يحيى محمد
في المجال العلمي قد تحظى النظرية بالقبول رغم ما تحمله من شذوذ. وهو أمر يجعلنا نقرر بأنه لو كانت إشكالية العلم دائرة حول التطابق وما قاربها من درجات معرفية فحسب؛ لكان الشذوذ حالة استثنائية تستوقف النظر في تعارضه مع النظرية.
ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. فخلال ‹‹العقود الستة التي تلت حسابات نيوتن الاصلية لم تتم ملاحظة سوى نصف ما تم التنبؤ به فيما يتعلق بحركة اقرب نقطة على سطح القمر إلى الارض، وهي حركة القمر نحو الحضيض. وبينما واصل افضل علماء الفيزياء النظرية في اوربا دون نجاح محاولتهم حسم هذا التضارب، اقترح في بعض المناسبات تعديل قانون التربيع العكسي الذي قال به نيوتن. بيد ان احداً لم يحمل تلك المقترحات محمل الجد. وقد اثبتت التجربة ان التريث مع حالات الشذوذ الأساسية سلوك له ما يبرره. هكذا تمكن كليروت (عام 1750) من تبيان ان الخلل إنما يعزى إلى اخطاء في تطبيق الرياضيات، وان بمقدور النظرية النيوتنية ان تصمد كسالف عهدها حتى في الحالات التي لم يكن بالمقدور عزو الخلل إلى اخطاء من هكذا قبيل››.
كذلك ان العلماء لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، ففي منتصف القرن التاسع عشر اكتشف العالم الفرنسي لي فرييه ان كوكب عطارد يحيد قليلاً عن مداره حول الشمس، إذ تتغير نقطة أوثق إقتراب له من الشمس تغيراً طفيفاً من مدار للتالي، وهو ما يسمى بتقدم حضيض مدار عطارد نحو الشمس، وعند هذا الحضيض يتسارع الكوكب ثم يعود للتباطؤ، خلافاً لما تنبأت به نظرية نيوتن، ففي نهاية كل دورة لا يصل عطارد إلى النقطة التي تتنبأ بها هذه النظرية، وبفعل هذا الإختلاف المتكرر لحضيض عطارد فإنه يتخذ شكلاً شبيهاً بالوردة مرة كل ثلاثة ملايين سنة، وهو أمر يحدث لكل الكواكب، لكنه يتصف بالتغير الشديد لدى عطارد مقارنة بغيره لقربه من الشمس، أو لقوة جاذبية المجال الشمسي عليه. وعلى مدى أكثر من نصف قرن استهلكت التفسيرات لهذا الانحراف كل الإحتمالات، فقيل بتأثير جاذبية كوكب لم يكتشف بعد، أو حلقة من الكويكبات، أو قمر لم يكتشف بعد، أو تأثير الغبار الكوني، أو تأثير انبعاج الشمس، لكنها جميعاً لم تحظ بقناعة يكسبها القبول، لذلك انقضت (85 سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم إعتبرت شاهداً مكذباً أو بالأحرى مستبعداً للنظرية، وقد تمّ تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين، إذ تفشل جاذبية نيوتن عندما يكون المجال قوياً، وهو ما يميز نظرية أينشتاين، فبحسب نظرية نيوتن تكون الكتلة هي المسؤولة عن التأثير الثقالي كلياً، في حين أنه بحسب أينشتاين فإن للمجال الطاقوي دوره البارز في التأثير. فالنسبية العامة تنبئ بأن مدار عطارد يجب ان يشذ قليلاً، فهو اهليلجي كبقية حركات الكواكب لكن هذا الدوران يحصل ببطئ شديد بالنسبة لمرجع مربوط بالشمس. وقد كان مقدار التغير في اتجاه مدار عطارد معروفاً منذ القرن التاسع عشر، إذ يُقدّر بحوالي (575 ثانية قوسية في كل قرن). وقد تنبأت نظرية نيوتن بأن هذا العدد يجب ان يكون (532 ثانية قوسية في القرن)، أي ان الفارق بين القياسات والتنبؤ هو (43 ثانية قوسية في القرن). بمعنى أنه بحسب القياسات الفلكية فإن مدار عطار يحتاج إلى (225000 سنة) لكي يدور دورة كاملة، في حين بحسب تنبؤ نظرية نيوتن فإنه يحتاج إلى (244000 سنة) كي يدور هذه الدورة. أما بحسب أينشتاين فقد تم تفسير الفارق السابق، وهو (43 ثانية قوسية في القرن)، وذلك بتأثير المجال الطاقوي الثقالي على عطارد. بينما لدى تنبؤ نظرية نيوتن فليس هناك حساب لتأثير الطاقة، بل التأثير الكلي منحصر في الكتلة كما يتضمنه قانون نيوتن للجاذبية أو الثقالة. لذلك عبّر أينشتاين عن سعادته الغامرة فيما توصل إليه وكتب لأحد الفيزيائيين فقال: ‹‹ان نتائج البعد الاقرب لحركة عطارد ملأتني بقناعة كبيرة، كم هي مفيدة لنا تلك الدقة البالغة في الفلك التي اعتدت ان اسخر منها خفية››.
وقد كان الفيزيائيون يعتقدون (عام 1916) ان الشذوذ المتعلق بنظرية نيوتن حول الثقالة لا يتعلق بحركة عطارد فقط، بل أيضاً بحركة مذنب هالي ومذنب إنكْ وحركة القمر، لكن تبين فيما بعد ان هذه الشذوذات الأخيرة لا علاقة لها باساسيات نظرية الثقالة.
وبالتالي أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى. فالشذوذ لا يفضي في حد ذاته إلى ترك النظرية ما لم تأتِ نظرية أخرى أوسع في تفسيرها له، وقد يحتاج الأمر إلى عقود وربما بعض القرون للتخلي عن النظرية. وكما يقول كارل همبل فإن هناك شواهد عديدة في العلم تبين بأن التصادم بين النظرية التي تتمتع بقوة عالية للتأييد مع قضية تجريبية إنما يحل من خلال إلغاء إعتبار هذه القضية بدلاً من التضحية بالنظرية، تبعاً لما تتمتع به هذه الأخيرة من قدرة تفسيرية عالية لعدد من المجالات. فلا يضحى بالنظرية ذات القوة العالية للتأييد ما لم تحل محلها نظرية افضل دون اللجوء إلى التجربة الحاسمة، وبالتالي ليست هناك تجربة يمكنها تفنيد نظرية ما كلياً، كرد على مذهب كارل بوبر في القابلية على التكذييب. أما الحالة التي تكون فيها النظرية مفردة أو ضيقة لا تستوعب المجالات المختلفة؛ فإنه يضحى بها عند التضارب مع الشواهد الخارجية. وبالتالي فإن ترك العلماء للنظرية التي تمتاز بالتأييد والتعميم العالي لا يحصل بسبب معارضتها للحقائق الخارجية، بل لكونها مرجوحة بالقياس إلى غيرها من النظريات المنافسة الأخرى.
ومثل ذلك صرح توماس كون بأن كل نماذج العلم تتضمن حالات شاذة، كنظرية كوبرنيك حول الحجم الظاهري لكوكب الزهرة، ونظرية نيوتن حول مدار عطارد، ومع ذلك فقد كانت هذه النظريات مقبولة خلافاً لتصور النزعات التكذيبية كما لدى كارل بوبر. وعلى رأي فيرابند لا يوجد شاهد واحد يؤيد نظرية بوبر التكذيبية. لذلك كان أينشتاين يرى بأن المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات. وكما يشاطره الفيزيائي والفيلسوف الوضعي فيليب فرانك فإن النظريات العلمية فروض ليست حتمية التصديق ولا يوجد معيار للحقيقة سوى التعزيز بالمشاهدات. أو كما اتفق عليه العلماء اليوم بأن الفرضية العلمية لا تحتاج إلى الحسم التجريبي، بل هي بحاجة لأن تكون مثمرة وقابلة للتأييد فحسب. وهو الحال الذي يجعل كل نظرية تحمل في احشائها سر فنائها كما يرى توماس كون. أو هو أمر يجعل كل نظرية قابلة للموت المؤجل، وفي الوقت ذاته قد يسمح لها بالحياة من جديد وفقاً لمبدأ الابقاء على النظريات المفندة كالذي دعا إليه فيرابند، فكل نظرية مفندة – أو لنقل مستبعدة - قد تعود مرة أخرى عندما يتبين من جديد ان هناك ما يؤيدها. فالاستبعاد ليس عاملاً حاسماً لإسقاط النظرية كلياً، رغم اننا لم نسمع عن عودة نظرية تم تركها بتمامها، إنما قد يعاد صياغتها ضمن التكيف مع التطورات الجديدة. ومن ذلك ان النظرية الجسيمية للضوء كما لدى نيوتن قد تم التخلي عنها عندما ثبت بالتجارب الحاسمة بأن الضوء ذو طبيعة موجية، لكنها مع ذلك أُعيد لها الحياة من جديد، ولو بالتكيف مع النظرية الموجية المتينة، كالتي دشّنها أينشتاين (عام 1905). وعليه فالعلم ليس قائماً على قاعدة صخرية صلبة، فهو كما يمثل كارل بوبر كالبناء المشيد على أوتاد مغروزة في مستنقع دون الوصول إلى أرض مستقرة. لذلك يُقدّر بأن معظم النظريات العلمية خاطئة مقارنة بالصحيحة. وقد وُصفت التجارب بأنها بمنزلة إلقاء زهرة النرد، ففي كل يوم هناك مواجهة للعلم مع الواقع بهذا الإلقاء، ولا شك أن نسبة الأخطاء تفوق الإصابة بكثير، وقد وصف الفيزيائي أومنيس هذا الحال بمقبرة كبيرة تضم رفات الأفكار، لكن الأخطاء مع ذلك مفيدة رغم خيبة التوقع.