يحيى محمد
ليس من الممكن انشاء معرفة تتعلق بموضوع محدد من دون ان يحكمها جهاز معرفي، سواء كانت علمية او فلسفية او دينية، او حتى عادية كما نمارسها في التعرف على الاشياء الخارجية.
والجهاز المعرفي، كما حددناه في (علم الطريقة)، يتألف من خمسة اركان، هي: المصدر المعرفي، والأداة المنهجية، والاصول المولدة والموجهات، والاستنطاق او الاستجواب، والانتاج المعرفي.
والاركان الثلاثة الاولى مترابطة ولكل منها وظيفته الجزئية، وبفعل هذا الترابط يتمكن الجهاز المعرفي من القيام بوظيفته الكلية في الانتاج والاستنطاق او الاستجواب. وأي خلل في بعضها يؤثر على البقية ومن ثم على الوظيفة العامة. فالحال هنا أشبه بما يحصل مع الأجهزة والآلات الميكانيكية، حيث تتألف من عناصر مترابطة ولكل منها وظيفته الجزئية، ومن خلالها يقوم الجهاز بوظيفته الكلية، كما في التلفاز والراديو والسيارة... الخ.
وتعتبر الاصول المولدة والموجهات ركناً يجعل المعرفة خاضعة لتحكم الكلي بالجزئي لا العكس. فهي التي تحدد المفاصل والمضامين وفق هذا التحكم. وهي التي تمثل مصادر التشريع والعقل المنتج في العلم والثقافة والفكر للجهاز المعرفي. وتتميز بانها من قبليات الفكر لا بعدياته. فهي سابقة على الانتاج واستنطاق الموضوع، بل انها تتحكم بهما من دون عكس.
ولا بد من التمييز بين الاصول المولدة والموجهات، فالاولى تمثل قضايا محددة ايجابية تعمل على انتاج المعرفة والتفسير. في حين ان الثانية لا تمثل قضايا محددة، بل هي عمومات سلبية يُسترشد بها في التأسيس المعرفي والاستنطاق باتجاه دون اخر. اي انها تتخذ دور الإدلاء على الطريق المناسب دون القيام بعملية التوليد والإنتاج، مثل دور القيم الأخلاقية في التوجيه. لكن يظل أن كل توجيه لا يخلو من توليد، مثلما أن كل توليد لا يخلو من توجيه. كما قد يجتمع المولّد والموجه في أصل معرفي واحد يمارس دورين من التوليد والتوجيه للقضايا.
وبذلك تتميز الموجهات بسلبية المعيار في التفسير والانتاج المعرفي. بمعنى انها لا تحمل قضية محددة أو قانوناً معيناً يمكن الاستناد إليه في التفسير، بل هي معممة إلى أقصى حد ممكن، لذا لا تصلح للتفسير الايجابي المباشر.
وقد تكون الموجهات ظاهرة مكشوفة، كما في الموجهات البيانية للنصوص، ومثلها الموجهات الطبيعانية Naturalism المعممة على مختلف الاسباب والقوانين العاملة في الطبيعة؛ كمعيار لا يسمح بنفوذ التفسيرات التي لا تمت الى هذه الخلفية بصلة. كما قد تكون الموجهات مستترة، مثل الموجهات العقلية والواقعية التي تقف خلف التفسيرات البيانية.
فمثلاً إن عدداً من الفقهاء المعاصرين يؤدون هذا الدور من التوجيه العقلي والواقعي المستور وهم يمارسون تحليلاتهم واستنباطاتهم البيانية نتيجة ضغط الواقع، فتجد من حيث الظاهر انهم يزاولون النهج البياني من دون إعمالٍ للعقل المستقل او غيره من الموجهات، لكنهم في واقع الأمر يتظللون بالتوجيهات العقلية والواقعية كما تتمثل بخلفياتهم الثقافية غير المنظورة للوصول الى النتائج المحددة سلفاً، رغم ممارسة «اللعبة البيانية» في التحليل والاستنباط.
وقد يقال كيف أمكننا التوصل الى هذه النتيجة من الموجهات غير المنظورة؟ والجواب هو لاعتمادنا على الجانب الاستقرائي والاحصائي، حيث ان الالتزام بالنهج البياني لا يوصل الى نتائج كثيرة متسقة مع ما يفرضه العقل وضرورات الواقع.
ومثلما جرى ويجري في المجال الديني صراع شرس بين الموجهات البيانية وما يقابلها من موجهات عقلية وواقعية عامة في الكثير من النصوص المتنازع حول تفسيرها، وقد يعبّر الصراع عن نزاع محدد بين الأصول المولدة.. فكذا نجد مثل هذا الصراع في مجال العلوم الطبيعية، كما تقوده حركة التصميم الذكي ضد الاتجاه السائد للفكر العلمي في احتمائه بالموجهات الطبيعانية دون فسح المجال أمام موجهات أخرى غير طبيعانية، كما تدل عليها الكثير من البيانات العلمية، لا سيما في علم الأحياء. لذا فللعلم موجهاته الفكرية المسلّم بها قبلياً مثلما هو الحال في الفهم الديني، وهي بمثابة الجانب الفلسفي الذي يتحكم بالنتاج العلمي.
وبلا شك ليس لدى انصار التصميم الذكي ادنى اعتراض على معيار الطبيعانية، انما غرضهم هو تقييده ببعض الحدود. لذلك يفضل بعضهم مثل مايكل بيهي ان يعطى للعلم نظرة شمولية تجعل منه يبحث عن حقائق الطبيعة بالاستدلالات المادية لكن من غير قيود.
وقد اشار بعض العلماء الى وجود اضطرار للالتزام بالموجهات الطبيعانية في التفكير العلمي، كالذي ادلى به عالم الوراثة والتطور الامريكي ريتشارد ليونتن من أن العلماء مضطرون بفعل التزامهم المسبق بالعوامل المادية إلى خلق أداة بحث ومجموعة من المفاهيم التي تنتج التفسيرات المادية؛ مهما كانت مخالفة للبداهة وغامضة بالنسبة للمبتدئين. واضاف الى ان هذه المادية مطلقة، ومن ثم لا يمكن السماح بولوج قدم مقدسة إلهية إلى الداخل.
او كما صرح عالم المناعة سكوت تود في مجلة الطبيعة Nature عام 1999، فقال وهو بصدد نقد نظرية التصميم الذكي: ‹‹حتى لو كانت جميع البيانات تشير إلى مصمم ذكي، فإن مثل هذه الفرضية مستبعدة من العلم لأنها ليست طبيعية››.
وبذلك نعرف ان للعلم موجهاته الفكرية المسلم بها قبلياً، وهي بمثابة الجانب الفلسفي الذي يتحكم بالنتاج العلمي. ويمكن لحاظ اربعة مستويات لتطبيق معيار الطبيعانية كموجّه فلسفي للعلم على مناطق متنازع حولها، اذ من الممكن ان تجد قدماً للتفسيرات اللاطبيعانية، لذلك كان غرض موجهات العلم السائد هو إبعاد الافتراضات الميتافيزيقية من هذه المناطق الشائكة، واغلبها معني بابعاد فكرة الذكاء الميتافيزيقي تحديداً، اثنان منها يخصان علم الاحياء، وآخران يتعلقان بالفيزياء، ويمكن تحديدها كالتالي:
1ـ التفسيرات الضمنية لنشوء الكون في قبال اطروحة السببية الخارجية (الالهية).
2ـ الاكوان المتعددة اللامتناهية كتفسير في قبال الضبط الفيزيائي الدقيق.
3ـ الانتخاب الطبيعي كتفسير للتطور البايولوجي في قبال التفسير الغائي على شاكلة وليام بيلي.
4ـ التفاعلات الكيميائية لأصل الحياة كافتراض في قبال التفسير الحيوي غير الطبيعي او الميتافيزيقي.
والملاحظ ان الثلاثة الاخيرة تتعلق بتفسير النظام والضبط المعلوماتي الدقيق، وهي معنية باشكالية النظم المعقدة، والتي يتنافس حول تفسيرها معيارا الطبيعانية واللاطبيعانية. أما الاولى فتتعلق بمسألة السببية. وقد عالجناها جميعاً بالتفصيل في كتاب (صخرة الايمان).