يحيى محمد
ظهرت فكرة التصميم الذكي في الوسط الامريكي بعد جدل حول نظرية التطور طال عقود من الزمن. ففي عشرينات القرن الماضي نجحت المعارضة الدينية المسيحية في غلق تدريس مادة التطور لدى المدارس الحكومية، واستمر هذا الحال لاربعة عقود قبل ان يعاد تدريسها خلال الستينات، ثم ظهرت سلسلة من الدعاوى القضائية المطالبة باضافة تدريس نظرية الخلق مع التطور جنباً الى جنب.
وفي عام 1966 خصص مؤتمر ويستار في فيلاديفيا انعقاده حول نقد الداروينية الحديثة. وقد أثرت نتائجه على اعمال الكثير من العلماء، بل وكانت من اهم الاسباب التي ادت الى ولادة حركة التصميم الذكي (IDM).
وبعد سنوات اربع من هذا المؤتمر نشر عالم الكيمياء الحيوية ويلدر سميث Wilder-Smith كتاباً بعنوان (خلق الحياة The Creation of Life)، حيث دافع فيه عن الخلقوية وحجة التصميم لوليام بيلي تبعاً للحسابات الاحتمالية للتسلسل الجيني، والذي قال انه لا يمكن تفسيره بالتطور، بل انه يتطلب “الضرورة المقيتة للنشاط الذكي الإلهي وراء الطبيعة”. وكان لأبحاثه وكتاباته تأثيرها على نشاطات حركة التصميم الذكي، ومن ذلك ما اعترف به ديمبسكي عام 2005 من ان “أفكار ويلدر سميث البديهية حول المعلومات كانت الدافع لكثير من أبحاثي”.
وفي عام 1974 صدر كتاب مدرسي هام بعنوان (الخلقوية العلمية)، شارك في تأليفه وإعداده مجموعة من العلماء والمدرسين والاستشاريين والفنيين التابعين لمعهد ابحاث الخلق، وحرره مدير هذا المعهد هنري موريس. ويعتبر مادة تعليمية معتمدة لدى بعض مدارس كاليفورنيا انذاك. ويمتاز بانه يقدّم وجهة نظر علمية خالصة بغض النظر عن معاضدة الكتاب المقدس. لذلك حرص مؤلفوه على تقديم الادلة المادية المعترف بها في المجال العلمي دون اشارة الى الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية الاخرى. وطرحوا في هذا المجال نظريتهم الخلقوية كبديل علمي مناهض لنظرية التطور. ورأوا ان الاصول والتاريخ القديم كلاهما يدعمان فكرة الخلق المباشر بدلاً من التطور. كما اوجبوا ان يكون الطالب على دراية بالاصول، مثل أصل العناصر والقوانين التي تحكم تفاعلات المواد الكيميائية، واصل الكون والنظام الشمسي، واصل الحياة وعدد مختلف من انواع الكائنات الحية، واصل الظواهر الاجتماعية واللغوية... الخ.
والنقطة الهامة في الكتاب هي اعتقاد مؤلفيه بان من المحال اثبات اي مفهوم عن الاصول علمياً، مبينين بان جوهر الطريقة العلمية يعتمد على الملاحظة التجريبية والتكرار، في حين ان الاصول لا تلاحظ ولا تتكرر. لذا رأوا انه على الرغم من اهمية وجود فلسفة في الاصول فان تحققها يحصل من خلال الايمان وليس المشاهدة البصرية. فكل خطوة للتحقيق في الاصول لا تستغني عن الايمان. وطبقوا هذا الحال على قضية الخلق، حيث لا يمكن اثباته علمياً، كما طبقوه على نظرية التطور. فهما من هذه الناحية سيّان لا يتقبلان الاثبات، اذ لا يمكن استحضار اي منهما. واستشهدوا على فكرتهم بعدد من العلماء الذين اكدوا انه لا توجد طريقة لاختبار التطور.
لذلك أوصوا بضرورة ان يتخلص الطلبة من الفكرة الراسخة التي تجعل نظرية التطور علمية، فيما نظرية الخلق دينية. بل واشاروا الى ان في كل نقطة خلاف بين نموذجي الخلق والتطور سيكون التفوق لصالح الاول على الاخير علمياً. ومن ثم انتهوا الى ان البيانات العلمية ليست اوثق من خطابات الكتاب المقدس؛ مذكرين بان الوحي موثوق به وواضح تماماً، وان الحقائق العلمية المفسرة بشكل صحيح ستعطي نفس شهادة الكتاب المقدس، وليس ثمة ادنى احتمال في تعارضهما.
هذه هي فكرة مجملة عن كتاب (الخلقوية العلمية). وبعد سنتين من صدوره نشر المخترع الخلقوي ريتشارد بليز Richard B. Bliss كتاباً صغيراً في ذات هذا المسار بعنوان (الأصول: نموذجان: تطور، خلق)، جاء فيه انه وفقاً للتصميم الإبداعي تم انشاء جميع عمليات الحياة لتعمل تماماً كما نلاحظها اليوم، مستشهداً على ذلك بما تقوم به الخلية الحية واجزاؤها الصغيرة الدالة على الابداع. فالمصمم هو إله الخلق، لم يُنشئ الحياة وهندستها فحسب، بل أعطى غرضاً لها أيضاً. واعتبر حاله من انصار نموذج “التصميم الابداعي” او الخلقوي في قبال نموذج التطور.
ومنذ عام 1981 فما بعد أكد العالمان فريد هويل وويكراماسينج على ان نشأة الحياة تندّ عن ان تُفسر وفق المعيار الطبيعاني؛ بسبب التعقيد الوارد فيها، ومن ثم فهي بحاجة الى نوع من الذكاء والتخطيط الغائي. فالحياة تتطلب كمية ضخمة من معلومات لا يمكن لقوانين الطبيعة والعمليات العشوائية ان تستوفيها، كما فصلنا الحديث عن نظريتهما في دراسة مستقلة.
وفي عام 1984 بدأت جذور نظرية التصميم الذكي تظهر في كتاب (لغز اصل الحياة) لكل من الكيميائي تشارلس ثاكستون وزميليه والتر برادلي Walter Bradley وروجر اولسن Roger Olsen. اذ تضمن تقديم فكرة وجود مسبب ذكي كقضية علمية في قبال التفاسير الطبيعانية لنشأة الحياة.
فقد تناول الباحثون الثلاثة نقد الفرضيات المادية لتفسير نشأة الحياة، ووضعوا قبالها فرضية تتعلق بعنصر الذكاء، وصفوه بمصدر او مسبب او خالق ذكي intelligent Creator، دون ذكرٍ لمصطلح التصميم الذكي او المصمم الذكي. واعتمدوا في هذا الافتراض على التمييز بين علمين مختلفين، احدهما علم النشأة والاصول origin science، ويتناول الاحداث الفردية كما تتمثل في اصول الاشياء؛ كبداية الكون ونشأة الحياة. والثاني علم العملياتoperation science ، ويختص بالظواهر المتكررة والتي تخضع لقوانين الطبيعة. وأكدوا على انه اذا كان من الممكن اخضاع الظواهر المتكررة للفحص في المختبر، فان الاحداث الفردية لا يمكن اخضاعها لمثل هذا الفحص؛ باعتبارها لا تتكرر، ومن ثم كان البت في فرضياتها يقوم على اساس المعقولية وعدمها وليس الاختبار والقابلية على التكذيب. وطبّقوا هذا الحكم على نشأة الحياة، فهي لن تكرر نفسها لنتمكن من اختبار نظرياتنا حولها.
وتعتبر هذه الفكرة تطويراً لما جاء في كتاب (الخلقوية العلمية) قبل عقد من الزمان. واشار ثاكستون وزميلاه الى انه في العديد من الحالات نعزو بعض الاحداث الى اسباب ذكية، مثل وجود المنحوتات والآلات واللوحات الفنية والقوانين اللغوية، واعتبروا ذلك يتفق مع ما يحمله الحامض النووي الدنا من رسائل معلوماتية معقدة. بمعنى ان من المعقول تماماً عزو هذا التركيب المعقد الى مسبب ذكي. اي من المعقول افتراض وجود خالق يقف وراء الكون والحياة، معتبرين هذا الافتراض يمثل وجهة نظر معقولة لعلم النشأة والاصول، دون ان يقصد به وجود دليل علمي على مسألة الخالق.
هذه فكرة اجمالية لكتاب (لغز اصل الحياة) الذي تضمن مقدمة كتبها دين كينيون Dean Kenyon لاستعراض اهميته، ثم نشر مقالاً في نفس العام أكد فيه بان “وجهة نظر الخلقوية عن الأصول مفضلة على وجهة النظر التطورية.. وأن النظم الجزيئية الحيوية تتطلب الذكاء والدراية في التصميم والهندسة”.
ومعلوم ان كينيون سبق له ان تبنى نظرية التجاذب الذاتي الطبيعاني اواخر الستينات، لكنه انقلب عليها اواسط السبعينات ومن ثم اخذ يتبنى فكرة التصميم الذكي، كما يظهر في كتاب (الباندا والناس) الذي شارك في تأليفه مع بيرسيفال ديفيزPercival Davis عام 1989. لكن زعيم حركة التصميم فيليب جونسون ذكر انه بحلول عام 1995 أصبح كينيون مؤيداً للتصميم الذكي كتفسير للتعقيد المتأصل في الحياة.
وفي عام 1986 تطورت الفكرة لدى ثاكستون فنشر ورقة علمية بعنوان (علم النشأة: قواعد جديدة، وادوات جديدة لمناقشة التطور Origin Science: New Rules, New Tools for the Evolution Debate). ثم قام بتوسعتها في نفس العام تحت عنوان (الحامض النووي الدنا والتصميم وأصل الحياة) وقدمها كجزء من مؤتمر يسوع المسيح في دالاس – تكساس. فعلى خلاف ما جاء في (لغز اصل الحياة) اخذ يقر بامكانية اثبات وجود مسبب ذكي لاصل الحياة بالدليل العلمي اعتماداً على البايولوجيا الجزيئية ونظرية المعلومات. وفي الوقت ذاته اعترف ان العلم القائم على جزيئة الحامض النووي وان كان بمقدوره اثبات الذكاء بالدليل، لكنه لا يرشدنا بشيء حول ما اذا كان عامل الذكاء موجوداً ضمن الكون او خارجه، ويبقى تحديد ذلك يعود الى الحجج التاريخية او الفلسفية او اللاهوتية او من خلال النظر في خطوط الادلة ذات الصلة بمجالات العلوم الاخرى غير المتعلقة بالحامض النووي.
وفي هذا العام بالذات (1986) ذكر مدير مؤسسة الفكر والاخلاق جون بويل Jon Buell ما جرى بينه وتشارلس ثاكستون من مناقشة طويلة في مكالمة هاتفية حول الاسم الذي ينبغي الاتفاق عليه، فتوصلا الى مصطلح “التصميم الذكي”، وذلك قبل ثلاثة اشهر تقريباً من مداولة محكمة قضية ادواردز، وقبل تسعة اشهر من صدور الحكم.
وفي حزيران من عام 1988 عقد ثاكستون مؤتمراً في واشنطن بعنوان (مصادر محتوى المعلومات في الحامض النووي الدنا). وفي كانون الاول (ديسمبر) من نفس العام عقد مؤتمراً اخر قرر فيه استخدام مصطلح التصميم الذكي لحركته الجديدة، وقد جذب المصطلح ستيفن ماير الذي كان حاضراً في المؤتمر.
أما نقطة التحول الهامة فقد بدأت في السنة التي تلت ذلك، حيث ظهر كتاب (الباندا والناس Pandas and Of People) لمؤلفيه بيرسيفال ديفيز ودين كينيون، وحرره تشارلس ثاكستون ونشرته مؤسسة تكساس للفكر والأخلاق (GTF). وهو اول بحث يستخدم اصطلاح “التصميم الذكي” بشكل منهجي وتظهر فيه عبارة نظرية التصميم، لذلك يمثل البداية الفعلية لحركة التصميم. وهو كتاب مدرسي حول الاصول البايولوجية ومخصص لصفوف علم الاحياء في المدارس الثانوية. وتأتي اهميته كما قال ماتزكي بانه اذا نجحت حركة التصميم الذكي مطلقاً فستكون الحركة الاولى في تاريخ العلوم تبدأ من كتاب مدرسي للمدارس الثانوية لتنتهي الى احتضانها من قبل مجتمع البحث العلمي.
وبحسب ريتشارد أُولي Richard Aulie فان مفهوم التصميم الذكي كما ورد في (الباندا والناس) يحمل ثلاث عبارات تعريفية كالتالي:
1ـ النظرية القائلة بأن الكائنات البيولوجية تدين في أصلها لذكاء موجود مسبقاً.
2ـ ان التصميم الذكي هو ما يحدد أصل الكائنات الحية الجديدة متمثلاً في سبب غير مادي لدى مخطط أو خطة أو نمط ابتكره عامل ذكي.
3ـ يعني التصميم الذكي أن أشكالاً مختلفة من الحياة بدأت فجأة من خلال وكالة ذكية، مثل الأسماك ذات الزعانف، والطيور ذات الريش والمناقير والأجنحة.
وأثار الكتاب جدلاً كبيراً في الاوساط الاكاديمية والهيئات الادارية، واعيدت طباعته عام 1993، ومن ثم ظهرت الطبعة الثالثة الهامة عام 2007 بعنوان (تصميم الحياة The Design of Life: اكتشاف علامات الذكاء في النظم البيولوجية).
ونُسبت هذه الطبعة الى كل من وليام ديمبسكي وجوناثون ويلز؛ لتضمنها مادة جديدة تقدر بحوالي ثلثي الكتاب، وان ما تبقى من الثلث خضع هو الاخر الى بعض الاصلاح بما يتناسب مع التطورات الحديثة التي طرأت على علم الاحياء، كالذي اشار اليه الباحثان في مقدمة الكتاب. مع ان الانصاف كان يقتضي ذكر اسمي المؤلفين الاساسيين مع الباحثين الذين اجريا الاضافات والاصلاح. وبحسب تقييم عالم الكيمياء الحيوية مايكل بيهي للكتاب فانه كما قال: “عندما يسرد المؤرخون المفكرون في المستقبل الكتب التي أطاحت بنظرية داروين، سيكون كتاب (تصميم الحياة) في المقدمة”.
ومعلوم ان الكتاب مخصص لاثبات التصميم الذكي علمياً مع نقد اطروحات اصل الحياة ونظرية التطور الداروينية. لكنه لا يحدد هوية المصمم، فمن وجهة بعض انصار التصميم انها قضية تتجاوز النطاق العلمي.
وتعرّض كتاب (الباندا والناس) لانتقادات كثيرة من المعارضين للتصميم الذكي. فقد وصفه عالم الحيوان مايكل روس Michael Ruse بانه عديم القيمة وغير نزيه. كما اعتبره عالم الحفريات كيفن باديان Kevin Padian تشويهاً شاملاً للبايولوجيا الحديثة، وقال “من الصعب أن نحدد ما هو أسوأ شيء في هذا الكتاب: المفاهيم الخاطئة في مضامينه، أو التعصب قبال العلم الصادق، أو عدم الكفاءة التي يقدّم بها العلم. على أي حال، يجب تحذير المعلمين من استخدام هذا الكتاب”. كذلك قال الرئيس السابق للجمعية الوطنية لمدرسي العلوم جيرالد سكوج Gerald Skoog: “حتى إذا كنت تتجاهل عدم الدقة وتشويه النظرية العلمية في (الباندا والناس)، فانه لا يمكن اختبار الادعاء بأن الحياة هي نتيجة التصميم الذكي بالوسائل العلمية، ومن ثم ليس له القدرة على تفسير العالم الطبيعي”. كما ان المحامي ريموند فاسفاري Raymond Vasvari وصف الكتاب بانه ليس كما يزعم اصحابه بانه كتاب علمي، بل هو أداة سياسية يمكن تسميته بحصان طروادة الفكري لليمين الديني.
واُتهم الكتاب بان في مسوداته تم تغيير جميع الاشارات التي تتعلق بالخلق، ولم يعد شيئاً مذكوراً حول الفاظ الخلق في الطبعة المنشورة، حيث عوضاً عنها اصبح موضوعه الرئيسي هو “التصميم الذكي” والذي تم استخدامه حوالي (65 مرة)، كما اشتمل على حوالي خمسة عشر مصطلحاً فشكّل معجماً جديداً للمصطلحات المناسبة لمفهوم التصميم الذكي، مثل: انصار التصميم، عامل التصميم، الوكالة الذكية، الوكيل الذكي، السبب الذكي، المصمم الذكي، الذكاء النشط، التدخل الذكي، المصمم المشترك.. الخ. ووظيفة هذا المعجم هي إثبات امكانية معارضة نظرية التطور علمياً بدون استخدام لغة دينية.
وهذه أهم خاصية في الكتاب، وهي انه لم يستخدم اللغة الدينية ومصطلحاتها وعلى رأسها فكرة الخلق المباشر. بل حتى لم يشر ولو بكلمة واحدة الى الله او الخالق او الكتاب المقدس او الخليقة او علم الخلق. لذا توجهت اليه تهمة ممارسة التقية وتفادى ما حصل من منع الحكومة الامريكية لتدريس علم الخلق في قضية ادواردز عام 1987.
وهذا ما تم التأكيد عليه في محكمة دوفر عام 2004 كما سنعرف..
وفي عام 1996 ظهر كتاب (صندوق داروين الاسود) لمايكل بيهي، وقد اعتبره ستيفن ماير انه استطاع بمفرده تقريباً ان يجعل لفكرة التصميم الذكي مكاناً على الخارطة العلمية والثقافية. وبعده بسنتين نشر وليام ديمبسكي كتاب (دليل التصميم The Design Inference)، والذي يمثل الاساس العلمي المعتمد عليه في تحديد الظواهر المصممة وفق بعض المعايير المناسبة.
وفي منتصف التسعينات (1996) تم انشاء مركز العلوم والثقافة؛ المدعوم كجناح إبداعي لمعهد ديسكفري Discovery Institute (DI) المتأسس عام 1990 في واشنطن، وكان الغرض منه إدراج التصميم الذكي في مناهج البايولوجيا العامة للمدارس. والهدف من ذلك قلب الهيمنة الخانقة للرؤية المادية للعالم كما تتمثل بالداروينية.
ويعتبر هذا المعهد قطب الرحى من حركة التصميم الذكي. فجميع أنصار التصميم إما يشكلون فريقاً للمعهد او زملاء مؤيدين. واغلب مفاهيم التصميم والحركة المرتبطة بها هي نتاجه، وهو يرشد الحركة ويتبع استراتيجية الوتد في ادارته للبرامج ذات الصلة بفكرة التصميم الذكي.
ويتهم المعارضون لهذا المعهد بان له خطاباً مزدوجاً، فهو يدعي ان التصميم الذكي ليس دينياً عند الخطاب الموجه للناس عامة، لكنه مسيحي ذو نظرة دينية دون الاكتفاء بالابداع الذكي، وكثيراً ما يشار الى ان للتصميم الذكي اساساً في الكتاب المقدس، وان الهدف الذي يتولاه هو بالاضافة الى محاولة التأثير على صانعي الرأي في المجال العلمي، فكذلك انه يسعى الى بناء قاعدة شعبية بين المسيحيين خلال ندواته الخاصة. وكما يقول اصحابه: نحن نهدف إلى تشجيع وتزويد المؤمنين بالأدلة العلمية الجديدة التي تدعم الإيمان، وكذلك نشر أفكارنا في الثقافة الأوسع.
كما لوحظ على اتباع هذه الحركة بانهم كثيراً ما يصرون على أن ادعاءاتهم لا تتطلب مكوناً دينياً. ومع ذلك فالقضايا الفلسفية واللاهوتية تثار بشكل طبيعي من خلال مزاعم التصميم الذكي.
ويتابع المعارضون انتقاداتهم، فيرون انه على الرغم من ان هذه الحركة لا تشير إلى أن الله هو المصمم، فإن المصمم غالباً ما يُفترض ضمنياً أنه قد تدخّل بطريقة لا يستطيع فعلها سوى الإله. بل ان زعيم حركة التصميم الذكي وليام ديمبسكي يقدم بعض المواصفات السلبية لخصائص المصمم، وهو انه لا يمكن أن يكون عامل الذكاء المترأس لأصل الكون والحياة متصفاً بالجسدية الصارمة. وهو يفترض في (دليل التصميم) أن الثقافة الغربية يمكن أن تفي بهذه المتطلبات.
لكن من وجهة نظر بعض اصحاب نظرية التصميم ان سبب عدم تحديد المصمم هو لانه لا يُعرف علمياً ان كان المصمم خارقاً للطبيعة وخارجاً عنها ام انه يقبع في صميم الطبيعة ذاتها، كالذي يشير اليه بيهي من تعليل هذا الحال. وسبق لثاكستون ان اشار الى مثل هذا الحال كما عرفنا..
ان اكثر الشبهات والاخطاء المتداولة هو اتهام فكرة التصميم بالخلقوية المباشرة. وهو اتهام غير صحيح؛ سواء من الناحية النظرية، او من حيث لحاظ اختلاف الاراء التي التزم بها انصار التصميم الذكي.
فالفكرتان مختلفتان، صحيح ان بعض المنتمين الى نظرية التصميم الذكي يتبنى الفكرة الخلقوية مع السعي لارضاء الرؤى الدينية، لكن ذلك ليس هو التوجه العام لانصار التصميم. فمنهم من اتبع ذات الاسس العلمية السائدة بما فيها فكرة التطور، كما نلاحظ ذلك لدى بيهي وماير. وبالتالي فالكل ليس سواء.
ورغم ان زعيم حركة التصميم فيليب جونسون اشار الى ان الهدف من التصميم الذكي هو جعل الخلقوية مفهوماً علمياً كما يتبناها معهد ديسكفري، ولا يرى تناقضاً بين اعتبار التصميم الذكي يشير الى “كيان خارق للطبيعة” وبين كونه يتصف بالعلمية.. الا ان انصار التصميم لا يتفقون على هذا المطلب، ومن ذلك ما ذكره ديمبسكي بانه ليس الهدف تبني فكرة الخلقوية من خلال نظرية التصميم التي يمكن ان تستعمل للكشف عن عيوب مفهوم الخلق المباشر.
وبحسب ستيفن ماير فان للتصميم الذكي ثلاث نظريات هي:
1ـ الايمان بالعقيدة الدينية التي تقول ان الارض فتية.
2ـ الايمان بنظرية الخلق المتدرج.
3ـ الاعتقاد بالطفرات الكبروية.
وما يجمعها هو الاعتقاد بوجود خالق يقف وراء ما يجري في الكون والحياة.
ومعلوم ان نسبة كبيرة من الامريكيين يتقبلون الاطروحة الدينية للخلقوية. فمثلاً في عام 1991 افاد استطلاع مؤسسة جالوب (أن 47 بالمائة) من الأمريكيين يؤمنون بخلق خاص للانسان حديث النشأة. وفي عام 2012 وجدت هذه المؤسسة لدى استطلاعها أن (46 بالمائة) من الأمريكيين يعتقدون أن الله خلق البشر في شكلهم الحالي منذ حوالي عشرة ألاف عام.
ورغم ان الحملات الاساسية لحركة التصميم الذكي قد برزت في الولايات المتحدة الامريكية كما هو الحال لدى معهد ديسكفري، الا ان صداها قد بلغ بلداناً اخرى، وعلى رأسها اوروبا. والهدف الجامع لهذه الحركة هو العمل على اضافة معيار لاطبيعاني يفسر به ما يعجز المعيار الطبيعاني على تفسيره، لا سيما في المجال الحيوي الذي تعتبره هذه الحركة المنبع الخصب لمتطلبات التفسير اللاطبيعاني كما يتمثل في الذكاء.
ان اهم حدث شكل صدمة وانتكاسة كبيرة لحركة التصميم الذكي هو الحكم الذي اصدره جونز في محكمة دوفر. ففي عام 2004 تم تقديم دعوى قضائية لمنع تعليم مدرسة دوفر نظرية التصميم الذكي كمنافس للداروينية مثلما جاء في (الباندا والناس).
وعلى اثر ذلك اصدر القاضي جونز عام 2005 حكمه في اعتبار التصميم الذكي مذهباً خلقوياً متنكراً، اي انه اتجاه ديني لا يمثل نظرية علمية ولا يحمل مستندات مثبتة. وقد جاء هذا الحكم على اثر كتاب (الباندا والناس) في طبعته الثانية الصادرة عام 1993، حيث اعتبر ان اصل الكتاب كان يتبنى النظرية الخلقوية ومعتقدها الديني، ثم قام الناشر والمحررون لاحقاً باستبدال مصطلح الخلق بالتصميم الذكي على اثر محاكمة ادواردز عام 1987، اذ تم استبدال لفظ الخلق وما يقاربه من الفاظ حوالي (150 مرة) الى لفظ التصميم الذكي وما شاكله.
واستند القاضي في حكمه على شهادة فيلسوف العلم روبرت بينوك واستاذة الفلسفة باربرا فوريست، وهي استاذة من جامعة جنوب شرق ولاية لويزيانا واحدى الشهود الخبراء للاتحاد الامريكي للحقوق المدنية، وتعتبر الخبيرة التي كتبت على نطاق واسع حول حركة التصميم الذكي ونقدها، كما في كتابها (حصان طروادة الخلقوي Creationism’s Trojan Horse) عام 2004. وكثيراً ما تتهم انشطة هذه الحركة بانها لا تتقيد بتعزيز الابداع في التصميم الذكي، وانما تضيف الى ذلك دعمها لنظرتها الدينية حول العالم.
وقد اعترف انصار التصميم بصحة ما اورده القاضي حول تطابق تعريفات لفظي علم الخلق والتصميم الذكي في المسودات الاولية لكتاب (الباندا والناس)، لكنهم اعتبروا مصطلح الخلق كان فضفاضاً وعاماً بحيث يختلف عن مصطلح الخلقوية الديني. لذلك لم يُحدد الخالق او المصمم ان كان خارجياً او داخلياً، اي ان كان مفارقاً او غير مفارق. ونفى اصحاب الكتاب تبني فكرة الخلقوية، سواء في المسودة التي سبقت نشر الكتاب او فيما تضمنته الطبعتان الاولى والثانية.
وذكروا حول ملابسات ما حصل هو ان إعداد الكتاب يعود الى عام 1986 كمخطوطة بعنوان (البايولوجيا والاصول) قبل ان يتغير الى ما هو عليه. وفيها نُقلت مفاهيم واصطلاحات ورقة (علم النشأة) لثاكستون، كما بقيت الحجج المستخدمة في هذه الورقة هي ذات الحجج الرئيسة في (الباندا والناس). وقد حصل ذلك قبل عام واحد من اصدار الحكم في قضية ادواردز.
وقد كذّب عدد من انصار التصميم الذكي التهمة القائلة بان نظرية التصميم هي اعادة هيكلة للخلقوية للالتفاف على قرار المحكمة عام 1987، ومن ذلك استشهاد ستيفن ماير بان نظرية التصميم تم تقديمها لاول مرة اواخر السبعينات وبداية الثمانينات على يد ثاكستون وزملائه والتي اسفرت عن وضع كتابهم (لغز اصل الحياة) عام 1984، وهو كتاب تضمن محاولة تفسير الاسرار الغامضة لاصل المعلومات المشفرة في الدنا. كما اشار ماير الى ان نظرية التصميم تخالف بشكل اساس في محتوياتها ومنهجيتها النظرية الخلقوية التي تؤسس اطروحتها على الكتاب المقدس. فيما تعتمد نظرية التصميم على النظام السببي وفق الظواهر الطبيعية.
وعلى أثر محاكمة دوفر شاعت فكرة ممارسة انصار حركة التصميم الذكي الخداع والتقية، اي انهم يُظهرون الالتزام بالاساليب العلمية، فيما يخفون دوافعهم الدينية.. وبذلك كان الحكم على هذه الحركة قاسياً، لأنه لم يعد يلاحظ ما يقدمونه من ادلة قوية ومعتبرة، بل كثيراً ما يواجهون بانهم ذوو اتجاه ديني متلبس بالعلم، او انهم يمارسون العلم الزائف او الكاذب.
***
وعلى العموم واجهت فكرة التصميم الذكي معارضة من قبل جهتين مختلفتين، احداهما دينية والاخرى علمية.
ومن حيث ردود الفعل الدينية لم ترحب المنظمات الخلقوية بنظرية التصميم، ومن ذلك ان اثنين من أشهر المنظمات المدافعة عن خلق الأرض الفتية YEC في العالم أتخذتا موقفاً غير داعم للتصميم الذكي. وكما كتب هنري موريس، مؤسس معهد الأبحاث المختصة بالخلق واللاهوتي الامريكي المناصر لفكرة خلق الارض الفتية، عام 1999 يقول: “على الرغم من حسن النوايا، فان نظرية التصميم الذكي غير مفيدة، فقد حاولت سابقاً وفشلتْ، وتحاول اليوم وستفشل. والسبب في ذلك انها طريقة غير انجيلية”. وأردف قائلاً: “بأنَّ أدلة التصميم الذكي يجب أنّْ تكون مأخوذة أو متوافقة مع فكرة الخلق في الكتاب المقدس إذا أُريدَ لها أن تدوم وأن تكون ذات معنى”.
وفي عام 2002 انتقد كارل فيلاند Carl Wieland، من دعاة الارض الفتية، المدافعين عن التصميم الذكي فقال: “انه على الرغم من نواياهم الحسنة إلا انهم أخرجوا الكتاب المقدس من النظرية، وبالتالي فانهم ومن دون قصد قد ساعدوا ودفعوا باتجاه هجر هذا الكتاب”. لكنه مع هذا اعتبر منظمته ليست ضد حركة التصميم الذكي ولا معها.
كذلك في عام 2005 انتقد مدير مرصد الفاتيكان جورج كوين George Coyne التصميم الذكي ووصفه بالنظرية الخلقوية الفجة التي قللت من دور الله لتجعله مجرد مهندس فحسب، معتبراً اياه بانه ليس علماً على الرغم من انه يتظاهر بذلك.
كما اعتبر الفلكي اللاهوتي هيو روس Hugh Ross إنَّ جهود المدافعين عن التصميم الذكي لفصله عن الكتاب المقدس تجعل هذا التصميم يغرق في الغموض. وقد كتب في عام 2012 قائلاً: “إن انتصار التصميم الذكي من دون تحديد هوية المصمم تجعل النظرية سطحية، وهو بهذا لن يقدّم الكثير للمجتمع العلمي”.
كما أبدى بعض النقاد الدينيين كراهيته لنظرية التصميم؛ بسبب الخشية من اختبارها وتفنيدها؛ مثلما كان يحصل في الماضي بشكل متكرر.
أما من حيث ردود فعل المجتمع العلمي حول التصميم الذكي، فيكاد يُجمع على أن التصميم الذكي ليس علماً وليس له مكان في المناهج العلمية الدراسية. فالتصميم عادة ما يوحي باعادة حجة الساعة لبيلي، وان المجتمع العلمي يعتبر داروين قد قضى على هذه الحجة نهائياً.
وكما صرحت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالقول: “ان الخلقوية والتصميم الذكي وغيرها من الإدعات القائلة بتدخل قوة خارقة في تكوين الحياة والكون لا تُعتبر علماً، لأنها غير قابلة للتجريب حسب المنهج العلمي”. كذلك صنفت الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم التصميم الذكي ضمن العلوم الكاذبة او المزيفة. وجادل يوجين سكوت، إلى جانب غلين برانش وغيره من النقاد، بأن العديد من النقاط التي أثارها مؤيدو التصميم الذكي هي حجج من الجهل.
كما استنكرت منظمات علمية اخرى تكتيكات حركة التصميم متهمة اياها بشن هجوم مزيف على نظرية التطور من خلال الانخراط بالتضليل والتحريف، وتهميش اولئك الذين يدرّسون التطور. وحديثاً حذر معلم العلوم بيل نآي Bill Nye من أن وجهات نظر الخلقوية باتت تهدد تدريس العلوم والإبتكارات في الولايات المتحدة.
كذلك هو الحال في اوروبا التي حذت حذو الولايات المتحدة.. ففي حزيران (جوان) من عام 2007، أصدرت لجنة الثقافة والعلوم والتعليم التابعة لمجلس أوروبا تقريراً بعنوان (مخاطر الخلقوية في التعليم)، وجاء فيه أن الخلقوية في أي من أشكالها، مثل التصميم الذكي، لا تقوم على الحقائق، ولا تستخدم أي تفسير علمي، ومحتوياتها غير مناسبة بشكلٍ كاف لدراسة العلوم. كما وصفت اللجنة المخاطر التي يتعرض لها التعليم عن طريق تدريس الخلقوية، واعتبرت التصميم الذكي مناهضاً للعلم وينطوي على خداع واحتيال صارخ، وانه يطمس طبيعة وأهداف وحدود العلم.
وفي 4 تشرين الاول (اكتوبر) من العام ذاته، وافقت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا على قرار ينص بأنه ينبغي على المدارس مقاومة عرض الأفكار الخلقوية في أي مجال آخر غير الدين، بما في ذلك التصميم الذكي، والذي وصفته بأنه الإصدار الأحدث والأكثر دقة من الخلقوية، حيث تم تقديمه بطريقة أكثر دهاء. واكد القرار على أن الهدف من التقرير لا يقصد منه محاربة الاعتقاد، بل التحذير من اتجاهات معينة لتمرير الاعتقاد كعلم.
وفي بريطانيا صرحت إدارة التعليم والمهارات (DfES) أنه لا يتم تدريس نظرية الخلق ولا التصميم الذكي كموضوع في المدارس، ولا يتم تحديدها في مناهج العلوم. واشارت الى أن التصميم الذكي ليس نظرية علمية معترفاً به، وانه غير مدرج في مناهج العلوم، لكنها تركت الطريق مفتوحاً ليتاح ادراجه في التعليم الديني كجزء من المقرر الذي وضعه المجلس الاستشاري المحلي الدائم للتعليم الديني.
وفي 25 حزيران من عام 2007 ردت حكومة المملكة المتحدة على عريضة إلكترونية بالقول إن الخلق والتصميم الذكي لا ينبغي تدريسهما كعلم، على الرغم من توقع أن يجيب المدرسون على أسئلة التلاميذ ضمن الإطار المعياري للنظريات العلمية القائمة.
وفي 18 ايلول (سبتمبر) من نفس العام نشرت الحكومة ارشادات للمدارس في انجلترا تنص على أن التصميم الذكي يقبع خارج العلم كلياً، فهو لا يمتلك مبادئ أو تفسيرات علمية، ولا يقبله المجتمع العلمي ككل. وعلى الرغم من أنه لا ينبغي تدريسه كعلم لكن يمكن توفير الفرصة لشرح أو استكشاف لماذا لا تعتبر نظرية التصميم الذكي علمية ضمن السياق الصحيح، في حين يعتبر التطور نظرية علمية. ومع ذلك يمكن لمدرسي المواد التعليمية مثل الدين أو التاريخ أو المواطنة ادراج النظرية الخلقوية والتصميم الذكي في دروسهم.
وأبدى العديد من العلماء تخوفاتهم من نجاح وسيطرة فكرة التصميم الذكي، اذ تُتهم بانها اتجاه خلقوي، وانها خطرة حيث العودة الى إله الفجوات. كما يعتبرونها عدو العلم الحقيقي، ويخشون من ان يأتي اليوم الذي تنتصر فيه فيبدأ اسدال الستار عن الظلام بالعودة الى العصور الوسطى، بل ان البعض يعتبرها شكلاً من اشكال الارهاب. وقد رد عضو معهد ديسكفري جوناثان ويلز Jonathan Wells على ذلك بان ما يهدد العلم الحقيقي وعدوه الذي يجب محاربته هو العلم الزومبي الذي يتمسك به الكثير، وليس التصميم الذكي.
هكذا تم اتهام انصار التصميم الذكي بانهم يسعون الى القضاء على الطبيعة المنهجية للعلم واستبدالها بـ (الواقعية التوحيدية) كما يسميها زعيم حركة التصميم الذكي فيليب جونسون، ومن ثم اتخاذها وسيلة لمنح الدين دوراً مركزياً في مجال التعليم والبحث العلمي.
ومن المؤاخذات الاخرى التي يطرحها الناقدون ضد نظرية التصميم الذكي، هي ان انصارها لا يمتلكون مقالات علمية منشورة في المجلات الرصينة باستثناء واحدة متحايلة، ويقولون بان اصحاب هذه النظرية يفشلون في اتباع إجراءات الخطاب العلمي، لذلك لم تقم هذه الحركة بنشر مقالة صحيحة لمراجعة النظراء تدعم حجتهم في مجلة علمية. كما فشلت في نشر أبحاث أو بيانات داعمة لاستعراض النظراء.
في حين علل ديمبسكي هذا الوضع باعتبار ان المجتمع العلمي السائد حالياً هو اشبه بالمتجر المغلق.
ورغم معاناة هذه الحركة من التضييق وعدم الاعتراف بها وسط المجتمع العلمي، لكنها مع ذلك تمكنت من اصدار خمسين ورقة علمية حتى عام 2011. وفي عام 2015 بلغت الاوراق والمقالات والمحاضرات والكتب والمؤتمرات العلمية ما يقارب 90. الا ان اغلب هذه الاوراق ليس بمعترف بها رسمياً.
لكن الغريب ان ستيفن ماير ذكر في مقالة له عام 2008 ان اعضاء مركز العلوم والثقافة التابع لمعهد ديسكفري قد ألّفوا اكثر من ستين كتاباً ومئات الابحاث والمقالات العلمية التي يتضمن الكثير منها تحدي التطور الدارويني، والتي مرت بعملية مراجعة أقران رسمية، بالإضافة إلى بعض الدراسات التي تحاجج لنظرية التصميم الذكي.
لقد قامت حركة التصميم الذكي على تقويض التفسير الدارويني، ورغم ان الكثير يعول على فكرة الخلقوية لكن البعض لا تضره نظرية التطور اذا ما تضمنت الاعتراف بفكرة التصميم. وقد نشر معهد ديسكفري عام 2001 مقالاً تحت اسم (المعارضة العلمية للداروينية) مع توقيع العديد من العلماء وغيرهم؛ معبرين عن شكوكهم حول إمكانية الطفرات العشوائية والإنتخاب الطبيعي من تفسير تعقيد الحياة. ثم واصل مهمة جمع التوقيعات لعدد من السنين، وقد بلغت في عام 2019 أكثر من 1000 توقيع.
ومنذ بدء حملة توقيعات ديسكفري أثار هذا العمل حساسية المجتمع العلمي المعارض. فقام مجموعة من العلماء بإنشاء حملة سميت (مشروع ستيف Project Steve) تكريماً لعالم الحفريات الشهير ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould، وتمكنت من الحصول على موقّعين ما يفوق العدد المتعلق بوثيقة معهد ديسكفري، فمثلاً في هذا العام 2021 تمت مشاركة 1465 توقيعاً جميعهم باستثناء القليل من حملة شهادة الدكتوراه.
وبلا شك ان قائمة الموقّعين للطرفين المتنازعين تجعل من الجدل العلمي مثاراً حول التفسير الطبيعاني للحياة وتطورها.
وبحسب ديمبسكي ان التصميم الذكي يكتسب زخماً سريعاً بين طلاب الجامعات والمعاهد. فذكر في (تصميم الحياة) الصادر عام 2007 انه منذ ثلاث سنوات كان هناك مركز واحد في احدى جامعات كاليفورنيا، اما الان فهناك اكثر من 30 مركزاً في جامعات ومعاهد امريكا تدعم التصميم الذكي بشدة.
وفي عام 2014 اقيم مؤتمر حول التصميم الذكي في البرازيل، ولاحظ دعاته طبيعة الحضور المكثف مقارنة بالحضور القليل في عام 1998. وفي عام 2016 اتخذ نمو التصميم الذكي منحى متصاعداً.
لقد ازداد تنامي المؤيدين للتصميم الذكي وسط العلماء والطلبة والباحثين، وهو ما جعل جوناثان ويلز يعتقد بانه سيكون البارادايم الذي يقود البحث في المستقبل. وقد كتب الفيزيائي ديفيد سنوك David Snoke عام 2014 معتبراً التصميم الذكي برنامجاً ناجحاً وتنبؤياً كما يتطلبه العلم من شروط، فهو “موجود بالفعل أمام أعيننا تماماً”. وأشار إلى البايولوجيا التي تحلل النظم الحية في إطار مفاهيم هندسة النظم؛ مثل التصميم والمعلومات والمعالجة والمثالية، والمفاهيم الغائية الصريحة الأخرى. وبالرغم من أن معظم البايولوجيين يؤمنون بالتطور، الا انهم لا يستطيعون الامتناع عن استخدام لغة التصميم ومفاهيمه في أبحاثهم، ونظرة مباشرة على الحقل تشير الى أنه يتبع فعلاً منهج التصميم.
***
وعموماً ليس لدى انصار التصميم الذكي ادنى اعتراض على اساليب البحث العلمي المتبعة، بل ينصب اعتراضهم على معيار الطبيعانية الفلسفي كموجّه اساس للتفسير العلمي. وهم لا يعترضون على هذا المعيار جملة وتفصيلاً، انما يضعون له بعض الحدود. لذلك يفضل بعضهم مثل مايكل بيهي ان يعطى للعلم نظرة شمولية تجعل منه يبحث عن حقائق الطبيعة بالاستدلالات المادية لكن من غير قيود. واكد انه في حالات معينة يمكن ان يشمل مبدأ التصميم الذكي، بل وحتى التنجيم، كالذي صرح به في محكمة دوفر. كما اشار زميله خبير الدفاع البروفسور مينيتش في ذات المحكمة الى ضرورة توسعة القواعد الأساسية للعلم للسماح للنظر في القوى الخارقة للطبيعة.
ومن وجهة نظرنا ان حركة التصميم الذكي لا تتموضع في طرف مضاد للعلم، بل تسلك ذات النظام الاجرائي التقليدي المتبع كما زاولته الفيزياء منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر. وبحسب تقسيمنا فان العلم الحديث ولّد ثلاثة نظم مختلفة، هي من الناحية التاريخية كالتالي: النظام الاجرائي والافتراضي والميتافيزيائي، كما نجدها شاخصة في الفيزياء.
لذا فالاستدلال على التصميم الذكي سليم لا يعاب عليه، فهو يستند الى الشواهد التجريبية والاستقرائية. وهذا ما تمسك به اصحاب هذه النظرية مع نقد التفسيرات الطبيعانية وفق ذات المنطق العلمي. ولو قارنا مسلكهم بالنظامين الافتراضي والميتافيزيائي لوجدناه اشد احتكاكاً بالمادة التجريبية كتلك التي هيمنت على تفكير علماء الثورة العلمية الحديثة وما بعدها امثال نيوتن وكبلر وغاليلو. فهو مسلك تجريبي استقرائي سبق اعتباره الاساس الوحيد للعلم، قبل ان يتوسع أفق الاخير منذ مطلع القرن العشرين، فشمل نماذج مختلفة تعود الى نظام اخر هو النظام الافتراضي، ومن بعده النظام الميتافيزيائي الى يومنا هذا.
ويمكن مقارنة مسلكهم في استنتاج التصميم الذكي بمسلك نيوتن وغيره في استنتاج الجاذبية. فقد استدل نيوتن على حقيقتها وفق الآثار المشاهدة والارصاد رغم اعترافه انها تبدو ذات اثر شبحي لعدم معرفة كيف تتم حالة الجذب عن بعد، فما هو الوسيط المؤثر بين الشمس والكواكب مثلاً؟ فالجاذبية في هذه الحالة غامضة غير معروفة الكنه، وما زالت مجهولة حتى يومنا هذا، فكل ما يعرف عنها هو تأثيرها فحسب. أما غير ذلك فيمثل تفسيراً لما يظهر من آثار، كما في نظرية النسبية العامة لاينشتاين.
كذلك هو الحال فيما استنتجه انصار التصميم الذكي حول المصمم، فهم من الناحية العلمية يؤكدون بانه مجهول الهوية رغم ان له تأثيراً بيناً في الكثير من الاصول والظواهر الحيوية. وليس من الانصاف والصحيح مطاردتهم على اعتقاداتهم الدينية الشخصية، فالكثير منهم يعتبر ذلك خارج نطاق العلم، او ان الاخير لا يطول مثل هذه الاعتقادات. وهم من هذه الناحية لا يختلفون عن العلماء الملحدين، حيث ما يؤخذ منهم استنتاجاتهم العلمية وليس اراءهم وفلسفاتهم الشخصية.
ولو غضضنا الطرف عن فارق روح العصر بين مسلك انصار التصميم الذكي المعتدلين ومسلك علماء النهضة العلمية الحديثة؛ لوجدنا ان المسلك الاول اقرب الى التمسك بالتجربة والاستقراء وإبعاد الافتراضات الفلسفية والدينية الدخيلة مقارنة بالاخر. فمثلاً ابتلي نيوتن وغيره من العلماء بظاهرة (إله الفجوات)، وهذا ما لا نجده لدى انصار التصميم الذكي؛ امثال بيهي وديمبسكي وماير ودنتون وغيرهم.
مصادر البحث
ستيفن ماير: التصميم الذكي: فلسفة وتاريخ النظرية، ترجمة: محمد طه – عبد الله أبولوز، مركز براهين.
ستيفن ماير: المنزلة العلمية للتصميم الذكي، ضمن العلم ودليل التصميم في الكون.، ترجمة رضا زيدان، الدار العربية للطباعة والنشر.
وليام ديمبسكي: النمط التفسيري الثالث: كشف ادلة التصميم الذكي في العلوم، ضمن العلم ودليل التصميم في الكون، ترجمة رضا زيدان، الدار العربية للطباعة والنشر.
وليام ديمبسكي وجوناثان ويلز: تصميم الحياة، ترجمة موسى ادريس ومؤمن الحسن ومحمد القاضي، مراجعة وتقديم احمد يحيى وعبدالله الشهري، دار الكاتب للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، 2014م.
جون بول ومايكل بيهي: إعادة المحاكمة: القصة الخفية لقضية دوفر، ترجمة سارة بن عمر، مركز براهين، الطبعة الاولى، 2017.
جوناثان ويلز: العلم الزومبي: أيقونات التطور من جديد، ترجمة جنات جمال، مركز براهين.
كيسي لسكين: التصميم الذكي ومراجعة الاقران، تحرير كيسي لسكين، ترجمة أسماء الخطيب وآخرين، مركز براهين.
يحيى محمد: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي.
Henry Morris, Scientific Creationism (General Edition), Edited By Henry Morris, 1974, Foreword.
Richard B. Bliss, Origins : two models : evolution, creation, 1976.
Thaxton, Bradley, Olsen: The Mystery of Life's Origin, 1984.
Barbara Forrest, Expert Witness Report, 2005.
Charles B. Thaxton, DNA, Design, and the Origin of Life.
Nick Matzke, Critique: "Of Pandas and People", 2004.
Richard P. Aulie, A Reader's Guide to Of Pandas and People, 1998.
Leon Lynn, Preview of Article: Creationists Push Pseudo-Science Text.
MICHAEL J. BEHE JULY, Philosophical Objections to Intelligent Design, 2000.
IN THE UNITED STATES DISTRICT COURT FOR THE MIDDLE DISTRICT OF PENNSYLVANIA.
https://www.discovery.org/b/the-design-of-life/
https://evolutionnews.org/2019/02/skepticism-about-darwinian-evolution-grows-as-1000-scientists-share-their-doubts/
https://ncse.ngo/project-steve-n-1300
https://ncse.ngo/list-steves
https://en.wikipedia.org/wiki/A._E._Wilder-Smith
https://en.wikipedia.org/wiki/Intelligent_design