظائف يقوم بها الحامض النووي (الدنا DNA) بالدقة الفائقة، والذي من خلاله يتم التخطيط لتكوين الحياة وتطويرها عبر بناء البروتينات. فمن البروتينات البسيطة ما يحمل طولاً قصيراً بمقدار 100 حامض اميني، وهو لكي يتكون عشوائياً وسط عشرين حامض اميني حيوي يحتاج الى احتمال قدره -10130. ناهيك عن عقدة تخلّق الحامض النووي نفسه مثل الدنا. وكانت هذه هي العقبة التي لم يتمكن العلماء من معرفة كيف ومن أين نشأت هذه المعلومات بتعقيداتها الضخمة؟ وهي ما جعلتهم يعتقدون بوجود هوة عظيمة تفصل عالم الحياة عن العالم اللاعضوي منذ ان تم تفكيك الشفرة الجينية لتسلسلات النيوكليوتيدات على يد نيرينبرج Nirenberg خلال ستينات القرن العشرين.
لقد اصبح من المسلم به اخيراً ان مشكلة الحياة هي ذاتها مشكلة المعلومات. وسبق لكرستيان دي دوف ان رأى بان هناك سبعة عصور في تاريخ الحياة كما في كتابه (الغبار الحيوي)، وهي بحسب الترتيب: عصر الكيمياء، ثم المعلومات، ثم الخلايا البدائية، ثم الخلايا المفردة، ثم عصر الكائنات متعددة الخلايا، وبعده عصر العقل، واخيراً العصر المجهول الذي يتضمن مستقبل التطور. ويلاحظ ان النقطة الحاسمة في هذه العصور هي عصر المعلومات، اذ كيف تكونت لتنتج لنا خلية بدائية هي اساس تطور بقية العصور. ومن وجهة نظر دي دوف ان عصر الكيمياء هو من يقودنا مباشرة إلى جوهر الحياة لامتلاكها المعلومات، اذ تصور ان الحياة هي عملية كيميائية بدأت من خلال التكوين والتفاعل التلقائي للجزيئات العضوية الصغيرة موزعة على نطاق واسع في الكون. فمن خلال هذه التفاعلات انتظمت التعقيدات ذاتياً وادت في النهاية الى ظهور الحامضين النوويين الدنا والرنا والبروتينات وغيرها من الجزيئات الاخرى المعقدة.
ومنذ نشأة الحياة قبل حوالي ثلاثة ونصف مليار سنة كانت الخلية تقوم باعمال شديد التعقيد مثل ظاهرة التمثيل الضوئي كالذي تمارسه الكثير من الخلايا اليوم. وتأتي اهميتها للغموض الحاصل حول كيفية عملها وتركيبها وعلاقتها بالعناصر الاساسية الثلاثة: البروتينات والحامضين النووين الدنا والرنا. وكما صرح ميلر وزميله ليفين بالقول: ان “كل الخلايا الحية محكومة بالمعلومات المختزنة في الدنا الذي يتحول الى الرنا ثم يتحول الى بروتين. وهو نظام في غاية التعقيد، وكل من هذه الجزيئات الثلاثة يحتاج الى الاثنين الاخرين؛ إما ليحفظ له تماسكه، او ليساعده على العمل. فالدنا مثلاً يحمل المعلومات لكنه لا يستطيع ان يفعّل استخدامها ولا حتى يستنسخ نفسه من دون مساعدة الرنا والبروتين”.
واذا كانت هذه الجزيئات الثلاث (البروتين والدنا والرنا) بعضها يحتاج الى البعض الاخر، فذلك يوحي بحاجتها جميعاً الى الحياة لا العكس كما يعوّل عليه العلماء. فالحياة هي من صنعت هذه المكونات، بمعنى انها تحتاج الى افتراض شيء خارج حدود العناصر الطبيعية لتفسير نشأة هذه المكونات الثلاثة وغيرها من النظم المعقدة. وسبق لنا ان افترضنا بأن هذا الشيء هو اثير الذكاء اللاطبيعاني.
وهنا نلتقي مع النموذج المتعلق بالتطور البايولوجي. فالنظم المعقدة التي حاول العلماء تفسيرها من خلال منهج داروين الاختزالي، القائم على تراكم التغييرات الطفيفة، هي ذاتها عبارة عن نظم معلوماتية تحتاج الى ايضاح كيف تشكلت على ما هي عليه وفق النهج المادي الطبيعاني. واذا ما عجزت عن تفسير ذلك فلا غنى من البحث عن معيار اخر يختلف جذراً عما يسلّم به العلم حالياً، واقصد بذلك معيار اللاطبيعانية، كما يتمثل باثير الذكاء الذي سبق ان تعرضنا للحديث عنه ضمن الدراسات السابقة.