يحيى محمد
يمكن التمييز بين ثلاثة مواقف ازاء علاقة التصميم الذكي بالعلم كالتالي:
1ـ يندرج التصميم الذكي ضمن القضايا العلمية، سواء ثبت صدقه او خطأه.
2ـ لا يمكن ادراج هذا التصميم ضمن القضايا العلمية وفق معيار الطبيعانية.
3ـ يشترك التصميم والقضايا العلمية بأساس جامع يعمل على اثباتهما او نفيهما. كما هي طريقة المفكر محمد باقر الصدر في كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء).
ولكل من هذه المواقف مبرراته. وقبل الدخول في التفاصيل لا بد من التمييز بين العلم في ذاته والعلم المتحقق..
العلم في ذاته والعلم المتحقق
سبق أن ميّزنا في (علم الطريقة) بين العلم – المطلق - في ذاته والعلم المتحقق. ونقصد بالأول إنه علم بغض النظر عن تحققه فعلاً، فسواء تحقق أم لم يتحقق، وسواء كان علماً أم ما زال ثقافة؛ فإن من الممكن إفتراض موضوعه وتحديده بما يجعله متميزاً ومختلفاً عن غيره. وهوية كل علم تستمد من أمرين متلازمين هما الموضوع والوظيفة، شرط أن تكون الأخيرة مقيدة بالبحث والكشف المعرفي ضمن الآليات التي يفرضها الموضوع. أما العلم المتحقق فله خصائص وصفات موضوعية محددة تضاف إلى هويته الذاتية المفترضة بحسب الاعتبار الأول. لذا فالعلم المتحقق ينطوي ضمناً على العلم في ذاته من دون عكس.
ويصدق ما سبق على العلوم الطبيعية والانسانية المختلفة، فلكل منها مفهومان: العلم في ذاته، والعلم المتحقق. فالاول عبارة عن مفهوم ذهني مفترض يستهدف تفسير موضوعات هذه العلوم وفق آليات مفترضة ومناسبة؛ كالملاحظة والتجربة والاحصاء والاستقراء. اما الثاني فيتميز بالتحقق التاريخي مع تضمنه شيء من القيود او السعة غير الواردة في المفهوم الاول. فالعلم المتحقق يكشف عن مساره التاريخاني دون ان يتخذ طابعاً بنيوياً محدداً او ثابتاً.
فالفيزياء مثلاً هو علم موضوعه الظواهر الطبيعية ووظيفته تفسير هذه الظواهر وفق الآليات الأساسية المفترضة للعلم، لذا فتحديده كهوية يأتي من حيث اعتباره علماً لتفسير الظواهر الطبيعية وفق تلك الآليات. فهو بهذا الشكل من الإفتراض يعد موضوعاً قائماً في ذاته، أما ما يلحق به من خصائص أخرى، مثل كيفية تفسير هذه الظواهر ودقتها العلمية والمناهج المتبعة في التفسير وكذا النتائج والنظريات المتخذة في ذلك؛ فكلها أمور لاحقة لا تمثل جوهر ما عليه هذا العلم في ذاته. وبالتالي فهي إن تبدلت فلا يقتضي منها تبدل العلم المفترض.
وما يهمنا في هذا البحث هو الكشف عن معيار القضية العلمية وفق مسلكها التاريخاني، اي العلم المتحقق. ويتضح ان ما كان يعد خارج اطار العلم اصبح يمثل جزءاً متأصلاً فيه. كذلك ان القضايا التي تعتبر اليوم غير علمية قد تصبح غداً على العكس من ذلك. فالعلم يمثل صيرورة تاريخية دون ان يتخذ صوراً ثابتة، وهو ما يجعل معيار العلم المتحقق غير ثابت.
القضية العلمية واختلاف المعايير
ظهرت على مدار تاريخ العلم الحديث معايير عديدة ومختلفة تميز بين القضية العلمية وغيرها. ولا يعتمد هذا التمييز على وجهات نظر فلاسفة العلم، ليس فقط لانهم يختلفون في تحديد معيار القضية العلمية وفق ما يراعونه من مفهوم العلم في ذاته، بل ولأن المسار التاريخاني للعلم لم يلتزم بقواعد فلاسفته عادة، الا عندما كان هؤلاء الفلاسفة علماء ايضاً، كالذي عليه دائرة فيينا الفلسفية او مدرسة الوضعية المنطقية عموماً.
وكان بعض فلاسفة العلم قد حدد المعيار الذي تتأسس عليه القضية العلمية بمبدأ التأييد القائم على الدليل الاستقرائي، فيما حدده بعض اخر بمبدأ الدحض او القابلية على التكذيب، كما ذهب البعض الى انه يتحدد وفق عدد من المبادئ ابرزها مبدأ البساطة، كذلك ذهب اخرون الى انه يتحدد بالاختبار العام سواء من خلال مبدأ التأييد او التكذيب. في حين شذّ البعض فاعتبر الواجب يقتضي ان لا خضع المعيار لقواعد محددة، بل يكفي ان يكون مدعوماً بأي دليل كان من دون قيود وشروط، وهو ما أكد عليه انصار التصميم الذكي.
فبحسب وجهة النظر الاخيرة انه لا يوجد تعريف للعلم يمكن الدفاع عنه، ولا معيار محدد للترسيم من شأنه رفض نظرية التصميم من ان تتصف بالعلمية؛ فيما تقبل النظريات المادية المعارضة بالاتصاف بها.
وكما رأى مايكل بيهي ان التصميم هو قضية علمية لا فلسفية، فهو يعتمد حصراً على الدليل المادي المفصل اضافة الى المنطق المعياري المعول عليه في العلم.
في حين حذّر ستيفن ماير من ان الطريقة المادية المتبعة في العلم ستحرم العلماء من سبل جديدة للاكتشاف، مشيراً الى انه ليس لديهم ما يخسرونه في اختبار نظرية التصميم من خلال تنبؤاتها. لذلك دعا الى كسر بعض القواعد واتّباع الدليل الى حيث يقود، كما هو مأثور عن سقراط الذي شدّد على وجوب اتّباع البرهان كيفما يقود.
وقد كان عدد من فلاسفة العلم يجادلون حول سؤال: “ما الذي يفرق العلم عن اللاعلم” مثل لاري لودان وفيليب كوين وفيليب كيتشر، واعتبروا هذا السؤال غير مهم، بل المهم هو ما اذا كانت النظرية صحيحة ومعلومة بالدليل.
هل نظرية التصميم علمية؟
نعود فنقول: ما الذي يمنع العلماء من اعتبار نظرية التصميم علمية مادامت تعتمد على الادلة المادية الملحوظة بما لا تختلف عن العديد من المذاهب العلمية، وعلى رأسها النظرية الداروينية؟
وقد يوحي هذا الحال بان اغلب العلماء يعتمدون على بعض المعايير السلبية كموجهات تقف خلف القضايا العلمية، كما تتمثل بالنزعة الطبيعانية، فكل قضية تخرج عن اطار هذه النزعة فانها تخرج عن المجال العلمي.
مع ذلك تم تقديم عدد من المبررات التي تجعل نظرية التصميم الذكي لا تنتمي الى هذا المجال، مثلما عرضها ستيفن ماير وردّ عليها في عدد من كتبه ودراساته.
ومن ابرز هذه المبررات هو ان هذه النظرية لا تشير الى شيء قابل للرصد والملاحظة، وهي تستدل على كائن خارق للطبيعة له قدرات مطلقة، فيمكن من خلاله تفسير اي نتيجة ممكنة، وهذا ما يجعلها فرضية غير قابلة للدحض والتكذيب، كالذي جادل فيه فيلسوف العلم روبرت بينوك.
وثمة من اصر على ان هذه النظرية تخرق قواعد العلم، حيث لا يمكن وضع الإله القادر في انبوبة اختبار او جعله خارجاً. كما لا يمكن قياس التصميم الذكي ولا عدّه او تصويره.
كما قيل ان هذه النظرية لا تتوافق مع اي بيانات يمكن تصورها، ولا تقدم اي تنبؤات قابلة للاختبار. اي انها تعجز عن وضع معيار للتوقعات المستقبلية، اذ لا يمكن التنبؤ بدقة تامة ما الذي سيفعل الفاعلون الاذكياء لانهم يمتلكون قدرة الفعل الحر. لذلك فهي غير علمية.
يضاف الى ما قيل بانها لا تصف الظواهر التكرارية بموجب القانون الطبيعي، كما لا تقدم تفسيراً ميكانيكياً، بل تستند الى المعجزة دون ذكر اي اليات، ولا تقدم ادعاءات تجريبية مؤقتة، وليس لها القدرة على حل المشكلات، وانها غير قابلة للتعديل. ومن ثم فانها لا تقدم اي تفسير علمي على نحو التحديد.
هذه جملة من الاعتراضات التي قُدمت لرفض اعتبار نظرية التصميم الذكي علمية. وقد تصدى ستيفن ماير للردّ عليها معتبراً انها تنطبق ايضاً على نظريات اخرى منافسة، مثل الداروينية. لذلك اقرّ بوجود تكافؤ منهجي لوصف النظريات المتنافسة في قدرتها على التفسير. لكنه في الوقت ذاته ميّز بين التصميم الذكي ونظريات التطور المادية سواء الكيميائية او البايولوجية، حيث اعتبر الاخيرة لا تقدم شيئاً من التوقعات كالذي تقدمه نظرية التصميم، مثل انها لا تقدم توقعات عن المسار المستقبلي للتطور، ولا اي نوع من الصفات والانواع التي ستنتجها الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي في المستقبل.
كما اعتبر نظرية التصميم لا تدعي انها ترصد ذكاءاً خارقاً للطبيعة، ولا قدرات مطلقة، وهي لا تحدد ما اذا كان الفاعل الذكي يعمل ضمن مجال الطبيعة او خارقاً لها. بل ما تدعيه هو فقط رصد مسبب ذكي دون العلم بهوية او صفات هذا الذكاء. وردّ على بينوك القائل بان نظرية التصميم الذكي تتضمن القول بإله قدير يفسر نشأة الحياة، فاشار الى ان الدفاع عن هذه النظرية كما جاء في كتابه (توقيع في الخلية) يختلف عن الفرضية التي اعترض عليها بينوك، بل واعتبر التصميم الذكي افضل تفسير لخاصية محددة من الحياة؛ لما نعلمه عن بنية السبب والنتيجة في العلم، وهي نظرية قابلة للاختبار والدحض، مثلما ان نظرية الصدفة قابلة للاختبار والدحض. فهي ذات ادعاءات تجريبية وتستخدم مناهج علمية ثابتة استناداً الى المنطق العلمي التاريخي، وتقدم تنبؤات مستقبلية، وانها مدعومة من قبل الادبيات العلمية المحكمة. كما لديها القدرة على حل المشاكل العلمية، خلافاً لما يدعيه معارضوها بانها لا تقوم بذلك.
أما الاعتراض على استحالة احضار المصمم في المختبر، فهو ينطبق على النظرية الداروينية ايضاً، حيث استحالة احضار السلف المشترك في المختبر. وسبق لعالم الاحياء التطوري جيري كوين ان صرح عام 1996 بانه لا يحق للداروينيين ان يطالبوا اصحاب التصميم بان يأتوا بالمصمم الى المؤتمر العلمي التالي.. وذلك لانهم انفسهم عاجزون عن تصور السبل العشوائية المفترضة المؤدية الى انظمة معقدة.
وثمة عدد من العلماء يعتقدون بان نظرية التصميم قابلة للاختبار والتكذيب، وهو ما يؤيده انصار التصميم الذكي؛ مثل مايكل بيهي الذي قدّم محاولة لاختبارها عبر بعض التجارب، ومنها انه دعا كينيث ميلر Kenneth Miller للذهاب الى المختبر لعمل بعض التجارب حول سوط البكتيريا ان كان من الممكن دحض النظرية او تأييدها.
ولنظرية التصميم ثلاث طرق محددة لقابليتها على الاختبار كما ذكرها ماير، وهي كالتالي:
1- مقارنتها من حيث قوتها التفسيرية بغيرها في شرح الاحداث في الماضي السحيق. وهي ذات الطريقة التي استخدمها داروين في اصل الانواع..
2- معرفتها ببنية السبب والنتيجة..
3- تنبؤاتها المختلفة.
وحول هذه التنبؤات اشار ماير في (توقيع في الخلية) الى وجود 12 توقعاً مستوحى من التصميم الذكي.
لكنها وإن كانت تنسجم مع اطروحة التصميم الا انها ليست بتوقعات حقيقية. منها ان التجارب المستقبلية ستظل تظهر افتقار محفزات الرنا القدرة على جعل سيناريو عالم الرنا منطقياً.
كما من هذه التوقعات القضية القائلة: لن تثبت اي عملية غير موجهة قدرتها على انتاج 500 بت من المعلومات الجديدة بدءاً من مصدر غير حيوي. وعلى هذه الشاكلة التنبؤ بان الخوارزميات الجينية التي تحاكي قدرة العمليات التطورية غير الموجهة لن تنتج اكثر من 500 بت من المعلومات المخصصة المعقدة عشوائياً.. وان الفحص الدقيق لبرامج تنتج معلومات مخصصة معقدة ومبتكرة ستكشف اما انها معلومات ادخلها مبرمجون، او ان المحاكاة الحاسوبية تفتقر للواقعية الحيوية، او كلاهما.
وهو قد اعتبر ان الخوارزميات الحاسوبية يمكن ان تفتقر الى الواقعية لواحد من هذه الاسباب الثلاثة:
1- تزويد البرنامج بتسلسل مستهدف..
2- برمجة الحاسوب على الانتقاء بناءاً على القرب من الوظيفة المستقبلية بدلاً من الوظيفة الفعلية..
3- انتقاء تغيرات لا تحاكي خطوات التغير الوظيفي التراكمي الذي يحدث في واقع الحياة..
التصنيف المنهجي للقضايا العلمية
لقد اكد انصار التصميم الذكي على وجود فئتين من القضايا العلمية، الاولى تكرارية وخاضعة للقوانين الوصفية وان لم تتضمن التفسير، كما في علوم الفيزياء والكيمياء والاحياء التي تستدعي البحث عن القوانين. والثانية لا تخضع للقوانين والتكرار، بل للتعليل والتفسير، كما في العلوم التاريخية. وهم قد اعتبروا نظرية التصميم الذكي تنتمي الى الفئة الثانية؛ بما لا تختلف عن علوم اخرى منتمية الى هذه الفئة مثل علم الاثار والانثروبولوجيا والجريمة والتاريخ والبايولوجيا التطورية والبحث عن الذكاء الفضائي وغيرها. وتشترك جميعاً في البحث عن الاسباب (الذكية) لا القوانين.
وكان ستيفن جاي جولد قد ميّز بين العلوم التجريبية وعلوم التاريخ الطبيعي كالجيولوجيا والبايولوجيا التطورية وعلم الاحافير. واعتبر ان نظريات التاريخ الطبيعي قابلة للاختبار من خلال قدرتها التفسيرية. وهو ما ينطبق على نظرية التصميم الذكي، حيث ان العلوم التاريخية تحتاج الى افتراض احداث مسببة ماضية دون ان تسعى الى استنتاج القوانين.
وسبق لمؤرخ العلوم والفيلسوف اللاهوتي وليام هيويل William Whewell ان شيّد هذا التمييز بين العلوم الطبيعية والتاريخية خلال القرن التاسع عشر؛ معتبراً ان الاخيرة تفسر الاحداث الحاضرة بالرجوع الى اسبابها الماضية وليس الى القوانين. وهذا ما يناسب التصميم. فاقتراح المصمم هو عندما يفشل التفسير بالقوانين.
لذلك ردّ ستيفن ماير على مايكل روز الذي صرح في احد المؤتمرات عام 1992 بان التصميم الذكي غير ملائم علمياً لكونه يتطلب نشاطاً واعياً من فاعل مصمم بدلاً من قانون طبيعي لتفسير نشأة الشكل والمعلومات الحيوية. فردّ عليه ماير بان القوانين الطبيعية غالباً ما تصف دون ان تفسر الظواهر الطبيعية، فقانون الجاذبية لنيوتن يصف علاقة الجذب الثقالي ولا يفسرها. وكثير من نظريات علوم التاريخ الطبيعي لا تُفسّر بالقانون الطبيعي، بل تفترض اسباباً ماضية لتفسر الاحداث التالية، مثل نظرية اوبارين Oparin التي افترضت سلسلة من احداث لسيناريو محدد دون ان تفترض قانوناً عاماً لتفسير نشأة الحياة. وكذا هو الحال مع نظرية التصميم الذكي، حيث تحتج بحادث عقلي سابق بدلاً من القانون لتفسر نشأة الحياة وتعقيد الخلية.
نظرية التصميم والداروينية
سبق لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر ان احتقر في وقت مبكر من حياته المهنية الفلسفات التطورية. ففي كتابه (فقر التاريخانية The Poverty of Historicism) الصادر عام 1957 لاحظ ان فكرة السلف المشترك هي فرضية وليست قانوناً علمياً، اذ لها طابع بيان تاريخي فردي معين. وحتى قوانين الوراثة والعزل والطفرة اعتبرها ليست قانوناً عاماً، حيث انها تشير الى ما في الارض دون سائر الكون. وعندما نشر تخميناته ومبدأه في القابلية على التكذيب عام 1962 لم يتغير رأيه في القوانين التطورية، فاعتقد ان فكرة وجود قانون يحدد اتجاه وطبيعة التطور هي خطأ نموذجي وقع فيه علماء القرن التاسع عشر. وفي عام 1972 اعتبر مبدأ البقاء للأصلح حشواً بلا فائدة. وبعد سنتين، أي عام 1974، صرح بان الداروينية عبارة عن برنامج بحث ميتافيزيقي وليست نظرية علمية قابلة للاختبار والتكذيب. لكنه في عام 1978 عدّل من وجهة نظره كما في ورقة بعنوان (الانتخاب الطبيعي وظهور العقل)، فذكر بانه على الرغم من ان من الصعب اختبار مبدأ الانتخاب الطبيعي؛ فانه قابل للاختبار والتكذيب مبدئياً، بل يمكن دحضه عندما يُصوّر بانه الاساس الوحيد للتطور.
ومن جهته أقر مايكل روس عام 1993 بما يخالف شهادته عام 1981 من التفريق بين العلم وغيره، فاعتبر الداروينية هي مثل الخلقوية تعتمد على بعض الافتراضات الميتافيزيقية غير القابلة للاثبات. وفي دراساته المتأخرة اعتبر نظرية التطور تعمل كنوع من الدين العلماني.
وقد أيد انصار التصميم الذكي فكرة تكافؤ نظريتهم مع نظريات التطور المادية في المعايير سواء اعتبرت علمية او غير علمية. ومن ذلك ان فرضية السلف المشترك لدى الداروينية تتكافأ مع فرضية التصميم لدى نظرية التصميم الذكي. وبحسب بعض النقاد كلاهما يستخدم نفس المنطق وطريقة الاستدلال للسؤال: ما الذي سبب نشوء النماذج البايولوجية وظهور التصميم في تاريخ الحياة؟.
وكان ستيفن ماير يعتقد عام 1999 بان نظرية التطور والتصميم كلاهما لا تنبئ عن شيء وانها غير قابلة للتكذيب وانها لا تمدنا بأي آليات وانها غير مؤكدة وليس لها القدرة على حل المشاكل، رغم اعترافه بان لنظرية التصميم قوتها التفسيرية للمحتويات المعلوماتية في الدنا، ومثل ذلك التعقيد غير القابل للاختزال في الالات الجزيئية، والشكل الهرمي من الاعلى للاسفل كما هو ظاهر في السجل الاحفوري، والضبط الفيزيائي الدقيق. لكنه رأى فيما بعد ان نظرية التصميم الذكي هي فرضية قابلة للاختبار وتقدم تنبؤات مستقبلية وذات ادعاءات تجريبية، ولديها القدرة على حل المشاكل العلمية.
وقد عارض عالم الاحافير روبرت آشر Robert Asher ادعاء ستيفن ماير القائل في (توقيع في الخلية) بان نظرية التصميم تستخدم ذات مبدأ التماثل الذي استخدمه داروين ومن قبله الجيولوجي تشارلس لايل Charles Lyell. ففي كتابه (التطور والمعتقد Evolution and Belief) عام 2012، اعتبر انه لا تماثل بين الطريقتين، لان الداروينية تستخدم التفسير الميكانيكي متمثلاً بالانتخاب الطبيعي خلافاً لنظرية التصميم.
وأجاب ماير على هذا الاعتراض بان التماثل ليس في التفسير الميكانيكي، بل ما نراه من تجارب وفيرة حالياً حول العقلاء الذين يقدمون معلومات محددة مخصصة هي ذاتها تجعلنا نعتبر وجود مثل هذه المعلومات في الماضي لها سبب عقلي. فبالحاضر يستدل على الماضي، وهو المبدأ الذي استند اليه داروين اعتماداً على لايل.
وهو أمر صحيح بالفعل. لكن مع وجود فارق جوهري بين النظريتين، وهو ان الداروينية قائمة على تحديد الآلية في تفسير التطور الحيوي، خلافاً لنظرية التصميم الذكي التي تفتقر الى تحديد نوع الآلية التي تفسر بها التصاميم المعقدة الدقيقة في التطور. لذلك فان العلماء يفضّلون عادة الآليات الطبيعانية، حتى وإن كانت خاطئة، على التفاسير التي تفتقر اليها. وهو ما قد يبرر التشبّث بآلية الانتخاب الطبيعي في التطور الحيوي وترجيحها على غيرها من التفاسير، لا سيما اللاطبيعانية منها. وربما يدرك الكثير من الداروينيين ان التفسير بهذه الآلية ينجح في مواطن معينة بسيطة دون غيرها من النظم المعقدة، ورغم ذلك فهو مقبول ومرجح على اي تفسير اخر لا يمتلك آلية محددة. ويصبح وفق هذه البراجماتية ان التفسير الخاطئ صحيح، والتفسير الصحيح خاطئ.
هذا فيما يخص التطور البايولوجي، أما مسألة نشأة الحياة فهي امر اخر مختلف تماماً، حيث الآلية مفقودة؛ لا انها خاطئة او غير ناجحة في تطبيقها على النظم المعقدة، اذ من المحال ان ينبسط عليها قانون الانتخاب الطبيعي باعتباره مديناً للحياة. لذلك ليس ثمة ما ينافس فرضية التصميم مقارنة بالفرضيات الطبيعانية.
معيار القضية العلمية
من جهتنا يمكن التمييز بين القضايا العلمية وفق علاقتها بالافتراضات السببية الطبيعية واللاطبيعية. اذ تتضمن كل قضية علمية طرفين: الاول هو مقدمات القضية كما تتمثل في الظواهر الموضوعية، والثاني هو الاستنتاجات المنبنية عليها. وقد تعبّر الاستنتاجات عن اسباب معينة او قوانين محددة، او وظائف وغايات مفترضة... الخ.
ويشترط في المقدمات ان تكون طبيعية خالصة. اما ما يستنتج عنها فيمكن ان تكون طبيعية مثل الاولى، كما هو حال اغلب القضايا العلمية التي نعهدها. لكن في حالات محدودة قد لا تتصف الاستنتاجات بالطبيعية، رغم ان مقدماتها طبيعية. ونعتبر القضايا في مثل هذه الحالة – عندما تكون استنتاجاتها غير مفارقة – بانها علمية من الدرجة الثانية مقارنة بالاولى.
فمثلاً تم الاستدلال على الجاذبية من خلال سقوط الاشياء وحركات الكواكب. وتعتبر هذه القضية علمية من الدرجة الاولى، لأن ظواهر سقوط الاشياء وحركات الكواكب تعتبر طبيعية، كما ان حالة الجذب المستنتجة ملحوظة وطبيعية هي الاخرى، ويمكن ان يتحدد بموجبها القانون الفيزيائي كما فعل نيوتن. لذا تتصف هذه القضية بالعلمية من الدرجة الاولى.
لكن لو تقدمنا خطوة اخرى وتساءلنا: ما الذي يجعل المواد تتجاذب فيما بينها؟ أي ما هو السبب الذي يقف خلف قوة الجذب المادي؟
وبلا شك ان هذا السؤال لا يُعنى بوصف الجاذبية كما يفعل قانون نيوتن، بل بتفسيرها. فهل ثمة حبيبات تمسك بها، ام قوة طبيعية او غير طبيعية تعمل عن بعد، ام انها تعود الى تأثير النسيج الزمكاني، ام ثمة شيء اخر مختلف؟
وعندما نحدد السبب بشيء طبيعاني كحبيبات الگرافيتون graviton المفترضة، او النسيج الزمكاني؛ فسيكون التفسير طبيعاني، والقضية علمية من الدرجة الاولى. اما عندما نفترض السبب يتمثل بقوة محايثة غير طبيعانية فستبقى القضية علمية لكنها من الدرجة الثانية. في حين لو افترضنا ان السبب عائد الى قوة مفارقة فستصبح القضية ميتافيزيقية او فلسفية غير علمية.
وبعبارة اخرى يمكن تحديد القضية ان كانت علمية او غير علمية وفق الفقرات الاربع التالية:
1ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات واستنتاجات طبيعانية؛ فهي علمية من الدرجة الأولى.
2ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المحايثة، فهي علمية من الدرجة الثانية. ويمكن أن تشمل في هذه الحالة مسألة المصمم الذكي، مثل أثير الذكاء كما افترضناه في بعض الدراسات المستقلة.
3ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المفارقة، فهي غير علمية. وتتميز هذه القضية بأنها تشترك مع القضايا العلمية بنفس الأساس المعتمد عليه في الدليل. ومن أبرز الأمثلة عليها المسألة الإلهية كقضية ميتافيزيقية مفارقة.
4ـ إذا كانت القضية لا تتضمن المقدمات الطبيعانية؛ فهي غير علمية، سواء كانت عقلية فلسفية أو دينية أو غيرها.