يحيى محمد
قد يُطلق على التزاحم بين مصاديق القيم بتزاحم المصالح، فيُذكر بأن كل شيء فيه مصلحة أعظم فهو حسن، وكل شيء فيه مفسدة أكبر فهو قبيح. ومن هذه القاعدة نعلم أن الفعل الذي لا يزاحمه أمر آخر يظل على حاله؛ إن كان مصلحة فهو حسن ومطلوب، أو ضرراً فهو قبيح ومنكر.
واذا كنا قد لا ندرك بعض المصالح، أو حتى لا نستطيع أن نحدد الترجيح بين تزاحم المصالح أو مصاديق القيم الحسنة، فكل ذلك لا يبطل الضرورات التي يدركها العقل القبلي لهذه القيم. ففي كل قضية مساحة واضحة للإدراك العقلي وأطراف أخرى متشابهة، وأن وجود هذه الأطراف لا يلغي مصداقية الإدراك الأول.
ونشير إلى أن قوة المصلحة ليست مرجحة دائماً على ما هو أقل منها. فقد تحصل مصلحة أعظم في قبال حق متعين، ومع ذلك يرجح فيها الحق على المصلحة وإن عظمت. فمثلاً لو توقفت حياة شخصين من الناس على قتل ثالث بريء؛ لما جاز هذا القتل لأجل إنقاذ الشخصين.
وعموماً تظل القيم الحسنة منشأً للغرض والمصلحة. وهي من هذه الناحية ترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً. فالعقل الذي يقدّر حسن الأفعال يتفق مع أثار هذه القيم في الواقع، كالذي يجري مع سائر الضرورات كالسببية وغيرها. فللقيم الحسنة آثارها الواقعية من المصلحة الأكيدة، وأنّ كشف العقل عن قضايا الحسن هو كشف عن المصالح أيضاً، فما من شيء حسن إلا وفيه مصلحة راجحة. فمثلاً يعتبر مبدأ الصدق حسناً إذ تترتب عليه آثار المصلحة العامة؛ حتى وإن كان مفصولاً عن النية والدافع الأخلاقي، فلو أن الأصل في الحياة هو الكذب لعجز الناس عن معرفة الحقائق إلا ما ندر، ولترتب على ذلك فقدان الثقة التي يتوقف عليها إمكان التواصل في العلاقات الإنسانية. وقد اتضح من خلال الدراسات الحديثة مدى أهمية مبدأ الثقة في العلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية وغيرها[1].
وفي الإعتقادات الدينية يتعاطى أغلب الناس مع ما تزخر به البيئة الإجتماعية من تصورات شائعة نتيجة الثقة برجال هذه البيئة دون تعويل على الأدلة والبراهين، وبذلك يكون التعاطي القائم على التقليد والثقة مورداً لإختلاف الناس بإختلاف البيئات.
على أن الفارق بين الثقة وعدمها ليس فارقاً يتعادل في نتائجه الطرفان، بل بينهما مسافة عظيمة غير قابلة للتقدير. وتوضيح ذلك أنه لو أخبرنا شخص عن مكان زيد وكنّا نحتمل وجوده في واحد من عشرة مواقع مثلاً، فإذا كنّا نثق بإخبار الشخص فإن الإحتمال سيتعين في موقع واحد من بين هذه المواقع، إذ يكون هو المتوقع دون غيره. في حين لو كنّا لا نثق بالخبر؛ فإن ترددنا سيظل دائراً بين المواقع العشرة المحتملة. وبالتالي فنحن لم نواجه إحتمالين متضادين، بل أمامنا إحتمال متوقع قبال عشرة إحتمالات يجري فيها التردد. فكيف إذا كان حال الإحتمالات والترددات منفتحاً غير قابل للحصر، كإن يتجاوز المائة أو الألف إحتمال؟! إذ سيدعو ذلك إلى الضلال والحرمان من إدراك الصواب؟! الأمر الذي يؤكد ما للثقة من أهمية عظمى في الحياة.
ومع أن الحياة تتحمل ظاهرة خرق القيم، كخرق قاعدة الصدق والعدل والأمانة وما إليها، لكنها لا تتحمل إبطالها كلياً. مما يكشف عن أن عالمنا مصمم على ترجيح القيم الحسنة بغض النظر عن النوايا والدوافع السلوكية. ومن الحكمة البالغة أن تكون الحياة مصممة بهذا الشكل دون غيره من الأشكال الممكنة. إذ لو كانت مصممة على مصاديق القيم الحسنة بإطلاق دون شذوذ ولا إستثناء لما حصل التطور، وكما قال أحد الغربيين أنه لو كان الإنسان يسير وفق ما تدعو إليه الأخلاق لظل يعيش في الكهوف دون أن يبرحها[2]. وكذا لو كانت الحياة مصممة على غلبة مصاديق القيم السيئة قبال الحسنة؛ فسوف لا تصمد أو تدوم. وقديماً كان العرفاء يقولون: لا فتى إلا أحمد وابليس.
ويتسق هذا الحال مع ما عليه الوجود الكوني، إذ لو كان الأخير يتصف بالكمال التام لما حصل التطور، كما لو كان متنافراً وغير منتظم لما بقي لحظة واحدة، بل لصار مآله إلى الفساد والدثور، فتجلت حكمة الله بأن يكون منظماً مع إبقاء هامش ضئيل لفعل العوامل المتحركة العشوائية التي مهما فعلت فإنها لا تؤثر على النظام الكلي. وقد ينطبق على هذه العملية التصور البرنولي للتوزيع الإحتمالي[3]، فمثلاً أن رمي قطعة نقد متكافئة الوجهين لمرات كبيرة العدد يعطي انتظاماً يقترب فيه الإحتمال البعدي من القبلي مع وجود هامش ضئيل للعوامل المتحركة العشوائية؛ التي مهما فعلت فإنها لا تخلّ بالثبات وانتظام السير للإقتراب من الإحتمال القبلي باضطراد كلما زاد عدد الرميات[4]. وكذا هو الحال مع قوانين الوجود الكوني، فهي تتضمن الدواعي القوية للنظام العام مع وجود هامش متحرك للعشوائية التي لا تؤثر على مجرى النظام العام وما يتضمنه من تطور. فكأن الوجود الكوني يحمل في أحشائه روحاً كلية تعمل على حفظ النظام رغم وجود هامش العشوائية الضئيل الذي ليس بوسعه تعطيل فعل تلك الروح وهدم النظام الكوني. وعليه فسواء في القيم، أو في الوجود الكوني؛ هناك انتظام وهامش للعوامل المتحركة العشوائية.
وعموماً يتعذّر نفي التلازم الحاصل بين الواقع والقيم، وأن الأحكام التي تتعلق بهما لا تخلو من ترابط، وأن من الخطأ تصور وجود انفصال بين أحكام هذين العالمين كما ذهب إليه عدد من الغربيين وعلى رأسهم ديفيد هيوم، فأحكام القيم هي أحكام انشائية تتحدث عما ينبغي أن يكون، في حين أن أحكام الواقع تقريرية أو وصفية تتحدث عما هو كائن أو يكون. وعلى هذا الضوء اعتبروا أن عبارة (أن تفعل أو لا تفعل) لا تدل على الفعل إن كان موجوداً أو غير موجود، كذلك أن كون الفعل موجوداً لا يدل على لزومه أو لزوم تركه، وبالتالي ليس هناك جسر يربط ما بين الصنفين من القضايا. ومن ذلك استنتج البعض بأن المشاهدة عنصر ضروري للكشف عما هو كائن أو يكون، وهي بهذا لا تناسب أن تدلّ على القضايا الأمرية أو ما ينبغي أن يكون، أو أن القضايا الأخيرة هي غير قابلة للفحص[5]. وبحسب وجهة النظر الذرائعية فإن القيم لا تصف العالم وإنما تعمل على تغييره. وكما يقول ستيفنسون إن صنع المسائل القيمية ليس لغرض الكشف عن الحقائق الموضوعية أو تبيانها، بل لخلق التأثير عليها[6].
أما الصواب فهو أننا عندما نتعرف على المصالح والمفاسد التي يتعرض لها الإنسان، فذلك سيمكّننا من أن ننشئ على ضوئها القيم الخاصة بها، فتتحول القيم مما هي وصفية أو تقريرية إلى قيم انشائية، ويتحول ما يكون إلى ما ينبغي أن يكون، وكذا يصح العكس. وبالتالي فالقطيعة المزعومة موهومة.
بل يمكن القول أن علاقة أحكام القيم بالواقع هي علاقة شرطية، مثلما هو الحال مع علاقة مبدأ عدم التناقض بالواقع، فإنه شرط للمعرفة وليس مصدراً للإنتاج والتوليد المعرفي، فهو لا يكشف عن شيء خارجي سوى مضمونه الخاص، المعبر عنه بنفي التناقض في الوجود. وكذا يقال الشيء نفسه عن القيم، وهو أنها شرط للحفاظ على الحياة، بل ولإيصال المعرفة بين أصحاب العقول، إذ بدونها تنتفي الثقة بالمعرفة المتلقاة، فينعدم بذلك العلم، حيث التواصل المعرفي قائم على الثقة، وبدونها يفقد التواصل غرضه من تحصيل العلم، فلو كانت الحياة مصممة على قاعدة الكذب، لاستحال العلم، مما يدل على أن الأخير مشروط بالقيم. وكذا يصح العكس، وهو أن بإمكان العلم أن يقدّر لنا المصالح والمفاسد في الأفعال، مما يعني أن بإستطاعته أن يعرّفنا على القيم الحسنة. وبالتالي فإن الترابط بين أحكام القيم وأحكام الواقع وثيق لا يقبل التفكيك.
[1] أنظر على سبيل المثال الدراسات التالية:Lewis D. J. and Weigert A. Trust as a Social Reality, in Social Forces, Vol. 63, No. 4, (1985). pp.967-985. And: Baier A. Trust and Antitrust, in Ethics, Vol. 96, No. 2, (1986). pp. 231-260. And: Cole, R. L. Toward as Model of Political Trust: A Causal Analysis, in American Journal of Political Science, Vol. 17, No. 4. (1973). pp. 809-817.
[2] فقد اعتبر الفيلسوف الالماني (عمانوئيل كانت) أن الخبث والشر الذي في الإنسان هو عامل كبير لرقي البشر، ولو أن الناس اتبعوا الانجيل القائل: «ليحب بعضكم بعضاً» بدلاً من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي يشجع الناس على الاقتتال، لظلوا عاكفين في الكهوف (غوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، نقله إلى العربية عادل زعيتر، دار المعارف، سوسة - تونس، 1995م، ص90).
[3] نسبة إلى العالم الرياضي جاكوب برنولي (المتوفى سنة 1705م).
[4] أنظر: الإستقراء والمنطق الذاتي، ص310.
[5] أنظر:Sayre-McCord, G. Moral Theory and Explanatory Impotence, in Essays on Moral Realism. p. 257-258
[6] أنظر:Sayre-McCord, G. Introduction, p. 8