يحيى محمد
تاريخ النظرية وبداية الصدمة
لقد ظهرت نظرية التوازن المتقطع على اثر الصدمة التي واجهها كل من نيلز الدريدج وستيفن جاي جولد عند لحاظ ان البيانات الحفرية تشير في الغالب الى نتائج سلبية ازاء التغيرات الكبيرة في تاريخ الحياة. وتبدأ القصة مع الدريدج عندما كان طالباً للدراسات العليا خلال ستينات القرن الماضي، وكانت اطروحته للدكتوراه حول التطور الوظيفي لثلاثية الفصوص الديفونية (نسبة الى العصر الديفوني). لكنه سرعان ما صُدم بالنتائج السلبية، وتفاجأ بان الحفريات اللافقرية تخلو من التحولات التدريجية، رغم ان اعدادها كبيرة وأغنى بكثير من سجل الحفريات الفقرية، فأخذ يبحث بدافع اليأس للعثور على بعض علامات التطور، وبدى له ان اختياره لعلم الاحافير خاطئ، اذ كان التطور هو محور جميع اعماله، وشعر بالصدمة المحبطة عندما وجد تغييراً طفيفاً للغاية خلال خمسة ملايين سنة من التاريخ المسجل لثلاثية الفصوص. وظن حينها بانه سوف لن يحصل على الدكتوراه لعجزه عن ايجاد دليل على التطور.
وقريب من ذلك ما حصل مع عدد من الطلبة الذين كانوا يحضّرون للدكتوراه، وكان جولد هو الاخر شعر بشكل مستقل بمثل هذا الاحباط.
لقد لاحظ الدريدج انه رغم وجود آلاف العينات الاحفورية للافقريات؛ لكن لم يظهر ما يشير الى التحولات التدرجية للتطور كما هي النظرية السائدة. ثم ادرك ان الخروج من المأزق ربما يكون من خلال التباين والعزلة الجغرافيين والتي كان دوبزانسكي Dobzhansky رائدًا في التفكير فيها خلال الثلاثينيات. واشار في مقالة له بعنوان (اعترافات دارويني 2006) الى ان فكرة الانتواع الجغرافي كما دافع عنها دوبزانسكي وماير يمكن ان تفسر التطور بان يحدث بسرعة عند انفصال الانواع الجديدة عن اسلافها المستقرة.
ومعلوم ان هذا الافتقار المدقع للشواهد على التطور يعزى بحسب النظرية الداروينية الى نقص بيانات السجل الاحفوري. وسبق لداروين ان شدد على هذه النقطة ضمن فصل خاص في اصل الانواع حول عيوب السجل الاحفوري، وفيه اعتبر ان خلاف ذلك يجعل نظريته خاطئة. وكان على علماء الحفريات ان يجوبوا الارض للبحث عما يمكن ان يملأ فراغات هذا السجل. لكن منذ زمن داروين وحتى هذه اللحظة لم يتغير شيء، حيث بقي السجل كما هو رغم المحاولات الحثيثة في البحث عن اي دليل يشير الى التطور، اذ ظلت النتائج سلبية دون تقدم.
على هذا نشر الدريدج بحثاً في مجلة التطور Evolution حول ثلاثية الفصوص من حقب الحياة القديمة عام 1971، وفيه اشار إلى أن التطور التدريجي نادراً ما شوهد في سجل الحفريات، وجادل بأن آلية إرنست ماير المعيارية للانتواع الجغرافي قد توحي بحل محتمل. ثم تم الاعتماد على هذا البحث لتقديم ورقة مشتركة مع جولد في الاجتماع السنوي للجمعية الجيولوجية الأمريكية عام 1971، والتي نشرت مع مجموعة من المقالات لعدد من الباحثين يجمعها عنوان: (نماذج في علم الاحياء القديمة Models in Paleobiology) عام 1972. وعُرفت بورقة (72)، وكانت بعنوان: (توازن متقطع كبديل عن التدرج النمطيPunctuated Equilibria: An Alternative to Phyletic Gradualism). فهي الورقة الاصلية والتاريخية قبل تطور الفكرة التي اشعلت دائرة الجدل والنقاش لعقود من الزمن. وقد تضمنت قسماً تمهيدياً لمناقشة فلسفية استناداً الى أعمال كون Kuhn (1962) وهانسون Hanson (1961) بشأن التداخل الضروري للحقيقة والنظرية.
لقد اعتبرت ورقة (72) مزعجة للجميع بمن فيهم محرر مجموعة المقالات توماس شوبف Thomas Schopf، حيث بدت مناهضة للداروينية. بل ان الدريدج وجولد كانا يشعران بالخطأ لعدم تقبل الفكرة الواردة فيها، بل والاحساس بالاحباط لانهما متهمان بخيانة التقاليد الداروينية.
واصبح من المعلوم ان الفضل في اطروحة التوازن المتقطع يعود من حيث السبق التاريخي الى الدريدج، لكن مصطلح عنوان هذه الاطروحة قد صاغه جولد، وكان في البداية قد استخدم لفظ Punctuated Equilibria، ثم بعد ذلك ابدل المصطلح بلفظ Punctuated Equilibrium من دون سبب واضح كما اشار الدريدج. وبدأ هذا المفهوم يتغلغل في الثقافة الغربية باعتباره الاستعارة البديلة للصورة القديمة للتغير التدريجي البطيء والثابت، فاستخدمه علماء الرياضيات، كما استخدمه علماء الاجتماع والمؤرخون. ولا يزال يُستخدم في مقالات الصحف لدى مختلف المجالات.
ويلخص المصطلح طبيعة النظرية التي جاء بها الدريدج وجولد بعد ان مهّد لهما ماير، فاستناداً الى سجل الحفريات تتميز حياة الكائنات الحية بفترات طويلة من الركود مع تخللها لفواصل من الدفعات القصيرة للتحولات الكبيرة.
ومن الطريف ان ورقة الدريدج (71) لم تقرأ ولم يعرها احد اي اهتمام في ذلك الوقت، في حين تم الاستشهاد بها حتى نهاية عام 2016 بحوالي 5000 مرة. ويذكر الدريدج في حوار معه بهذا الصدد: انه عندما كنتُ أقوم بإعداد ورقة (71)، شعرت أنها مهمة للغاية وصحيحة الى حد كبير، رغم انها كانت مختلفة جدًا عن أي شيء آخر. لكنها لم تقرأ. لهذا السبب كان من الرائع التعاون مع جولد لجذب الانتباه، بفعل اسلوبه ومهاراته الكتابية. وهو من قام بتحرير ورقة (72) باكملها وفق تناسق مناسب.
ويعتقد العديد من الباحثين ان لمهارات جولد البلاغية والخطابية دور كبير في رواج نظرية التوازن المتقطع باكثر مما تستحق. ومن وجهة نظر أستاذ اللغة الإنجليزية هايدي سكوت Heidi Scott فان نجاح جولد في بناء جمهور شعبي من القراء غير المتخصصين قد غيّر مناخ الخطاب العلمي المتخصص بشكل إيجابي في تعزيزه لهذه النظرية. في حين اعتقد الفيلسوف جون لين John Lyne وعالم الأحياء هنري هاو Henry Howe بأن نجاح التوازن المتقطع له علاقة بطبيعة السجل الجيولوجي أكثر من طبيعة خطاب جولد. فتحليل البيانات الاحفورية تظهر أن إلدردج وجولد كانا على صواب في تحديد الركود الذي تنتابه فترات قصيرة من الانقطاع التطوري.
وبالفعل شهدت النظرية نجاحاً كبيراً بسبب الاعتماد على علماء الحفريات الذين ابدوا حالة الركود في السجل الاحفوري.
عناصر النظرية
تتأسس نظرية التوازن المتقطع على فكرتين جوهريتين كما يتضمنها المصطلح الثنائي الذي اختير لها، هما الركود stasis والتحول السريع كتعبير عن التوازن والتقطع.
والفارق العلمي بين الفكرتين هو ان الركود يحظى بالبيانات data والشهادة المستخلصة من الحفريات. وهي ما تمثل العمود الفقري للنظرية، وبدونها لا يصبح لهذه النظرية قيمة، ووفقًا لجولد فان الركود يعتبر أهم مساهمة للنظرية في علم التطور. بل ان هذه الفكرة هي اساس الفكرة الثانية من التحول السريع، فهذا النوع من التحول لا يمكن استنتاجه ما لم تثبت الاولى المعبرة عن الركود. مع هذا فان التحول السريع مثل التطور التدريجي البطيء ليس عليه دليل مباشر، خلافاً لاطروحة الركود، فهو يبقى مجرد فرضية مستنتجة وليس من البيانات الموثقة. وبذلك يصبح اساس النظرية قائم على الركود، وهي المقالة الجوهرية التي تتعارض مع الداروينية. بل وتشكل الفاصلة التي تميز هذه النظرية عن اطروحة ماير.
وللتفصيل نتابع الفقرتين التاليتين:
1ـ الركود:
لقد استشهدت نظرية التوازن المتقطع بالركود stasis كظاهرة حقيقية وشائعة. وهي الفكرة الجوهرية التي تتعارض فيها مع الداروينية. فقد كان المعتقد قبل نظرية التوازن المتقطع ان الركود هامشي او معدوم.
واعتبر جولد ان فكرة الركود تتفق مع ما كان يعتقده العلماء خلال منتصف القرن التاسع عشر، وهو ان الاشياء لا تتغير كثيراً وتميل الى الثبات، كالذي يشهد عليه علم الحفريات. فالركود هو ظاهرة حقيقية شائعة وان كانت ليست دائمة بشكل مطلق، ومن هذه الناحية يأتي الخلاف مع الخلقويين.
وتعتبر مسألة الحفريات بالنسبة لنظرية التوازن المتقطع جوهرية في الدلالة على ما يحدث في الحياة. وكما اشار الدريدج باننا كعلماء حفريات مكلفون بحسب وصف جورج جايلورد سيمبسون George Gaylord Simpson بدراسة اليد الميتة للتاريخ. فهي “البرهان الكامل” على ان الحياة قد تطورت.
لقد كان لنظرية التوازن المتقطع تعبير بان “الركود هو البيانات”. فالظهور المفاجئ يسجل غياباً للمعلومات، اما الركود فهو البيانات وليس التطور ذاته. وقد احدثت هذه العبارة جدلاً حول مقصدها امتد لعقود. وكما قال جولد: شعرت أنا والدريدج بالإحباط الشديد بسبب فشل العديد من الزملاء في فهم هذه النقطة الواضحة على الرغم من بلوغ ربع قرن من النقاش.
لقد اعتبر جولد بان سجل الحفريات يفتقر الى الكمال بنسبة (99%)، وهو ما يعني انه عندما تؤخذ عينات من الانواع خلال عدة ملايين من السنين دون ان تسجل أي تغيير واضح بين البداية والنهاية، بحيث تظهر تشابهاً كبيراً مع بعض التقلبات الخفيفة، فسيدل ذلك على حضور المعطيات الدالة على الركود وليس غيابها. فالسجل الاحفوري وفقاً لذلك ليس بناقص ولا قطعة أثرية من الأدلة غير الكاملة، او انه لا يمكن تفسير الركود على أنه معلومات مفقودة. ان الركود هو الشائع وعلماء الحفريات يدركون ذلك جيداً.
وكانت هذه النقطة بحسب جولد تشكل احباطاً لدى علماء الحفريات ازاء نظرية التطور، حيث تُعرف بـعدم وجود بيانات حول التطور الكبير. وعلى الرغم من ان هؤلاء العلماء أدركوا هذه الظاهرة، الا ان قلة منهم كتبوا بانها تشير الى عدم توثيق النتيجة المرجوة. اذ يفترض أن التدرج يجب أن يسود، كما يتضح من الحالات القليلة للغاية التي أصبحت "كلاسيكيات" الكتب المدرسية، مثل اللف الخاص بجنس منقرض من المحار يسمى Gryphaea، كذلك زيادة حجم اجسام الخيول، وما إلى ذلك. لكن باستثناء المختصين في الحفريات فان معظم العلماء لم يدركوا هيمنة الركود.
لذلك فبحسب جولد كان لا بد من نظرية مختلفة تحترم الركود باعتباره أمرًا رائعًا وظاهرة جديرة بالتوثيق الدقيق، وليس مجرد فشل في العثور على التطور. ومن ثم فالركود والنشوء المفاجئ يمثلان معياراً للتاريخ المرصود لمعظم الانواع.
لقد أكد جولد ان فكرة الركود كانت معروفة لدى علماء الاحافير، فهم يعتزون ببياناتهم الأساسية على أنها كافية وكاشفة، بدلاً من كونها مجزأة بشكل مثير للشفقة. لذلك اعتبر ان علم الاحافير يمكنه وفق هذه الملاحظة أن يأخذ مكانًا مستحقًا ونشطًا بين العلوم التطورية.
اما غير علماء الاحافير فكثيراً ما اصيبوا بالذهول والدهشة. وقد استشهد جولد بما كتبه ماير عام 1992 كتأييد لما توصل اليه مع الدريدج. فماير يبدي اتفاقاً معهما بأن شيوع الركود في الأنواع الأحفورية التي تم الكشف عنها لم يكن متوقعاً من قبل معظم علماء الأحياء التطورية، وأن نظريتهما في التوازن المتقطع “سواء قبلها المرء او رفضها او قام بتعديلها؛ فلا شك ان لها تأثيراً كبيراً على علم الأحافير وعلم الأحياء التطوري”.
ورغم ان اطروحة التوازن المتقطع مدينة الى ما سبق اليه ماير، لكنها مع ذلك اعتبرت نظرية مستقلة بفضل فكرة الركود التي تميزت بها النظرية، فيما اهتم ماير بنظريته حول القفزات السريعة للتطور.
ومعلوم انه ليس لعلماء الاحافير علاقة بالتطور منذ ايام داروين مع استثناءات قليلة. بل يوجد عداء بينهم وعلماء الوراثة حول هذا الموضوع، وكان سيمبسون قد صوّر هذا التوتر بين الطرفين بسخرية في مقدمة كتابه (الايقاع والنمط في التطور Tempo and Mode in Evolution) عام 1944، حيث قال: منذ وقت ليس ببعيد، شعر علماء الأحافير أن عالِم الوراثة هو شخص أغلق نفسه في غرفة، وأزال الظلال، وشاهد الذباب الصغير ينزف في زجاجات الحليب، واعتقد أنه كان يدرس الطبيعة. واعتبروا هذا السعي بعيدًا جدًا عن حقائق الحياة، وليس له أهمية بالنسبة الى عالم الأحياء الحقيقي. في حين اعتبر علماء الوراثة إن علم الأحافير ليس لديه المزيد من الإسهامات لعلم الأحياء، وأن هدفه الوحيد هو الإثبات الكامل لحقيقة التطور، وأنه موضوع وصفي بحت؛ بحيث لا يستحق اسم "العلم". لقد اعتقدوا أن عالِم الحفريات يشبه الرجل الذي يلتزم بدراسة مبادئ محرك الاحتراق الداخلي من خلال الوقوف على زاوية شارع ومشاهدة السيارات وهي تسرع.
2ـ التقطع:
ان اعتبار الركود ظاهرة حقيقية شائعة لا ينسجم مع فكرة التطور ما لم يعترف بتحولات سريعة نادرة من تاريخ الحياة على الارض. وهو الخيار الذي اتكأ عليه دعاة نظرية التوازن المتقطع. فالركود لا يصاحب تاريخ الحياة كلها، بل ينتابه بعض الاشكال التحولية السريعة التي تفضي الى ظهور انواع جديدة لم تكن موجودة من قبل. وما ان يوجد نوع جديد حتى يستقر مدة طويلة لا تظهر فيه علامات من التغيرات سوى الطفيفة منها. وبالتالي فان عملية التطور الكبير هي حدث نادر وسريع، ويحصل ضمن مجموعة صغيرة من الانواع المعزولة جغرافياً.
وتمثل العزلة الجغرافية نمطاً شائعاً مثل الركود، وفيها تحصل تغيرات مورفولوجية تعمل تمايزاً بين الانواع السلف والخلف. ثم بعد ذلك ينتشر النوع في مختلف المناطق ضمن حالة من الركود. فهذا ما راهن عليه جولد وألدريدج، وهو ان التحولات التطورية الكبيرة للانواع غالباً ما تكون سريعة او لحظية ضمن شروط جغرافية معزولة من دون توسط وتدرج، متبوعة بالتمايز الجيني عن السلف الاصلي، بدلالة ما تشهده الحفريات من بيانات الركود.
لقد اعترف جولد بان ورقتهم البحثية (72) قد اختارت نظرية ماير للتباين الجغرافي للانتواع allopatric speciation كما أعرب عنها في أطروحته الكلاسيكية لعام 1963. وكما قال: لقد اخترنا صياغة ماير لأن نظريته الجغرافية مثلت وجهة النظر الأكثر تقليدية عن الانتواع التي كانت متاحة آنذاك في الأدب الحديث. حيث كتبنا عام 1972: “خلال الثلاثين عامًا الماضية، نمت شعبية نظرية التباين الجغرافي لتصبح، بالنسبة للغالبية العظمى من علماء الأحياء، نظرية انتواع. إن منافسه الجاد الوحيد هو نظرية التماثل الجغرافي للانتواع sympatric speciation”.
وهو ما يعني ان الانقطاعات الملحوظة في السجل الاحفوري حقيقية وليست شظايا السجل الناقص.
وبذلك اتخذ التوازن المتقطع نهجاً مختلفاً عن النهج الدارويني والتدرج النمطي القائل بتكون الانواع بالتنامي المستمر من دون تفرع وانقسام. فمن وجهة نظر اصحاب هذه النظرية ان الغالبية العظمى من الكائنات الحية تنشأ عن طريق الانتواع speciation بالفرز والتفرع خلافاً لما تقوله الداروينية الجديدة التي منحت دوراً ضئيلاً للانتواع في قبال التنامي المتدرج. وثمة تقدير شهير اصبح رسمياً، وهو ما ذكره عالم الاحافير سيمبسون (1944) من أن حوالي 10% من التغير التطوري حدث عن طريق الانتواع، و 90% عن طريق تكوين الأنواع دون تفرع من خط النسب التطوري.
لكن ذلك يتنافى مع ظاهرة الركود، اذ ليس في الحفريات بيانات ايجابية على التدرج والوسائط. بل ان دراسات حديثة تم تقديمها خلال الربع الاخير من القرن العشرين تظهر أن 71٪ من الأنواع تبدي ركودًا.
لذلك جادل جولد والدريدج بأن الغالبية العظمى من الأنواع تنشأ عن طريق الانقسام والتفرع، وأن الإيقاع القياسي لنشوء الأنواع، عندما يتم التعبير عنه في الزمن الجيولوجي، فسيتميز باللحظة الجيولوجية، ثم يليها ثبات طويل في حالة ركود.
فغالباً ما تنشأ الانواع الجديدة عن طريق الانتواع، او التفرع بالعزلة الجغرافية لمجموعة صغيرة من الابناء متبوعًا بالتمايز الجيني عن مجموعة الاسلاف، وليس عن طريق تنامي النوع. وبحسب نظرية التوازن المتقطع أن النوع الجديد يجب أن يمر بفترة قصيرة من الغموض أثناء تمايزه الأولي عن مجموعة أسلافه، حيث يتحول بسرعة كبيرة هي بمثابة لحظة جيولوجية، ثم بعد ذلك يستقر وينتشر.
ان اهم ما جاءت به هذه النظرية في حل مشكلة فقدان البيانات الخاصة بالتطور، هو انها راهنت على مجموعة صغيرة ومعزولة لتشكّل قاعدة للتطور القفزي، اذ في هذه الحالة سوف لا يمكن الاحتفاظ باحداث التحول في السجل الاحفوري، وسيظل هذا السجل يبدي وكأن الانواع ثابتة غير متطورة.
فالعزلة مهمة جداً في انتاج الانواع الجديدة، وان صغرها يفسر عدم احتفاظ السجل الجيولوجي بحفرياتها، لكنه قد يوهم بثبات الانواع من دون تطور. اذ لا يوجد لحد الان تفسير مقبول لكيفية ما يحصل من قفزات التطور الكلي. فما يشاهد هو الركود او الثبات النسبي الحاصل في الانواع، كما يدل عليه السجل الاحفوري. لذلك فمن وجهة نظر البعض ان هذا السجل مع علم الوراثة يدعمان فكرة الخلق المستقل، فاضطر انصار التطور لاقتراح فكرة طبيعية لشرح ذلك تسمى "الحوادث السعيدة" او الوحش المأمول.
وكان الدريدج يرى انه على الرغم من أن العزلة ذات أهمية كبيرة في إنتاج أنواع جديدة ، إلا أنه اعتبر اتساع المنطقة يحمل أهمية أكبر في جعل الانواع قادرة على تحمل فترة طويلة، مع الانتشار الواسع ضمن حالة الركود.
لقد مثّلت العزلة الجغرافية اهمية قصوى للانواع لدى عدد من قادة الداروينية الجديدة خلال الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين، لا سيما دوبزانسكي وماير. وقبل ذلك لم تشكل هذه العزلة تلك الاهمية، وحتى داروين انتهى به الامر ان لا يوليها اهتماماً بارزاً. لذلك اعيد تأسيسها لدى الباحثين المشار اليهما. ومع استردادها تم اعادة اكتشاف الركود، وهو الاسترداد الثاني من وجهة نظر الدريدج. وهذه هي الخطوة التي تبنتها نظرية التوازن المتقطع. فرغم ان علماء الاحافير كانوا يدركون الركود، الا ان معظمهم رضي بالتفسير الدارويني في نقص السجل الجيولوجي.
ان الحقل الذي تتحدث عنه نظرية التوازن المتقطع هو التطور الكلي الكبير وليس الجزئي الصغير. فكل ما تؤكد عليه هذه النظرية بشأن التطور هو ان عملية التحول في التطور الكلي لا تسير عبر الوسائط المتدرجة، بل من خلال التقطعات في الزمن الجيولوجي، ومن ثم الركود المرصود لمعظم الأنواع، وهي لا تقدم أي اقتراح جذري في مجال ميكانيكا التطور الجزئي، وهي النقطة التي اشار اليها جولد بانه يساء فهمها في كثير من الأحيان.
فليس للتوازن المتقطع اقتراحات بصدد تحديد او انتقاد الاليات التقليدية للتطور الجزئي، بل يتحدد مجال عملهم بمستوى التطور الكبير وفق المقاييس الجيولوجية. وان عملية التطور تحدث بسبب طفرات كبيرة تنبعث بفعل وجود قوى داخلية قوية، ومن ثم لا تحتاج الى الانتخاب الطبيعي. وكما قال جولد ان ما يخفف او يلغي الدور الابداعي للانتخاب الطبيعي هو القوى الداخلية القوية للتغير التطوري، إما عن طريق التباينات التحولية الكبيرةsaltatory variation، او عن طريق التطور الموجه.
التوازن المتقطع والداروينية
كثيراً ما كان الدريدج وجولد يعتبران نظريتهما ليست اتجاهاً مضاداً للداروينية كلياً. بل ويعدان انفسهما منتميين الى مؤسستها.
وكما اشار الدريدج الى انه كان يشعر بان نظريته لا تدعو الى الخروج عن الداروينية او مناهضتها، وان اتهامه بذلك كان يحسسه بالالم والحزن. وكما صرح بانه يلتزم بالانتخاب الطبيعي في التطور كما يعول عليه داروين، انما المؤاخذة تأتي عبر النسخة الكارتونية حول تعلق داروين بالتدرج التباطؤي، وهو يعتبر ان ذلك يتصادم مع حقيقة ما يبديه سجل الحفريات. لذلك اعتبر نفسه داروينياً حقيقياً من حيث محاولة تعديل رؤية داروين حول التمسك بالتوازن المتقطع مع التسليم بالانتخاب الطبيعي، من حيث لا منافاة بينهما. لكنه في الوقت ذاته استهدف احياء فكرة عالم الاحافير والتشريح جورج كوفييه مع تطويرها، واصبح يجمع بين الانتخاب الطبيعي والتوازن المتقطع القائم على فكرة الركود والتطور السريع.
ان محاولة الدريدج في الجمع بين التقطع والانتخاب الطبيعي تنسجم مع ما كان هكسلي ينبه داروين عليه.
أما جولد فقد الغى الانتخاب الطبيعي من التطور الهيكلي الكبير. وهو ايضاً اعتبر حاله ضمن المؤسسة الداروينية، لكنه رأى ضرورة اصلاحها، مستشهداً بتحذير هكسلي لداروين في عدم اضطراره للتمسك بالتطور التدرجي، مع الاحتفاظ بقانون الانتخاب الطبيعي، رغم نفيه ان يكون لهذا الانتخاب دور في التطور الكلي الكبير كما اشرنا من قبل. وفي مقالة له بعنوان (عودة الوحوش المأمولة 1977) اعتبر ان العديد من الحالات الخاصة بتكوين الاعضاء قد اضعفت ايمانه بالتدرج منذ فترة طويلة.
ومن حيث التمايز بين النظريتين فان الداروينية لا تقيم فارقاً بين التطورين الجزئي الصغير والكلي الكبير، اذ ينشأ الاخير عن طريق الاول عبر التنامي المستمر. فالتطور الكلي المتمثل بالتحول الهيكلي الرئيسي ليس اكثر من التطور الجزئي المتنامي. فاذا كان بامكان العث الاسود ان يزيح العث الابيض في غضون قرن من الزمان؛ فان الزواحف يمكن ان تصبح طيوراً في غضون بضعة ملايين من السنين، وذلك من خلال الجمع السلس والمتسلسل لتغيرات لا حصر لها.
اما نظرية التوازن المتقطع فهي لا تعترض على التفسير الدارويني حول التطور الجزئي من خلال التنامي المتدرج وفق الانتخاب الطبيعي، لكنها لا تعتبر ذلك اساس التطور الكلي بشهادة الركود الشائع في الحفريات. لذلك كان مجال عملهم هو التطور الكبير لا الجزئي.
النوع بين التوازن المتقطع والداروينية
لقد انعكس الاختلاف بين نظرية التوازن المتقطع والداروينية على مفهوم الانواع للكائنات الحية. فبحسب النظرية الاولى لما كان الركود هو القاعدة العامة لهذه الكائنات وان التحولات الجوهرية هي الاستثناء، لذا ترتّب على ذلك بان الانواع عبارة عن ذرات ووحدات اساسية للتطور الكبير، فهي اشياء مستقرة تقاوم التحول الكلي. فلكل نوع حياة لها بداية ونهاية محددتان والتي تمثل فترة الركود التي يعيشها النوع منذ ولادته وحتى تحوله المفاجئ او اللحظي الجيولوجي. لذلك يمكن تعريف النوع واعطائه مفهوماً محدداً لتمايزه عن غيره. فللنوع خصوصية لا يشاركه فيها غيره، وهي بالتالي صفة نوعية حقيقية، وهذا ما لا يتفق مع التصورات الداروينية التي ليس بوسعها تحديد متى يولد النوع ومتى ينتهي تحوله الى نوع اخر، فالتدرج والاستمرارية لا تسمح بالتحديدات الصارمة. فرغم ان لهذه التحديدات اغراض عملية الا انها تظل اعتباطية تعسفية نظراً للتغيرات الانسيابية المستمرة كقاعدة عامة، وان التقطعات فيها هي المستثناة.
والنتيجة هي ان تعريف النوع لدى الداروينية لا يتخذ صبغة حقيقية، بل ان التغيرات التدريجية المستمرة تجعل من الانواع وحدة نوعية هي اشبه بوحدة الوجود، لكنها مطبقة على الكائنات الحية فحسب.
ان هذا التمايز بين النظريتين حول مفهوم النوع قد انعكس على مفهومهما للآلية المعتمدة في التطور. فالنظرية الداروينية تنكر التمايز الحقيقي للانواع ومن ثم فهي معنية بتحديد الافراد لا النوع خلافاً لنظرية التوازن المتقطع. وبذلك ينشأ الخلاف بينهما حول طبيعة الالية التي تدفع الى التطور. واذا كانت الداروينية تراهن على الانتخاب الطبيعي كآلية للتحولات الفردية؛ فان نظرية التوازن المتقطع تعتبر للانواع تمايزاً حقيقياً يتطلب تطورها آلية متعلقة بالنوع لا الفرد، فهي بمثابة انتخاب نوعي لا فردي.
ويجري هذا التحديد على مستوى التطور الكلي الكبير، اما على مستوى التطور الجزئي فان هذه النظرية لا تقدم شيئاً يعارض آلية الانتخاب الطبيعي. ومن ثم انها تعترف بان التباين النوعي فجائي سريع، في حين ان الانتخاب الفردي تراكمي تدريجي.
التقطع وقفزة جولدشميدت
في عام 2006 اعترف الدريدج في دراسته (اعترافات دارويني) بتأثره مع جولد بالنظرية الوثبية، وابدى كم كان مندهشاً عندما اطلع على افكار داروين الاولى بانه ممن يؤيد هذه النظرية قبل ان يغادرها من غير رجعة. لذلك اعتبر انه ليس من الغريب ان يقوم مع جولد في احياء الركود كنمط يمكن للجميع تأمله، وهي الفكرة المناسبة للنظرية الوثبية والتي لم يعرها العلماء المتأخرين اهمية تُذكر.
وقبل ذلك كتب جولد مقالة مستفزة بعنوان (عودة الوحوش المأمولة) عام 1977 اشاد بفكرة جولدشميدت Goldschmidt في القفزة التطورية بدل التطور التدريجي البطيء كما تؤمن به الداروينية، ودافع عنه زاعماً ان المؤيدين للنظرية التركيبية رسموا صورة كاريكاتيرية لبعض أفكار جولدشميت. فقد كان الاخير لا يعترض على الحسابات المعيارية للتطور الصغير، بل كرس النصف الاول من عمله الرئيسي (الاساس المادي للتطور 1940) للتغير التدريجي المستمر داخل الانواع، لكنه خالف الداروينية الجديدة بشدة، وجادل بان الانواع الجديدة تنشأ فجأة عن طريق الاختلاف المتقطع، واعترف بان الغالبية العظمى من التشوهات الكبيرة كارثية، فاطلق عليها بالوحوش. مع ذلك فبين حين واخر قد تؤدي طفرة كبيرة لحسن الحظ الى تكييف كائن حي مع نمط حياة جديدة، وهو الوحش المأمول وفق مصطلحاته. لذلك يستمر التطور الكلي من خلال النجاح النادر لهذه الوحوش المأمولة وليس من خلال تراكم التغيرات الصغيرة داخل السكان او الجمهرة.
وهو في عام 1984 اعلن توقعه بأنه خلال هذا العقد سيتم إثبات صحة نظرية جولدشميت إلى حد كبير في عالم البيولوجيا التطورية.
هذه هي الفكرة التي عرضها جولد لجولدشميت، لكنه قرر في الوقت ذاته مخالفته جذرياً في ادعائه ان التطور الكلي المفاجئ يشوّه سمعة الداروينية، ناقداً اياه بانه فشل في الاستجابة لتحذير هكسلي من ان جوهر الداروينية القائم على الانتخاب الطبيعي لا يتطلب بالضرورة الايمان بالتغير التدريجي. كما وصف نفسه بانه دارويني، مع الدفاع في الوقت ذاته عن افتراض جولدشيمت القائل بان التطور الكلي ليس استمراراً للتطور الجزئي، وان التحولات الهيكلية الرئيسية بامكانها ان تحدث بسرعة من غير سلسلة سلسة من المراحل الوسيطة.
لقد انتهى جولد الى ان وحوش جولدشميت المأمولة لا تمثل رداً على الداروينية كما يصوره المعارضون له منذ فترة طويلة. ومن وجهة نظره ان نظريات التغير المفاجئ ليست بطبيعتها مناهضة للداروينية، ففيها ما هو معارض، كما فيها ما هو ليس بمعارض. وهو يعترف بان بعض فرضيات التغير المتقطع يلاقي صعوبة مثل الفرض القائل بخلق نوع جديد دفعة واحدة كالذي يميل اليه هوجو دي فريس بداية القرن العشرين.
كما اعتبر التطور التدريجي غير مقنع سواء تم لحاظ الامر من خلال الحفريات، او من خلال لحاظ سيناريو التطور ذاته، وتساءل ضمن نقده للسيناريو الدارويني كما في حالة الاستخدامات الممكنة في المراحل الاولى للتطور: ما فائدة نصف فك ونصف جناح كي يمكن للتطور التدريجي ان يعمل؟ مثل ان يعمل نصف فك كسلسلة من العظام الداعمة للخياشيم، او ان يعمل نصف جناح في محاصرة فريسة أو التحكم في درجة حرارة الجسم. فهذه التكيفات من وجهة نظر جولد مهمة وممكنة لكنها تفترض خيالاً مستمراً للتطور على هذه الشاكلة بما لا يصدق. لذلك رجح ان تكون هناك تحولات فجائية وان ليست بشكل متطرف.
لقد اعتبر جولد ان التحول الفجائي لا يحدث دفعة واحدة لتكوين نوع جديد كالذي تتبناه بعض الصيغ الوثبية، انما تجري العملية بان تسبب الطفرات الجينية تغيرات مورفولوجية فجائية لبعض الاعضاء والنظم الحيوية لدى الكائن الحي، قبل ان يتم التحول فيما بعد ليشمل كامل نظم واجهزة النوع، ضمن فترة عبّر عنها جولد باللحظة الجيولوجية، وتستغرق الاف السنين. وهو خلاف ما استنتجه بعض العلماء من ان التقطع لدى جولد يحصل في قفزات من جيل واحد. وقد تبنى هذا الاستنتاج العديد من الخلقويين. وهو تفسير خاطئ لا يعبر عن حقيقة مذهب نظرية التوازن المتقطع.
التقطع والتنامي الدارويني
يعتقد العديد من العلماء ان نظرية التوازن المتقطع ليست قفزية، بل انها صيغة من صيغ التطور الدارويني، وانها تضمنت التدرج بشكله السريع. وكان سيمبسون يرى ان هذه النظرية ليست اكثر من إعادة تسمية التطور الكمي الذي يدعو اليه.
فالتدرج يجري في حالتين، فهو اما بطيء او سريع. والسريع يوهم بانه فجائي لحظي، وهو ما استخدمه جولد كتعبير عن السرعة وفق المقاييس الجيولوجية، اي انه يحدث في فترة قصيرة جيولوجياً. لذلك كان جولد يشير الى ان الكثير من علماء الاحافير والتطوريين قد فاتتهم هذه الملاحظة من حيث علاقتها بالمقاييس الجيولوجية.
مع ذلك فان جولد والدريدج صريحان بان نظريتهما قفزية وليست تدريجية على شاكلة التراكم الكمي. وهذا ما جعل دوكينز يعتبرهما في (صانع الساعات الاعمى 1986) يضخمان القضية. ومن وجهة نظره انهما من اتباع النظرية التدريجية بما لا تختلف جوهراً عن الداروينية، فما يميزهما عن داروين هو انهما يضغطان كل التغير التدريجي الى نوبات وجيزة بدلاً من اتخاذ الوقت الطويل. لذلك انهما مع سائر اصحاب التقطع يعترضون على ايمان داروين بثبات معدلات التطور، ويريان ان التطور يحدث بسرعة اثناء نوبات نشاط قصيرة نسبياً مع وجود فترات طويلة من السكون من دون تطور او تطور بطيء جداً، مع اعتقادهما بان معظم التغير التدريجي يتواصل في مناطق بعيدة عن المناطق التي يتم فيها الحفر في السجل الجيولوجي.
لقد حدد دوكينز مبرر اعتبار نظرية التوازن المتقطع بانها غير وثوبية استناداً الى توصيف ألدريدج وجولد. فالقفزات التي تفترضها هذه النظرية ليست قفزات جيل واحد، بل تمتد عبر عدد كبير من الاجيال خلال فترات تصل حسب تقدير جولد نفسه الى عشرات الالاف من السنين.
ومن وجهة نظره انه لا وجود للوثوبيين الحقيقيين بين البايولوجيين المحدثين.. وكل من ليس وثوبياً فهو تدريجي، بمن فيهم ألدريدج وجولد مهما وصفا انفسهما. كما صحح وصف الداروينية بانها تتميز بثبات السرعة، واعتبر من الخطأ الفاضح تمييزها عن نظرية التوازن طبقاً لثبات السرعة وتغيرها، فتم تصوير ثبات السرعة بان التطور يخطو متثاقلاً طول الوقت بمعدل ثابت متصلب سواء كان هناك تنويع ام لا. في حين بحسب تغير السرعة الذي تدعو اليه نظرية التوازن المتقطع فان معدلات التطور تتراوح باستمرار من معدل سريع جداً الى معدل بطيء جداً حتى التوقف بما في ذلك كل التوسطات، وان السكون او الركود بالنسبة لهم يمثل مقاومة ايجابية للتغير التطوري.
ووصف دوكينز مذهب السرعة الثابتة بانه صورة كاريكاتيرية مفبركة عن الداروينية، فهذه الاخيرة لا تختلف عن التوازن المتقطع حول تغير السرعة. ويبقى الفارق بينهما يتمثل بتغيرها المستمر وتغيرها المنقطع. وان اصحاب السرعة المتغيرة باستمرار يترددون بين السريع جداً والبطيء جداً حتى حد التوقف، ولا يرون سبباً معينًا للتأكيد على سرعات معينة أكثر من غيرها.
وقد يؤيد ما سبق اليه دوكينز؛ تصريح الدريدج بعد مرور عقدين من الزمان على ملاحظته، بان فترات التطور لدى داروين كانت متباينة وهي متوافقة مع التوازن المتقطع.
لكن عند العودة الى نظرية التوازن المتقطع نجد انها تكرر نفي وجود توسطات يتضمنها التدرج، وهذا ما يؤكد انها صيغة من صيغ النظريات القفزية، وإن ليست بالشكل الذي يتضمن الدفعة الواحدة والجيل الواحد.
فمثلاً حاول جولد ان يوفق بين الانقطاع في التطور الكبير والداروينية لدى بعض الحالات، مثل ملاحظة ان التغيرات الصغيرة في وقت مبكر في علم الاجنة تتراكم من خلال النمو لتنتج اختلافات عميقة بين البالغين، كاطالة معدل نمو الدماغ المرتفع قبل الولادة الى مرحلة الطفولة المبكرة، ومثل تحرك دماغ القرد نحو الحجم البشري. لكن في حالات اخرى لا يمكن للتغيير المتقطع ان يأتي عن طريق التغيرات الصغيرة في معدلات التطور. فمعظم التحولات التطورية الرئيسية لم تتحقق بذلك. اذ كيف يمكننا تحويل حيوان وحيد القرن او بعوضة الى شيء اخر مختلف كلياً؟ رغم ان هذه التحولات قد حدثت كانتقالات بين المجموعات الرئيسية في تاريخ الحياة.
تراجع جولد
تعرض جولد الى انتقادات تكاد تجمع على ان حماسه الثوري لنظرية التوازن كما ظهر خلال النصف الثاني من السبعينات ومن ثم تم تتويجه عند بداية الثمانينات قد انتهى الى شيء من التحفظ ومن ثم تقبل الداروينية وآليته الاساسية في الانتخاب الطبيعي. ومن ذلك ما قاله مايكل روس من انه رغم اعتراف ستيفن جاي جولد عام 1980 بان النظرية التخليقية للانتخاب الطبيعي قد ماتت، ولفترة طرح فكرة الوثب المفاجئ، لكنه تراجع بعد ان انتقده علماء الوراثة معلناً انه قد اسيء فهمه.
كما انتقده الفيلسوف دانييل دينيت واعتبره تناوب بين الادعاءات الثورية والمحافظة، وأنه في كل مرة أدلى بتصريح ثوري - أو بدا أنه يفعل ذلك - تعرض للنقد، وبالتالي تراجع إلى مذهب الداروينية الجديدة. وكذا فعل دوكينز الشيء ذاته من الاتهام.
وتكررت مثل هذه الاتهامات بعد وفاته. فمثلاً عبّر فيلسوف العلم ستيفن ماير بانه رغم تصوير ألدريدج وجولد في البداية انهما بصدد تقديم نظرية بديلة للداروينية لكنهما ونتيجة شدة ما تعرضت اليه نظريتهما من افتقاد الالية الكافية انسحب جولد الى صيغة محافظة تعتمد على الاليات الداروينية الجديدة، وقدّم سلسلة من التنازلات منذ بداية الثمانينات وحتى سنة وفاته، خاصة في كتابه (بنية النظرية التطورية).
لقد اهتم جولد بذكر الاتهامات التي وجهت اليه واعطاها مساحة من النقاش، لا سيما في كتابه الضخم (بنية النظرية التطورية) عام 2002، وهي السنة التي توفي فيها، فاعتبر الناقدين قد اساؤا فهمه دون ان يقدم تنازلات كما يصورونها. ومن وجهة نظره انهم بنوا تاريخاً خيالياً لنظرية التوازن المتقطع في ثلاث مراحل، فقد اعتبروا دعاة هذه النظرية كانوا في البداية متواضعين مطيعين لهيمنة النظرية التركيبية الجديدة كما سبق اليها ارنست ماير، مع ادخال علم الحفريات الى الحظيرة. لكن بسبب دوافع الشهرة جعلتهم مذهولين، لذلك قطعوا روابط الولاء للنظرية التركيبية، وحاولوا في مرحلة ثانية اغتصاب سلطة السيادة من خلال رسم التوازن المتقطع كعقيدة من شأنها ان تطيح بالنظرية التركيبية وتحيي في قبالها مذهب جولدشميت الوثبي. وبسبب كثرة الانتقادات وفضح الخواء للمذهب الجديد بدأ جولد ورفاقه في التحفظ والتراجع والاعتذار، فجلسوا في مرحلة ثالثة مع نعيم النخبة التطورية للداروينية من دون فوارق مهمة.
هذه هي القصة التي صوّرها جولد لموقف الناقدين لنظريته المشتركة مع الدريدج، حيث جاءت من وجهة نظر المعارضين في ثلاث مراحل، لكن جولد اعتبرها من صنع الخيال بعيد المنال.
فمثلاً كتب دينيت عام 1995 وهو يصور خيال المراحل الثلاث: لم يكن هناك أي ذكر في الورقة الاصلية (72) لأي نظرية راديكالية للانتواع. ثم في عام 1980 قرر جولد أن مذهب التوازن المتقطع كان فكرة ثورية للغاية، لكن بسبب كثرة الاعتراضات تراجع جولد بشدة مع انكاره المتكرر أن يكون قد اتخذ موقفاً جذرياً ازاء عملية الانتواع.
كذلك كتب هالستيد عام 1985 قائلاً: يبدو أن جولد يضع صيغة لحفظ ماء الوجه لتمكينه من التراجع عن نزعته الوثبية الفظيعة، بعد أن عانى قليلاً من الضربة القاضية، فاصبح يدعو للتعددية وجعل الباب مفتوحاً.
بل ثمة من اتهم نظرية جولد بانها نتاج التفكير الماركسي وفقاً لالتزاماته السياسية، وانه قام بتطوير نظرية التوازن المتقطع لأجل تعزيز اجندة سياسية شخصية.
أما جولد فانه لم ينكر ان وجهات نظره مع غيره من دعاة النظرية قد تغيرت خلال سنوات النقاش الواسع مع الناقدين. كما اعترف بارتكاب اخطاء جسيمة استدعت التصحيح والتعديل على النظرية، فهوّن من ذلك بان النظرية قد تغيرت وتحسنت في تصحيح هذه الاخطاء.
ومن الناحية التاريخية اعترف بانه مع ألدريدج بدآ بشكل متواضع لقلة بضاعة العلم، ثم بعد ذلك توسعا الى الخارج، ففي البداية لم يدركا الاثار المثيرة للتوازن المتقطع في التطور الكلي عبر معاملة الانواع كأفراد داروين لتفسير التشعبات واسباب الركود. فبمساعدة عدد من زملائهما تم تطوير هذه الاثار عبر السنين ونمت النظرية وفقاً لذلك. وأكد في هذا الصدد بانه مع بقية الزملاء لم يقترحوا ابداً نظرية جذرية للتقطعات، ولم يربطوا هذه التقطعات بالنظرية الوثبية الفجائية للتطور مطلقاً.
وقال بهذا الصدد: اننا كنا مرتبكين بشكل رهيب ولعدة سنوات حول الطريقة الصحيحة لعلاج مشكلة الانتخاب الطبيعي وحتى تحديده على مستوى الانواع. وتم الخلط بين الفرز والانتخاب. كما اننا لم نحدد في البداية مفهوم النشوء بشكل صحيح، وبقينا مرتبكين لفترة طويلة حول نشأة الخصائص البنيوية مقابل نشأة الصفات التكيفية الوظيفية كمعايير لانتخاب الانواع. وعند العودة الى الماضي اشعر بالانزعاج من طول فترة ارتباكنا لدى العديد من اوراقنا البحثية. لكني اعتقد اننا حللنا الآن هذه القضايا الصعبة.
لقد انكر جولد التهمة التي ترى انهم من دعاة النظرية الوثبية الفجائية مطلقاً، واكد بانه مع رفاقه كانوا حريصين دائماً على تصحيح الخلط في القياس بين الوثبية والتقطعات، حتى في الاوراق المكتوبة خلال الذروة المفترضة للحماس الثوري ضمن المرحلة الوهمية الثانية من الاسطورة الثلاثية المراحل. وردّ على دينيت الذي اتهمه بانه في مقالة (1980) اقترح آلية بديلة عن التطور التدريجي للداروينية في جميع حالات الانتواع، واشار الى انه كان صريحاً بالدعوة الى التعددية في وضع الاليات التفسيرية للمجالات المختلفة للتطور دون الاحتكار على آلية احادية التفسير.
وكانت الفقرة التي استقطبت اهتمام الناقدين هي ان جولد وصف النظرية التركيبية بالموت، كما في المقالة المشار اليها سلفاً، اذ جاء فيها قوله: أتذكر جيدًا كيف أذهلتني النظرية التركيبية بقوتها الموحدة عندما كنت طالب دراسات عليا في منتصف الستينيات. منذ ذلك الحين كنت أشاهدها وهي تتفكك ببطء باعتبارها وصفًا عالميًا للتطور. فجاء الهجوم الجزئي أولاً، ثم تلاه سريعًا الاهتمام المتجدد بالنظريات غير التقليدية عن الانتواع والتحديات على مستوى التطور الكلي نفسه. لقد كنت مترددًا في الاعتراف بذلك، نظراً لأن الخداع والتضليل غالباً ما يستمر إلى الأبد ، ولكن إذا كان توصيف ماير للنظرية التركيبية دقيقًا، فإن هذه النظرية، كطرح عام، ماتت فعليًا، على الرغم من استمرارها كأرثوذكسية كتابية.
لقد اعتبر جولد في مستهل كتابه (بنية النظرية التطورية) الذي بلغت صفحاته ما يقارب 1400 صفحة، ان رؤيته اقرب الى عالم الحفريات خلال القرن التاسع عشر هيو فالكونير Hugh Falconer من داروين، وأكد بهذا الصدد بأن التغييرات الجوهرية التي تم ادخالها خلال النصف الاخير من القرن العشرين، قد بنت هيكلاً متسعاً إلى ما وراء النواة الداروينية الأصلية، وتم توسيعه بمبادئ جديدة لتفسير التطور الكبير، وهي تختلف بشكل أساسي عن النظرية الكنسية للانتخاب الطبيعي.
واشار الى ان افضل صياغة حالية لنظرية التطور تتضمن انماطاً من التفكير ومجموعة من الاليات التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن الانتخاب الطبيعي الدارويني الصارم. مع ذلك اعتبر البنية المنطقية للمؤسسة الداروينية تظل سليمة بشكل ملحوظ.
وفي محل اخر من كتابه المشار اليه اعترف بان تفسير التعقيد التكيفي الوظيفي لا يتم الا من خلال آلية الانتخاب الطبيعي، لكن دون ان يتعدى هذا المجال ليُعمم على غيره من التعقيدات العضوية، كما يحاول الداروينيون فعل ذلك وفق افقهم الضيق.
نقد نظرية التوازن المتقطع
قد تكون اهم نقطة ضعف نظرية التوازن المتقطع هي انها ركزت على ان يكون التطور في مجموعات صغيرة من الانواع المنعزلة عن التجمعات الكبيرة. لكن هذا الشرط الذي اضطرت اليه كي لا تطالب بآثار السجل الجيولوجي غير مقنع عند لحاظ مبدأ فيشر في احتمالات الوراثة السكانية.
كذلك فان القفزات التحولية الكبيرة لا يمكنها ان تفسر تطور النظم الحيوية المعقدة ما لم يفترض ان لها موجهات غائية تعمل على ايجاد هذه النظم. وهي عاجزة ايضاً عن ان توضح الالية التي يمكنها انجاح عملية التطور والتحول، فليس من المعقول ان تتم هذه العملية الكبيرة بمحض التحيزات الداخلية للطفرات الجينية دون ارتباط بالموجهات الغائية.
ايضاً أثار البعض مثل ستيفن ماير في (شك داروين) نقداً مفاده ان الحقبة الكامبيرية لا يظهر فيها التحولات الكبيرة بين الشعب الحيوانية كالرخويات والمفصليات، اذ تبدو كأنها وجدت مخلوقة رأساً من دون سلف سابق، ومن ثم فان وصف التطور على النحو الشجري بالتصاعد كالذي تشترك فيه هذه النظرية مع الداروينية لا تؤيده الحفريات. ومن وجهة نظرنا ان هذه الحالة تقتضي إما ان يكون التطور غير وارد بين الشعب، او ان مصدر بعضها فضائي وليس ارضي، اي ان تطوراتها لم تكن على الارض.
المصادر
Niles Eldredge, Confessions of a Darwinist, 2006.
Hari Sridhar, Revisiting Eldredge and Gould 1972, 2020.
Stephen Jay Gould, The structure of evolutionary theory, 2002.
Stephen Jay Gould, Punctuated Equilibrium's Threefold History, from: The Structure of Evolutionary Theory, 2002.
Stephen Jay Gould, The Return of Hopeful Monsters, 1984.
Stephen Jay Gould, Is a New and General Theory of Evolution Emerging?, 1980, in: But is it science?, 1988.
Eldredge, N. & Gould, S.J. Punctuated equilibria: an alternative to phyletic gradualism (1972) p. 95, in "Models in paleobiology", edited by Schopf, TJM Freeman, Cooper & Co, San Francisco.
Ernst Mayr, Speciational evolution or punctuated equilibria, in: The Dynamics of evolution : the punctuated equilibrium debate in the natural and social sciences, 1992.
George Gaylord Simpson,Tempo and mode in evolution, 1965.
Michael J. Benton and Paul N. Pearson, Speciation in the fossil record.
Jerry Bergman, The Dark Side of Charles Darwin, 2011.
https://en.wikipedia.org/wiki/Punctuated_equilibrium
ريتشارد دوكينز: الجديد في الانتخاب الطبيعي.
مايكل ريوس: داروين.
ستيفن ماير: شك داروين.