يحيى محمد
لقد تم إجراء مقارنة بين تسلسلات الجينات المشفّرة للبروتين الخاصة بالبشر مع عدد من الأنواع الحية.. ومعلوم ان نسبتها المئوية تقدر بأقل من (2%) من كافة الجينات، وأحياناً يوصلها البعض إلى أكثر من ذلك.. فلوحظ ان نسبة التشابه هي كالتالي:
البشر والبشر 99.9٪
البشر والشمبانزي 98.8٪
البشر والكلاب 94٪
البشر والقطط 90٪
البشر والأبقار 80٪
البشر وذباب الفاكهة 60٪
البشر والموز 60٪
كما أُجريت مقارنة في التشابه بين جينات البشر مع الفئران، وكانت في بعض المنشورات العلمية كبيرة جداً، حيث تم تقديرها عام 2002 بأنها (97.5٪)، أي انها قريبة الشبه إلى البشر وكذلك الشمبانزي، بل في نشرة أخرى لنفس العام تصل النسبة إلى (99%). وربما يعود الخطأ الى ان هذه النسبة تعود إلى تطابق بعض الجينات، ففي احدى النشرات نجد النسبة تصل إلى (85%)، حيث بعض الجينات تكون متطابقة بنسبة (99%)، وبعضها بنسبة (60%)، وغير المشفرة تكون نسبة التطابق فيها (50%) أو أقل.. كما في نشرة أخرى تصل النسبة إلى (70%).. الخ.
وتتكرر مثل هذه الحالة في مقارنة الجينوم البشري مع الشمبانزي. فقد شاعت نسبة التشابه بينهما بأكثر من (98%). ويعود الاصدار الرئيسي حولها ما تم نشره في مجلة الطبيعة Nature عن الاتحاد الدولي لتسلسل جينوم الشمبانزي عام 2005، إذ أشارت الدراسة إلى ان الاختلافات بينهما ضئيلة تقدر بحوالي (1.23%)، أي ان التشابه يقارب (99%). وقبل ذلك بثلاث سنوات كانت نسبة التشابه تقدّر بحوالي (95%).
لكن في عام 2007، أي بعد مرور سنتين من اصدار الاتحاد الدولي لتسلسل جينوم الشمبانزي، نشرت مجلة العلم Science مقالاً بعنوان (الاختلافات النسبية: اسطورة النسبة 1%)، إذ أشارت إلى وجود اختلافات أخرى لم ترد في المقالة الرئيسة، فأوصلت الفوارق بينهما الى (6.4%)، أي ان التشابه بينهما أقل من (94%).
ورغم ان النسبة العالية التي تم تقديرها للتشابه بين جينوم الشمبانزي والبشر قد نُقدت من قبل عدد من العلماء التطوريين والخلقويين لكنها بقيت تتردد لدى الكثير من انصار نظرية التطور الدارويني حتى يومنا هذا.
وبلا شك تختلف نسب التشابه لعدد من الاعتبارات، ومنها استخدام برامج لخوارزميات متعددة لكنها تعطي نتائج مختلفة، كذلك جرى التركيز في تبيان قوة التشابه على التسلسلات الجينية المشفرة للبروتين، وهي ضئيلة بالمقارنة مع بقية الجينات، ربما للظن آنذاك ان الغالب في غيرها يعتبر من الجينات الخردة قبل ان تتبين أهميتها التنظيمية البالغة عام 2012 عبر مشروع انكود ENCODE (موسوعة عناصر الدنا DNA).
ومع ذلك ظهرت نسخ عديدة لتقديرات التشابه بين الجينومين. فثمة من اعتبر النسبة الشائعة السابقة سطحية ومخادعة كما فعل عالم الوراثة جاروود بيلي Jarrod Bailey عام 2011، وصرح انه عند أخذ جميع العوامل ذات الصلة في الاعتبار يصبح من المرجح أن تكون النسبة أقرب إلى (95٪)، أو حتى تقترب من (93٪). ومن ذلك أخذ اعتبار الجينات المشفرة وغير المشفرة.
كما سبق لعالم الوراثة ريتشارد باجس Richard Buggs ان قدّر نسبة التشابه الاجمالية عام 2008 بحوالي (70%)، لكنه بعد عقد من الزمان تراجع عن ذلك واعتذر عن الخطأ الذي وقع فيه، فأشار إلى أنه كان يتصور وجود جينوم شمبانزي كامل وموثوق به اعتماداً على فهمه لاصدار ورقة جينوم الشمبانزي عام 2005. فذكر أنه بفضل مناقشة هذا الموضوع مع ستيف شافنر Steve Schaffner الذي كان أحد مؤلفي ورقة 2005 اكتشف بأن مجموعة مسودة الورقة لم تكن جيدة كما تم اقتراحها.
وهذا ما دعاه إلى إعادة النظر في تقدير نسبة التشابه، فوجد ان النسبة المئوية للنيوكليوتيدات في الجينوم البشري التي لها تطابق تام واحد لواحد في جينوم الشمبانزي تبلغ (84.38٪). أما من حيث التشابه فقد شكك بالنتيجة التي توصل اليها بعض العلماء بما تبلغ (95%)، إذ حسبها لا تأخذ بعين الاعتبار ان (5%) من الجينومين البشري والشمبانزي ما زالا لم يجمعا بعد، وان (4%) هما مورد الاختلاف بينهما، لذلك تنبأ بخطأ النسبة المعلنة.
وفي عام 2020 شارك في نشر مقال في مجلة (الحدود في علم الوراثة Frontiers in Genetics) فقدّم طريقة مختلفة لتقدير الاختلافات الجينية بين الإنسان والشمبانزي، ووجد أن التشابه الجيني بينهما يبلغ حوالي (96%). فمقدار الاختلاف بينهما هو (4%) لكل من جينات الحامض النووي المشفر وغير المشفر، لكنه لا يشمل الحامض النووي المركزي. وإذا تم تضمين هذا الحامض فإن نسبة التشابه الجيني بينهما يمكن أن تنخفض إلى (93%).
ومن وجهة نظر بعض علماء الوراثة الخلقويين ان النسبة الشائعة للتشابه بين الجينومين تتصف بالانحياز. وهذا ما أكده عالم الوراثة جفري تومكينز Jeffrey Tomkins، حيث أبان بأن الحسابات المذكورة قد تعمدت مطابقة أكثر المناطق شبهاً مع حذف أطوال كبيرة من الحامض النووي، وعادة ما يتم تجاهل الفجوات أو الأجزاء المفقودة، كذلك الأجزاء التنظيمية. ففي عام 2012 توصل مع برجمان Bergman الى تشابه اجمالي بحوالي (80.6٪). وفي عام 2013 اختبر تومكينز التقابل بين الجينومين البشري والشمبانزي فوجد تشابهاً اجمالياً بقدر (70%). لكن في عام 2014 أبلغ أحد المبرمجين عن خطأ للبرنامج الخوارزمي (بلاستن blastn) الذي اعتمده تومكينز، لذلك قام الأخير باستخدام ستة اصدارات من هذه الخوارزمية، كما استخدم خوارزميتين شائعتين أخريين للمقارنة فوجد ان متوسط التشابه عبارة عن (88٪). لكن مع أخذ اعتبار ان حجم الجينوم لدى الشمبانزي أكبر بحوالي (8٪) من البشر، لذا فالتشابه يقل إلى حوالي (80٪). وإذا كان جينوم البشر يحتوي على أكثر من ثلاثة مليارات زوج من القواعد النايتروجينية، فإن مقدار الاختلاف مع جينوم الشمبانزي يصل إلى حوالي 600 مليون قاعدة، ومن وجهة نظر تومكينز ان هذا العدد الضخم من الاختلاف لا تتحمله معدلات الطفرات حتى خلال ستة مليارات سنة.
وفي جميع الأحوال لا تدل تسلسلات الجينات على الخط التطوري بين نوع وآخر مهما كانت متشابهة ومتقاربة ما لم يكن ثمة خط طولي منتظم بين الأنواع، انما تدل على الخطط والتصاميم الأولية. فمثلاً في بناء المنازل والعمارات تستخدم ذات التصاميم والمواد الأولية كالاسمنت والخشب والألواح المعدنية والزجاج وغيرها لأغراض شتى.
وهذه هي الحجة التي يقدّمها الخلقويون وأنصار التصميم الذكي على فكرة التصميم خارج اطار نظرية التطور.
مع هذا ان ما يدعم حجة التطور علمياً هو عندما نجد تشابهاً للجينات العاطلة والكاذبة pseudogenes ومثلها المفقودة في أماكنها المتقابلة بين نوعين من الكائنات الحية. وهذا ما يشار اليه بالنسبة لعلاقة البشر بالشمبانزي. فكان المظنون وجود جين كاذب (يسمى HBBP1) مشابه جداً في نفس الموقع لكليهما قبل ان يتبين مؤخراً أن له ارتباطات وظيفية تقدر بـ (837) ارتباط مع كيانات بايولوجية تمتد إلى سبعة أصناف مختلفة.
كذلك هناك بعض الجينات المفقودة في أماكنها لكل من البشر والشمبانزي. أيضاً توجد نسخة مكسورة من الجين الذي يساعد على تصنيع فيتامين (C) في الثديات الأخرى لدى كل من البشر والشمبانزي. ونتيجة لذلك ليس باستطاعة هذين النوعين تصنيع هذا الفيتامين، وتم افتراض ان سلف النوعين تعرض الى طفرة ثم نقلها اليهما. فنفس الأخطاء في الجين وفي نفس الموقع لكليهما يمكنه ان يفسر تعرض السلف المشترك أولاً للأخطاء الطفرية فأدى الى هذين النوعين. وهذا ما جعل أحد أنصار حركة التصميم الذكي، وهو الكيميائي الحيوي مايكل بيهي، يستبعد تفسير ذلك بغير وجود سلف مشترك لكليهما. مع أنه وفق التطور الوثبي ليس ثمة ضرورة لافتراض سلف مشترك لهما. كما ان ذلك مشروط بأن لا يكون للجين الكاذب وظيفة، أما مع اكتشاف الوظيفة فسيصبح الدليل على الانحدار غير جيد وفقاً لإجابة بيهي عام 2018 على سؤال من قبل مركز براهين الذي قام بتعريب كتابه (حافة التطور). وقال بهذا الصدد: «إنه بالرغم من أن هناك عدداً من الجينات الكاذبة تم اكتشاف أن لها وظائف، لكن العديد منها لم يكتشف وظائف لها بعد. لذلك أنا سأنتظر وأنظر. إن ثبت أن أكثرها له وظيفة، فهي بالتالي لن تبقى دليلاً جيداً على الانحدار المشترك».
وثمة من استدل على التطور بعدم فاعلية بعض الجينات، ومن ذلك جين الانسان (12)، فهو غير فعال خلافاً لنفس الجين في الشمبانزي وباقي الثديات، اذ دلالة ذلك على التطور هو ان من العبث ان يضع الإله جيناً غير فعال.
لكن كل ما سبق مرهون بعدم فاعلية الجينات المشار اليها، ولو ثبت ان لها فاعية ووظائف فسوف يتغير الحكم، مثلما حصل مع مشكلة الجينات الخردة، وهو الأمر المتوقع استناداً إلى الخبرات الماضية.
مصادر البحث
Carmen Ang, How Genetically Similar Are We To Other Life Forms?, September 7, 2021.
Andy Coghlan, Just 2.5% of DNA turns mice into men
30 May 2002.
Ross Pomeroy, Why Researchers Are Making Mice a Little More Human, April 28, 2020.
Marsha Walton, Mice, men share 99 percent of genes, 2002.
Initial sequence of the chimpanzee genome and comparison with the human genome, 2005.
New comprehensive view of the mouse genome finds many similarities and striking differences with human genome, 2014.
Roy J. Britten, Divergence between samples of chimpanzee and human DNA sequences is 5%, counting indels, October 2002.
Jon Cohen, Relative Differences: The Myth of 1%, 2007.
Jarrod Bailey, Lessons from Chimpanzee-based Research on Human Disease: The Implications of Genetic Differences, 2011.
Richard Buggs, How similar are human and chimpanzee genomes?, 2018.
Casey Luskin, Human-Chimp Similarity: What Is It and What Does It Mean?, 2021.
Jeffrey Tomkins, New Research Evaluating Similarities Between Human and Chimpanzee DNA, 2013.
Frost Smith, A Fresh Look at Human-Chimp DNA Similarity, 2015.
https://maayanlab.cloud/Harmonizome/gene/HBBP1
مايكل بيهي: حافة التطور، ترجمة زيد الهبري ومحمد القاضي وآخرين، مركز براهين، 2019م.
فرانسيس كولينز: لغة الإله، ترجمة صلاح الفضلي، الكويت، 2016م.