يحيى محمد
قيل ان اول طرح لمسألة اصالة الوجود والماهية جاء في عصر الميرداماد وتلميذه صدر المتألهين، وذلك على شكل سؤال مفاده: هل الأصالة للماهية ام الوجود ؟1 لكن مع هذا فإن مضامين البحث قد عولجت صراحة قبل هذا العصر بكثير، كالذي يظهر جلياً لدى المناقشات التي أثارها السهروردي حول الموضوع. وبغض النظر عن هذه القضية فالملاحظ ان ما سلّم به الفلاسفة من كون المبدأ الاول محض الوجود؛ جاء من حيث التمييز بين نوعين من العلاقة للوجود، احدهما يخص علاقته بهذا المبدأ، والاخر يخص علاقته بالممكنات. ففي الممكنات هناك فرق جلي بين ماهية الممكن وبين وجوده العارض عليه من الخارج، فمن حيث انه ماهية فانه لا يوصف بالوجود، ومن حيث اعتباره موجوداً فهو ان ماهيته قد عرض عليها الوجود، وهذا الحال لا يمكن تطبيقه على المبدأ الاول والا تسلسل الامر، وبالتالي فلا بد من اعتبار ماهيته عين وجوده، او انه عبارة عن محض الوجود بلا عارض ولا معروض.
ولا شك ان هذا التقرير يثبت اصالة الوجود الفعلي سواء بالنسبة للمبدأ الاول، او الممكنات. فمن حيث المبدأ الاول ان ماهيته لا يمكن عزلها وتجريدها عن وجوده والا افضى ان يكون كالممكن ممن يعرض عليه الوجود، او يقترن به فيكون مركباً، او ينتفي عنه فيكون عدماً، او انه يكون محض الوجود فيحصل المطلوب. أما من حيث الممكنات فواضح من حيث التفرقة الحاصلة بين ماهية الممكن ووجوده، حيث الماهية غير الوجود، وبفضل الوجود وعروضه عليها تكون موجودة، مما يعني ان الوجود هو الاصيل وليس الماهية.
على ان حكم الفلاسفة على المبدأ الأول بأنه محض الوجود الفعلي هو في حد ذاته يبرر أصالة الوجود في الممكنات، تبعاً لقانون السنخية والتناسب، حيث لا يصدر عن الوجود المحض إلا الوجود. وبالتالي كان من المنتظر ان يسلم الفلاسفة بهذه الأصالة، لكن واقع الحال غير ذلك، إذ نجد هذه المفارقة لدى العديد منهم، كالذي نُسب إلى السهروردي، حيث جمع بين أصالة الماهية في الموجودات الطبيعية وبين إعتبار المبدأ الأول وجوداً محضاً. فقد دافع أشد الدفاع عن أصالة الماهية في الممكنات الطبيعية ولم ير حرجاً - فيما نُسب إليه - من تبني القول بحقيقة كون المبدأ الأول محض الوجود الفعلي، بل واعترف صراحة بوجودية النفوس الإنسانية وما فوقها من غير ماهية، فوقع في تناقض صارخ كما نبّه على ذلك صدر المتألهين، إذ كيف حقّ له ان ينقد أصالة الوجود ويعدّه محض إعتبار مع انه قائل بوجودية المبدأ الأول وغيره من المفارقات والأنوار[1]. فكيف يمكن ان يكون ما هو إعتباري في موضع ليس إعتبارياً في موضع آخر. فإذا كان إعتبارياً في الممكنات الحدوثية كيف جاز ان لا يكون إعتبارياً في حق المبدأ الأول والمفارقات العليا؟!
اذن ان الاعتقاد بالسنخية لا يسمح بوجود حقيقتين مختلفتين في العين، فاما ان يكون العين معبراً في الاصل عن الوجود فقط، او الماهية فقط، ولا يجوز الجمع بينهما الا على حساب هذا المولد المعرفي. وبالتالي فان القول بوجودية بعض المراتب وماهوية المراتب الاخرى ينطوي على هذه المفارقة. وهو الامر الذي دعا صدر المتألهين الى ان ينكر ان تكون الماهيات (الكلية) صادرة عن المبدأ الاول لفقدان المناسبة بينهما3، فلا يصدر عن الوجود الا وجود، كما لا تنشأ عن الماهية الا مثلها. وبعبارة ثانية ان الوجود الفعلي إما ان يكون عند الكل محض اعتبار وانتزاع، او هو عيني من غير فصل بين بعض واخر. فبحسب قانون السنخية لا يعقل ان يكون عينياً لدى البعض، واعتبارياً لدى البعض الاخر. وبالتالي فحيث يكون عينياً لدى مبدأ الوجود الاول فانه لا بد ان يكون عينياً ايضاً لدى سائر الممكنات والمحدثات.
مع هذا فان ما يبرر وقوع السهروردي في الحرج السابق واضطراره الى تلك المفارقة - على فرض صدق ما نُسب اليه - هو انه اراد التفرقة بين حقيقة الممكنات وبين المبدأ الاول من خلال لازم الماهية. فمن حيث المبدأ ان لازم الماهية إما ان يكون الامتناع او الوجوب او الامكان، فعلى هذا التقدير لمواد القضية استنتج ان الماهية لو كان لازمها الامتناع لما تحققت الممكنات، ولو كان لازمها الوجوب لكانت الممكنات واجبة، لذا فان لازمها الامكان بالضرورة، وعليه فكل ما يقع ويحدث من اشياء فستظل هناك اشياء اخرى ممكنة الوقوع الى غير نهاية. فبهذا الشكل توصل الى ان واجب الوجود لا يمكن ان يكون ماهية، والا كان ممكناً باعتبار ان لازمها الامكان وعدم الوجوب.4
لكن المشكلة لم تحل بعد. فهو يرى - كما ينقل عنه صدر المتألهين - ان النفس البشرية وما فوقها من المفارقات والانوار كلها من الواجبات لا الممكنات، لكونها ليست من الماهيات، مع انه يعتقد في الوقت ذاته بان النفس البشرية حادثة وغير سابقة الوجود للبدن5، وهو ما يناقض كونها واجبة.
ومهما يكن الحال فان السهروردي في استدلاله السابق قد جانب الصواب، اذ يمكن القول ان لازم الماهية يجوز ان يكون واجباً وممكناً وممتنعاً، لا بحسب الماهية بمفهومها العام، بل تبعاً لطبيعة الذوات والانواع. فقد يصدق ان تكون من طبيعة بعض الماهيات الامكان كما هو الحال مع الاجسام. كما يصدق ان تكون من طبيعة غيرها الامتناع كما هو الحال مع شريك المبدأ الاول. وكذا يجوز ان تكون من طبيعة بعض الذوات الوجوب كما هو الحال مع ذات هذا المبدأ.
ورغم ذلك لا نستبعد ان يكون تعبير السهروردي عن المبدأ الاول بانه محض الوجود هو تعبير غير مراد على حقيقته، فربما اضطر اليه كالعديد من الفلاسفة6. بدليل انه في كتاب (المشارع والمطارحات) لوّح بعدم اقراره بعينية الوجود لذلك المبدأ تبعاً للمعنى الفعلي الذي اكد عليه القائلون باصالة الوجود. اذ اعتبر الادلة التي اقامها الفلاسفة على اثبات المسألة الالهية محكومة باعتبار القول باصالة الوجود، وهي ادلة لا تصح عند من يعدّ الوجود امراً اعتبارياً7. ويمكن تفسير الموقف لدى السهروردي بان سمح لان يعبر عن ماهيته بانها الوجود من حيث جواز الوصف بالامور الاعتبارية. وسبق له ان اعتبر الوحدة مفهوماً اعتبارياً لا يلزم من وصفنا للحق بها ان تزيد على ذاته. وكذا لا يعني اعتبار ماهيته الوجود ان لهذا الاخير حقيقة عينية. وهو وإن قرر بان الحق لا ماهية له، لكنه ليس بصدد نفي الماهية عنه على نحو الاطلاق، انما عنده هي تلك التي اذا كانت فهي ليست في موضوع.8
وعلى العموم يمكن القول ان اغلب الادلة التي قُدمت لاثبات اصالة الوجود هي ادلة جدلية تفيد نقض اصالة الماهية على ما تعنيه من معنى النوع والجنس الذي لا يأبى التكثر والاشتراك، وهي لهذا لا تثبت اصالة الوجود الفعلي بالضرورة، اذ يصبح الامر مردداً بين هذه الاصالة وبين اصالة الوجود الذاتي، اي الذات المشخصة. وحتى السهروردي الذي يقر باصالة الماهية فانه احياناً يصرح بانه لا يريد من الماهية غير الحقيقة الخارجية، فهو من جهة ينفي وقوع الطبيعة النوعية من حيث انها نوعية في الاعيان9. كما انه يفهم معنى الماهية عين حقيقة الشيء الخارجي، لذا فقد ايد القائلين باصالة الماهية ورد على من يقول بان الفاعل اذا أوجد يعطي حقيقة الوجود، فعارض ذلك بان الفاعل يعطي نفس حقيقة الشيء لا شيئاً اخر.10
على ان اهم ما يُذكر من الادلة الجدلية التي تنقض اصالة الماهية بالمعنى النوعي او الكلي الطبيعي ما يلي:
1ـ ان الوجود الحقيقي هو نفس التحقق فكيف لا يكون موجوداً. بل لو لم يكن الوجود موجوداً لما امكن ان يوجد شيء. فالماهية من حيث ذاتها بما هي هي؛ ليست موجودة ولا معدومة، فلولا كون الوجود موجوداً لما صارت مستحقة لحمل الوجود عليها.
2ـ يعتبر الوجود الذي يترتب عليه اثاره واحكامه حقيقة كل شيء، فهو احق الاشياء بان يكون ذا حقيقة، وذلك لان غيره - اي الماهيات - بواسطته يصبح ذا حقيقة، فيكون بذلك حقيقة كل ذي حقيقة، ولا يحتاج بنفسه الى حقيقة اخرى، بل هو بذاته في الاعيان، وغيره به يكون فيها.
3ـ ان بالوجود يحصل الفارق بين الذهن والخارج، من حيث ترتب الاثار والاحكام على الثاني دون الاول، فلولاه لكان حالهما واحداً من دون ترتب تلك الاثار والاحكام. فمثلاً لولا ذلك لكانت النار لا اثر لها من جهة الاحراق والتسخين وسائر العوارض الاخرى، بل لكانت مجرد مفهوم صوري فحسب، كما هو الحال مع سائر المفاهيم الذهنية.11
ومن الواضح ان اساس هذه الادلة يتضمن المنطق القائل (ان الذات بلا وجود هي اللا وجود او العدم)، وهو صحيح لا شك فيه، لكن من الواضح ايضا ان الوجود بلا ذات هو لا شيء ايضاً. على هذا كان التلازم بينهما امراً مؤكداً، وهو ليس من قبيل التلازم بين امرين لكل منهما حقيقته المنفصلة، بل كلاهما يعبران عن حقيقة واحدة، فبما كون الشيء ذاتاً متشخصة فهو موجود، وكذلك بما انه موجود فهو عبارة عن ذات متشخصة، سواء كان له اثر او تأثير ام لم يكن، وسواء كان في الذهن او الواقع بلا فرق، وهو ما لم تستدركه الادلة السابقة، اذ اعتبرت الوجود مختصاً بالواقع دون الذهن، وإن كان من المتفق عليه ان الوجود لا يختص بالخارج، بل يطال العالم الذهني، فالماهية في العقل عبارة عن وجود لها فيه.12
لكن رغم ذلك يظل التشخيص للذات لا الوجود، فلا يصح اعتبار الوجود بما انه متشخص فهو موجود، حيث التشخص لا يصدق الا على ما هو ذات، فهي من حيث ذاتيتها تكون موجودة، وبغيرها تصبح عدماً محضاً. وبالتالي ليس للوجود في حد ذاته حقيقة ما، بل حقيقته تنبع من نفس كون الذات ذاتاً، فبهذه الحيثية وحدها تستحق نزع الوجود عليها صفة؛ كما في نزع اللون الابيض على الشيء. وهذا يعني ان الوجود بحسب حقيقته يتوقف على الذات من غير عكس، وان كان يسبقها من حيث التقدم العقلي، وذلك لانه لا ذات من دون وجود.
اذن هناك تلازم بين الوجود والذات، فلا ذات بدون وجود، ولا وجود بدون ذات، الا ان حيثية عين الذات تكفي لنزع الوجود عليها، ولا يمكن ان يقال بان حيثية الوجود كافية لنزع الذات عليه، حيث الوجود ليس بشيء حتى يمكن ان ننزع عليه الذات، ولهذا لا يمكن وصفه بانه مذوّت، بخلاف الذات التي نصفها بانها موجودة. وشبيه بهذا الحال تلك العلاقة التي تخص العرض بالجوهر، كعلاقة اللون بالجسم، فرغم التلازم بينهما فانه يصح خلع صفة اللون على الشيء من غير عكس، فنقول الجسم ملون، ولا نقول اللون مجسم، مع ان كل جسم ملون، وكل ملون هو جسم. والسبب في ذلك هو اننا ندرك بان وجود اللون في ذاته غير معقول، وانه حيث نفترض وجوده لا بد ان نقدره مشخصاً تبعاً لوجود الجسم من دون عكس.
اذن طبقاً لما سبق يصح ان نقول بوجه ان الوجود عين الماهية كما يقول صدر المتألهين، ومرادنا نفس مراده إن كان يعني بالوجود هو الوجود الذاتي، فهذا المعنى يجمع ما بين الوجود والماهية، فهو وجود من حيث العينية الخارجية، وهو ماهية من حيث الذات. وبالتالي فالقول باصالة الماهية استناداً الى هذا المعنى صحيح، وكذا القول باصالة الوجود استناداً اليه صحيح ايضاً، وبالتالي ليس هناك من فرق بين الوجود والماهية.
وبهذا التحقيق يمكننا الجواب على اهم الادلة الواردة حول اعتبار المبدأ الاول محض الوجود، والتي منها ما قيل لو كان هذا المبدأ ماهية سوى الوجود لكان مركباً؛ لان الماهية بحسب حالها لا تقتضي الوجود ولا العدم، ولو اعتبرت موجودة فلا بد من ان يكون هناك شيء ما يضاف اليها لكي تكون موجودة، وهذا الشيء المضاف هو الوجود، وبالتالي لا بد ان يكون الشيء وكذا ذات الحق عبارة عن الوجود والماهية معاً فيحصل التركيب13. ومن هذه الادلة ايضا انه لو كان للمبدأ الاول ماهية وراء وجوده الخاص لكان وجوده زائداً عليها وعارضاً لها، وحيث ان كل عرضي معلل، فلا بد ان يكون وجوده معلولاً إما لماهيته او لغيرها، وكلاهما واضح الاستحالة.14
والجواب على ذلك كله يأتي بما سبق طرحه حول علاقة الوجود بالذات، فمن حيث كون الشيء ذاتاً فهو موجود؛ بدون ان يستوجب عروض او زيادة امر اخر وراء حيثية الذات نفسها، بل من غير الصحيح عدّ المبدأ الاول محض الوجود بالمعنى الفعلي، بل يشار اليه كما ورد في الاحاديث بانه شيء لا كالاشياء، او بما جاء في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} الشورى/11. اذ من المحال التسليم بمحض الوجود الفعلي، انما يمكن قبول الاشارة اليه بالوجود المحض مجازاً لعدم انفكاك الوجود عنه بخلاف الممكنات. مع تقديرنا ان حمل هذا الوصف على حقيقته الفعلية كان مغرياً لدى الفلاسفة، اذ مكّنهم من اثبات وجود المبدأ الاول وتوحيد صفاته ونفي الشرك عنه بجرة واحدة. اذ لو كان هذا المبدأ عين الوجود فان من السهل اعتباره عين العلم والقدرة والارادة والحياة ما دام الوجود حقيقة واحدة غير قابلة للتعدد، فبهذا يكون المصداق واحداً رغم اختلاف المفاهيم15. وهو عبارة عن ذريعة اخرى لنفي الشرك عنه، حتى صرح بعضهم بانه لولا حقيقة الوجود العينية لكانت شبهة ابن كمونة في جواز الشريك شديدة الورود16.
هكذا لو اعتبرنا الوجود عين الماهية في الخارج وإن كان في الذهن غيرها، فإن النزاع حول اصالة أي منهما يؤول الى نزاع لفظي، فالماهية هنا ليست نوعاًً ولا جنساً وانما هي تلك الحقيقة ذات الهوية الشخصية المعبر عنها بالذات او الهوية. فالقائلون باصالة الماهية واعتبارية الوجود انما يرون نفي حقيقة الوجود الفعلي المعبر عنه بالكون والثبوت، ولا يريدون نفي الوجود الذاتي المعبر عنه بتشخص الذات.
مع هذا يمكن تقرير ان ما ألفناه من القول بالوجود الذاتي، او الذات المشخصة، قد يعطي انطباعاً باننا نعد الموضوع الخارجي عبارة عن ذات تتضمن الثبات والسكون، في حين ان الممكنات الحادثة، او الكائنات الطبيعية، لا تخضع الى مثل هذا المعيار. وبالتالي يمكن اعتبار الممكن الحادث ليس مجرد وجود ذاتي بالمعنى المألوف، انما حقيقته تعبر عن ‹‹وجود صيرورة››. فهو مؤلف من امرين متلازمين: احدهما يمكن التعبير عنه بانه مادة او شيئية لا يمكن تحديدها بمعزل عن الامر الاخر. والثاني كون هذا الشيء غير المحدد هو في حالة من الوجود الفعلي المتكرر والمتغير بلا انقطاع، فهو في صيرورة حدوثية يتجدد فيها الوجود الفعلي بشكل دائم لا يقف عند حد. والمهم في الامر هو انه بفضل الصيرورة تتحدد ماهية الموضوع الخارجي، وتنشأ الذات، او ما يطلق عليه الوجود الذاتي، ولولاها ما كان للاشياء ماهية بالمعنى الذي ندركه، او انه بغير الصيرورة يكون العالم، إن شاء له الوجود، شيئاً اخر غير ما نعهده.
وعليه نحن لسنا امام عنصرين كالماهية والوجود، بل ثمة عناصر ثلاثة يتضمنها الموضوع الخارجي كما يلي:
الاول: الشيئية الوجودية، وهي قابلة للادراك بحسب التحليل العقلي. ويمكن التعبير عنها بالمادة والهيولى، فهي الاصل الذي تتوارد عليها صيرورة التجددات، ولا اقول الصور، اذ ان هذه الاخيرة ناشئة بفعل الامرين معاً، الشيئية والصيرورة.
الثاني: الصيرورة، وهي عبارة عن تجدد كينونة الشيئية ووجودها بلا انقطاع. ومن الناحية المنطقية ان الصيرورة لا يمكن تصورها من غير ان تكون واردة على تلك الشيئية الوجودية، وليس العكس صحيحاً، اذ للعقل ان يتصور وجود الشيء من غير صيرورة، في حين ان تصور الصيرورة الوجودية من غير شيء هو امر غير ممكن ولا معقول.
الثالث: الذات، وهي مركبة من الشيئية الوجودية وصيرورتها، ولو ان احد هذين العنصرين كان مفقوداً لما تمّ للذات ان تكون كما هي عليه، ولحلّ الخراب على العالم المشهود. وبهذا نعرف ان الاصالة ليست للوجود او الماهية بمعناهما التقليدي، او ما عبرنا عنهما بالوجود الفعلي والذاتي، وانما هي لما سميناه (الوجود الصيروري).
لكن الوجود الصيروري للكائنات الطبيعية على انحاء من حيث قابلياتها المفتوحة، واشدها مرونة تلك التي للانسان، فهويته لا تتحدد بشخوصه وحضوره، انما فيه امكانات اخرى تجعله ينقلب عما هو عليه صعوداً ونزولاً بلا توقف17. لذلك استساغ العديد من المفكرين الغربيين ان يضفوا عليه صفة الوجود دون غيره من الكائنات التي اعتبروها مجرد ماهيات ساكنة، رغم التفاوت الحاصل بين المرونة والثبات لدى هذه الكائنات، لكنها في جميع الاحوال لا تقارن بالامكانات المفتوحة لدى الانسان. فهايدجر - مثلاً - يرى ان الانسان هو وجود مقذوف على الدوام الى الامام؛ مستبقاً نفسه وفق الامكانات الجديدة18، لذلك يستعصي على الفهم والادراك مقارنة بغيره، كما هو واضح مما تعاني منه الدراسات الانسانية الحديثة.
لفظ الوجود والالتباس اللغوي
تعد المسائل الفلسفية من اكثر القضايا التي تستقطب الملابسات اللغوية والمنطقية، وهي بذلك تخلق مشاكل وهمية او تدفع الى ايجاد نظريات ما كان لها ان تكون لولا هذه الملابسات. لكن هذا لا يدعونا الى نتائج متطرفة كالتي ذهبت اليها بعض الاتجاهات الغربية الحديثة فاخذت تعلن بان المسائل الميتافيزيقية لا تعبر عن مشاكل حقيقية ولا توجد معان وراء ما يذكر من العبارات الفلسفية، تعويلاً عن كون اللغة هي مصدر تلك المشاكل الزائفة، وبالتالي فان حلها لا يتم الا عبر التحليل اللغوي فحسب. وابرز من يمثل هذا الخط هو تيار الوضعية المنطقية ومن على شاكلتها من امثال فتجنشتاين Wittgenstein.
وقد كان علماؤنا القدماء على وعي بأثر الملابسات اللغوية على النتاج الفكري، ومنه النتاج الفلسفي. ومن ذلك ان الامام الغزالي اعتبر الكثير من اخطاء المتكلمين نابعاً من الوهم اللغوي، حيث تطلب المعاني من الالفاظ دون العكس. فهو يقول: ‹‹اذا انت امعنت النظر واهتديت السبيل عرفت قطعاً ان اكثر الاغاليط نشأت من ضلال من طلب المعاني من الالفاظ، ولقد كان من حقه ان يقدر المعاني اولاً ثم ينظر في الالفاظ ثانياً، ويعلم انها اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات››19.
ومن الفلاسفة من اخطأ بسبب التعبير اللغوي عند محاولته الاستدلال على نفي صفات المبدأ الاول، حيث اعتبر وجودها يفضي الى تكثر جهتي الفاعلية والقبول في ذات هذا المبدأ. وموضع الالتباس كما نبّه عليه صدر المتألهين هو انه قد اخذ القبول بمعنى الانفعال التجددي مكان القبول بمعنى مطلق الاتصاف20. او كما يقول ابن سينا: ‹‹ليس هناك قابل وفاعل، بل من حيث هو قابل فاعل››.
ومن بين الالفاظ الملتبسة المؤثرة في العلاجات الفلسفية لفظة (الحوادث). فقد استخدمت هذه اللفظة لدى المتكلمين للدلالة على خلق العالم ونفي قدمه الزماني، فهي تشعر ‹‹بان لها ابتداء، كالحادث المعين والحوادث المحدودة››. في حين هناك فرق بين هذه الحوادث وبين جنس الحوادث، فلا مانع من ان تكون الحوادث متصلة منذ الازل. وهذا ما لم يتداركه علماء الكلام، فانساقوا الى المعنى المألوف من اللفظة، ووقعوا في المغالطة لدى اثباتهم للخلق والخالق. وعلى هذه الشاكلة الاستدلال المغالط على ما لا يتناهى من جهة الماضي عبر المثال التالي: ‹‹انك لو قلت لا اعطيك درهماً الا اعطيك بعده درهماً كان هذا ممكناً، ولو قلت لا اعطيك درهماً حتى اعطيك قبله درهماً كان هذا ممتنعاً››. فهذه الموازنة ليست صحيحة كما دل عليها ابن تيمية، اذ الصحيح هو ان تقول: ‹‹ما اعطيك درهماً الا اعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماضي كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل››21. ولا شك ان لهذا التصحيح اللغوي ثمرة فلسفية حول البحث عن امكانية وجود حوادث ليس لها بداية محددة.
ولفظ الوجود هو من اكثر الالفاظ مدعاة للبس والخلط والايهام، وقد اوقع الفلاسفة في مطبات الاختلاف والتناقض، لشدة ما اكتنف معناه من غموض وابهام. فقد وُصف انه اظهر من كل شيء تحققاً وإنية؛ حتى قيل فيه انه بديهي، كما وُصف انه اخفى من جميع الاشياء حقيقة وكنهاً؛ حتى قيل انه اعتباري محض22. فمثلاً في وصف المبدأ الاول بالوجود؛ نعلم ان من المستحيل التفكيك بين ذاته وبين وجوده لانه ازلي، الا ان هناك فرقاً واضحاً بين العبارتين التاليتين، الاولى ان نقول: ‹‹هذه الذات هي ذات موجودة ازلاً››، والثانية ان نقول: ‹‹ان هذه الذات هي محض التحصل والكون والوجود››، فلا شك ان العبارة الاولى سليمة لا اشكال عليها، بخلاف العبارة الاخرى التي لا تعقل، وفقاً للمعنى الفعلي. وما فعله الفلاسفة هو انهم استنتجوا قضيتهم في العبارة الثانية تعويلاً على الاولى. فمفاد الاولى هو الاعتراف بكون الشيء بلا وجود لا ثبوت له في العين، فمن هذه المقدمة الحقة ظهرت المغالطة في مفاد العبارة الثانية، وهي النتيجة التي تعتبر الوجود احق الاشياء بالثبوت لانه المنبع لعد الاشياء موجودة.
والحقيقة ان الاشياء بالوجود توصف موجودة، وهو حق لا ريب فيه، لكنه لا يقتضي ان يكون له ثبوت خارجي تنبع منه الاثار. وكما يرى السهروردي فان قولنا لشيء ما بانه موجود في الاعيان لا يعني ان له وجوداً في الاعيان ليصح حكمنا السابق عليه، كما يدعي اصحاب اصالة الوجود، فحكمنا على الشيء وحملنا عليه بشيء لا يدل على وجوده في العين23. فحال الوجود كحال البياض الذي يُشرط الشيء الابيض به، رغم عدم وجود دلالة على ثبوته مستقلاً، باعتباره مصدراً من الصفات الاضافية النسبية. فكما لا يقال للبياض ابيض فانه لا يقال للوجود موجود، لكن يصح ان يقال للشيء ابيض او موجود، حيث من شرط وجود الشيء الابيض ثبوت صفة البياض وتقدمها عليه عقلاً، رغم عدم ثبوت البياض لنفسه واصالته مستقلاً، وكذا الحال - تماماً - مع الوجود، اذ ليس للشيء ان يتحقق بغير ثبوته كصفة متقدمة عليه عقلاً، ومع ذلك فلا يقتضي ان يكون لنفسه ثبوت في العين كالثبوت الافلاطوني الترانسدنتالي (Transcendent). فالتعبير بان الشيء لا يتحقق الا من حيث تقدم الوجود عليه عقلاً هو تعبير صحيح، لكن ما يترتب على هذه المقدمة من نتيجة في الحاق الاصالة بالوجود هو خطأ باعتباره غير معقول. من هنا يصح اعتبار العلم والقدرة والحياة هي من آثار الشيء الموجود، وان كان لا يصح اعتبارها من آثار نفس الوجود.
ومن الواضح ان هذا التمييز المنطقي لم تراعه ادلة القائلين باصالة الوجود. فبعض الحكماء من امثال صدر المتألهين اعتبر الوجود احق ان يكون موجوداً من الماهيات التي يعرض اليها في ملاحظة العقل، كما ان البياض اولى ان يكون ابيض من المعروض له. وآخر رأى ان الوجود موجود، وكونه موجوداً هو بعينه وجود، وهو موجودية الشيء في الاعيان24. والذي لا يساعد على ذلك كله هو ان معنى الوجود لا يمكن فهمه بدون نسبة الاضافة، وقد التفت الى هذه الناحية بعض المفكرين الاسلاميين كالغزالي الذي اعتبر الوجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول25، وإن كان في (معارج القدس) أيد الفلاسفة في علاقة المبدأ الاول بالوجود وغيرها من المسائل، حيث اعتبر وجود هذا المبدأ عين ماهيته، كما وافقهم في اعتبار صفاته عين ذاته بخلاف ما طرحه في كتبه الكلامية ككتاب (تهافت الفلاسفة) وكتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) وغيرهما26.
وبالتالي فقضية اصالة الوجود هي من القضايا غير المفهومة عقلاً، حالها في ذلك حال ما ذهب اليه الفيزيائيون في افتراض العالم الاحتمالي غير المتعين واقعاً، او في افتراض تمدد الفضاء كوعاء لا محتوى، كالذي فصلنا الحديث عنهما في (منهج العلم والفهم الديني).
هكذا ننتهي الى ان الاصالة في الممكنات الحادثة ليست للوجود الفعلي ولا الوجود الذاتي ولا الماهية بحسب معانيها المألوفة، انما هي لما اطلقنا عليه الوجود الصيروري. وبحسب هذا الوجود هناك ثلاثة عناصر تحدثنا عنها، هي: الشيئية الوجودية، والصيرورة، والذات التي هي مركبة من الامرين السابقين.
1 مرتضى مطهري: شرح المنظومة (للسبزواري)، ترجمة عبد الجبار الرفاعي، نشر مؤسسة البعثة، طهران، الطبعة الاولى، 1414هـ،، ج1، ص64.
2 الشواهد الربوبية، ص14.
3 الاسفار، ج1، ص418-419.
4 المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص29-27.
5 المشارع والمطارحات، ص402. والاسفار، ج8، ص348و353.
6 تأويلنا لما ينقل عن السهروردي جاء على عكس تأويل ما احتمله صدر المتألهين من مذهب السهروردي في علاقة الوجود بالماهية، اذ اعتبر ان ما ذكره في اعتبارية الوجود انما قصد به الوجود العام البديهي التصور وليس الوجود الخاص، او ان غرضه المباحثة مع المشائين ‹‹فانه كثيراً ما يفعل ذلك، ثم يسير الى ما هو الحق عنده اشارة خفية›› (الاسفار، ج1، ص411).
7 المشارع والمطارحات، ص390 وما بعدها.
8 المشارع والمطارحات، ص398-399.
9 المشارع والمطارحات، ص352.
10 المشارع والمطارحات، ص348.
11 راجع: شرح رسالة المشاعر، ص28-33 و41 و48. كذلك المظاهر الالهية، ص14.
12 الاسفار، ج1، ص56.
13 الاسفار، ج1، حاشية ص106.
14 الاسفار، ج1، ص96. ونهاية الحكمة، ص52.
15 الاسفار، ج7، ص238.
16 الاسفار، ج6، ص58.
17 يقول صدر المتألهين بهذا الصدد : ‹‹ان كل موجود من الموجودات الكائنة في هذا العالم له طور واحد من الاطوار لا يتعداه، الا الهوية الانسانية فان لها قابلية الارتقاء من اسفل الاسافل الى اعلى الاعالي›› (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص55).
18 تيري ايجلتون: مقدمة في نظرية الادب، ترجمة احمد جسان، ضمن سلسلة كتابات نقدية (11)، 1991م، ص82، عن الموقع الالكتروني: www.library4arab.com.
19 الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، نشر مكتبة الشرق الجديد، بغداد، 1990م، ص151.
20 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص67-68. والاسفار، ج6، ص210.
21 ابن تيمية: النبوات، دار القلم، بيروت، ص60. ومنهاج السنة، طبعة دار الفكر، ج1، ص121.
22 مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج1، ص14. ورسالة نقد النقود، ص633. والاسفار، ج1، ص260.
23 المشارع والمطارحات، ص346.
24 صدر المتألهين: الاسفار، ج1، ص39-40. ورسالة المسائل القدسية ضمن رسائل فلسفي، مقدمة وتعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، قم، الطبعة الثانية، ص12 و13.
25 الغزالي: تهافت الفلاسفة، دار المعارف بمصر، ص177.
26 الغزالي: معارج القدس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1409هـ ـ 1988م، ص162 وما بعدها.