يحيى محمد
نشأة الداروينية الجديدة
سبق ان عرفنا بان التطوريين الوثبيين قد وجدوا ضالتهم عند اكتشاف وراثة مندل ضد فكرة الانتخاب الطبيعي وقانون لامارك في الوراثة المكتسبة. لكن مع مطلع الثلاثينات من القرن العشرين حاول البعض ان يوفق بين الوراثة المندلية والانتخاب الطبيعي بعد ان شاع التناقض بينهما، اذ تتصف الوراثة المندلية بالتغير المفاجئ، فيما يتصف عمل الانتخاب الطبيعي بالتدرج والبطء الشديد. فهذا الحال من التناقض الظاهر وجد من يحله ويجمع بين داروين ومندل بعد ظهور علم الوراثة السكانية (الجمهرية) Population genetics واستخدام الطرق الرياضية في تقدير مجمل التراكمات الكمية للطفرات الوراثية وتأثيرها على التطور العضوي، وقد تم تقدير ان كل طفرة انما تتعلق بجين محدد ومن ثم سيؤثر ذلك على صفة عضوية، فيحصل بذلك شيء من تراكم الطفرات والتغييرات التي يتم الاحتفاظ بها وتوريثها. وبهذه العملية من الاعتماد على فكرة الطفرات الجينية، مع ما يضاف الى ذلك من دور الانتخاب الطبيعي، نشأت الداروينية الجديدة Neo-Darwinism، وقد سماها رولاند فيشر Ronald Fisher في بريطانيا بهذا الاسم كما في كتابه (النظرية الجينية للانتخاب الطبيعي) عام 1930، كما سماها سيول رايت Sewall Wright في امريكا بالنظرية التخليقية للتطور عام 1932. كما ساهم في تأسيسها عالم الوراثة ووظائف الاعضاء هالدين Haldane JBS.
مع هذا فثمة من ارجع نواة الداروينية الجديدة الى اواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، كما تتمثل بنظرية عالم الحيوان الالماني اوجست وايزمانAugust Weismann الذي استندت فكرته الى الطفرة مع رفض فكرة الصفات المكتسبة، وعبّر عن نظريته باستمرارية البلازما الجرثومية، او امرار الصفات الوراثية من جيل الى اخر بواسطة مادة جزيئية داخل نواة الخلية، معتقداً بان الصفات المكتسبة لا تورث، لان الخلايا الجنسية لا تتأثر بما تتأثر به الخلايا الجسمية. وقد ادرك التقاطع العشوائي بين افرع الكروموسومات اثناء انقسام الخلية قبل ان يعاد توليفها لتكوين الامشاج. وخلال هذه العملية يحدث التطافر فينتج متغايرات جديدة للجينات الموجودة بالفعل. لذلك يشار احياناً الى ان وايزمان يمثل أبا الداروينية الجديدة، حيث استكملت بقوانين مندل المعاد اكتشافها وبنظرية الطفرة التي سلم بها وايزمان من قبل.
لقد اعتبرت فترة الثلاثينات وما بعدها لحظة حاسمة في ان يكون للتطور نظرية يمكن العمل بها وان تبتعد بنفسها عن ان تكون في مستوى العلوم الشعبية العامة. حيث اصبح العلماء يجرون عليها التجارب والملاحظات وافتراض النظريات مثل سائر المجالات العلمية الاخرى، تبعاً لعلم الوراثة السكانية.
فقد اكدت الداروينية الجديدة في الثلاثينات على اهمية الطفرات كمصدر للتغاير الوراثي وانها تعمل على الجينات، وافترضوا ان كل طفرة مسؤولة عن جينة محددة لانتاج صفة عضوية معينة، وذلك قبل معرفة طبيعة الجينات. وعلى هذا الاساس تم حساب احتمالات ما ينتج من تغير وفق الوراثة السكانية المعتمدة على كمية الطفرات الحاصلة.. لكن بعد عام 1953 تغير الفهم، اذ ادرك العلماء ان عمل الجينات لم يكن معزولاً عن بعضها البعض، وان الطفرات تتأثر بهذا التفاعل التضامني، ومن ثم فان ذلك ينعكس على ما يمكن ان تنتجه من صفات جديدة.
علماً انه منذ اهتمام التطوريون بالجينات وحتى نهاية الخمسينات اختلف العلماء حول ما يستهدفه الانتخاب الطبيعي: هل هو الجين كما يرى علماء الجينات ام الفرد باكمله كما يرى علماء الطبيعة؟. لكن منذ ستينات القرن العشرين زاد عدد انصار الفكرة الاولى بفعل ما تم الكشف عنه من المزيد من الحقائق الخاصة في الجينات.
لقد ركزت الداروينية الجديدة على صلة التطور بالوراثة السكانية، لذلك وصف عالم الحيوان ارنست ماير Ernst Mayr هذا الاتجاه بعلم وراثة كيس الفاصوليا beanbag، كما في كتابه (الانواع الحيوانية والتطور Animal species and evolution) عام 1963، معتبراً ان هذه الطريقة في نواح كثيرة مضللة تماماً، فاعتبار الجينات كوحدات مستقلة لا معنى له من وجهة النظر الفيزيائية والتطورية. فالجينات لا تقوم بالعمل فقط، بل وتتفاعل فيما بينها ايضاً، لذلك تتأثر كل سمة من سمات الكائن الحي بجميع الجينات، ويؤثر كل جين على جميع الصفات، والتطور لا يتم من خلال جينات وطفرات منعزلة، بل يتعلق بفِرق ومجمّعات جينية كاملة متكيفة. وهذا يعني ان النمط الجيني ليس بكيس حبوب مليء بالجينات المعزولة او غير المتصلة.
***
ان ولادة الداروينية الجديدة خلال الثلاثينات جعلها تتعرض الى نزاع حاد مع النظرية الوثبية التي كانت سائدة انذاك، وان المذاهب الاخرى التي كانت بجنب الداروينية لم تفقد صلاحيتها. وكان العلماء يتجنبون الداروينية بسبب الموقف السلبي من الانتخاب الطبيعي، كذلك كان علماء الاحافير متحمسين لفكرة القفزة التطورية، والسند الرئيسي لهم في ذلك هو كثرة النقص والفجوات في السجل الاحفوري.
ولعل ابرز العلماء الذين دعوا الى النظرية الوثبية في تلك المرحلة هو عالم الوراثة الألماني ريتشارد جولدشميت GoldschmidtRichard، كما في كتابه (الأساس المادي للتطور The Material Basis of Evolution) عام 1940. وفيه اعترض على فكرة تراكم الطفرات الوراثية لانتاج تعديلات معقدة، ومن ثم تحدى الداروينيين في ان يجدوا طريقة لشرح نشوء الصفات العضوية المستجدة بواسطة هذا التراكم التدريجي، مثل الشعر في الثديات، والريش في الطيور، وقطع المفصليات والفقريات، وتحول الأقواس الخيشومية بما في ذلك الأقواس الأبهرية والعضلات والأعصاب وما اليها.. ومثل الأسنان، وأصداف الرخويات، والهياكل الخارجية، والعيون المركبة، والدورة الدموية، وجهاز السم للثعابين، وعظم الحوت، وغيرها.
كما عبّر جولدشميت عن سروره بان جميع التخصصات العلمية التي توفر مادة لفهم التطور قد قدّمت ادلة وافرة ومتوازية على التطور الوثبي بما هو اكثر منطقية من نظرية الداروينية الجديدة، مثل التصنيف والتشكّل المورفولوجي، وعلم الأجنة الوصفي والتجريبي، وعلم الوراثة الاستاتيكية والديناميكية (الفسيولوجية)، وعلمي التشريح المقارن والأحافير.
واشار بهذا الصدد الى ان الجيل الأصغر من علماء الحفريات قدموا نتائج منسجمة مع حقائق علم الوراثة والنماء الجنيني، مؤكداً على ان علم الاحافير يؤدي الى نفس الاستنتاجات التي توصل اليها في كتاباته. اذ توضح المواد الاحفورية بأن العمليات التطورية الرئيسية يجب أن تكون قد حدثت في خطوات واحدة كبيرة، والتي أثرت على المراحل الجنينية المبكرة للحيوانات. لذلك اعتبر أن من العبث البحث عن الروابط المفقودة في سجل الحفريات؛ لكونها غير موجودة. ورأى ان تطور الكائنات الحية يحصل بشكل قفزي في غضون فترة جيولوجية وجيزة؛ متبوعاً بسلسلة أبطأ من عمليات الكمال التقويمي. ومن ثم انتهى الى ان آليات التطور تسمح بحدوث تغييرات هائلة في خطوة واحدة، واعتبرها تتفق تماماً مع ما يجري في علم الأجنة التجريبي.
واستخدم مصطلح المسخ المأمول (الواعد) hopeful monster عام 1933 كدلالة على التبدلات الكبيرة، ومن ثم اشتهرت فرضيته بهذا المصطلح كنوع من التطور الوثبي. ولم يتقبلها العلماء، بل وتعرضت الى السخرية، لكن اعيد لها بعض الاعتبار من قبل عدد من العلماء. فقد كان جولدشميت يعول على تأثير القليل من الجينات التي تتحكم في التطور، وبعد اكتشاف اهمية الجينات التنظيمية وُصف بانه كان سابقاً لعصره. واليوم اصبح من الواضح انه لا اهمية كبيرة فيما يجري من تغيرات صغيرة داخل الجينوم كما يعول عليها الداروينيون، بل تعود الاهمية للجينات التنظيمية وما فوقها.
وكان ممن يدافع عن الداروينية ويرى ان التطور مدين للتغيرات التراكمية الطفيفة ريتشارد دوكينز، وقد نقد في اواسط ثمانينات القرن العشرين فكرة الطفرات الكبيرة كما لدى جولدشميدت، نافياً ان يكون لها دور في التطور، فهي لا تدخل الى مستودع جينات النوع، بل يتم التخلص منها عبر الانتخاب الطبيعي. لكن ما اظهرته الدراسات التالية انه لا اهمية كبيرة لمثل هذه التغيرات التي يتحدث عنها دوكينز وغيره من الداروينيين بعد اكتشاف الجينات التنظيمية والنظم اللاجينية.
***
لم يمر على الداروينية الجديدة اكثر من عقد ليصبح لها سيادة بارزة كما شهدتها العقود التالية منذ الاربعينات وحتى السبعينات من القرن العشرين. ففي الاربعينات قام العديد من العلماء بتأسيس نظرياتهم التوليفية على اعمال كل من فيشر وهالدين ورايت، ومن هؤلاء عالم الاحياء التطوري جوليان هكسلي (1942) Julian Huxley وعالم الحفريات سمبسون Simpson (1944) وعالم الوراثة دوبزانسكي Dobzhansky وعالم الطيور رنش Rensch (1947) وعالم النبات والوراثة ستيبينسStebbins (1950) وغيرهم.
فمثلاً ظهر كتاب دوبزانسكي (علم الجينات واصل الانواع) عام 1937، ومع انه في هذه الطبعة لم يولِ لفكرة الانتخاب الطبيعي دوراً رئيسياً، لكنه تحوّل في الطبعة الثانية عام 1941 الى تبني هذه الفكرة؛ استناداً الى مالاحظه من تنوع واختلاف الحقائق في ذبابة الفاكهة، والبرية منها (غير المعملية) على وجه الخصوص، حيث اظهرت هذه الذبابة حلقات موسمية من التغيرات مما جعله يميل الى التفسير القائم على الانتخاب الطبيعي.
كذلك حاول سمبسون (عام 1944) التوفيق بين الرؤيتين المتعارضتين، وتتلخص فكرته “انه عندما تبلغ التغيرات في بعض افراد العشيرة حداً يجعلها غير متجانسة، فان النزعة الغريزية للتجانس تدفع باقي الافراد الى تحول سريع يستهدف تحقيق التوازن البايولوجي، وبتكرار ذلك يتزايد حجم التغيرات تراكمياً حتى يأتي جيل يكون فيه كل افراد العشيرة مختلفين عن النوع السلفي، وقد سماه (التطور الكمي)”. لكن النقاد رأوا ذلك رجوع الى فكرة الوثبة التطورية، لذا تخلى سمبسون عن هذه الفكرة باقل من عشر سنوات بعد اعلانها.
لقد امتدت النظريات التوليفية بين الانتخاب الطبيعي والطفرات الجينية حتى تُوّجت في الهيكل النظري الذي عممه جاك مونود Jacques Monod في كتابه (المصادفة والضرورة Chance and Necessity) عام 1970، ففسّر كل شيء من خلال تقلبات الطفرات والانتخاب الطبيعي، حيث تلعب الطفرات دور المصادفة، فيما يلعب الانتخاب دور الضرورة. وهي الفكرة التي وجدت دعماً من قبل الاتجاهات الرافضة لفكرة المصمم الذكي والافتراضات الغائية حتى يومنا هذا.
مع هذا وكما صرح ارنست ماير انه رغم تقبل العلماء للداروينية الجديدة لكنها ما زالت تلاقي مقاومة كبيرة لدى فرنسا والمانيا وغيرهما حتى الوقت الحالي.
وذكر بهذا الصدد وجود ثلاثة مذاهب متحايثة للتطور، هي:
1- المذهب التدريجي على شاكلة نظرية داروين..
2- مذهب القفزة الفجائية للتحول استناداً الى كثرة الفجوات في السجل الجيولوجي..
3- محاولة التوفيق بين المذهبين السابقين، وهو ما يعرف بالداروينية الجديدة التركيبية New Darwinian Synthesis، والتي دعا اليها ماير صراحة، واعتبر من ابرز دعاتها كلاً من ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould ونيلز الدردج وستيفن ستانلي Steven Stanley، وهي نظرية تؤكد بان السجل الاحفوري ليس بناقص، بل ان الانواع البينية قد انقرضت منذ عصور سحيقة دون ان تترك احافير. رغم ان جولد اشار صراحة الى نقده للداروينية واعتبارها ميتة، وينفي ان تكون نظريته ذات صلة بها، كما سنعرف..
الداروينية الجديدة التركيبية
قريب منتصف خمسينات القرن العشرين دعا ارنست ماير الى مذهب مستحدث يسعى للمزاوجة بين الداروينية الجديدة والنظرية الوثبية، وهو ما يُعرف بالداروينية الجديدة التركيبية. فقد اقترح عام 1954 حلاً جديداً للدفاع عن التدرجية الداروينية مع علاج لغز نقص السجل الاحفوري، واشار الى ان الدردج وجولد ايدا هذه الفكرة في اعمالهما المشتركة بداية السبعينات. وتمثّلَ علاجه في ان عمليات اعادة التركيبة الجينية، كالتي تفضي الى ما يشبه القفزات، ليست عملية منفصلة عن مسيرة التطور التدريجي، بل انها تتم في اطار التنويع الذي يعتري العشيرة التأسيسية، وان فجوات السجل الاحفوري سببها ان التنويع في مثل هذه الحالات يكون محدوداً زماناً ومكاناً الى درجة ان الانواع الناتجة عنه لا تتاح لها فرصة تكوين احافير قبل انقراضها بسرعة. وقد اعتبر ان هذا الاقتراح يحل مشكلة الحلقات المفقودة والتغيرات التطورية الكبرى التي تبدو كأنها تمت وفق قفزات وثبية. فالعشائر المعزولة جغرافياً لها قابلية اعظم على التطور مقارنة بالعشائر الاصلية المتصلة بسبب تطرف موقعها الجغرافي. فعمليات اعادة تنظيم الجينات لدى العشائر المعزولة تسمح بحدوث تغيرات تطورية تفوق كثيراً تلك التي تحدث في العشائر المتصلة، سواء من حيث الحجم او السرعة. ومن ثم فهناك الية تسمح بسرعة انبثاق مستحدثات تطورية كبرى من دون تعارض مع الحقائق الملحوظة في علم الجينات. وبذلك اعتبر ان التغيرات التطورية الكبرى ليست صورة من التطور التحولي الوثبي، بل هي نمط من التطور التبايني الذي يتم تدريجياً، شأنه في ذلك شأن معظم التغيرات الصغرى في حدود النوع.
وحول ثغرات السجل الاحفوري رأى ماير ان مصير معظم العشائر الجديدة هو الانقراض عاجلاً ام اجلاً، والقليل منها تحدث فيه تغيرات تطورية ذات حجم يؤدي الى التنويع، لكن معظم الانواع الجديدة مصيرها الانقراض ايضاً، وفي الحالات النادرة يتعرض النوع الجديد لفعل عوامل الانتخاب الطبيعي لعدة اجيال تكفي لان يكتسب نمطاً جينياً جديداً يسمح له باستمرار البقاء والازدهار والتوسع الذي يؤهله لتشكيل اضافة جديدة الى السجل الاحفوري.
ومن وجهة نظر ماير ان هذا التحليل كان موضع تأييد من قبل الابحاث المشتركة لألدردج وجولد عامي 1971ـ1972، وهي اعمال قد اثّرت في فكر علماء الاحافير بحيث اصبح هذا الاسلوب التطوري الذي وصفه ماير بانه تطور انتواعي يقدم المبرر المعقول لكثرة الفجوات في سجل الاحافير. والاهم من ذلك انه يلفت الانتباه الى كثرة فترات الاستقرار التطوري المشار اليها، والتي لم يوفق المشتغلون في علم الجينات في تفسيرها عندما عزوها الى الانتخاب الطبيعي، والذي نعرف انه لا يمنع من حدوث تطورات سريعة في بعض العشائر دون البعض الاخر، ولهذا فلا مفر من افتراض ان مثل هذا الاستقرار انما هو ثمرة نوع من التوازن الجيد في نمط جيني وثيق الترابط.
هذه هي وجهة نظر ارنست ماير التطورية، وهي قريبة الصلة بما قدمه الدردج وجولد من نظرية شهيرة بداية السبعينات. لكن ظهر الخلاف حول ما قدماه ان كان يعود الى التطور الدارويني القائم على التدرجية والانتخاب الطبيعي، ام انه نوع من التطور الوثبي. وكان ماير يعتقد ان الفكرة هي ذاتها التي طرحها، كذلك رأى دوكينز ان انصار التوازن المتقطع قد اخذوا فكرة ماير السابقة وضخموا منها الى ايمان شديد بالسكون او عدم التغير التطوري كقاعدة بالنسبة للنوع. فمن وجهة نظرهم ان التغير التطوري هو حدث نادر، وان الانتواع هو وقت الجيشان او الثورة. وسنؤجل الحديث عنها بعد التعرف على نظرية التطور المحايد.
التطور المحايد
ظهر نهاية الستينات وقبل نظرية جولد والدردج بسنوات قليلة مذهب جديد يُعرف بالتطور المحايد Neutral Theory كما دعا اليه عالم الوراثة الياباني موتو كيموراMoto Kimura عام 1968، والذي أمضى بقية حياته في تطوير هذا المذهب والدفاع عنه. وخلاصة نظريته هي ان اغلب التغيرات التطورية على مستوى الوراثة الجزيئية هي تغيرات حيادية عشوائية لا علاقة لها بالانتخاب الطبيعي والتحسين، مما يجعل الانجراف الجيني عاملاً أساسياً في التطور بطريقة تراكمية. واعتبرت هذه النظرية مجرد افتراض يصعب التحقق منه قبال فرضيات اخرى بديلة، لكنها مع ذلك أصبحت جزءاً من الأساليب الحديثة للتطور الجزيئي، خاصة وانها تُوّجت على يد عالم الوراثة السكانية مايكل لينش Michael Lynch، كما ابرز ذلك في كتابه (اصول هندسة الجينوم The Origins of Genome Architecture) عام 2007، والذي عمل على انجازه لما يقارب ست سنوات متواصلة.
فقد اعتبر لينش ان التطور هو عملية جينية سكانية، فهو يمثل تغييراً في ترددات النمط الجيني التي يسعى علم الوراثة السكانية الى فهمها. لذلك عنون بعض فقرات كتابه بالقول: ‹‹ لا شيء في التطور منطقي إلا في ضوء علم الوراثة السكانية››.
وفي مقدمة كتابه صرح بان النقطة المركزية التي استكشفها هي ان معظم جوانب التطور على المستوى الجينومي لا يمكن تفسيره كاملاً بمصطلحات تكيفية، بل ولا يمكن ان تظهر العديد من السمات الجينومية من دون فك الارتباط شبه الكامل بقوة الانتخاب الطبيعي. لذلك اشار الى وجود عدة آليات تطورية فاعلة؛ واحد منها هو الانتخاب الطبيعي. وحدد هذه الاليات باربع قوى، واحد منها خارجي كما يتمثل في الانتخاب الطبيعي، وثلاثة اخرى نابعة من الضغوط الداخلية للخلية دون ان يكون لها علاقة بالتكيف، وهي كل من: الطفرة التي يعتمد عليها الانتخاب الطبيعي، والانجراف الجيني الذي يجعل الترددات الجينية العشوائية تنحرف قليلاً من جيل الى اخر، واعادة التركيب داخل وبين الكروموسومات.
وقد توصل الى ان معدلات الطفرات الوراثية تزداد لدى الجمهرات الصغيرة كالحيوانات مقابل الجمهرات الكبيرة كما في البكتيريا. لكنه اعتبر دور الانتخاب الطبيعي في الجينات الطافرة ضعيفاً. بمعنى ان التعقيد الحاصل بفعل التطور لا يمت في غالبه الى الانتخاب الطبيعي، وانما الى العوامل الاخرى المحايدة او غير التكيفية، كما تدل عليه تراكم الجينات الكاذبة التي تمثل اغلب النص الوراثي للجينوم، وهي ما لا علاقة لها بالوظيفة والتحسين والتكيف. فثمة نسبة كبيرة من الطفرات تعتبر حيادية لا تتأثر بالانتخاب الطبيعي، وان الغالبية العظمى من جينات الحامض النووي هي جينات كاذبة ليست وظيفية. وبالتالي فالتطور في غالبه يتميز بانه ليس تكيفياً تحسينياً كما ترى ذلك الداروينية اعتماداً على الانتخاب الطبيعي، بل انه عشوائي حيادي.
هذه مجمل نظرية مايكل لينش التي بناها وفقاً لعلم الوراثة السكانية (الجمهرية) المعتمد على الرياضيات الاحتمالية، مثلما سبقه في ذلك فيشر وهالدين ورايت خلال ثلاثينات القرن العشرين. وقد تأسف على ان معظم علماء الاحياء يمقتون الامور الرياضية، كما ان البعض قام بتهميش مساهمات هذا العلم في فهم التطور حتى وصفه بكيس الفاصوليا beanbag. وقصد بذلك ارنست ماير دون ذكر اسمه، حيث ادلى بهذا الوصف عام 1963 كما عرفنا.
لقد كانت هذه النظرية موضع جدل بين العلماء، وتم الاعتراض عليها، فمن الصعب الاقتناع بان ظاهرة التطور متأسسة في الغالب على العشوائية. ويمكن ابراز نقطتين من الاعتراض كالتالي:
اولاً: انها حصرت العوامل الفاعلة في التطور الداخلي بالبنى الجينية دون اشارة الى الدور الذي تقوم به النظم اللاجينية في التطور، كالذي ابرزته مدرسة الايفو ديفو.
ثانياً: انها تفشل في تفسير كيف امكن للتعقيد الحيوي ان يتحقق ويحافظ عليه بالاعتماد على العشوائية الغالبة، فالوراثة السكانية لا يمكنها ان تحقق الامكانية الاحتمالية لنشوء التعقيدات الحيوية اعتماداً على الانجراف الجيني العشوائي. فحيث ان الجينات تتفاعل فيما بينها، لذلك فانه ليس من السهل ان يتوافق ذلك في تحصيل نتائج معقدة مفيدة استناداً الى هذه العشوائية. فمثلاً ان تقدير احتمال الحصول على مقر رابط لبروتينين عشوائياً هو حوالي 10-20 كائن، وعلى مقرين رابطين لثلاثة بروتينات مختلفة هو 10-40 كائن. والعدد الاخير هو اعظم من ولادة جميع الخلايا منذ نشأة الارض الى يومنا هذا. في حين ان اغلبية بروتينات الخلية تعمل في سلاسل معقدة مكونة من (6 او 7) بروتينات متحدة.. لذا يصبح التفسير القائم على العشوائية مستحيلاً. هذا فكيف الحال في التعقيدات العضوية المؤلفة من مئات والاف الاجزاء البروتينية المترابطة.