-
ع
+

ما هو أعظم من الأكوان اللامتناهية! (نشأة الحياة ومشكلة الحسابات الرياضية)

يحيى محمد

لقد حاول علماء الاحياء منذ داروين وحتى يومنا هذا تطبيق معيار الطبيعانية على ارضية معلوماتية معقدة، لكن جميع محاولاتهم لم تسفر عن نتائج مرضية. ففي العالم الحي تكثر الشفرات المعلوماتية ذات المعاني الغائية المحددة، فهي اشبه بمكتبة ضخمة ممتلئة بالكلمات والنصوص الهادفة، فكل منها يعطي رسائل منضبطة للكتاب الحي المخصوص. فالفايروس الصغير يحمل عادة ستة الاف قاعدة نايتروجينية طويلة او رسالة مكتوبة باربعة احرف. وفي المقابل يحتوي الجينوم البشري مثلاً على كتاب تعليمات مؤلف من اكثر من ثلاثة مليار حرف او قاعدة نايتروجينية موزعة على 23 زوج كروموسوم، وهي يمكن ان تشغل مكتبة حاوية على آلاف الكتب المتخصصة في التعليمات المختلفة حول الخلية، وان تسلسل الحامض النووي الدنا (DNA) يخزّن أكثر من 100 مليون تسلسل جيني تعود الى حوالي 260 ألف نوع مختلف من قواعد البيانات العامة. ومنها ما يعمل على تشفير البروتينات بما يقارب 20 ألف جين. كما في الخلية البشرية يوجد حوالي مليار جزيء بروتيني تنتمي الى حوالي 10 آلاف نوع مختلف. بل ابسط خلية تحتوي على ما يقارب 42 مليون جزيء بروتيني.

لذلك لا يأتي بالبال ان وجود مكتبة ضخمة تحتوي على كلمات ذات معان مشفرة يمكن تفسيرها عبر نتائج الصدف والعشوائية او نتاج قوانين طبيعية دون ارتباط بعوامل ذكية مستشرية في كل نحو من اجزاء الكائن الحي. وقد عولجت هذه المشكلة من خلال نظرية الاحتمال وحساباتها الرياضية، منذ خمسينات القرن العشرين فصاعداً، وتبين خلالها عمق المشكلة بما يفوق خيال العقل البشري. وكان من بين المحاولات البارزة التي كشفت عن هذه المعضلة ما جرى في مؤتمر ويستار في فيلاديفيا منتصف ستينات القرن الماضي (عام 1966) ضمن اطار نقد الداروينية الحديثة. حيث تم استعراض معضلة الحسابات الرياضية التي تواجه التفسير الطبيعاني للحياة.

لقد استهدف عدد ممن حضر المؤتمر ابراز ضعف التفسير الدارويني للتعقيدات الحيوية كما تتمثل في الاحماض النووية والبروتينات العملاقة، ورأوا ان من المشكوك به تماماً ان يكون للطفرات العشوائية القدرة على توليد معلومات جينية لبناء تركيب تطوري جديد او خلق صفات جديدة.

وكان لهذه الحسابات اثر عميق على الابحاث التالية، كما كان لها اثر عظيم على نشأة حركة التصميم الذكي خلال ثمانينات هذا القرن.

وفي بعض دراساتنا السابقة عرفنا بان مشكلة تطور الكائنات الحية تلتقي مع مشكلة نشأة الحياة، فكلاهما معنيان بمعضلة المعلومات المعقدة، وقد عمد علم البايولوجيا ان يقوم بمعالجتهما بشكل مختلف، لكن معالجته في الحالتين لم تتجاوز معيار الطبيعانية. فالاول عولج من خلال الانتخاب الطبيعي كما هو حال التفسير الدارويني، والاخر عولج من خلال افتراض سند كيميائي ادى في النتيجة الى وجود الحياة. في حين نواجه في كلا الحالين معضلة محددة ثابتة هي المعلومات. فمن اين اتت هذه المعلومات المعقدة جداً، سواء على مستوى اصل الحياة ونشوئها، او تطورها؟

وتعتبر هذه المعضلة من اعقد ما يواجه معيار الطبيعانية. ولحد هذا اليوم لا يعرف للمعلومات المعقدة مصدر غير الذكاء. فالمعلومات تتألف من رموز قابلة للتشكل بما لا يتناهى من الصور والاشكال، لكن الغالب الاعظم من هذه الاشكال المتخيلة ليس لها وظيفة ولا معنى. وهي من هذه الناحية لا تختلف عن اللغات البشرية التي نستخدمها في كتابة الجمل والفقرات والفصول والكتب. اذ من الممكن ان تتشكل الاحرف اعتباطاً بصور لا تتناهى دون توليد معانٍ مفيدة الا في حالات ضيقة ومخصوصة للغاية، وكلما زاد عدد الجمل كلما كان الامر اكثر تعقيداً، وبالتالي اقل احتمالاً من ان ينشأ المعنى عشوائياً.

فمثلاً ثمة تجربة لاختبار الفكرة القديمة القائلة بأنه يمكن لجيش من القرود أن يكتب في النهاية أعمال شكسبير. وسبق لسالزبوري ان قام عام 1971 بتقدير احتمال ان تقوم جملة من القرود بالضرب على مفاتيح الحواسيب الكومبيوترية لانشاء جملة قصيرة معينة. وفي عام 2002 اجرى المجلس القومي البريطاني للفنون تجربة حقيقية، فوضع كومبيوتر داخل قفص فيه ستة قرود.. وبعد شهر من ضربات القرود على ازراره تم انتاج خمس صفحات مكتوبة، لكن بلا كلمة واحدة ذات معنى، بما في ذلك اقصر كلمة انجليزية وهي بحرف واحد (A او I). وقد نشرت هذه الصفحات تحت عنوان ساخر يقول: (ملاحظات حول الاعمال الكاملة لشكسبير).

لكن تم الاعتراض على هذه التجربة، فالناقدون يعتبرون ان ستة قرود ولمدة بسيطة هي الشهر غير كافية، لذلك يفترضون لو ان العملية جرت لوقت طويل بلا نهاية فسوف يمكن لجيش القرود ان يكتب اعمال شكسبير.

وسبق ان طرح إميل بوريل مثل هذه الفكرة بجيش من القرود عام 1914، ومن بعده الفلكي المعروف آرثر إدينجتون خلال عشرينات القرن الماضي.

وبلا شك يمكن الاستعانة بنظرية الاحتمال لتقدير ما يمكن ان تفعله القرود. فقد اصبح من المعلوم تقدير ما يمكن للقرد من كتابة جملة قصيرة مثل: (Methinks it is like a weasel)، كالذي فعله دوكينز، حيث يبلغ احتمال ذلك 10-40.

ان الرقم المذكور هو عدد عظيم وليس بالهين، ويمكن تصور مقداره حيث انه يقارب عدد الجزيئات البروتينية الموجودة على سطح الارض منذ تشكل الحياة وحتى يومنا هذا. ومن المؤكد ان عدد الكائنات الحية جميعاً طيلة هذه المدة اقل من ذلك بكثير. وبالتالي فلو اننا عثرنا على مثل هذه الجملة محفورة على تربة كوكب اخر غير الارض لكان من المؤكد ان يعتقد العلماء بانها نتاج فعل ذكي دون ايعازها الى العوامل الفيزيائية والكيميائية.

ومعلوم ان النظام الوظيفي للغة لا يُعزى الا للذكاء، فالعثور على رموز قديمة محددة المعاني ومجهولة المصدر لا يقف عائقاً من ان تنسب الى فاعل ذكي رغم الجهل بهوية هذا الفاعل، مثل النصوص المنحوتة على جدران القبور والمعابد المصرية، اذ لا يعقل ان تنسب الى عوامل طبيعية غير ذكية، وذلك بعد ان تم التعرف على معانيها عند فك الشفرة الهيروغليفية. ومهما كان النص بسيطاً فانه دال على اثر ذكي، فكيف اذا ما كان كتاباً تام المعنى؟ بل وكيف الحال ان كان الامر يتعلق بمكتبة ضخمة؟

فمثلاً العبارة الشهيرة المنسوبة الى سقراط: (اعرفْ نفسك) قد وجدت منقوشة على الجدران الخارجية لتلك المعابد، واذا اردنا ان نحتمل وجودها عشوائياً ضمن توفر جميع الاحرف العربية، وهي مع الفاصلة عبارة عن 29 حرفاً، ولنفترض انها المورد الوحيد المأخوذ في الحسبان دون غيرها من الموارد، لذا فاحتمال ان نحصل على هذه الجملة سيكون اقل من واحد على عشرة تيرليون، أي اقل من 10-13. ولو كانت العبارة: (اعرفْ نفسك بنفسك)، فسيكون احتمال تكونها يقارب 10-22. أما لو كانت العبارة ضعف الاخيرة، فستعطي قيمة احتمال قريبة من  10-44.

ان الخاصية التي تتميز بها لغاتنا البشرية هي انها مشفرة بالمعلومات. والحال ذاته ينطبق على البرامج الحاسوبية التي تحمل معالجات رقمية ذات لغة مشفرة خاصة بها، وهو ما يجعلها قادرة على تخزين مادة ضخمة من المعلومات المقاسة بالبتات bits كوحدة شانون.

كذلك هو الحال مع الكائنات الحية بمراتبها وجزيئاتها الخلوية المعقدة من الجينات والبروتينات وغيرها من المفاصل الخلوية والعضوية. فهي تحمل آلات رقمية مملوءة بالمعلومات المشفرة وفق نظامها اللغوي الخاص، وهي من هذه الناحية مبرمجة مثل الحواسيب والكائنات الآلية Robots، لكنها اعظم من ذلك بما لا يقارن، ولها قابلية على التصحيح؛ فلانزيم البوليميراز polymerase في الدنا قدرة مذهلة على التصحيح حتى عندما توضع قواعد خاطئة، كالذي وصفه عالم الاحياء الجزيئية روبن هولداي Robin Holiday معقباً بانه ‹‹كما لو كان له عقل من تلقاء ذاته››.

تصور ان تقدير احتمال نشأة بروتين واحد من الاحماض الامينية عشوائياً، كالهيموغلوبين مثلاً، هو حوالي (10-190)، ولأن العدد ضخم فقد حسبه ايزاك اسيموف تعبيراً قوياً لما فيه تعجيز للعقل، وسماه بعدد الهيموغلوبين، كالذي استشهد به ريتشارد دوكينز ووثق به. 

وبحسب فرانسيس كريك انه اذا كان طول سلسلة البروتين 200 حامض اميني، وهو اقصر من المتوسط، وحيث ان لدينا 20 نوعاً من الاحماض فان عدد التوافيق الممكنة لتكون هذا البروتين عشوائياً هو 20 200، اي ان احتمال تكونه عشوائياً يساوي 10 -260. اما تقدير احتمال ان ينشأ بروتين صغير جداً بطول 100 حامض اميني عشوائياً فهو 20 -100، ويساوي عند تحويله الى التقدير العشري بحوالي 10-130، وبروتين بطول 150 حامض اميني هو 20 -150، اي حوالي 10-195، هذا مع اهمال اضافة احتمالات اخرى تتعلق بكيفية تشكل الاحماض الامينية وارتباطها بشكل محدد دون اخر؛ مثل ان البروتين لا يتصنع الا من الاحماض الامينية اليسرى فينتج هياكل عسراً، ومثل ان الاحماض الامينية في الطبيعة هي 80 نوعاً وليست عشرين، لذلك ففي الحساء ما قبل الحيوي يتفاقم حساب الاحتمالات، خاصة مع اعتبار عدم مثالية ظروف الارض قبل نشأة الحياة، وهو ما جعل اصحاب نظرية البذور الكونية كساجان وكريك واورجيل وهويل وويكراماسينج وغيرهم يستبعدون ان تكون الارض الفتية مكاناً صالحاً للحياة، وذلك للتعقيد الوارد فيها من جهة تسلسلات البروتينات والاحماض النووية ولعدم توفر جزيئاتها الاساسية بشكل كاف. وعموماً انه عند ادخال هذه الاحتمالات بعين الاعتبار فان القيمة الاحتمالية ستزداد ضآلة بشكل ضخم جداً.

وعادة ما تكون البروتينات ذات اطوال اكبر مما ذكرنا، اذ تمتلك مئات الاحماض الامينية، بل ان بعض البروتينات تحتوي على الاف منها، وان الخلية بدورها تمتلك مئات البروتينات المختلفة الانواع، او حتى آلاف منها. لذلك فان تقديرات نشأتها الاحتمالية عشوائياً تخلّف ارقاماً ضخمة تفوق الخيال بما لا يمكن تصوره.

ولاستيعاب ذلك يمكن تصور ان عمر الكون هو اقل من 1018 ثانية، فهذه القيمة هي اعظم من 14 مليار عام، وانه لو اردنا ان نضاعف عمره عشر مرات فسوف لا يتجاوز 1019 ثانية، او نضاعفه مليون مرة فسوف لا يتجاوز 1024 . كما يمكن تصور ان وزن الكون هو 1042 كيلو غرام، وان جميع ذراته لا تتجاوز (1060)، وان جميع جسيمات الكون بحسب ادنجتون تبلغ حوالي (1080)، ويمكن ان يرتفع العدد مع اخذ اعتبار جميع الفوتونات والنيترينوات الى (1089)، وان عدد معلومات الكون المقاسة بالبتات بحسب معادلة بيكينشتاين في الانتروبيا يقارب 10100 بت. وهناك تقديرات اخرى تفوق هذا المقدار.

لقد تعمدنا ذكر هذه المقادير لندرك بالمقارنة ضخامة الأعداد التي تعنينا حول المعلوماتية المعقدة جداً في الحياة الجزيئية، ناهيك عما هو أعقد من ذلك لدى المستويات العالية من سلّم الحياة، فأبسط ما فيها لا يدانيه أي تعقيد معلوماتي يمكن ان تقدره الفيزياء في الكون المشهود؛ باستثناء ما ذكره روجر بنروز حول دقة التعقيد الفيزيائي المنظم لنشأة الكون وسط خيارات ابتدائية ممكنة للانتروبيا، فقد قدّر هذه الامكانات البدئية بحوالي 10 أس 10123، ويعكس هذا المقدار القيمة العظيمة لدقة النظام الكوني بما يحمله من معلومات.

أما غير هذا العدد فلا يوجد شيء ينافس احتمال نشأة بروتين قصير جداً يملك 100 حامض أميني كما رأينا، فكيف بما هو أعظم منه؟!

وعموماً ان ما يُطلق عليه (الاعداد الفلكية) التي اعتاد عليها الفيزيائيون كأرقام ضخمة؛ لا تعد شيئاً امام ما يمكن تسميته بـ (الاعداد الحيوية). لذلك ليس للصدفة عليها من سبيل.

فعالم الاحياء يتميز بالنظام الوظيفي القادر على منح الاعداد الحيوية وفقاً للبنية العشوائية المعقدة، وذلك في قبال النظام التكراري الذي يعجز عن مجاراته في هذا المجال تبعاً لبنيته المنتظمة او التكرارية.

ولايضاح كيف يمكن للنظام المعلوماتي ان ينشأ وسط العشوائية وفق بعض النُظم البسيطة؛ سنستخدم البت كوحدة معلومات تعبر عن الصفر والواحد لدى وجهي عملة النقد. حيث نفترض ان أحدهما يعبر عن الصفر أو العدم فيما يعبر الآخر عن الواحد أو الظهور. وفي هذه الحالة يتحدد النظام وفق لوغارتم الأساس (2)، وأي خروج عن هذا اللوغارتم سوف لا يمنحنا نتائج منضبطة. كذلك فان الأعداد الصغيرة للرمي لا تمنحنا الدقة الكافية وفقاً لقانون برنولي. لكن أصل الفكرة يشير إلى ان افتراضات الرمي مرتين تعطي مقدار بت واحد لأحد الوجهين، وفي أربع رميات تعطي اثنين من البت، وفي ثمان رميات تعطي ثلاثة بتات من النظام أو المعلومات، وفي ستة عشر رمية يحظى النظام بأربعة بتات من المعلومات، أو الأشكال المنتظمة، وهي ان يظهر أحد الوجهين في التتابع جميع المرات، وفي نصفها، وفي التناوب الزوجي، وهكذا.. لكنها رميات صغيرة لا تعطي الدقة الكافية لعدد الأشكال المنتظمة. وفي حالة (1024) رمية فإن مقدار الانتظام فيها يساوي عشرة بتات، إذ عدد الرميات يساوي: 210. وعند ضرب مقدار الانتظام في اثنين من حيث الظهور والعدم، فان العدد يصبح عشرين حالة توافيقية، أي حوالي (24). في حين ان عدد الامكانات التوافيقية الكلية تعادل: 21024، لذا فاحتمال ان تحظى الصدفة على انتظام واحد من الحالات التوافيقية المنتظمة يعادل تقريباً: 2-1020، وهو مقدار في غاية الضعف. ويُعرف ذلك من خلال قسمة عدد الانتظامات التوافيقية الممكنة على العدد الكلي للحالات التوافيقية.

هكذا تتضاءل حظوظ الصدفة باضطراد مع زيادة الرميات. وعندما تكون الرميات بقدر مجموع عمليات الكون كافة منذ نشأته وحتى يومنا هذا، فان صور التنظيمات ليس بمقدورها ان تصل الى 500 تنظيم او بت طيلة هذه المليارات من السنين. اي ان هذه المدة الطويلة لا تنتج معلومات منتظمة كثيرة. والامر يتعلق بمجموع عمليات الكون او الموارد الكونية المتاحة. فلو فرضنا ان هذه الموارد تعادل 10150، فهذا يعني ان مجموعة الحالات التوافيقية الممكنة ستعادل (2 قوة 10150)، وان عدد الانتظامات فيها هي فقط (5 x 102)، ولأجل الحصول على انتظام واحد من مجموع الحالات الممكنة بالصدفة فسنقسم العدد الاخير على العدد الضخم من الحالات التوافيقية الممكنة، وهو مقدار يعادل الصفر عملياً.

لكن ذلك لا يصدق الا في حالة نظام خاص سميناه بالتكراري، تمييزاً له عن نُظم اخرى، كما سيأتي خلال دراستنا المقبلة.

على ان تحديد الموارد الكونية المتاحة يعتمد على عاملين: عمر الكون المقاس بثابت زمن بلانك، وعدد الجسيمات الكونية. لذا يختلف هذا التحديد وفق ما يقدر من عمر الكون وكذلك عدد جسيماته..

ولعل اول من قام بتقدير عمليات الكون او الموارد الكونية المتاحة هو مؤسس القياس في الرياضيات الفرنسي اميل بوريل، وذلك عام 1913، حيث قدرها بحوالي 1050، واعتمد في تحديده لهذه الموارد جزئياً على ناتج عدد النجوم التي يمكن ملاحظتها (109) مضروباً بعدد الملاحظات البشرية التي يمكن إجراؤها على تلك النجوم (1020). وفي النهاية وصل الى ان مجموع العمليات الكونية يبلغ 1050. ورغم ان طريقة بوريل بدائية غير صحيحة، لكنه توصل من خلالها الى نتيجة هامة تقول بان اي حدث ممكن منطقياً فان احتماله لو تجاوز عدد الموارد المتاحة فانه يصبح محالاً تماماً. لذلك اعتبر ان مقلوب عدد الموارد المتاحة (10-50) هو اصغر احتمال ممكن، وان ما دونه منفي ومحال.

وللاسف لم ينشغل الفيزيائيون او غيرهم في بحث هذه العملية من تقدير الموارد الكونية المتاحة، باستثناء محاولات يتيمة اظهرت تقديرات مختلفة، منها ما حدده الفيزيائي بريت فان دو ساند Bret Van de Sande  عام 2006، حيث قدّر الموارد باكثر قليلاً من 1092. وهو ما يعني ان اقصى ما يمكن انتاجه من انواع منتظمة لا يزيد على 306 بت.

وقبل المحاولة الاخيرة بعدة سنوات قدّم زعيم حركة التصميم الذكي الرياضي وليم ديمبسكي حساباً متكاملاً ومختلفاً عما سبق، كما في كتابه (دليل التصميم The Design Inference) عام 1998، وسنعود اليه لاهميته فيما نحن بصدده.

وكان من بين المحاولات القليلة التي قُدمت في هذا المجال ما يعود الى عالم الحوسبة والهندسة الميكانيكية سيث لويد Seth Lloyd، وهي تمتلك فلسفة متكاملة حول الموضوع. ففي عام 2002 قام لويد بتقدير مجموع عمليات الكون فحسبها 10120، ضمن تاريخ الكون الذي قدره 10 مليار سنة، وقد حملت من المعلومات التي يمكن تخزينها بحسب كمية المادة والطاقة المتوفرة في الكون ما قدره 1090 بت. وفي هذه الحالة يكون اقصى ما يمكن حصوله من انواع الحالات المنتظمة هو 400 بت. لكنه في عام 2006 زاد من تقدير عمليات الكون كما في كتابه (برمجة الكون)، وفيه بلغ مجموع العمليات حوالي 10122، وان من خلالها يمكن تخزين 1092 بت. وهي تعطي امكانية الانتظام او الترتيب بقدر 406 بت من المعلومات لا اكثر. وبلا شك ان هذه الكمية من المعلومات لا تفي بشيء يذكر وسط العدد الضخم لمجموع الحوادث الكونية. فهي تعني اننا لو اعتبرنا كل عملية او حادثة في الكون تمثل رمية قطعة نقد فان حظ الترتيبات المنتظمة سوف لا تزيد على مقدار 406 حالة، مثل ان يتكرر احد الوجهين بشكل متتال لدى جميع حوادث الكون او بالتناوب المنتظم.

كما تعني هذه القيمة انك لو اردت فك شفرة مؤلفة من 410 بت مثلاً وفق حظوظ التجربة والخطأ فسوف تعجز عن ذلك حتى لو استخدمت عمر الكون كله. لذلك تستخدم نظم التشفير مفاتيح آمنة تعتمد على كثرة المعلومات او البتات.

مع هذا فالتقديرات السابقة لا تصدق الا في حالة نظام بسيط هو التكراري دون غيره من النظم.

لقد اعتبر سيث لويد ان الكون عبارة عن كمبيوتر كمي ضخم يمكن محاكاته بحواسيبنا الكمومية. وكما كتب ان جميع تفاعلات الجسيمات الاولية في الكون لا تنقل الطاقة فحسب، بل تنقل المعلومات ايضاً، بل ان كل شيء في الكون مصنوع من أجزاء تمثل معلومات - آحاد وأصفار – وليست قطعاً من الأشياء.. فالذرات والإلكترونات هي بتات، فيما التصادمات الذرية هي العمليات، وان لغة الآلة هي قوانين الفيزياء، ومن ثم فالكون حاسوب كمومي ضخم، وليس مجموعة جسيمات مادية وتفاعلات طاقوية. وبذلك رأى ان هذه الطريقة من البحث قد تكون اجابة على بحث الفيزيائيين عن نظرية موحدة لكل شيء.

فقد استند الى فيزياء الكوانتم معتبراً ان الواقع والمعلومات هما شيء واحد. ومن وجهة نظر الفيزيائي جيمس جلاتفيلدر ان الفيزيائيين ومنظري المعلومات قد اصبحا بشكل متزايد الشيء نفسه. فقد اعتمدا على البت كجسيم أساسي من نوع مختلف، ليس صغيراً فحسب، بل مجرد رقم ثنائي (واحد وصفر، او نعم ولا). فعندما بدأ العلماء أخيراً في فهم المعلومات أخذوا يتساءلون عما إذا كانت أساسية او أكثر جوهرية من المادة نفسها. واقترحوا أن البت هو النواة غير القابلة للاختزال وأن المعلومات تشكل جوهر الوجود، كالذي ظهر خلال ثمانينات القرن العشرين، ومن ذلك اعتبر الفيزيائي جون ويلر ان البت هو اساس الواقع الفيزيائي وليس العكس كما عرفنا.

ان اعتبار الكون جهاز حاسوبي ضخم قائم على البت الثنائي قد جعل من الواقع وهماً، فهو واقع افتراضي. وبحسب المبدأ الهولوغرافي Holographic principle العائد الى نظرية الاوتار والذي اقترحه جيرارد هوفت لأول مرة فان طبيعة العالم الثلاثية الابعاد تعتبر وهمية، ففي قلب الواقع تكمن شبكة حسابية ثنائية الأبعاد. إذ لو قام المرء بتكبير نسيج الكون فإنه يصطدم بنقطة نهاية تتحدد عند طول بلانك، وهي المنطقة التي تحمل واحداً من البتات (أو كيوبت) من المعلومات. وعلى هذا الأساس يتم حساب وهمنا من أبعاد المكان الثلاثية، حيث تتفاعل الجسيمات الأولية (مع وبدون كتلة).

هكذا اصبح كوننا ثلاثي الابعاد وهماً ناشئاً عن عملية حسابية ثنائية الأبعاد. فاساس الواقع بحسب وجهة النظر السابقة يعبر عن شبكة ثنائية تتكون من مناطق بلانك قادرة على تسجيل جزء واحد من المعلومات.

***

اما  نظرية ديمبسكي فقد حددت الموارد الاحتمالية المتاحة بضرب ثلاثة عناصر تجعل من نهجه متكاملاً في تحديد مقدار عمليات الكون واحداثه منذ نشأته وحتى يومنا هذا. وتتحدد هذه العناصر بكل من عمر الكون المقدر بالثواني، وكمية الاحداث في الثانية طبقاً لزمن بلانك، وعدد جسيمات الكون. فعند ضرب هذه المقادير مع بعضها البعض ينتج لنا مجموع عمليات الكون واحداثه التي عبّر عنها بمجموع الموارد الاحتمالية.

مع هذا فقد أخطأ ديمبسكي في تقدير كمية الاحداث في الثانية طبقاً لزمن بلانك وحسبها 1045، كما اخطأ في تقدير عمر الكون وحسبه 1025. تبقى جسيمات الكون، فالمتعارف على تقديرها وفق ما صدر عن أدينجتون بانها حوالي 1080. لذلك عند ضرب المقادير السابقة فانها تنتج بحسب ديمبسكي 10150 حادثة. وقد عمل فيلسوف العلم ستيفن ماير على تصحيح هذا الحساب فتوصل الى ان الناتج هو  10140 حادثة.

وحقيقة ان من الممكن تحديد تقدير اخر ادق وفق المعلومات الفيزيائية الحالية، وبالخصوص ما يتعلق بعدد الجسيمات، اذ ان ديمبسكي ومن بعده ستيفن ماير قد اعتمدا على عدد الفرميونات من الجسيمات كالالكترونات والبروتونات والنترونات، والتي لم يختلف العلماء حول تقديرها بحوالي 1080، لكن يضاف اليها عدد جسيمات البوزونات مثل الفوتونات والنيترينوات، وتقدر مع الفرميونات بحوالي 1089، فهذه هي مجموع جسيمات الكون من الفرميونات والبوزونات، ويضاف اليها عمر الكون المقدر باكثر من 1017 ثانية، اي ما يعادل 14 مليار سنة تقريباً، حسب التقديرات الحالية، كما يضاف اليها زمن بلانك الذي يعبر عن مجموع حوادث التفاعل في الثانية الواحدة، وهو (1043). وعند ضرب هذه المقادير الثلاثة نحصل على مجموع الحوادث الممكنة، ويبلغ 10149، وكل ما يزيد على ذلك العدد فهو منفي ومحال بالنسبة الى كوننا وفق التقديرات الحالية، ولو تغيرت هذه التقديرات، وبالذات عمر الكون وعدد الجسيمات فسوف تتغير النتيجة. لذلك فاحتمال ان تنشأ اي حادثة من حوادث الكون سيساوي قلب هذا المقدار، اي: 10-149، واقل من ذلك يعتبر محالاً او منفياً، حيث يصبح اقل مما يمكن حدوثه، اي لا تستوعبه جميع عمليات الكون واحداثه الجارية منذ البداية وحتى يومنا هذا.

لذا فامكانية ان تتحقق حالات الانتظام المختلفة سوف لا تزيد على 495 بت. بمعنى انه توجد قابلية على انشاء 495 حالة من حالات الترتيب المختلفة، وبضربها باثنين لأشكال الظهور والعدم يصبح العدد (990) شكلاً توافيقياً منتظماً من مجموع الأشكال التوافيقية، ومن ثم فإن احتمال ان نحظى عشوائياً على واحد من هذه الترتيبات المنتظمة يعادل قسمة عدد الأشكال المنتظمة على مجموع الحالات التوافيقية الممكنة، والتي تعادل (2 قوة 10149)، أي ان امكانية الصدفة في ان تخلق نظاماً من الترتيبات المختلفة هي الصفر عملياً.

لكن كل ذلك له علاقة بالنظام التكراري البسيط كما أشرنا.

وفي قباله يوجد عدد من النُظم المختلفة، احدها سميناه بالوظيفي، وهو معقد ويمتلك ضيقاً في صنع النظام عشوائياً بما لا يقارن مع الضيق الحاصل في النظام التكراري طيلة عمر الكون كله. فمثلاً ان تخلّق بروتين صغير بطول 150 حامض اميني عشوائياً يعطي وسط الاحماض الامينية العشرين الخاصة بتكوين البروتين الحيوي، ودون اعتبارات اخرى مؤثرة، قيمة اقل بكثير مما يمكن صنعه من اي تنظيم وفق النظام التكراري خلال 14 مليار سنة. اذ يقدر احتمال تكون مثل هذا البروتين بحوالي -10195.

كما ان عدد النظم الممكن تخليقها وفق النظام الوظيفي هي اعظم بكثير من عدد الترتيبات المقدرة بحسب النظام التكراري والتي لا تتجاوز 495 بت او ترتيب وفق التقديرات الحالية لعمر الكون وعدد جسيماته.

وعليه لو اعتمدنا على بعض الحسابات الرياضية التي اجراها عدد من العلماء؛ لكان ذلك كفيلاً في إبطال نشوء الحياة عشوائياً؛ ليس فقط خلال عمر الكون كله، بل وحتى مع افتراض النتائج المترتبة على فرضية الاكوان المتعددة اللانهائية، رغم تقديرها باكثر من (10500) كون. فهذا العدد ضخم جداً لا يعد شيئاً امام تقديرات بعض العلماء في التكون العشوائي لخلية بسيطة. فالارقام الاحتمالية المذهلة التي وجدناها مع بروتينات صغيرة لا تقارن مع تكون مثل هذه الخلية.. بل ان بعض الخلايا تمتلك بروتينات تحمل الافاً من الاحماض الامينية، وهذا ما يجعلها تعطي رقماً هائلاً يفوق عدد الاكوان المتعددة بكثير.

ان اخذ اعتبار هذه المعلومات سيجعل من نشأة الخلية عشوائياً يعطي ارقاماً خيالية، بحيث تصل لدى عدد من التقديرات الى ارقام لامتناهية. مع هذا فالرياضيات كفيلة بتقدير هذه الاحتمالات مهما بلغت عظمتها.

وهذا ما فعله فريد هويل وويكراماسينج .. فادى بهما البحث الى استنتاج استحالة حدوث الحياة وفق الظروف الطبيعية. اذ افترضا ان مقدار احتمال تشكل انزيم وظيفي عشوائياً من سلسلة الاحماض الامينية هو 10-20، ومع اخذ اعتبار ان ابسط خلية تحتوي على ما يقارب 2000 انزيم صغير، لذا ففي حالة الخلط الدقيق سنحصل على نتيجة هائلة عبر ضرب قوى المقدارين، وستكون النتيجة هي 10-40000، وذلك كالتالي:

(10-20)2000 = 10-40000

 وقد أخذ الباحثان بعين الاعتبار ان الخلية قد تحتاج الى 200000 بروتين لتؤدي مهام وظيفية وتنظيمية مختلفة، وبلا شك انه في هذه الحالة سيتضخم الرقم بما يفوق قدرة العقل على تصوره. كما اخذا في الاعتبار ما يمكن ان يجادل المرء في هذه الطريقة، وذلك انه ليس كل الانزيمات مستقلة حتى نصل الى ذلك العدد، فبعضها غير مستقل ومن ثم سوف يكون الرقم اقل مما تم ذكره، لكن مع اخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار فان خفض عدد الانزيمات الالفين لا يجدي نفعاً، اذ تبقى النتيجة تعبر عن عدد ضخم للغاية يفوق الخيال.

وعلى هذا القياس، تكون الحالة الاخيرة المقدرة لعدد البروتينات، وعلى افتراض ان كل بروتين يحمل طولاً متوسطاً نسبياً مقداره 200 حامضاً امينياً، وعلى فرض ان الاحماض الامينية الموجودة هي فقط تلك المتعلقة بتركيب البروتين الحيوي دون غيرها من الاحماض، لذا فاحتمال ان تتكون الخلية عشوائياً يتطلب ان نعرف احتمال تكون البروتين الواحد، وهو 20 -200، لكن لدينا 200000 بروتين، لذا يضرب المقدار الاول بقوة الاخير، وسنحصل على نتيجة ضخمة للغاية، وهي: (20-200)200000، وتساوي (20-40000000).

مع هذا يبدو لي ان الطريقة الحسابية التي اجراها هويل وويكراماسينج ليست صحيحة. فاذا كان كل انزيم يحتاج ليتشكل عشوائياً من تسلسلات الاحماض الامينية الى احتمال قدره 10-20، وان لدينا 2000 انزيم، فذلك يستدعي الضرب بينهما ضرباً عادياً، حيث تكون النتيجة كالتالي:

10-20 x 2000 = 10-20  x 103 x 2 = (10-23 x 2).

وكما يبدو ان هذه هي النتيجة السليمة، حيث لا مبرر لضرب القوى. بل الصحيح هو ضرب العددين كما هما.

لكن لو افترضنا ان كل انزيم يتوقف في عمله على الانزيم الاخر، ففي هذه الحالة يمكن اجراء عملية ضرب احتمالات هذه الانزيمات ببعضها، ومن ثم ستكون النتيجة مرتفعة عما لو كانت الانزيمات مستقلة، لكنها مع ذلك اقل بما لا يقارن مع ما ذكره الباحثان، حيث تصبح النتيجة كالتالي:

10-20 x 102000 = 10-2020

وللاسف لم اجد من نقد العملية الحسابية التي اجراها هويل وويكراماسينج، رغم وجود حالات نقد تتعلق بفكرتهما دون الحساب الرياضي، ومن ذلك افترض البعض ان عدد الاحماض الامينية التي تمتلكها انزيمات الخلايا البسيطة المفترضة عند نشأة الحياة هي اقل مما ذكره الباحثان. كذلك الاخذ بعين الاعتبار حالة التدرج ودور الانتخاب الطبيعي في تسهيل نشأة الانزيمات ومن ثم الحياة.

 وبلا شك انه يمكن الرد على مثل هذه الاعتراضات بسهولة. لكن عدم التطرق الى نقد العملية الحسابية يجعلني قلقاً، خاصة مع اخذ اعتبار عدم تخصصي في الرياضيات. مع هذا فعزائي ان الكثير من الرياضيين والفيزيائيين كانوا عرضة للاخطاء الرياضية، وبعضها يعبر عن اخطاء جسيمة، كالنماذج التي احصاها الباحثان بوسامنتير وليهمان في كتابهما (أخطاء رهيبة في الرياضيات). ومما يُذكر بهذا الصدد أن أينشتاين رغم عبقريته المعروفة إلا أن العديد من اكتشافاته الرائدة قد أفسدتها أخطاء تتراوح من الأخطاء الجسيمة في الرياضيات إلى المفاهيم الخاطئة في الفيزياء والفشل في فهم التفاصيل الدقيقة لإبداعاته. وتم تقدير ما يقارب 180 ورقة علمية أصلية نشرها أينشتاين في حياته قد تضمنت 40 بحثاً مليئاً بالأخطاء، كالذي كشف عنه الفيزيائي هانز شانيان في كتابه (أخطاء أينشتاين).

وعموماً لا ادري ما الذي جعل هويل وويكراماسينج يستخدمان طريقة ضرب القوى دون الضرب العادي؟

وقد تكررت هذه الحالة مع ما ذكره ستيفن ماير في (توقيع في الخلية) من ان نتائج تجارب دوكلاس أكس Douglas Axe تشير الى مثل تلك التخمينات الرياضية التي قدمها هويل وويكراماسينج، حيث تحتاج أصغر خلية ذات الحد الأدنى من التعقيد إلى 250 بروتين، بمتوسط طول قدره 150 حامض أميني لكل واحد منها، لذا فاحتمال تخلّق كل بروتين هو 10164، ومن ثم فاحتمال إنتاج جميع هذه البروتينات سيساوي -10164 قوة 250، وبهذه العملية يصبح المقدار: (10-41000)، اي ان النتيجة كالتالي:

(-10164)250 = 10-41000

لكن لدى امبروز طريقة سليمة لحساب الصدفة العشوائية لنشأة بعض الخلايا او الحياة، ففي كتابه (طبيعة وأصل عالم الاحياء) الصادر عام 1982 ذكر ان سلسلة الحامض النووي الدنا من الكروسوم العائد الى البكتيريا الاشريكية القولونية (E. coli) يتكون من (3-4) مليون زوج قاعدة، وكلها مرتبة في تسلسل ذي مغزى من حيث وظيفته الحيوية. لذلك اعتمد في الحل على مبدأ التوافيق الاحتمالية، على شاكلة ما يتم فيه ترتيب (52) بطاقة بطريقة واحدة فقط، حيث القيمة العددية للحالات الممكنة هي (52!)، بمعنى ضرب هذا العدد في سلسلة جميع الاعداد التي دونه حتى الوصول الى الواحد، ومن ثم سيكون حاصل الضرب كبيراً جداً، ويعادل تقريباً 1068، ومقلوب هذا العدد هو الاحتمال المطلوب لترتيب 52 بطاقة ترتيباً محدداً. اما ولدينا (3-4) مليون للولب فريد من نوعه، فان ضرب هذا العدد بما دونه بالتسلسل حتى الوصول الى الواحد سيعطي نتيجة خارقة، وقد حسبها امبروز بانها تعادل حوالي (102000000) توافيقية ممكنة. لذا لا يوجد سوى امكانية واحدة فقط من هذه البدائل الممكنة لترتيب القواعد اللازمة للدنا. وهو عدد يفوق الرقم الذي حدده هويل وويكرامسينج بما لا يمكن تصوره، لكنه مبرر من حيث الحساب الرياضي بغض النظر عن الاعتبارات الاخرى. لذلك عقّب امبروز بالقول: ‹‹نحن مضطرون لاستنتاج ان اصل الحياة الاولى كان حدثاً فريداً لا يمكن مناقشته من حيث الاحتمال››.

وبحسب التقديرات السابقة، لكل من هويل وويكراماسينج وامبروز، انه حتى لو جعلنا منشأ الحياة عائداً الى الفضاء لا الارض وفق الطريقة الاحصائية؛ فسوف لا يتغير الحال. فما يظهر لدينا هو ان الخلية العادية ليست اعظم من الكون فحسب، بل واعظم من جميع الاكوان المتعددة حتى مع فرض انها تمتلك نظماً فيزيائية دقيقة باستثناء الحياة. فوفقاً لمعيار المعلومات ان النظام فيها يفوق جميع نظم هذه الاكوان. ولو اردنا ان نقدر عدد الحوادث الممكنة فيها، ومن ثم المعلومات، فلدينا معيار ما يحمله كوننا من امكانية الحوادث لنقيسه على البقية، ويظهر من خلال الضرب ان عدد حوادث جميع هذه الاكوان سيقارب حدود 10649 حادثة. وهو عدد ضخم جداً لكنه ليس بشيء امام تقدير هويل وويكراماسينج، ناهيك عن تقدير امبروز لتكون خلية بكتيرية. واقل من ذلك بما لا يقارن فيما لو افترضنا عمر الكون 1000 مليار سنة، وهو المقياس الزمني لنموذج الكون شبه المستقر كما رآه هويل.

لذلك لو اعتمدنا على التقديرات الرياضية السابقة كما اظهرها عدد من العلماء الذين اشرنا اليهم – خاصة امبروز - لكانت الخلية اعظم من جميع الاكوان اللانهائية. ولا غرابة في ان عالم الكيمياء الحيوية لينوس باولنك Linus Pauling يعتبرها اعظم تعقيداً من مدينة نيويورك. وهو العالم الذي تم تصنيفه في المرتبة السادسة عشرة كأهم عالم في التاريخ، وحظي بجائزة نوبل مرتين.

نشأة الحياة وفرضية الذكاء

تبعاً لما سبق يرد السؤال التالي: كيف نعرف ان ما نواجهه يتعلق بالذكاء دون الخضوع للقانون الطبيعي، ولا للفوضى والصدف العشوائية، ولا حتى الجواذب الذاتية؟

وحقيقة ان ظواهر الكون والحياة منقسمة الى مناطق وبيئات مختلفة، فبعضها دال على النظام ويتحكم فيها القانون الطبيعي، سواء كان صارماً او احصائياً. فيما بعض اخر دال على الفوضى والعشوائية كالسحب المنتشرة هنا وهناك من دون نظام محدد دقيق، وكتوزيع النجوم والمجرات في الكون، والانفجارات التي تحصل فيها وما تسببه من فوضى نسبية. فيما بعض ثالث دال على اللاتحدد الموضوعي، كما يلاحظ في سلوك الجسيمات المجهرية. كذلك ثمة ما يدل على الذكاء، كما في حالة الابداعات البشرية.

وجميع هذه الظواهر اصبحت معروفة وقابلة للتفسير ضمن شروطها وحدودها  الخاصة، فنعرف ما يعود الى النظام، او الى الفوضى والعشوائية، او الى اللاتحدد الموضوعي، او الى الذكاء. وتبقى مسائل محدودة لم ينحسم فيها الجدل، مثل تلك المتعلقة بالحياة، فقد ظلت عصية عن ان تُصنف علمياً - بشكل واضح - الى اي نوع من هذه الاصناف تعود؟ واغلب العلماء يعتبرونها مصنوعة من عوامل مشتركة عائدة الى العشوائية والقانون الطبيعي وان لم تعرف ماهية هذا القانون، او الى الجواذب والنظم الذاتية. وفي جميع الاحوال تخضع مثل هذه التفسيرات لمعيار الطبيعانية. فيما ذهب بعض الى انها تصنف ضمن الذكاء لاحتوائها على نظام المعلومات المعقدة التي لا تفسر بالقوانين الطبيعية ولا غيرها باستثناء عامل الذكاء.

وهذا ما سنبحثه في دراسة مستقلة..

comments powered by Disqus