يحيى محمد
في فلسفة الاخلاق ليس ثمة مسألة اهم من البحث في اصلها وقيمتها الموضوعية، وعلى الاقل فيما يخص مبادئها الاولى حتى وان لم تُستكشف جميع حقولها ومجالاتها المتشعبة.
وقديماً كانت القضية الاخلاقية تبحث بعناوين مختلفة، مثل الحسن والقبح كما لدى المتكلمين، والفضيلة والرذيلة كما لدى الفلاسفة، كما ادرجها الاخيرون ضمن اعتبارات العقل النظري والعملي.
العقل العملي والاخلاق
تتخذ خارطة التفكير الذهني دائرتين من النشاط العقلي: نظري وعملي، مع التداخل بينهما. وللنظام الاخلاقي صلة بهاتين الدائرتين. ورغم انتمائه الى العقل العملي؛ إلا ان مضامين الاخير أعم منه. فمثلاً ان بعض القرارات الغائية المنتمية لهذا العقل، كالذهاب الى السوق والبحث عن وظيفة للارتزاق، ليس لها علاقة بالنظام الاخلاقي.
ويعود تقسيم العقل الى نظري وعملي الى الفلسفة اليونانية، اذ يميل الفلاسفة القدماء الى ان مدركات الاخير جزئية لا كلية، فالمنطق الارسطي يجعل من العقل العملي خاصية الجزئيات فحسب، مثل القول: هذا السلوك حسن او مطلوب.. او انه سيء او مردود. وسميت (عملية) باعتبارها دافعاً للعمل، خلافاً للقضايا الكلية التي تندرج ضمن مدركات العقل النظري؛ مثل القول: العدل حسن، حيث انه لا يبعث على العمل، كالذي نقله الشيخ الرئيس عن المعلم الاول ارسطو في (النجاة)[1].
وفي (النفس من كتاب الشفاء) أكد ابن سينا هذا المعنى، وهو ان للانسان قوة تختص بالاراء الكلية وتنتمي الى العقل النظري، وهي مسؤولة عن قضايا الصدق والكذب والواجب والممكن والممتنع، وتستمد من المقدمات الاولية. فيما توجد في قبالها قوة اخرى تختص بالامور الجزئية فيما ينبغي فعله وتركه مما ينفع ويضر وما هو خير وشر وحسن وقبيح، وهي تنتمي الى العقل العملي وتكون مسؤولة عن موضوعات الخير والشر والحسن والقبح في الجزئيات، ومبادؤها مستمدة من المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجربيات الواهمة غير الموثوقة[2].
ومعلوم ان اعتبار المسائل الاخلاقية عائدة الى المشهورات والمقبولات، كما يصرح بذلك الفلاسفة القدماء، ينسجم مع الاطار الحتمي الذي يتبنونه في تفسيرهم للقضايا الوجودية وفق علاقة العلية. فنظريتهم تؤكد الطابع المجازي للقضايا الاخلاقية، فهم يعتبرون هذه المسائل من القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الإعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، حيث لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها، فلو خلي الإنسان وعقله المجرد فسوف لا يحصل له حكم بها، ولا يقضي عقله فيها بشيء كما يقول إبن سينا. وليس الأمر كذلك مع قضايا الضرورات الأولية كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء، إذ لو خلي الإنسان وعقله فإنه لا يتردد في الحكم بها، إذ يكفي تصور طرفي هذه القضية للحكم بها. لذا فالمعتبر في مثل هذه القضايا الأولية للعقل النظري هو أنها مطابقة لما عليه الواقع. أما المعتبر في المشهورات فهو أنها مقبولة لتطابق الآراء عليها، حيث لا واقع لها غير ذلك، وأنّ هذا التطابق هو لأجل المصلحة العامة، إذ بها يكون حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم. فمعنى حسن العدل هو أن فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم هو أن فاعله مذموم. فهذا هو المفهوم الوجودي للفلاسفة عن العقل العملي للقضايا الاخلاقية كالذي فصلنا الحديث عنه في اكثر من كتاب.
وعلى خلافهم ذهب أصحاب منطق الحق الذاتي – كالمعتزلة والزيدية والامامية الاثنى عشرية – الى ان هذه المسائل تنتمي الى العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الأحكام[3].
وبلا شك لا ينتمي النظام الاخلاقي الى العقل العملي فحسب، بل مردّه في الاساس الى العقل النظري، ولولا الاخير لما كان الاول. فالنظام الاخلاقي لا يجد له تبريراً ما لم يتصف بهيئة وجودية تجعل منه قائماً بشكل موضوعي. وان هذه الهيئة ليست طبيعانية كما هو معلوم، ومن ثم فهي ميتافيزيقية، كما سيتضح لاحقاً.
ومن حيث وجهة النظر الحديثة لا توجد تفرقة بين الجزئيات والكليات لدى العقل العملي، على شاكلة ما لدى العقل النظري. فما يميز بينهما هو ان الاول معني بما ينبغي ان يكون، والثاني معني بما هو كائن. ويمكن اعتبار قضايا العقل العملي تتضمن كل ما يتمثل بالقضايا العملية سواء من المقدمات او النتائج، وسواء كانت كلية او جزئية. ومثل ذلك العقل النظري. وبهذا يكون الاول مختصاً بما ينبغي ان يكون، والثاني بما هو كائن، رغم ثبوت العلاقة الوشيجة بينهما من دون انفصال.
ففي كل واقعة اخلاقية يجتمع فيها العقلان النظري والعملي، او ما هو كائن وما ينبغي ان يكون. وان كلاً منهما قد يؤثر في الاخر. وهو ما يجعل الامرين متصلين ومتكاملين بدل الفصل بينهما.
وهذا ما يفضي الى جعل العلاقة بين الواقع والنظام الاخلاقي، وشيجة، احدهما يؤثر في الاخر من دون انفصال. ولقد كان ديفيد هيوم مخطئاً حين جعلهما منفصلين تماماً، لاعتبارات ان الاول يختص بما هو كائن، خلافاً للاخر الذي يختص بما ينبغي ان يكون. ومع ان هذا الاختصاص صحيح، لكن ليس من الصحيح انكار علاقة التأثير بينهما، كما سنعرف.
وبداية ان الشرط الاساس لثبوت القضية الاخلاقية هو اقتضاؤها القدرة والارادة القاصدة مع توفر الدافع العام، وبدون ذلك لا توصف الافعال بانها اخلاقية. فسلوك المادة والنبات والحيوان لا تتصف بالاخلاقية لافتقارها للحياة الارادية الواعية، كما يتميز بها الانسان. وكل من لا يعترف بالارادة الحرة للبشر لا يمكنه ان يبرر القضية الاخلاقية.
ومن ذلك ان المذاهب الحتمية والجبرية ليس لديها ما يمكن ان تفسر به القضية الاخلاقية، وحتى مدرسة الاشاعرة وان جاز ان تفسرها وفق الارادة الالهية الا انها تعجز عن تبريرها في المجال الانساني. فالارادة البشرية لدى الاشاعرة مسلوبة، والفعل الذي يحدث في العالم البشري عائد الى الله لا الانسان.
لكن اقتضاء القدرة والارادة لا يكفي لوصف السلوك بانه اخلاقي، فلا بد من القصد والغاية، كما لا بد من ان يكون الدافع عاماً غير شخصي. فمثلاً حينما أجد اختياري لدخول كلية الطب كان بقصد ان احصل على وظيفة مدرّة للمال، فإن هذا الدافع يمنع اضفاء المعنى الاخلاقي على سلوكي. فالقضية شخصية وليس لها علاقة بالدافع العام. ولكي تكون هذه القضية اخلاقية، لا بد من جعل الدافع متعلقاً بمعالجة المرضى – مثلاً - كقصد انساني عام.
الاخلاق والموضوعية
في البحث عن موضوعية الاخلاق، يكفي التركيز على مبدأ اخلاقي واحد ليناقش ان كان بالامكان اثبات موضوعيته بعيداً عن عواطف البشر وانحيازاتهم النفسية والذاتية ام لا؟.
وهي اشكالية ما زالت مطروحة الى يومنا هذا. ومن ذلك ان المفكرين الغربيين قد انقسموا ازاء الموقف من القضايا الاخلاقية الى اتجاهات مختلفة، بعضهم ذهب الى انها موضوعية، فيما ذهب بعض آخر الى انها ذاتية، كما منهم من قال انها بلا معنى. بل وجرى الاختلاف بينهم حول ما تعنيه موضوعية الاخلاق مقارنة بموضوعية الكينونات الخارجية.
فالبعض اعتبر القضية الاخلاقية غير موضوعية طالما تفتقر الى المعنى الوصفي، كما ذهب الى ذلك المفكر الاسترالي جون ليزي ماكي[4]. ومثل هذا النحو ذهب الفيلسوف الامريكي جلبرت هارمان، اذ اعتبر المبادئ الاخلاقية تفتقر لمعيار الرصد والمشاهدة التي توظفها العلوم الطبيعية كعنصر هام من عناصر قبول النظرية والتفسير[5].
كما في قبال هذا الاتجاه اعتبر البعض أن معيار الحدس في المبادئ القيمية يلعب نفس الدور الذي تلعبه المشاهدة في العلم الطبيعي[6]. بل أكثر من هذا ذهب الباحث بويد إلى أن للقيم الاخلاقية حقائق موضوعية وأن المشاهدة فيها تلعب الدور نفسه الذي تلعبه في العلم، معتبراً أن هذه القيم هي خاصية تشابه تماماً سائر الخاصيات التي يبحثها علماء النفس والتاريخ والإجتماع[7].
وبحسب تقدير بعض الباحثين فإن في الغرب تيارين قائلين بموضوعية القيم، أحدهما يماثل في الموضوعية بين خواص القيمة للقضية الاخلاقية من جهة، وخواص الطبيعة للأشياء الفيزيائية من جهة ثانية، مع أنه لا توجد اشارة تدل على الوجود الخارجي لتلك القضية خلافاً لحال الواقع الفيزيائي. أما التيار الآخر فيكتفي بموضوعية القيم الاخلاقية من حيث أنها غير قابلة للتحليل، كالذي يقوله الاستاذان مور وروس[8].
هذا بالاضافة الى وجود تيار الوضعية المنطقية الذي يعتبر القضايا الاخلاقية لا معنى لها؛ لافتقارها القابلية على التحقيق الموضوعي، ومن ثم لا توصف بالصدق والكذب[9].
وبلا شك ان القضايا الاخلاقية ليست مثل قضايا الكينونة الخارجية ليتم البحث فيها ان كانت قابلة للتحقيق ام لا؟ فليس في الواقع الموضوعي اشياء تتقبل الكشف عبر الحواس والتلسكوبات والاثار المنبعثة عنها. فالنظام الاخلاقي يختلف جذراً عن عالم الكينونة، رغم ما بينهما من علاقة تلازمية وثيقة، اذ لا يمكن تحقق هذا النظام موضوعياً بمعزل عن الوجود الكينوني، في حين يمكن تصور ان يتحقق الاخير من دون نظام اخلاقي.
مفهوم الموضوعية
نقصد بمصطلح الموضوعية هو كل ما يقابل العنصر الذاتي والنفسي للبشر. وهي على اصناف مختلفة، ويسهل اثبات بعضها، فيما قد يصعب اثبات البعض الاخر. وفي كل صنف يكفي اثبات أحد مصاديقه ليتحقق من دون حاجة للمزيد. فمثلاً انني لاجل اثبات وجود عقول للبشر - مثل عقلي الخاص - لا احتاج الى ان اثبت اكثر من مصداق واحد فقط ليتعين عليّ الاعتقاد بوجود عقول اخرى لا تختلف عن عقلي. فمصداق واحد يجزي عن البقية اجمالاً. وكذا هو الحال في القضايا الاخلاقية، حيث يكفيني ان اثبت موضوعية مصداق واحد فحسب لكي اعتقد بموضوعية القضية الاخلاقية على نحو الاجمال.
مع هذا ففي مصاديق القضايا الاخلاقية ذات الصلة بالموضوعية قد يكون بعضها واضحاً للعيان وهو المطلوب، فيما تكون مصاديق اخرى محل التباس واختلاف لحملها اكثر من زاوية للنظر، مما يجعل الاختلاف حولها واسعاً. فمثلاً حين تشن دولة حرباً تعتبرها عادلة ضد دولة اخرى؛ ينقسم الناس بين مؤيد ومخالف، فهي حالة ملتبسة احياناً. او حين يُحكم بالاعدام على شخص قام بجريمة قتل متعمدة، فقد يختلف حوله الحكم بين الناس ان كان يستحق الاعدام ام عقوبة اخف وطأة.
وللموضوعية اصناف مختلفة على الصعيدين الانطولوجي والابستمولوجي. فمن الناحية الانطولوجية ان للموضوعية التي نرصدها اشكالاً متعددة وجميعها يقع في قبال ما هو ذاتي ونفسي. فقد تكون الموضوعية ذات صفة طبيعية فيزيقية. كما قد تكون ميتافيزيقية، وهي على اشكال، اذ قد تكون اعتبارية حيث وجودها لا يتعدى العلاقة الكائنة بين حالتين او شيئين للظاهرة الموضوعية دون ان يكون لها كيان ميتافيزيقي خاص، كما قد يكون لها كيان ميتافيزيقي. والاخير على شكلين منفصل مستقل مثل الوجود الإلهي والعالم المثالي الافلاطوني، ومتصل غير منفصل مثل حال الصفات الالهية.
ومن حيث التعداد ثمة اربعة اشكال للموضوعية كالتالي:
أ ـ فيزيقية طبيعية.
ب ـ ميتافيزيقية اعتبارية.
ج ـ ميتافيزيقية مستقلة.
د ـ ميتافيزيقية تعلقية.
أما من الناحية الابستيمية فقد تكون الموضوعية قبلية حدسية او مستدلاً عليها من الخارج. فاذا لم يكن للموضوعية تبرير من الاعتقاد الاستدلالي القائم على الواقع الخارجي فلا بد ان تكون قبلية حدسية، وذلك فيما لو لم نجد لها مصداقاً تجريبياً او حسياً يثبت وجودها او يبرر افتراضها، بل يكفي ان يدركها العقل حدساً كي تتصف بالمطلقية والموضوعية. وغير هاتين الحالتين يرتد الشيء الى الانحيازات الذاتية، كما في الاهواء والعواطف والتأثيرات النفسية والاجتماعية غير المنضبطة، يضاف الى ذلك استبعاد اطروحة ان يكون مصدر الحدس ذاتياً غير موضوعي، أي انه مخترع عقلي كما يأتي بيانه الآن..
هل الحدس الاخلاقي مخترَع؟
قد نتردد في مرجعية الحدس ان كان مخترعاً او كاشفاً، وينطبق هذا الحال على الاخلاق الحدسية. فقد يراها البعض من اختراعات العقل، فيما يراها اخرون من مكتشفاته.
وبلا شك لو اعتقدنا بانها مخترعة عقلياً لما كان لها قيمة موضوعية، في حين حينما تكون مكتشفة، فهذا يعني انها موضوعية وفق عدد من التصورات التي تحدد طبيعة موضوعيتها كما سيأتي..
ان اقوى نظرية يمكن الاستناد اليها في اعتبار الحدس الاخلاقي مخترعاً هي نظرية التطور الدارويني، حيث الادعاء بان النظام الاخلاقي تم تطوره كحال التطور العقلي والذهني للبشر وفقاً لقانون الانتخاب الطبيعي. لكن نقطة ضعف هذه الاطروحة هي ان التسليم بها يفضي الى القضاء على موضوعية كل من القيم المعرفية والاخلاقية. فلداروين شكوك حول موضوعية المعرفة العقلية للبشر. وتنعكس هذه الرؤية على قيمة نظريته حول التطور البايولوجي، إذ في هذه الحالة تصبح لا قيمة لها موضوعياً. فاذا كان العقل البشري نتاج التطور البايولوجي الطبيعي من دون توجيه معنوي خالص؛ فإن كل منتجاته المعرفية تصبح افرازات عضوية، وهو ما يعني القضاء على المعرفة البشرية قاطبة.
وينسحب هذا الحال على المبادئ الاخلاقية التي تبدو لنا ثابتة. وكان داروين يعي هذه النتيجة البائسة، فمن وجهة نظره ‹‹ان جميع المبادئ الاخلاقية قد نمت عن طريق التطور››[10].
وعلى هذه الشاكلة شكك بعض الباحثين الغربيين بجميع الضرورات العقلية؛ سواء كانت رياضية او منطقية او اخلاقية او غيرها. واعتبر ان ما نراه ضرورياً انما يتعلق بعقول البشر خاصة، أما لو كانت هناك عقول اخرى فلربما لا ترى هذه الضرورات صحيحة[11].
وبلا شك ان هذا الرأي يفضي الى التشكيك بالقيمة المعرفية للبشر، ومنه ما يتعلق بهذا الطرح ذاته.
وعموماً لو كان الحدس الاخلاقي مخترعاً فان حاله يقتصر على البشر ككل او بعض منهم. اي انه لا مبرر لجعله يتجاوز الحدود البشرية. في حين لو كان مكتشفاً فسيتخذ بالضرورة طابع الكونية والشمول، بمعنى انه لا يصدق لدى فئة من البشر دون اخرى، كما انه ليس مقيداً بالحالة البشرية، فسواء كان البشر موجودين او غير موجودين فان لعالم الاخلاق طابعه الموضوعي الذي يتقبل الاكتشاف لذوي الذكاء مثل البشر. وهو حال يقضي على فكرة وجود شرط خارجي تتحدد به طبيعة الاخلاق؛ مثل سلطنة حق الملكية لدى المذهب الاشعري قديماً، والمذاهب النسبوية حديثاً.
وعندما نثبت ان الحدس الاخلاقي كاشف غير مخترَع؛ فهذا يعني ان كل ما هو حدسي هو موضوعي من دون عكس. بمعنى ان بعض القضايا الموضوعية نستمدها من الخارج عبر الحس والتجربة دون ان تكون حدسية. في حين ان الحدسيات لا يمكن ان يكون مصدرها الحس والتجربة، كما اسلفنا.
وعموماً تتصف كل القضايا العقلية بالموضوعية والحدس. واذا كان بعضها يشير الى الواقع الخارجي بنحو ما من الانحاء، مثل السببية العامة، فان البعض الاخر لا يشير الى هذا الواقع، كالرياضيات مثلاً. فتعبيري عن الاثنين بانها جمع للواحد مع الواحد هو ليس كلحاظي لجمع هذا القلم مع ذلك القلم، كما ان تصوري لمثلث قائم الزاوية هو ليس كتحديدي للمثلث في الواقع الموضوعي، حيث مهما بلغت دقتي في استكشاف الواقع وقياسه فانها لن تكافئ مثالية المفهوم الذي اضعه في العالم الرياضي الصرف، كالمثلث والمربع والدائرة وغيرها. لذلك تتصف الرياضيات التجريدية بانها ليست حسية او تجريبية، ومثلها يمكن النظر الى القضايا الاخلاقية، فكلاهما لا يشيران الى شيء حسي، كما كلاهما حدسيان موضوعيان، لكن رغم ذلك فقياساتهما مختلفة عن بعض، وعن سائر العقليات الاخرى.
أصناف القضايا الاخلاقية
من جانب اخر ليست كل القضايا الاخلاقية حدسية او موضوعية، حيث يمكن تقسيمها الى ثلاثة اصناف كالتالي:
1- اخلاق حدسية قبلية، وهي تلك التي يدركها العقل بشكل واضح قبلياً، وتتصف بانها شمولية مطلقة، مثل العدل حسن ومطلوب، والظلم قبيح ومردود.
2- اخلاق موضوعية غير حدسية، وهي كسْبية تعلمية، مثل الالتزام بالقوانين الوضعية والدينية، كالالتزام بقوانين السرعة واشارات المرور للمركبات كالسيارات وغيرها، وتتصف بالنسبية دون الاطلاق، حيث تعتمد على خصوصية الثقافات والحضارات والاديان والاعراف، لذلك فانها ليست مطلقة ولا تمتلك صفة الشمول والتعميم.
3ـ اخلاق ذاتية غير موضوعية، وهي تلك الناتجة عن المزاج النفسي والعاطفي بتقلباته غير المبررة موضوعياً.
وللاختصار تتدرج القيم الاخلاقية كالتالي:
1- حدسية قبلية
2ـ موضوعية كسْبية
3ـ نفسية ذاتية
هكذا فالتمييز بين الاخلاق الحدسية والاخلاق الموضوعية غير الحدسية هو ان الاولى متضمنة في العلم الحضوري من الناحية الابستيمية، وهي شمولية كونية مطلقة لا تتقبل نهج الاعتبارات المختلفة من الناحية الانطولوجية كما يدل عليها الحدس، في حين ان الثانية متضمنة في العلم الكسْبي من الناحية الابستيمية، ولها صفة الاعتبارية النسبية، اذ تتأثر بالنواحي الخارجية على الصعيد الانطولوجي، مما يجعلها غير حضورية ومن ثم ليست حدسية، رغم انه ليس لها ادنى اعتبار فيما لو تصادمت مع الاخلاق الحدسية بشكل واضح وصريح. فهي بالتالي مشروطة بالاخلاق الحدسية.
لذلك فمن حيث تراتب القيم تكون الاخلاق الحدسية في قمة الاعتبار، ثم بعدها الاخلاق الموضوعية غير الحدسية، واخيراً الاخلاق الذاتية الشخصية ذات الطابع النفسي الصرف.
وكثيراً ما يتم الامتزاج بين هذه الاصناف الثلاثة، فقد يختلط النظام الاخلاقي الحدسي مع الموضوعي كما في حالة السرقة، فهي من الناحية الحدسية قبيحة، لكن تقدير العقوبة الخاصة بها لا يُعرف من خلال الحدس العقلي، لذلك كانت الحاجة للاخلاق الموضوعية ان تحددها عبر القوانين الدينية والوضعية. كما قد تختلط الاخلاق الموضوعية غير الحدسية مع الاخلاق الشخصية. كذلك قد تختلط الاخلاق الحدسية مع الاخيرة. وقد تمزج الثلاثة معاً. ففي نفس مثال السرقة، قد يتعرض السارق الى العقوبة الدينية او الوضعية، لكن تنفيذها يمكن ان يعتمد على المزاج الشخصي للمنفذ، فقد يقسو في التنفيذ، او يخفف من عبء العقوبة.
[1] ابن سينا: النجاة في المنطق والالهيات، ص138.
[2] ابن سينا: النفس من كتاب الشفاء، تحقيق حسن زاده الآملي، نشر مكتب الاعلام الاسلامي، قم، 1417هـ، ص284-286.
[3] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص234. ولاحظ أيضاً: عدة الأصول، ج2، ص759. كذلك النظام المعياري.
[4] Makie J. L. The subjectivity of Values, in Essays on Moral Realism. p. 112
[5] Harman, G. Ethics and Observation, in Essays on Moral Realism. p.123
[6] Boyd, R. N. How to be a Moral Realist, in: Essays on Moral Realism. p. 184-185
[7] Boyd, R. N, p. 206
[8] Sayre-McCord, G. Introduction: The Many Moral Realism, in Essays on Moral Realism. p. 21
[9] سبق ان استعرضنا هذه الاتجاهات في (النظام المعياري).
[10] للتفصيل انظر: جدليات نظرية التطور.
[11] Learm, J. Ethics Mathematics and Relativism, in Essays on Moral Realism. p. 82