-
ع
+

الكأس المقدسة في اكتشاف معيار التصميم (1)

يحيى محمد

الكشف عن منطقة الاحتمال النوعي

لقد اعتاد العلماء ان يردوا الظواهر الكونية والحياتية الى القوانين الطبيعية، سواء كانت صارمة او احصائية، كما لجأوا احياناً الى تفسير بعضها طبقاً للصدفة والعشوائية، واخرى تبعاً لمبدأ اللاتحدد، يضاف الى تقبلهم التفسير القائم على القصد والذكاء في حالة التصاميم والسلوكيات البشرية. وبذلك تصبح لدينا خمسة اصناف من العلاقات المختلفة للظواهر، وهي كالتالي:

1ـ صنف العلاقات الصارمة.

2ـ صنف العلاقات الاحصائية.

3ـ صنف علاقات الصدف العشوائية.

4ـ صنف علاقات اللاتحدد الجسيمية.

5ـ صنف العلاقات المتعمدة.

وباستثناء النمط الاخير، غالباً ما تحظى الاصناف الاربعة الاولى بالقبول والاتفاق. اما الاخير فقد اعتاد العلماء ان يحصروه في السلوك البشري القائم على القصد والذكاء، كما في الآثار الفنية والعلمية والصناعية وغيرها، فضلاً عن الممارسات السلوكية التي تتأسس عليها بعض الفنون والعلوم الفرعية، كعلم السياسة والاقتصاد والقضاء والجريمة والطب الجنائي وما اليها.

وهم بذلك لم يتقبلوا تعميم النمط الاخير على ظواهر اخرى يصعب ادراجها تحت اي من الاصناف الاربعة الاولى، مثل الظواهر الحيوية. بل يعترف بعضهم رغم تعصبه للالحاد مثل دوكينز بان هذه الظواهر تبدو مصممة، لكنه مع اغلب العلماء لم يتقبلوا تفسيرها وفق التصميم والذكاء، انما اعتبرت نتاج التطور المادي وان لم يُعرف بشكل موثق الآليات التفصيلية التي اسفرت عن وجودها وتطورها، سواء الجزيئية منها كالاحماض النووية والبروتينات، او الخلوية والكائنات العضوية بشكل عام.

ومع انه من الناحية المنطقية، اذا سلّمنا بوجود حصر في التفسير العلمي يتمثل في الاصناف الخمسة الانفة الذكر، وكنا في الوقت ذاته لم نجد تفسيراً واضحاً يغطي الظواهر الحيوية وفق صنف او اكثر من الاصناف الاربعة الاولى، بل نحسب هذه الظواهر يبدو عليها التصميم بالفعل كما يقر بعض العلماء الداعمين للالحاد.. لذا فمن المنطقي ان نعتبر افضل التفاسير حولها هو انها مصممة بفعل الذكاء.

هذا من الناحية المنطقية، لكن للعلماء اسبابهم التي تجعلهم يبتعدون عن التفسير السابق ويتحفظون منه، على امل ان يجدوا في يوم ما حلاً لهذه المعضلة وفق ما اعتمدوه من توجيهات المولد الفلسفي - المتبنى حالياً - كما يتمثل في معيار الطبيعانية.

مع هذا لسنا معنيين بالالتزام الصارم بالمعيار المشار اليه، كما ذهب الى ذلك عدد قليل من العلماء والفلاسفة، فقد تجاوز العلم العديد من المعايير التي اعاقت تقدمه، ونتوقع ان الحال سيشمل المعيار الانف الذكر؛ مثلما حصلت اشياء غير متوقعة في النظم والتفاسير المتبعة في الفيزياء.

واذا كنا غير معنيين بالالتزام بهذا المعيار، فذلك لأن الظواهر الحيوية تمتلك دلالة علمية فائقة على التصميم، ولا تتقبل تفسيراً اخر يمكنه ان ينافس هذا المبدأ، خاصة بعد اكتشاف بنية الدنا المعقدة والتشفير الوظيفي والبروتينات العملاقة وغيرها.

فقد اصبح من الواضح ان الخلية الحية ممتلئة بالروبوتات (Robots) والحواسيب الحيوية ونظم المعلومات المعقدة بما تتفوق على اي حاسوب الكتروني مخترع، كما تتفوق على نظام المعلومات لشانون لكونها تمتلك وظائف مخصوصة. لذلك ولّد هذا الحال بعض الاهتمام في المعيار الذي يمكن ان يفسر مثل هذه الظواهر الغريبة، فهي لا تمت الى اي من الاصناف الاربعة الاولى التي مرت معنا، بل تتشابه مع ما يبديه الصنف الاخير في انتاج الصناعات الدقيقة الهادفة.

وعليه كيف نضع معياراً يحدد لنا ما هو عائد الى الصنف الاخير لتمييزه بشكل معقول عن بقية الاصناف الاخرى من التفاسير العائدة الى معيار الطبيعانية؟

ومن وجهة نظرنا، يشترط في هذا المعيار ان تكون الحادثة او الظاهرة المتحققة منتمية الى منطقة ضيقة جداً من الاحتمال النوعي؛ في قبال اخرى واسعة للغاية. لذلك لا بد من افتراض وجود منطقتين متضادتين ومتباعدتين الى اقصى حد من حيث الاحتمال النوعي، الى درجة يكون توقع الحدوث تلقائياً هو من نصيب احد افراد المنطقة الواسعة لا الضيقة، وعند حدوث العكس فسيدل ذلك على الذكاء اعتماداً على مدى التفاوت بين المنطقتين؛ وسط بنية معقدة حقيقية او مصطنعة او مفترضة تخيلية او رياضية مجردة.

 

وبعبارة ثانية يقتضي الاحتمال النوعي وجود منطقتين احتماليتين مختلفتين نوعياً، احداهما ضيقة لامتلاكها عدداً محدوداً من المصاديق المختلفة التي تمثلها، لهذا تكون امكاناتها الاحتمالية قليلة، واخرى واسعة لامتلاكها عدداً كبيراً من المصاديق التي تمثلها، ومن ثم فان امكاناتها الاحتمالية مرتفعة، اي ان توقع حدوثها تلقائياً يحظى بنسبة احتمالية عالية مقارنة بالاولى. لذا فالتقابل النوعي بين المنطقتين هو تقابل بين دائرتي الاحتمال الممكنة، كلما قويت احداهما ضعفت الاخرى، والعكس صحيح.

فمثلاَ لو افترضنا أننا أردنا رمي عملة نقد مائة مرة، فسنحصل على (2100) صورة توافيقية، ومن ثم أردنا التعرف على منطقتي الاحتمال النوعي وسط الامكانات الضخمة لهذه الرميات، فبداية يمكن تحديد عدد الامكانات المنتظمة من مجموعة الصور التوافيقية، إذ تمثل سبع حالات فقط، وهي إما ان يظهر أحد وجهي العملة النقدية في جميع المرات، أو على التناوب في نصفها، أو ربعها، أو كل عشر مرات، أو خمس مرات، أو التناوب الفردي مرة فمرة، أو التناوب الزوجي مرتين مرتين. فهذه سبعة أشكال منتظمة فقط ولا يوجد غيرها، وبضربها باثنين من حيث الظهور والعدم نحصل على (14) حالة توافيقية، فيما تشغل بقية الحالات التوافيقية الممكنة منطقة الاحتمال النوعي غير المنتظم. وبذلك تكون لدينا منطقتان محددتان ومتضادتان من الاحتمال النوعي، حيث إحداهما ضيقة تتمثل في عدد الحالات الممكنة للانتظام، وتعادل (14) صورة توافيقية فقط، أي انها أقل من 24 صورة، في حين تتميز الأخرى بمنطقة واسعة من الحالات الممكنة غير المنتظمة، وتتمثل بعدد ما تبقى من الصور التوافيقية، وتقارب أكثر من (299) صورة، أي أكثر من 1029.

لذلك فإن التنافس بين الانتظام وعدمه هو تنافس نوعي لا شخصي. وان القابلية العشوائية الخالصة تميل إلى المنطقة الواسعة غير المنتظمة لكثرة امكاناتها من الصور التوافيقية. فكلما زاد عدد الرميات العشوائية كلما توقعنا اصابة المنطقة غير المنتظمة أكثر فأكثر باضطراد، حيث مع زيادة الرميات تتسع هذه المنطقة على حساب نظيرتها المنتظمة من الاحتمال النوعي.

وعليه انه في الأعداد الكبيرة من الرميات يميل الاعتقاد إلى نفي اصابة المنطقة المنتظمة، ولو اُخبرنا بتحقق ذلك لما صدقنا، ولو أُجريت أمامنا تجارب تبدي هذا النوع لكنا على شك بأن ذلك مفتعل عن قصد دون ان يكون عشوائياً. ففي مليون رمية ليس من السهل ان نصدق من يخبرنا بأنها أصابت المنطقة المنتظمة عشوائياً، حيث تقدر بحوالي أربعين حالة توافيقية ضمن الحالات الممكنة والتي هي (21000000).

صحيح ان أي صورة توافيقية منتظمة لا تختلف من حيث احتمالها عن أي صورة أخرى غير منتظمة. لكن هذا ما يصدق على الاحتمالات الشخصية، حيث تتساوى الامكانات لدى جميع الصور من دون اختلاف نوعي. ولا يظهر التمايز إلا في حالة أخذ اعتبار المنطقتين المختلفتين نوعياً. ففي الأعداد الكبيرة، ان توقع اصابة المنطقة المنتظمة هو ضئيل جداً مقارنة بالمنطقة غير المنتظمة. ولو ان الناس خُيّروا للمراهنة على اصابة إحدى المنطقتين، لما اختلف اثنان في ان يختاروا الأخيرة لكثرة ما تمتلكه من الحالات التوافيقية على عكس المنطقة المنتظمة. وبالتالي كلما زاد عدد رميات قطعة النقد، ولنفترض انها أصبحت بالمليارات، كلما زاد يقيننا وثقتنا باصابة المنطقة غير المنتظمة.

وقد يقال كيف يمكن ان نفسر ما يحصل من الفوز بجائزة اليانصيب احياناً  وفق هذا المعيار؟

والجواب هو ان الاحتمالات الواردة في هذه اللعبة هي من النمط الشخصي لا النوعي، فكل بطاقة لها قيمة احتمال الفوز بنفس القدر الذي تمتلكه بقية البطاقات، لهذا قد يفوز زيد او عمر او غيرهما، بل من الضروري ان تفوز واحدة من مجموع البطاقات الكلية. صحيح ان نسبة هذا الفوز الى بطاقة محددة ضعيفة جداً، لكنها متساوية بالنسبة للجميع، ولو اننا شخّصنا احدى البطاقات كرهان للفوز، لكان من المتوقع ان نخسر الرهان لصالح البقية، حيث الاولى لا تمتلك قيمة للاحتمال سوى واحد من مجموع البطاقات، في حين تمتلك البقية قيمة مقدارها مجموع الاحتمالات باستثثناء واحد فقط، وهي قيمة كبيرة. لذا قد يقال انه يمكن الاعتماد على مثل هذا الفارق النوعي، حيث يوجد اختلاف بين امكانات البطاقة الواحدة من جهة، وجميع البطاقات الاخرى باستثناء واحدة من جهة ثانية.

مع هذا فالمثال السابق لا ينطبق على ما نحن بصدده من تكوين نوع من النظام في المنطقة الضيقة في قبال غريمتها الواسعة، كما نراه في الكون والحياة.

كذلك لا يتحقق ما نحن بصدده عندما نريد ان نحدد قيمة احتمال فوز زيد من الناس في جميع دورات اليانصيب معاً. اذ ما يحصل في هذه الحالة هو مجرد تضييق منطقة احتمالات زيد، فيضعف الاحتمال اكثر فاكثر كلما زاد عدد الدورات المقامة. فمثلاً لو كانت لدينا مليون بطاقة لكل دورة يانصيب، واجرينا عشر دورات، فسيصبح احتمال فوز زيد في جميع الدورات عبارة عن واحد من مليون مضروباً في عشر مرات، ويساوي (10-16)، وهو مستبعد جداً مقارنة باحتمال فوزه في الدورة الواحدة فقط.

لكن هذا الافتراض لا يلبي الشرط الذي ذكرناه حول طبيعة المنطقة الضيقة في قبال المنطقة الواسعة للامكانات الاحتمالية.

وقد نغير من شروط المثال السابق لصنع منطقة نوعية منتظمة، فنفترض ان زيداً يقوم بتكرار المساهمة في اقتناء بطاقة اليانصيب في جميع الدورات المقامة، والمطلوب ان يفوز في واحدة منها على الاقل، فتصبح لدينا في هذه الحالة منطقة ضيقة للاحتمال في قبال اخرى واسعة. وان احتمالات فرص نجاح زيد في الدورات المتعددة يجعل من المنطقة الضيقة تزداد قليلاً بامكانية واحدة في كل دورة جديدة، فكل فرصة نجاح تمثل مصداقاً من مصاديق المنطقة الضيقة المنتظمة. لكن السعة الحاصلة تبقى محدودة للغاية.

ويشابه هذا المثال ما قد تواجهه الكائنات الحية من فرص ضئيلة جداً للتطور كلما تعرضت الى التغيرات المؤثرة باضطراد، كالطفرات الجينية وغيرها. لكنها مع ذلك غير كافية للتطور النوعي وفق العشوائية والانتخاب الطبيعي، ويعود السبب في ذلك الى ضخامة الامكانات المقابلة غير المفيدة، ومن ثم فهي بحاجة الى الدعم والتوجيه الذكي. وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بنشأة الحياة. وسبق ان استعرضنا في عدد من الدراسات المشاكل المعقدة المتعلقة بهذين المستويين من الحياة: النشأة والتطور.

أما في العالم الفيزيائي فالامر مختلف، فمثلاً في العشوائية الفيزيائية المتعلقة برمي قطعة النقد، نلاحظ ان الانتظامات المتولدة فيها وان تزداد مع ارتفاع عدد الرميات لكنها تضعف كنسبة امام غريمتها غير المنتظمة، وليس هو الحال في المثال المذكور حول فرص نجاح زيد، اذ تصبح المنطقة المتعلقة باحتمالات فوزه اكثر سعة واقل انخفاضاً لدى مقارنتها بفوز البطاقات الاخرى.

وحقيقة ان اغلب الافتراضات السابقة حول بطاقات اليانصيب لا تشابه ما نجده في عالم الكون والحياة، او مما يقع ضمن النظم الاربعة التي سبق ان تحدثنا عنها في دراسة سابقة (انظر: العشوائية والنظم المتولدة عنها: https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=165).

على ان الامثلة الرياضية السابقة هي في حالة افتراض اننا حددنا مجموعة الاعداد. في حين لا يمتنع ان نصادف في عالمنا الحقيقي – كما في الفضاء - اعداداً رياضية تظهر فجأة من دون علم مسبق بمجموعها ولا هويتها. ويمكننا في هذه الحالة الاستعانة بالعلم الاجمالي المسبق للاعداد، فطبيعتها قابلة للتقسيم الى منطقتي الاحتمال النوعي، حيث احداهما تكون منتظمة وهي ضيقة جداً، كما في تسلسل الاعداد من الواحد فصاعداً على التوالي، او في تسلسل الاعداد الفردية او الزوجية او الاولية او غير ذلك من الانتظامات المختلفة، فيما الثانية غير منتظمة وواسعة جداً. وبالتالي عندما تظهر لدينا مجموعة منها فجأة دون معرفة السبب، فذلك يعني اما انها تعبر عن حالة عشوائية، او انها منبعثة عن ذكاء متعمد. فلو كانت هذه الاعداد غير منتظمة فسوف يترجح انها بفعل عشوائي ما لم يتبين انها مشفرة، في حين لو تبين انها منتظمة وكبيرة، فذلك لا يفسر بغير الذكاء، ويزداد هذا التفسير تأييداً وقوة كلما ازدادت سعتها او انبعاثها. وهذا ما يمكن تفسيره وفق المعيار الذي تحدثنا عنه، كما في فلم ورواية كارل ساجان (اتصال)، حيث اننا امام احتمالات متعلقة بمجاميع من الاعداد الممكنة، بعضها يتصف بالانتظام وهو الحد الضئيل، فيما يتصف البعض الاخر بعدم الانتظام وهو الغالب الاعظم منها، وبالتالي يصبح من الطبيعي ان نعتبر هذا الانتظام هو وليد الذكاء وفقاً للمنطق الحسابي للاحتمالات الممكنة.. اذ ان اي مجموعة من الاعداد الكبيرة عندما تكون منتظمة فسوف تدل على الذكاء، سواء تمثلت بالاعداد الاولية او الزوجية او التعداد التسلسلي التدريجي او غير ذلك من الانتظامات النوعية الاخرى.

هذا فيما يتعلق بالاعداد الرياضية الصرفة. وعادة ما نواجه طرقاً اخرى مختلفة، اذ من تطبيقات منطقة الاحتمال النوعي ما يتعلق بالنظام الوظيفي، وله عدد من الصور المختلفة، بعضها صور حقيقية كما في الظواهر الحيوية، واخرى مصطنعة كما في اللغة. فالتعقيد الحاصل في الاحرف اللغوية يبعث على وجود منطقتي الاحتمال النوعي؛ الضيقة والواسعة، وتتميز المنطقة الواسعة بارتباطات لا تفيد المعنى، فاغلب ارتباطات اللغة تخلو من الاخير، فيما تبقى منطقة ضيقة لهذه الارتباطات هي ما تتميز به. وكلما زادت الاحرف؛ توسعت (منطقة عدم المعنى) لكثرة الصور التوافيقية المتعلقة بها، على عكس (منطقة المعنى) ذات الصور التوافيقية الضيقة.

وقريب مما سبق يحصل لدى الارتباطات البنيوية الحيوية، حيث تفتح المجال امام منطقتين متعاكستين للاحتمال النوعي، احداهما وظيفية ضيقة لقلة ما تمتلكه من خيارات توافيقية، واخرى غير وظيفية واسعة لكثرة ما تحمله من خيارات، كما هو الحال في تسلسلات الدنا والبروتينات وسائر الجزيئات الخلوية وما فوقها.

وعلى هذه الشاكلة فيما يخص الصناعات والفنون البشرية، حيث تتصف ارتباطاتها البنيوية المعقدة بانها تمتلك منطقة ضيقة للاحتمال النوعي، في قبال منطقة واسعة تخلو من الفائدة. لذلك تحتاج الارتباطات البنيوية المفيدة الى التصميم الذكي، وبدونه لا يمكن الحصول على بنية معقدة مفيدة لانتمائها الى المنطقة الضيقة.

ومن حيث المنطق الاحتمالي ان الصناعات البشرية والوظائف الحيوية ومثلها المعاني اللغوية، كلها تصنف ضمن المناطق الضيقة للاحتمال النوعي. وتتميز الوظائف الحيوية بانها تمتلك مناطق اكثر ضيقاً من غيرها. وهي لهذا تعتبر من ابرز تطبيقات التصميم التي يدل عليها معيار الاحتمال النوعي. اذ يمكن ان يصل الحال الى عدم كفاية عمر الكون المقدر بـ (14 مليار) عام لانتاج ابسط وظيفة حيوية من دون تصميم او ذكاء. لذلك فشلت كافة الطرق العلمية في تفسير كيف نشأت مثل هذه الوظائف المدهشة، كتلك التي تقوم بها الجزيئات العملاقة من الدنا والرنا والبروتينات.

كما ينطبق معيار الاحتمال النوعي على نظام الضبط العددي الدقيق في العالم الفيزيائي. فمن الناحية الافتراضية المتخيلة ان الاعداد الثابتة المكتشفة في الكون الفيزيائي تنتمي الى منطقة احتمال نوعية ضيقة في قبال اخرى واسعة جداً من غير تحديد، لذلك لا يعقل ان تتحقق المنطقة الضيقة من دون دعم الذكاء والتصميم، مثلما هو حال ما يتعلق بتطبيقات النظام الوظيفي.

***

هكذا ننتهي الى بيت القصيد من ان معيار التصميم والذكاء يحتاج الى وجود بنية معقدة قابلة لأن تُقسم افتراضياً الى منطقتين متضادتين من الاحتمال النوعي. اذ في حالات معينة نحصل على بنية عشوائية من دون قابلية على التقسيم المشار اليه، ومن ثم لا يتحقق النظام ولا الوظيفة، وليس لها ادنى دلالة على التصميم والذكاء. كذلك قد نحصل على بنية بسيطة قابلة لأن تتولد فيها المنطقتان المتضادتان، لكنها غير معقدة. لذلك ان الشرط الاساسي في هذا المعيار هو القابلية على التقسيم وتحقيق الاحتمال النوعي الثنائي المتباعد وسط البنية المعقدة، ومن ثم انتماء الحادثة او الظاهرة المتحققة الى المنطقة الضيقة.

وبهذا تكون لدينا ثلاثة شروط لتحقيق معيار الذكاء كالتالي:

1ـ التعقيد.

2ـ الاحتمال النوعي المتباعد ثنائياً.

3ـ تحقق احد افراد المنطقة الضيقة.

ولايضاح هذه الشروط الثلاثة نستعين بالامثلة اللغوية. حيث يمكن التمييز بين خمسة انماط مختلفة من ارتباطات الاحرف، في كل منها باستثناء الاولى منطقتان متضادتان، احداهما تفيد المعنى فيما لا تفيده الاخرى، كما في الارتبطات التالية:

نمط منتظم بسيط يخلو من المعنى، وهو بالتالي يخلو من الاحتمال النوعي او المنطقتين المتضادتين، مثل تكرر أحد الاحرف بانتظام تام.

نمط منتظم نسبياً وذو قابليتين لافادة المعنى وعدمها، وهو بسيط رغم تفاوت البساطة بين اطيافه المختلفة، حتى يبدو في بعض الحالات انه معقد، لكن تعقيده ضئيل للغاية مقارنة بالنمط المعقد العشوائي كما سنرى. فمثلاً يمكن ان تتشكل من الاحرف التالية (أ، ث، ح، د، ن) مع الفاصلة ارتباطات منتظمة نسبياً من دون معنى، مثل:

ثا جدن ثا جدن ثا جدن.. الخ.

كذلك يمكن ان تتشكل منها ارتباطات منتظمة نسبياً ذات معنى، مثل:

حدثنا حدثنا حدثنا.. الخ.

نمط عشوائي بسيط ذو قابليتين لافادة المعنى وعدمها، وله اطياف متفاوتة في البساطة. فمثلاً يمكن ان تتشكل من الاحرف التالية (أ، ب، د، ع) ارتباطات عشوائية بلا معنى مثل كلمات: ادبع.. بادع.. الخ.

وفي القبال يمكن ان تتشكل منها كلمات لها معنى، مثل: أبدع.. ابداع.. عابد.. الخ.

نمط عشوائي معقد ذو قابليتين لافادة المعنى وعدمها، وله اطياف متفاوتة في التعقيد. ويمتاز بان له قابلية على التشكلات الضخمة مقارنة بالنمطين السابقين. وهو ما يعنينا، حيث يتميز بالاضافة الى ما يشترك به مع النمطين السابقين من وجود منطقتين مختلفتين ومتضادتين للاحتمال النوعي، فانه يمتلك التعقيد، وهو ما تفتقر اليه الانماط السابقة. وبفضل التعقيد تتكثر الحالات الممكنة للارتباط، ومن ثم يعظم الفارق النوعي بين هذه الحالات لدى المنطقتين المتضادتين. وتتميز المنطقة ذات المعنى بامكانات ضعيفة جداً مقارنة بالامكانات الضخمة للمنطقة الخالية من المعنى.

واعظم ما تكون عليه صورة هذا النمط هو عند استخدام جميع الاحرف اللغوية بحرّية، مثل تدويننا لمختلف الجمل والفقرات والمقالات والكتب والموسوعات، فرغم انها تعتمد على عدد محدود من الاحرف، ففي اللغة العربية تقدر مع  الفاصلة بـ 29 حرفاً فقط، لكن امكاناتها لاعطاء المعاني لا تحصى. ورغم هذه الامكانية الهائلة الا انها لا تُعدّ شيئاً امام ضخامة الامكانات الخالية من المعنى. ولهذا السبب بالذات نعزو الارتباطات اللغوية المعقدة ذات المعنى الى الذكاء استناداً الى الفارق الاحتمالي بين المنطقتين الانفتي الذكر.

نمط يشوبه الاختلاط، ويعتمد على بعض الخلط لدى صور الانماط السابقة، وله صور عديدة، فقد يتكون من بنية مختلطة عشوائية ومنتظمة، او قد يكون بعضها ذا معنى، والبعض الاخر بلا معنى. وقد يزداد الاختلاط في هذا او ذاك. وما يهمنا هو ما يتعلق بالنمط الرابع المعقد، اذ قد تكون الارتباطات خالية من المعنى، لكنها تتضمن القليل من الارتباطات ذات المعنى. وبالعكس، وهو الشائع، حيث يمكن ان تكون الارتباطات تفيد المعنى، لكنها تتضمن بعض الشذوذ من عدم المعنى او تحريفه، مثل حدوث تحريف في كلمة او جملة، او فقد او زيادة او نقل بعض الجمل والفقرات فيختل جزءاً من المعنى الوارد في النص، وقد يؤدي في احيان قليلة الى تحسين المعنى بشكل ضئيل. لكن هذا الاختلال لا يغير من الفارق النوعي بين المنطقتين المتضادتين للاحتمال النوعي، وان احداهما تتصف بالضيق وتستأثر بامكانات المعنى، على عكس الاخرى. كما ان هذا الاختلال لا يغير من استنتاجنا بان هذا النص هو ايضاً دال على الذكاء رغم النقص والتحريف.

وللحالة الاخيرة شبه بالظواهر الحيوية، فهي معقدة وذات ارتباطات بنيوية غير منتظمة وتؤدي وظائف دقيقة، لكنها معرضة للتحوير والتشويه، واحياناً قليلة تبعث على شيء طفيف من التحسين، كما في حالة الطفرات الجينية والبقايا الاثرية الناتجة عن عمليات التطور المعقدة. مع هذا فانها تند عن ان تفسر بغير الذكاء؛ على شاكلة ما رأيناه في الاختلال المعنوي للغة ذات الارتباطات البنيوية المعقدة.

ونعتقد ان هذه التحريفات والتشويهات العرضية للظواهر الحيوية هي مما يدعم ان يكون الذكاء غير مفارق، كما في اثير الذكاء الذي سبق ان اقترحناه في عدد من الدراسات (انظر مثلاً: أثير الذكاء والتصميم: https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=150).

***

من هنا نجد في معيار الاحتمال النوعي الكأس المقدسة في اكتشاف التصميم، اذ ينقسم هذا الاحتمال الى منطقتين متضادتين احداهما واسعة واخرى ضيقة، وكلما ازدادت الاولى سعة كلما ضاقت الثانية، والعكس صحيح، وهو ما يدعم فكرة المعيار الكاشف عن الذكاء. وقد يؤدي ضيق منطقة الاحتمال النوعي الى الرفض التام لكل تفسير لا يستند الى عامل الذكاء، وذلك عندما يبلغ مقدار هذا الاحتمال الى أقل من مقلوب مجموع عمليات الكون او الموارد الكونية المتاحة.

صحيح انه في الحسابات الاحتمالية لا يمكننا التوقف عند حد صارم ونقول هذا هو الحد النهائي، وذلك لأن تسلسل الاحتمالات يتضاءل الى ما لا نهاية له، لكن مع هذا توجد حدود لا يتوقع بعدها الاعتماد على شيء اخر، حتى نصل الى درجة الصفر العملي او اليقين الموضوعي كما تفسره المرحلة الذاتية من العملية الاستقرائية الصدرية (نسبة الى المفكر محمد باقر الصدر).

ومعلوم ان العلم يعتمد على معيار منطقة الرفض في العلوم الاحصائية لاستبعاد الصدفة، كما في منهج فيشر منتصف عشرينات القرن الماضي، حيث لا تقبل الفرضية التي لا تدعمها عوامل احصائية باقل من (5%)، او غير ذلك من النسب التي تم اقتراحها فيما بعد،  ومنها تخفيض فيشر للنسبة الى حدود (3%)، او حتى اقل من ذلك لتصل الى خمسة بالالف (0.005)؛ كالاقتراح الذي وقّعه مؤخراً اثنان وسبعون خبيراً في علم الإحصاء والأحياء والاجتماع.

لكن هذا ما يجري في العلوم الاحصائية، فالنسب المذكورة ليست بشيء امام القيم الاحتمالية الضخمة في النظم التي نتحدث عنها، لا سيما ما يتعلق بالوظائف الحيوية، اذ يتضح ان النماذج التي سبق ذكرها وفق المنطقة الضيقة للاحتمال يصعب تفسيرها تبعاً للعوامل الطبيعية المعروفة، خلافاً لحالة ما لو افترضنا تفسيرها تبعاً لعامل الذكاء. فمثلاً يتميز النظام الوظيفي بمنطقة ضيقة جداً من الاحتمال، وعادة ما يصل ضيقها الى عدم كفاية عمر الكون لصنعها وفق العوامل الطبيعية. ومن الممكن وضع معيار للنفي التام بما هو اعظم من الرفض عندما يزداد ضيق منطقة الاحتمال النوعي فيصبح اقل من مقلوب مجموع عمليات الكون المتاحة.

***

وأمام مثل هذه الحقائق ادعى قليل من العلماء ان من الممكن الخروج من هذا المأزق عبر افتراض الخوارزمية التطورية، وهي تعتمد على تفاعل عاملين: الصدفة والضرورة. فعند ادخال الاخيرة في المعادلة يصبح من المحتم التوصل الى النتائج المرجوة، فهي عملية اشبه بلعبة اليانصيب، حيث تجمع بين العاملين المشار اليهما، فالضرورة تقتضي ان تفوز واحدة من البطاقات من دون تعيين، لكن من المصادفة ان يحظى زيد مثلاً بالبطاقة الفائزة. وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بالخوارزمية التطورية مع اخذ اعتبار حالة التطور التفاضلي المتدرج للوصول الى النتيجة المطلوبة. وهي تُستخدم بشكل فعال في حل المشكلات الهندسية المعقدة.

وتعزى أقدم عملية محاكاة حاسوبية للتطور - عبر استخدام الخوارزمية التطورية وتقنيات الحياة الاصطناعية - الى نيلز آل باريشيل عام 1953، ومن بعده بسنوات قليلة أليكس فريزر الذي نشر سلسلة من الاوراق حول محاكاة الانتقاء الاصطناعي. ثم اصبحت مثل هذه الممارسات معروفة على نطاق واسع. وقد استخدمها عدد من العلماء لحل معضلة الحياة، وتم التمثيل عليها ببعض العبارات اللغوية القصيرة.

لكن ما اشتهر هو ما قدمه دوكينز في (صانع الساعات الاعمى) عام 1986، حيث انشأ تسلسلاً عشوائياً متطوراً لجملة قصيرة مستمدة من مسرحية هاملت لشكسبير (Methinks it is like a weasel)، وهي انه لو اتيح الزمن الكافي لجيش من القرود في ان تضرب على الآلات الحاسوبية لانتجت هذه الجملة مرة واحدة خلال 1040 محاولة، اي ان احتمال تكونها يبلغ 10-40 ، وهي تحتاج الى زمن يقدر بمليارات المليارات من السنين. مع هذا فمن الممكن جعل العشوائية تتحسن بالتدريج من خلال البرمجة الحاسوبية في وقت قصير جداً. وقد طبقها دوكينز في عدد من الاختبارات، فجعل البرنامج يعمل على تدوير الاحرف الانجليزية عشوائياً وغربلتها لتثبيت كل حرف مناسب في محله عندما يظهر بالتدريج مع ترك بقية الاحرف الاخرى، وهكذا يستمر الحال حتى تتكون الجملة بالتفاضل المتدرج، كالذي يفعله الانتخاب الطبيعي ازاء التغيرات العشوائية للكائنات الحية او جيناتها. ومن ثم لاحظ ان الجملة السابقة تتكون بعد 43 جيلاً خلال ما يقرب نصف ساعة فقط، وفي تشغيلة ثانية للحاسوب تم تشكلها بعد 64 جيلاً، كذلك في محاولة ثالثة بعد 41 جيلاً. بمعنى ان احتمال النجاح يصل الى حوالي واحد من 40 محاولة، بدل الاختبارات العشوائية الصرفة التي يبلغ احتمال النجاح فيها (10-40)  محاولة.

لكن هذه الطريقة من الخوارزمية التطورية واجهت اعتراضين، احدهما انها تعيّن مسبقاً الهدف الذي تريد الوصول اليه، وهو تحديد غائي بعيد المدى ومبرمج سلفاً دون ان يتلائم مع ما يراد اثباته في الطبيعة عبر مبدأ الانتخاب الطبيعي، سواء ما قبل الحياة او ما بعدها.

والثاني ان هذه الخوارزمية محملة بمعلومات معقدة تتفق مع مبدأ التصميم دون سواه.

وقد جرت محاولة اخرى تبتعد عن تعيين الهدف المطلوب سلفاً وفق برنامج حاسوبي اكثر تطوراً معني ببرمجة الحياة الاصطناعية المسماة بالاسبانية أفيدا Avida، وقد تم اصدار التصميم الاول منها عام 1993، ومن ثم اعيد تصميمه مرات عديدة، وهو برنامج مستوحى في الاصل من نظام تيرا كمحاكاة حاسوبية قابلة للتطور والتحول والتكاثر ذاتياً. والى هذا اليوم تستخدم هذه الطريقة كبرنامج تعليمي حول كيفية نشوء التطور. مع اخذ اعتبار ان هذه المحاكاة لا تحمل الكثير من المعلومات مقارنة بما تحمله الظواهر الحيوية.

وطبقاً لتصاميم أفيدا ظهرت مقالة تكشف عن نتائج هذه العمليات من المحاكاة الرقمية، مع تلافي مشكلة التحديد المسبق للسمة او الوظيفة المعقدة. وشارك فيها اربعة باحثين اثنان منهم سبق ان ساهما في اصدار التصميم الاول المشار اليه، وتم نشرها في مجلة الطبيعة بعنوان (الاصل التطوري للسمات المعقدة) عام 2003.

وقد استهدفت المقالة اثبات امكانية تفسير ظهور الوظائف والسمات المعقدة للكائنات الرقمية عبر وظائف وسمات اقل تعقيداً موجودة سلفاً، وذلك من خلال التطور القائم على الطفرات العشوائية والانتخاب التفضيلي. اذ تضمنت منصة أفيدا كائنات رقمية محملة بالتعليمات التي تجعلها قابلة على التناسخ والتكاثر ومن ثم التحول والتطور بالطفرات الجينية الرقمية المختلفة.

وكشفت المقالة عن عدم وجود مرحلة وسيطة معينة ضرورية لتطوير وظائف معقدة. كما اظهرت ان معظم الطفرات كانت محايدة او ضارة، وان القليل منها مفيد قابل للاحتفاظ به. كذلك قارنت بين الكائنات الرقمية المعتمدة والفايروسات الحاسوبية، فرغم ان كلاهما يتكاثران ذاتياً؛ لكن الفايروسات الحاسوبية تحتاج الى التدخل المباشر للتحوير والتطوير، خلافاً لما هو الحال في الكائنات الرقمية، حيث تتحول بشكل عشوائي وتتطور تلقائياً.

واشار الباحثون في المقالة الى ان بعض القراء قد يرى العملية لا تخرج عن ‹‹تكديس سطح السفينة››، حيث انها تجعل من الوظائف المعقدة مبنية على وظائف مفيدة ابسط. وكان الجواب هو ان هذا بالضبط ما تتطلبه نظرية التطور البايولوجي، حيث انها لا تبحث عن نشأة اصل الصفات والوظائف، بل تطورها.

كما اشاروا الى ان الكائنات الرقمية تختلف عن التكوين الجيني والانشطة الايضية والبيئة الفيزيائية، لكنها تخضع لنفس آليات التكاثر والطفرة والتوارث والتنافس التي تسمح بجريان التطور والتكيف عن طريق الانتخاب الطبيعي في الاشكال العضوية.

ومن اوجه التشابه بينهما ايضاً ان الطفرة الواحدة يمكن ان تؤثر على عدد من السمات، كما تتفاعل عدة طفرات لتحديد الصفة ذاتها.

اخيراً نبّه الباحثون على اهمية هذه التجارب الرقمية لحل المشاكل التي يصعب دراستها باستخدام الاشكال العضوية؛ لاسباب تتعلق بعدم اكتمال المعلومات، والوقت غير الكافي، وعدم جدوى التجارب.

لكن رغم اهمية هذه المقالة في الكشف عن جملة من التشابهات في العالمين الرقمي والحقيقي، الا انها ليست مفاجئة. فقد اظهرت ان التطور في العالم الرقمي قائم على الطفرات العشوائية والانتقاء التفاضلي، في حين ان الاساس المحرك لعملية التطور ليس الطفرات ولا الانتقاء، بل وجود التعليمات المعقدة لدى الجينوم الرقمي، ولولاها ما كان من الممكن ان يتحقق اي مجال من مجالات هذا التطور. وهو الحال الحاصل في العالم الحيوي الحقيقي. وبالتالي فثمة نوع من التوجيه الذي يصنع آلية التكاثر والاستنساخ ويجعلها غير متماثلة؛ مسخرة بذلك الطفرات العشوائية، فسميت بأخطاء النسخ، وهي ضرورية لحدوث التطور عبر الاستعانة بالانتخاب الطبيعي. ولولا وجود التعليمات والاوامر المصممة والمعقدة لدى سلسلة الجينوم لما كان من الممكن صنع التكاثر والاستنساخ المتباين الاطياف.

وهذا يعني ان النتائج التي انتهت اليها تصاميم أفيدا هي المتوقعة من الناحية الاجمالية، ولا تختلف كثيراً عن الخوارزميات السابقة لها، وتمتاز بانها تخفي الهدف المطلوب، خلافاً لما سبقها من خوارزميات تعلن الهدف المطلوب صراحة. لكن النتيجة واحدة، فبقدر ما يُضخ من معلومات مدخلة؛ بقدر ما تناسبها النتائج المخرجة.. وليس في البين غذاء مجاني.

ويمكن تصوير الحالة بمثال من الواقع يتعلق بحادثة قتل لم يعرف فيها القاتل، والمطلوب هو الكشف عن هذه المعلومة، لكن الاخيرة لا تُعرف بضربة حظ، فالقاتل ينتمي الى فئة كبيرة من الناس، ولنفترض ان لدينا مليون رجل وامرأة، لذا فالاحتمال الاولي لمعرفة هوية القاتل تعادل واحد من مليون، وهو احتمال لا ينفعنا في تحديد هذه الهوية من دون معلومات مسبقة مستقلة. وهنا بيت القصيد!

فالتوصل الى معلومة محددة كما تتمثل في الكشف عن هوية القاتل يتطلب عدداً من المعلومات المستقلة، مثل معرفة إن كان المقتول قد اُصيب باورام وكدمات قوية في الوجه توحي ان القاتل رجل لا امرأة. فهذه المعلومة ان تم التأكد منها تصبح كافية لخفض نسبة احتمال الكشف عن هوية الجاني الى النصف. كذلك يمكن تخفيض هذه النسبة بشكل كبير عبر معلومات مستقلة اخرى، كالكشف عن بعض الآثار التي خلّفها الجاني، والتعرف على مجمل حياة المقتول وما كان يعانيه من مشاكل، اضافة الى المعلومات المتعلقة ببيانات الاقرباء والجيران وغيرهم ممن تربطهم علاقة به، بما في ذلك معرفة من كان يرتاد منزله يوم الجريمة وقبله.. الى غير ذلك من المعلومات. فكلما كثرت هذه المعلومات كلما ساهمت في خفض نسبة الاحتمال مما كانت واحداً من مليون الى دائرة ضيقة؛ قد لا تتجاوز اعضاؤها عدد اصبع اليد الواحدة، ومن ثم تنخفض اكثر، وقد يتعين الاحتمال المرجح او المؤكد حول تحديد هوية الجاني.

وكل ذلك له علاقة بالكشف عن معلومة واحدة هي معرفة هوية الجاني. وقد تلعب بعض المصادفات في المساعدة، لكنها ليست هي الاساس في الكشف عن المعلومة المعقدة.

وذات هذه الحالة تجري في المحاكاة الرقمية، فكل ما يراد التوصل اليه انما يأتي عبر الضخ المعلوماتي، فلولا هذا الضخ ما كان من الممكن جَنْيَ المحاكاة، مع تأثيرات طفيفة للعشوائية لا تغير من الصورة العامة التي يراد تحقيقها. والشيء ذاته حاصل في الحياة الحقيقية، فكل صفة او وظيفة للكائن الحي انما هي نتاج ضخ التعليمات التي تفرضها الجينات وغيرها لتوليد هذه الصفة او الوظيفة. وكل ذلك يصعب تفسيره بغير فرضية التصميم والذكاء.

لذا ان من ضمن ما يسأل عنه هو كيف نشأت هذه المعلومات أساساً؟ وهذا ما لم تجب عليه الخوارزمية التطورية، بل بعض الباحثين مثل سين ديفين يعترف بانه بمجرد ظهور النظام في الكون، فان الحالات اللاحقة ستظهر حتماً بعض النظام، وبالتالي يرى ان السؤال المفضل هو من اين جاء النظام الاولي في الكون بدلاً من البحث في حقن النظام في كون متطور؟ وذلك كرد على ديمبسكي ومجمل ما يقوم به انصار حركة التصميم الذكي.

وحقيقة الحال ان العلم ما زال لا يعرف كيف نشأت الحياة والتفاصيل الخاصة بتطورها استناداً الى العوامل المتعلقة بالتطورات الكونية، او ما يفترض من الخوارزمية المجهولة. ومن ثم فالمشكلة ليس فقط في اصل النظام الاولي للكون، بل حتى بعض من تطوراته الجذرية وعلى رأسها معضلة نشأة الحياة.

مع هذا لا يمتنع وجود خوارزمية تطورية مجهولة في اعماق بنية النسيج الكوني، لكن ذلك لا يغير من حاجة المعلومات المعقدة الى المصمم والذكاء، كما يتجلى اثر ذلك في مظاهر النظام الوظيفي، سواء تلك العائدة الى الكون او الحياة او الكائنات الذكية (انظر: العشوائية والنظم المتولدة عنها، مصدر سابق).

comments powered by Disqus