يحيى محمد
مغزى الوجود البشري!
في التفكير البشري نجد موقفين مختلفين ازاء معرفة سبب او علة وجودنا كبشر. يتخذ احدهما المعنى الايجابي في تفسير هذه العلة استناداً الى المنظومة الفكرية المتبعة. فيما يتخذ الاخر المعنى السلبي اعترافاً بالعجز عن فهمها. ولكلا الموقفين تاريخ طويل ممتد منذ القدم الى يومنا هذا. كما لكل منهما اطروحات فكرية مختلفة.
وابرز ما يمثل الموقف الاول اتجاهان مختلفان، احدهما يتمثل في المذاهب المعللة كالفلسفة القديمة وامتداداتها، وعلى شاكلتها الرؤية العرفانية، ومثل ذلك الاطروحات المادية المختلفة، سواء كانت فلسفية او علمية. فيما يتمثل الاخر في المذاهب الغائية، كما في الرؤية الدينية التقليدية وما على شاكلتها.
فالاتجاه الاول يكتفي بمعرفة العلل الوجودية والاسباب المؤثرة في نشأتنا البشرية. فحتى لو ظهر ما يبدو من غايات فعلية فانه يردها الى تلك العلل والاسباب الطبيعية. فيما يذهب الاخر الى التفسير الغائي بافتراض تخطيط مسبق لتحقيق الغاية المطلوبة. بمعنى ان معرفة كافة الاسباب المؤثرة في نشأتنا لا تكفي كتفسير لوجودها، بل يضاف اليها الغرض والقصد من هذا الوجود. فحال ذلك كحال المصنوعات البشرية، حيث لا يكفي تفسيرها بمجرد الاقتصار على الاسباب والادوات المادية التي ادت الى صناعتها، بل لا بد من اضافة شيء اهم غير هذه الاسباب المرئية، وهو الغرض والغاية.
وبحسب التقسيم الارسطي يتمسك الاول بالعلة الفاعلة، فيما يتمسك الاخر بالعلة الغائية.
فالاول يفسر الظاهرة وفق النظر الى ما قبل، اي الى العوامل الوجودية او الطبيعية التي تسببت في ايجادها، فيما يفسرها الثاني وفق النظر الى ما بعد، اي الى غرض الفكرة من خلق الظاهرة.
ويتضمن الاتجاه الاول اطروحات كثيرة، منها اطروحة الفلاسفة القدماء التي فسّرت الوجود العام بمراتبه المختلفة وفق منطق السنخية، بما في ذلك مرتبة وجود الانسان. فما من مرتبة الا وتتقبل التفسير وفق علتها الفوقية المباشرة، حتى ينتهي الحال الى مرتبة المبدأ الاول التي لا تفسر الا بذاتها. لذا فالوجود البشري وفق هذه الرؤية مفسر علّياً من دون لغز محير.
وشبيه بذلك وجهة النظر العرفانية التي تنطلق من فكرة وحدة الوجود لتفسر بها المراتب الوجودية، ومنها المرتبة البشرية، كتعينات حتمية لهذه الوحدة من دون غرض او غاية.
كذلك تتجه الاطروحات المادية، سواء كانت فلسفية او علمية، الى التفسير المعلل في الكشف عن العوامل المادية التي ادت الى وجود البشر، سواء عبّرت عن قوانين صارمة، او احداث عرضية، ابرزها واهمها على الصعيد العلمي اطروحة التطور البايولوجي، كما في الداروينية التي شيّدت صرحها على الاحداث العرضية غير الصارمة او الحتمية.
اما الاتجاه الغائي فهو لا يستند الى الاسباب التي ادت الى وجودنا كما يفعل الاتجاه المعلل، بل ينظر الى الغاية من هذا الوجود. بمعنى ان نشأتنا ليست حصيلة اسباب مادية او غير مادية فعلت فعلها، حتماً او عرضاً، فأدت الى ما نحن عليه.. بل هي نتيجة تخطيط سابق لمبدأ اختار ان تكون لنا غاية في هذا الوجود عبر التوسط بتلك الاسباب. وهذا ما تؤكد عليه الرؤى الدينية، وعادة ما تحددها بقضية معيارية كما تتمثل في عبادة الخالق، وكثيراً ما يستشهد على ذلك ببعض النصوص الدينية؛ مثلما جاء في الآية القرآنية: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) ق\56، ومثلها الآية: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) الملك\2.
لذا فبحسب هذه الرؤية يكون وجودنا مفسر من دون لغز، مثلما رأينا ذلك في الاتجاه المعلل.
وتجدر الاشارة الى وجود مذهب معاصر لا يخلو من مفارقة وتناقض، فهو يحمل ميزتين غير متسقتين؛ الغائية والطبيعانية، كما في الاتجاه الذي ذهب اليه توماس ناجل في (العقل والكون) عام 2012، فرأى ان الطبيعة تحمل غاية جوهرية متأصلة مع الكثير من الحرية لاظهار الصور الغائية من دون حاجة لافتراض الالوهة ونوايا الخالق المتموضع خارج منظومة القانون الطبيعي.
في حين نعتقد انه لا يمكن تخيّل وجود غاية مسبقة مبيتة من دون ان يكون لها قوة مدركة ومخططة لا طبيعانية؛ سواء كانت خارج اطار الطبيعة والكون، او ضمنها كما في الرؤية العرفانية الصوفية.
أما الموقف السلبي المعاكس فيذهب الى ان الوجود البشري يحمل لغزاً ما زال غير معروف، وعادة ما يتبنى فكرة الغائية. ولعل التفكير في هذا اللغز قد ظهر منذ ان تشكل الوعي البشري في سالف الازمان. وما زال يشكل لغزاً محيراً لدى فئة كبيرة من الناس. وربما يراود كل فرد منا شيء من التفكير في هذا اللغز عند اختلائه بنفسه. ويتجسد في السؤال العصي: لماذا نحن هنا؟ او ما المغزى من وجودنا؟.
***
هكذا نخلص الى وجود ثلاثة مواقف واتجاهات مختلفة يمكن اجمالها كالتالي:
أ ـ الاتجاه المعلل وفق الاسباب والعلل المؤثرة.
ب ـ الاتجاه المغيّا وفق الرؤية الغائية كما تحددها المنظومات الفكرية الجاهزة، وعلى رأسها المنظومة الدينية.
ج ـ الاتجاه الذي يعترف بعجزه عن فهم لغز وجودنا.
لكن في قبال هذه الاتجاهات يمكن ان نحدد وجهة نظرنا من خلال اختلافنا معها في النقاط المجملة التالية:
1ـ ان لوجونا مغزى يشكل لغزاً يحتاج الى فك شفرته.
2ـ اتخاذنا لهذا الموقف لا ينبع من حملنا لمنظومة جاهزة نتكئ عليها في حل لغز هذا الوجود. فلدينا شيء من الحرية في الاستدلال اعتماداً على العلم وغيره.
3ـ لقد جرّنا الدليل الى الاعتقاد باننا مسخرون لغاية مقبلة ستسفر عن خلق كائن اخر جديد، وهو ما يجعل لوجودنا مغزى، وبدون ذلك لا يبدو في الافق الذهني ما يبعث على اثبات الاخير خارج سياج المنظومات الجاهزة.
ويلاحظ بهذا الصدد اننا كبشر كثيراً ما نفكر في تسخير الاشياء والاستفادة منها، سواء كانت حية او جامدة، لكننا لم نفكر غالباً فيما لو كنّا مسخرين بدورنا لكائنات اخرى، سواء ستوجد من خلالنا، او انها موجودة فعلاً كما يرى ذلك عدد من دعاة ما يعرف بالأكوان الدمى التمثيلية الملفقة أو الحاسوبية. وبحسب الرؤية التي نقدمها يصبح وجودنا مسخر لغيرنا شئنا ام ابينا، مثلما نقوم بدورنا في تسخير الاشياء لصالحنا.
وفي دراسة سابقة (المنتظر القادم!) اشرنا الى ان الميزة الاساسية المتوقعة في الكائن الجديد هي انه لو تُرك وشأنه لكان قد فعل الخير وتمسّك بالقيم الحسنى؛ على عكس ما يتصف به البشر. وقد تكون الفارقة بينهما احصائية لا لزومية. بمعنى لو خُلّي بين البشر وانفسهم من دون اي سلطة فانهم سيتبعون الهوى وضرب القيم الا ما رحم ربي، وعلى خلافهم ما يفعله المنتظر القادم.
لذلك يمكن وضع معيار يحدد التمايز بين طبيعة وجودنا ووجود هذا الكائن؛ استناداً الى تحليل القيم الاخلاقية والانقلاب الذي ستشهده وفق اطروحتنا.
فبحسب هذه الاطروحة تنقسم القيم الاخلاقية الى علاقتين مترابطتين ومختلفتين، تنضوي احداهما تحت اطار العقل النظري، فيما تنضوي الثانية تحت اطار العقل العملي، ونطلق على الاولى المعنى الوجودي (الواقعي الاجتماعي)، وعلى الاخرى المعنى المعياري. وتتميز العلاقة بينهما بتحكم احداهما في الاخرى. فقد يكون المعنى الوجودي حاكماً على المعنى المعياري، كما قد يحدث العكس.
وللتمييز بين المعنيين، نضرب المثال التالي:
نفترض ان زيداً وخالداً من الناس لا يسرقان، لكن الاول لا يسرق بدافع اخلاقي، اذ حتى لو كانت السرقة مؤمّنة فانه لا يفعلها.. خلافاً للثاني، فهو لا يسرق ليس لدافع اخلاقي، بل للخشية من ان يُكشف امره فيُفضح او يُزجّ في السجن، او للخوف من ان ينال عقاب الله في الاخرة استناداً الى تربيته الدينية، وكل ذلك لا علاقة له بالدافع الاخلاقي الصرف.
وبلا شك ان سلوك الاول يعود الى المعنى المعياري، حيث يجد في القيمة الاخلاقية امراً ذاتياً يدعوه الى عدم السرقة. فيما ان سلوك الثاني يعود الى المعنى الوجودي (الواقعي الاجتماعي)، اي انه خضع لسلطة القانون والعرف الاجتماعي العام بان لا يسرق. فهو خاضع تحت حكم هذه السلطة؛ ان سمحت له بالسرقة فسيسرق، وان لم تسمح فسوف لا يسرق. وبذلك يصبح سلوكه محكوماً وفقاً لما عليه الواقع الاجتماعي كأمر وجودي، رغم ان هذا الواقع هو في حد ذاته قائم على الامر المعياري، لكن الاصل في عدم السرقة لم ينبع مباشرة من الحكم الذاتي للقضية الاخلاقية، بل بتبعياتها ولوازمها من حكم الواقع الاجتماعي.
وهنا تلعب القيم دورين مختلفين، الاول فاعل (كما في مثال زيد)، والثاني منفعل (كما في مثال خالد)، وهي بذلك تتخذ الطابعين العملي والنظري.
وتعويلاً على ما سبق، لو نظرنا الى الاصل المتحكم في العلاقة الاجتماعية للبشر؛ سنجد ان الغالب فيها محكوماً بالمعنى الوجودي لا المعياري للقيم. فالاول هو من يتحكم في الثاني لدى الغالبية العظمى من التصرفات البشرية. الى درجة اننا لو رفعنا العرف والقانون الاجتماعي الذي يدين الى المعنى الوجودي لفسدت علاقاتنا الانسانية وتحولت الى وحشية لا تطاق.
على ان الظاهرة التي يتشكل منها المعنى الوجودي للقيم هي الغالبة على السلوك البشري، كما تحدثنا عنها في (النظام المعياري)، فهي محكومة بقوانين تعمل على تماسك المجتمع وحفظه، وان عالمنا مصمم على ترجيح القيم الحسنة بغض النظر عن النوايا والدوافع. وكان المثال الذي اوردناه يتعلق بموضوع الثقة واهميتها في الحياة خارج اطار النازع الاخلاقي.
ولكي يحصل شيء من الرقي والتقدم في هذه العلاقة لا بد من قلب التحكم القيمي مما هو وجودي الى معياري.
وهذا هو معيار ما سيحدث من تطور. اذ نتفاءل ان يأتي اليوم الذي يتحول فيه المعنى الوجودي للقيم الى المعنى المعياري عبر تحكم الاخير في الاول. ولا يحصل ذلك الا عندما يصبح الواقع الاجتماعي ناشئاً بفعل الارادة المعيارية العامة ودوافعها الاخلاقية. فيصبح البُعد المعياري هو ما يحدد البُعد الوجودي لا العكس.
وبذلك يتحقق مغزى وجودنا، او لماذا نحن هنا؟ لا لأجل ذاتنا، بل لأجل كائن قادم جديد. فالبشر مدعوون للتحول الى كائنات اخرى أكثر رقياً، كما نتوقع حدوث ذلك مستقبلاً (للتفصيل انظر دراستنا: المنتظر القادم! https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=167).