لقد اصبحت الفيزياء اليوم اقل اتصافاً بالتجريبية، في الوقت الذي اتسعت فيها صفة التخمين، مما جعل السمة الميتافيزيقية بادية عليها، وهو الامر الذي ولّد نظاماً جديداً نطلق عليه النظام التخميني الميتافيزيائي..
النظام التخميني الميتافيزيائي
لقد تم طرح مسائل عُدّت في السابق من القضايا الفلسفية او الميتافيزيقية التي لا معنى لها، ومن ذلك ان ارنست ماخ اعتبر فرضية الذرة من القضايا الميتافيزيقية، في حين تقبلها عالم الذرة الفيزيائي رذرفورد. وفي الوقت ذاته اعتبر هذا الاخير الفلسفة كلاماً فارغاً، لكنها اصبحت اليوم متداولة لدى العلماء كما يتداولها الفلاسفة، مثلما هو الحال مع المسائل التالية: ما هو الزمان؟ من اين اتى الكون؟ هل يمكن تخليق شيء من لا شيء؟ ما هو شكل الكون قبل عملية الانفجار العظيم؟..الخ.
ومن الباحثين في فلسفة العلم من اشار الى وجود نزعتين واضحتين للفيزياء اليوم، احداهما تجريبية تقوم على عنصرين في فهم العلاقات الكونية، هما: الملاحظة والتجربة من جهة، وبناء القوانين والنظريات القابلة للاختبار والفحص من جهة ثانية. أما النزعة الاخرى فتحمل أبعاداً ميتافيزيقية، وقد مال اليها تيار من العلماء.
قديماً لم يكن هناك رفض وصدام بين العلم والفلسفة، اذ كانت الاخيرة هي الأم الحاضنة للعلم، لكن ما ان حلت النهضة العلمية الحديثة حتى بدأ العلم يبتعد عن الفلسفة فظهر التنافر بينهما شيئاً فشيئاً. واذا كان العلماء يتحفظون من القضايا الفلسفية في اطروحاتهم، فان للفلاسفة في القبال اشكالاتهم على العلم، ومنهم هيجل وهوسرل وهايدجر وبرجسون وفخته والشاعر الفيلسوف جوته وغيرهم، اذ كانوا على خلاف مع العلم وطريقته الوضعية. فمنهم من رفض بعض التصورات النيوتنية، كما منهم من رفض التصور النسبي للزمان، وبعضهم رأى ان العلم قد اهمل مبدأ الصيرورة في الطبيعة، يضاف الى ان بعضهم كان يشعر بان العلم في ازمة لاستبعاده الامور التي لا تخضع للملاحظة والتجريب كالذي ابداه هوسرل في كتابه (ازمة العلوم الاوروبية).
وللوضعية أربعة مبادئ تعرضت للخرق والتجاوز، فأولاً إنها تعتقد باستقلالية العلم وانفصاله عن الفلسفة كلياً، وثانياً ترى أن البحث العلمي قائم على التجربة والتحقيق فحسب، وثالثاً إنها تدعي عدم وجود فوارق بين الظواهر الطبيعية والانسانية في خضوعهما الحتمي لمبادئ البحث العلمي دون تمييز، وأخيراً إنها تبشر بإمكانية اتصاف البحث العلمي بالموضوعية التامة. لكن جميع هذه المبادئ الأربعة تمّ نقدها وتجاوزها، فالمبدأ الأول وجد ما يعارضه من الاعتراف بما للفلسفة من دور مؤثر في العلم. والمبدأ الثاني واجه مشكلة الحاجة التجريبية لمبادئ مفترضة لم تُستمد من التجربة، مثل قضية الواقع الموضوعي ومبدأ السببية والتعميمات العلمية التي لا تطالها التجربة. كما أن عدم التمييز بين الظواهر الطبيعية والانسانية واجه اتجاهاً معارضاً كالذي بشّر به دلتاي من الفصل بين الموضوعين، حيث تتصف الأولى بالحتمية وبالتالي تخضع للدراسات الأبستمولوجية فيما تتصف الثانية بالإرادة الحرة وبالتالي تخضع للدراسات الهرمنوطيقية. أما الموضوعية المدعاة فقد عارضها الكثير من أقطاب العلم والفلسفة، يضاف إلى اتجاهات ما بعد الحداثة، ومنهم من اعتبر هذه النزعة - مع نزعة العقلنة – هي الأساس الذي تشكلت عليه المركزية الغربية لتهميش غيرها من الحضارات وفق أفق التكتل والإنحياز، كما هو حال ما يبشر به فوكو الذي عمل على تزييف المبادئ العقلية وتعرية الممارسات القائمة عليها وفضحها.
وقد تبين اليوم بان للافكار الفلسفية تأثيراً على العلم يفوق التأثير العلمي ذاته احياناً، كالذي كشف عنه كارل بوبر ضمن معرض رده على فتجنشتاين والوضعية المنطقية التي سلمت بان القضايا الفلسفية ليس لها معنى. وقد عدد بوبر عدداً من القضايا الفلسفية التي لها تأثير ملحوظ على التقدم العلمي، ولولا بعضها كان من الصعب على العلم ان يتقدم. ومن ابرزها المذهب الذري لديمقريطس، فمع بداية القرن التاسع عشر اعاد دالتون هذا المذهب ليحل بعض المشكلات المتعلقة بالكيمياء، وعند منتصف هذا القرن استعان ماكسويل بهذا المذهب وادخله في النظرية الدينامية للغازات. اما عند حلول القرن العشرين فقد اصبح التفسير الذري فرضاً علمياً بعد ما كان تصوراً فلسفياً. ومع ان رذرفورد اعتبر الفلسفة كلاماً فارغاً، الا انه تقبل التفسير الذري القائم على الاعتبارات الفلسفية كما اشرنا من قبل.
ويمتاز النظام التخميني بانه كثيراً ما يعتمد على مقررات النظام الذي قبله، كما هو الحال مع فيزياء النسبية لاينشتاين ونظرية الكوانتم، مثلما ان النظام الثاني يزيد على النظام الاول السابق له ويختلف معه في القضايا التي ليس للتجربة ان تلوحها. لكن مع ذلك فان هذا النظام يطرح اموراً تتجاوز فعلاً مسلمات النظام الثاني، وان لم تتجاوز قوانين الفيزياء المعروفة.
فقد مال الفيزيائيون في النظام الثالث الى طرح افكار مهما كانت مجردة وبعيدة دون ان يملكوا عليها دليلاً؛ طالما انها لا تتصادم مع قوانين الفيزياء. وأخذ التخمين يتسارع كنزعة تفوق النظر التجريبي، وتوسعت النظريات في هذا المجال، وهي مقبولة ومرحب بها لدى الاوساط العلمية، رغم انه من الصعب اختبارها. فاصبح الفارق بين العلم والفلسفة من هذه الناحية معدوماً، اذ صار العلم كالفلسفة غير قابل للاختبار.
ومع ان الفلاسفة خلال مطلع القرن العشرين كانوا يكدحون ليحاكوا علماء الطبيعة ويجعلوا نظرياتهم دقيقة كتلك التي يُعتمد عليها في العلم، لكن هذا الحال انعكس في نهاية هذا القرن، اذ صار العلماء هم من اخذوا يحاكون الفلاسفة في طريقتهم التجريدية غير القابلة للاختبار، فاصبحت الفلسفة هي المثل الاعلى في البحث بعد ما كان العلم التجريبي يعكس هذا المثل.
فلقد تمنى الفيزيائيون النظريون ان يصلوا الى الدرجة التي يفرضوا فيه اعتباراتهم الرياضية والعقلية المجردة دون ان يحتاجوا فيها الى التجربة. وبدأ هذا التوجه منذ اللحظة التي اخذ فيها اينشتاين يخطط لنظرية المجال الموحد، ومن ثم تعاظم الامر بعده، وكان من ابرز تجلياته ما طرحته نظرية الاوتار الفائقة. لذا فمن الناحية المبدئية لا نجد فارقاً بين النظام الثالث والنظام القديم، ومن ثم اصبحت الحركة العلمية دورانية، فرغم ان بدايتها وتطوراتها اظهرت اختلافها ونقضها للنظام القديم، الا انها عادت مرة اخرى لتنتصر له بعد ان استفرغت متطلباتها بما لم يستطع ذلك النظام تحقيقه. فنظريات النظام الثالث لا تقبل الاختبار او من الصعب اختبارها كما يحصل كثيراً لدى النظام القديم.
مع هذا فلسنا نتجاهل الاختلاف بين النظامين، فالنظام القديم دوغمائي لا يتقبل احتمال الخلاف، وهو ما لا يتوفر لدى النظام المعاصر ذي النزعة التخمينية. كما ان نظريات النظام القديم محكومة بالسلطة العقلية القبلية، فحتى لو انها كانت قابلة للتحقيق والاختبار فسوف لا يكون ذلك على حساب ما هو مقرر عقلياً سلفاً، بمعنى انها تمارس التأويل لكل ما يخالف قبلياتها الدوغمائية. وهو ما لا نجده لدى النظام الثالث التخميني.
هكذا ان واقعنا الفيزيائي المعاصر منقسم بالفعل الى ثلاثة اتجاهات متنافسة هي بالفعل ما تمثل النظم العلمية الثلاثة التي طرحناها. وكثيراً ما ينشأ الجدل العلمي بين اتباع هذه النظم المتقاربة لا المتباعدة، كالجدل الحاصل بين النظامين الاول والثاني، مثلما جرى بين اينشتاين والفيزيائي بريجمان. او كالجدل بين النظامين الثاني والثالث، ومن ذلك انه رغم النتائج التي توصل اليها ماكيويجو برفقة زميله ستيفن الكسندر حول البحث المتعلق بتغير سرعة الضوء، الا انهما انتهيا فيما بعد الى اتجاهين متعاكسين، احدهما يميل الى التجريد الرياضي الصرف كالذي تتبناه نظرية الاوتار الفائقة والمتمثلة في نظرية (M)، وهو الخيار الذي اختاره الكسندر، فيما عاكسه ماكيويجو لاعتقاده بان النظرية الفيزيائية تظل بحاجة الى النتائج التجريبية، وهو الاتجاه الذي يعود بنا الى النظام الثاني.
إن ابرز ما جاء من نظريات تخمينية لهذا النظام تلك المتعلقة بظروف نشأة الكون الاولى، او حتى ما قبل ذلك، وايضاً النظريات التي تعول على وجود اكوان متعددة متوازية لا تحصى؛ بعضها يجهل البعض الاخر تماماً.
وابرز ما يصادفنا حول ظروف نشأة الكون نظرية الفيزيائي جوث (Guth) خلال الثمانينات في التضخم الكوني، فوفقاً لها انه خلال جزء ضئيل جداً من الثانية تضخم الكون وتضاعف بشكل عظيم. ان نسخة جوث الاولية للكون التضخمي جاءت مساوية لوصفة الفيزيائي ترايون (Tryon) حول التموجات الفراغية، الا ان نسخة جوث لم تفسر لنا من اين اتت الفقاعات الاولية الدقيقة. اذ بحسب هذه النظرية فان كوننا هو فقاعة ضئيلة الحجم للغاية فتضخمت في وقت قصير جداً من الثانية ليتحول الى الكون الحالي. وبحسب هذه النظرية فان اي كون كمي جديد يتكون كتموجات فراغية يبدأ بحجم صغير للغاية فيتمدد خلال طرفة عين الى حجم كحجم الكون الحالي، كالفقاعة. ويحتمل الفيزيائي جريبين انه قد يكون الكون وكل شيء فيه عبارة عن تموجات فراغية تسمح لتجمعات الجسيمات ان تندفع بشدة من لا شيء، وتعيش لفترة ثم يعاد امتصاصها ثانية داخل الفراغ. وهي تتسق مع اعتبار الكون مغلقاً يتمدد ثم يعود ليتقلص ويختفي. وقد ظهرت هذه الفكرة بداية السبعينات ولعب جريبين دوراً في ظهورها (سنة 1971)، ثم قدّم ترايون (عام 1973) بحثاً مطوراً اعتبر فيه فكرة الانفجار العظيم هو تموجات فراغية. ثم ظهرت نسخة جديدة جدية بعد عشر سنوات حول الموضوع، وهي النسخة المتعلقة بافتراضات جوث.
أما حول الاكوان المتعددة، فقد أُفترض ان واقعنا الكوني ليس هو الواقع الوحيد، كما اقترح ذلك إيفيريت (عام 1956)، اعتماداً على ما يعرف بتناقض قطة شرودنجر، او كما اقترحه الفيزيائي الروسي اندريه ليند من أن ظروف التمدد التضخمي قد تكررت مرات ومرات في مناطق منعزلة منتشرة في الكون مؤدية إلى عوالم جديدة منفصلة ضمن شبكة كونية لا نهائية، بحيث تتوالد ذاتياً. فقد نقد ليند الحالة غير المستقرة لبداية الانتفاخ الكوني لدى جوث، واستبدل النظرية بتضخم مستمر دون نهاية. فهو يرى ان التضخم لم يتوقف مفعوله منذ ان بدأ، هذا إن كان له بداية فعلية، والمرجح بحسب ليند ان التضخم لم يكن له بداية ولا نهاية، فهو تضخم دائم بفعل التذبذبات الكمومية المستمرة، فمن منطقة لأخرى تفعل هذه التذبذبات فعلها العشوائي وفقاً لمبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين والتحديد، وهكذا باستمرار. فالاكوان الانتفاخية تتخلق طوال الوقت من داخل الاكوان الموجودة من قبل، وبعد ان تتخلق فانها سرعان ما تنمو كبرعم ينفصل ثم انها تلد اكواناً خاصة بها، وهكذا تتولد فقاعات كونية قابلة للتضخم باستمرار دون انقطاع. وقد تدخل بعض الاكوان ضمن هذا السيناريو في طور التقلص ومن ثم الانسحاق والاختفاء، او يتخافت التضخم شبيهاً بما تحدثت عنه نسخة جوث الاصلية، واحياناً قليلة يزداد فعل التضخم في بعض المناطق والفقاعات نتيجة تعاظم التذبذبات العشوائية، ومن الجائز امكان وجود نوع من الشفرة الوراثية تسبب ان تكون الاكوان المتولدة شبيهة بآبائها، كما يمكن ان تكون هناك طفرات وراثية ايضاً، وقد يكون كوننا طافراً من كون اخر يحمل قوانيناً فيزيائية مختلفة.
ان ما يتحدث عنه ليند في التضخم الكوني شبيه بما يتحدث عنه الفلاسفة القدماء، وخاصة اصحاب المدرسة الاشراقية، من ان النظام الكلي والنوعي للعالم الدنيوي يبقى دائم التواصل دون بداية ولا نهاية رغم ان الافراد تنتهي وتزول. ففي التضخم الكوني ان الاكوان تذهب وتنتهي هنا وهناك، لكنها تولد ما يبقي حالة الفعل التضخمي دون انتهاء، فنحن امام حمام من الفقاعات التي لا تنتهي ولا تموت، كما هو وصف الفيزيائي ليونارد ساسكند.
كما لاحظ لي سمولين ان ظروف الانفجار العظيم تتشابه مع مراكز الثقوب السوداء، وعليه اقترح ان كل ثقب اسود هو نواة لعالم جديد يخرج للوجود عبر انفجار هائل، لكنه محتجب عن انظارنا للأبد من خلال افق حدث الثقب الاسود. كما ادخل هذا الفيزيائي عنصراً جديداً هو صورة كونية من التطفر الجيني. واقترح انه لو تصورنا عالماً يتبرعم من لب ثقب فان خواصه الفيزيائية مثل كتلة الجسيمات وشدة القوى ستكون قريبة لكنها ليست مثل تلك الموجودة في العالم الذي جاء منه. وستؤدي التغيرات الطفيفة في مؤشرات الاكوان الوليدة الى ايجاد عوالم جديدة يصبح بعضها اكثر موائمة لانتاج الثقوب السوداء مقارنة باصلها، ومن ثم ستعطي عوالم وليدة اخرى وهكذا. وبالتالي فان اقتراح سمولين - وجميع من جاء بنظرية التعدد اللانهائي للاكوان - قد وضع النهاية حول التقييد العلمي المرتبط بالمبدأ الانساني (Anthropic Principle).
لكن اول ما يمكن الاعتراض على الاكوان المتعددة التي لا تحصى هو انها لا تنسجم مع البساطة او حد اوكام، اذ بدل ان يكون الاهتمام منصباً على كون واحد منتظم، فانه يتحول الى اكوان مختلفة افتراضية لا تحصى. لذلك وجدت شجباً لدى العديد من الفيزيائيين باعتبارها موغلة في الخيال والافتراض دون ادنى دليل.
كما اقترح غاسبريني وفينيتسيانو - من دعاة نظرية الأوتار الفائقة - بأنه قد يكون هناك عالم لا نهائي في فضاء سابق على بداية كوننا هذا، أو في عصر ما قبل الإنفجار العظيم، وقد وصف الكون في تلك المرحلة بان العالم بدأ اساساً بارداً ولا نهائياً في الفضاء ولم يكن شديد السخونة، كما كان مجعداً بشدة، وقد تعرض هذا العالم لعدم ثبات؛ دافعاً كل نقطة في الكون الى التباعد بعضها عن البعض الاخر بسرعة كبيرة، وسبّب هذا الحال تحدباً اكثر للفضاء مما ادى الى زيادة هائلة في الحرارة وطاقة الكثافة. وبعد بعض الوقت تكونت منطقة ثلاثية الابعاد في حجم ملمتر داخل هذا المدى الشاسع مثل كتلة كثيفة ساخنة جداً ومنبثقة من تمدد جوث التضخمي.
وعلى هذه الشاكلة من النظريات التخمينية غير القابلة للاختبار هي ان للاوتار الكونية خواص عجيبة، فهي اما ان تكون لا نهائية الطول عبر الكون، او تكون ذات حلقات مقفلة، وان الوتر اللانهائي الطول يمكنه ان يشغل من الفراغ اذا تكور باقل من حجم الذرة، وان وزنه يكون (10 40طناً)، اي يساوي وزن كوكبة فائقة من عدة كوكبات مجرية. ورغم هذه الكتلة المهولة لا يمارس الوتر اي قوة جاذبية على الاشياء المجاورة، اذ مثلما له ثقالة هائلة فان له في الوقت ذاته قوة ضغط معادلة او جاذبية مضادة.
ومن بين الاعتقادات التخمينية ايضاً الاعتقاد بالثقوب الدودية كالتي خمّنها العالم الفلكي الالماني كارل شوارتزتشيلد اعتماداً على النسبية العامة لاينشتاين، وعرفت باسمه رغم انه سبقه في ذلك الفيزيائي النمساوي لودفيج فلام، فمع ان معادلات اينشتاين لا تمانع من وجودها، لكنها لا تدل على وجودها بالفعل. وكان ويلر هو من صك اصطلاحات على غرار الثقوب الدودية والثقوب السوداء، وهو من اقترح بأن الكون كله قد يكون واقعاً في ثقب اسود عملاق. ووفقاً للفيزيائي فينمان فانه يمكن السفر في الماضي او المستقبل عبر هذه الثقوب، فعلى مستوى جسيمة مفردة يمكن ان تتحرك الى الامام في الزمن ويكافؤها تحرك جسيمة مضادة الى الخلف في الماضي. وبحسب ستيفن هوكنج فان كوننا مليء بأعداد فلكية من الثقوب الدودية التي تتناوب الدخول الى الوجود والخروج منه على نحو متصل، وهي في غاية الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها، والجسيمات التي تصنع عالمنا تتساقط باستمرار في هذه الثقوب غير المرئية، ويحل محلها في الوقت ذاته جسيمات من اكوان اخرى، دون ان نحس بها، ففي كل حين يحدث ان احد الجسيمات - كالالكترون مثلاً - يختفي من كوننا لداخل ثقب دودي، في الوقت الذي يخرج من هذا الثقب جسم مماثل يأتي من كون اخر.
وقد وصف بعض الفيزيائيين الثقوب الدودية التي يمكن استخدامها للسفر في المكان والزمان وتجاوز العوالم المشهودة بانها اشبه بروايات الخيال اكثر مما تكون علمية، سيما انها اول ما ظهرت في رواية خيال علمي وليس في مجلة علمية. وتلعب روايات الخيال العلمي هنا دوراً كبيراً في الموضوع، سيما ان هذه الروايات تتحقق احياناً، ومن ذلك روايات ادب الخيال العلمي للاديب الفرنسي المشهور جول فيرن (المتوفى عام 1905)، فقد كان يصف اجهزة للغوص تحت الماء او فوق الارض او الهبوط على القمر وما الى ذلك مما تحقق فعله فيما بعد. وعلى العموم يكفي الباحثين في هذا المجال ان ما يتخيلونه لا يصادم القوانين الفيزيائية، وهم يعترفون بذلك ويقدرون الامور بحسب التخمين لا كاعتقاد جازم او موثوق.
ويتساءل البعض ضمن هذا النظام الفيزيائي (الجديد) عما اذا كان يمكن للزمان ان يجري وراءاً في كون يتقلص، خلاف الزمان الجاري اماماً في الكون المتمدد المشهود؟ وعما اذا كان يمكن ان يوجد عدد لا نهائي من الاكوان المتعاقبة؟ وعما اذا كان يمكن للبوزيترون ان يكون الكتروناً يتحرك وراء الزمان؟ بل في هذه الحالة قد لا كون في الكون سوى الكترون واحد، وما ندركه من جسيمات كثيرة – وهي التي تؤلف عالمنا كله - ربما هي نفس الجسيم الواحد المتحرك ذهاباً واياباً في كلا الاتجاهين.
وبالتالي فما يمتاز به هذا النظام هو انه يبحث عما يسمى (حافة العلم) لا تخومه، فهو يبحث عن الافتراضات الممكنة التي تسمح بها القوانين الفيزيائية وان لم يسعفه الدليل على وجودها. فهو في واقع الامر يرجع الى البحث الفلسفي القائم على التخمين والخيال فحسب، وهو المقصود من تضمن العلم للافكار الفلسفية، الى الحد الذي تناقش فيه احتمالات تجاوز قانون السببية والسفر الى الماضي، رغم الاعتراف بأن السببية هي فرض فلسفي يتأسس عليه العلم.
بل أخذ الفيزيائيون يناقشون كيفية وجود هذا الكون وما يستدعي ذلك من مناقشة وجود الله. والكثير من التخمينات المطروحة تبدي سذاجة فائقة، ومن ذلك التخمينات الاسطورية التي ترى بان الله كائن مخلوق بالصدفة، ومن ثم انه قام بخلق الكون، او انه خلق القسم المنتظم من الكون فحسب كالذي اقترحه الفلكي فريد هويل والفيزيائي فرانك تبلر والكاتب اسحاق اسيموف. ومن هذه التخمينات القول بان كوننا نشأ من عشوائية الاكوان المتعددة غير النهائية، او ان كوننا الحالي هو نتيجة مصادفات سعيدة عشوائية كالتي يميل اليها اغلب الفيزيائيين بما يعرف بالكون العبثي. ومن التخمينات القول بان الكون يمكن ان يفسر ذاته بذاته دون حاجة لافتراضات خارجية او اسباب قبلية، فهو كون موجود فحسب، دفعاً لما يعرف بتسلسل برج السلاحف، ودفعاً لوجود سلحفة فائقة حاملة، اي دفعاً لكل من التسلسل اللانهائي والاصل الضروري. كما من التخمينات القول بما يعرف بالاكوان الدمى التمثيلية الملفقة او الحاسوبية؛ مثل نموذج تيرنغ، وسوغاروا، وتاوب نوت، وكروسكا، وغيرها. وهناك افتراضات حول وجود اكوان ملفقة لا نهائية، او ان هناك مزيجاً من الاكوان الملفقة وغير الملفقة دون ان يعرف من هي الحقيقية منها، وهل كوننا ملفق ضمن حاسوب ضخم ومشغل من كائنات اخرى اكثر رقي منا؟ فكل ذلك هو مما لا يمكن معرفته. كما من التخمينات ما يعتقده البعض – مثل ماكس تيغمارك - بوجود كل العوالم الممكنة باي وصف كانت، فهي تحمل كل شيء وتفسر كل شيء دفعة واحدة، بما فيها الاكوان الملفقة غير المتناهية وقد يكون كوننا منها. مع ان هذه النظرية التخمينية لا تفسر شيئاً بهذا التعميم المطلق، مثلما انها تتجاوز الفارق بين الممكن والموجود بالفعل. كما هناك تخبطات كثيرة اخرى مطروحة حول مشكلة الالوهة وعلاقتها بنشأة الكون، وهي ما استدعت الفيزيائي بول ديفيز للاقرار بان النظريات المطروحة إما حمقاء او ناقصة بشكل خطير. وينتهي ديفيز الى اعتبار ان مثل هذه التخمينات لا تحتاج الى نقاش لولا انها برزت من علماء مرموقين.
لا شك ان النظام الثالث (التخميني) لا يشكل المجرى الرئيسي للعلم رغم انه آخذ بالاتساع حالياً. لكن هذا الاتساع في البحث الميتافيزيقي سيقضي على الامال والثقة التي يدلي بها الفيزيائيون بين حين واخر من الاقتراب من نهاية العلم الفيزيائي، وانه سيتم العثور على (نظرية كل شيء).
فخلال القرن التاسع عشر اعتقد اغلب العلماء بان قوانين نيوتن قد فسرت بشكل نهائي كل ما يتعلق بالطبيعة الفيزيائية. ففي منتصف هذا القرن عبّر هلمهولتز بقوله: ‹‹نتوصل في النهاية الى ان اكتشاف ان مسألة علم الفيزياء تعود الى ارجاع كل الظواهر الطبيعية الى قوى تجاذب وتنافر لا متغيرة تتعلق شدتها بالمسافة فقط. ان حل هذه المسألة يقود الى فهم تام للطبيعة››. ثم تلى ذلك اعتقاد الفيزيائيين بان العلم قد بلغ غايته في نهايات القرن المذكور، اذ اعتقد العلماء انهم قريبون الى توصيف كامل للكون، فتخيلوا ان الفضاء مملوء بوسط متصل هو الاثير، وان اشعة الضوء واشارات الراديو انما هي موجات في هذا الاثير، وكل ما احتاجوا اليه لصنع النظرية الكاملة هو القياسات الدقيقة للخواص المرنة لهذه المادة الشفافة.
وكان الشعور خلال القرن المذكور بان الفيزياء اصبحت علماً ميتاً او منتهياً، مثلما ينقل حول بعض العلوم الاسلامية بانها اصبحت من العلوم المحترقة بعد نضجها واكتمالها، كعلم الفقه والحديث. ومما يذكر في هذه الفترة انه عندما دخل الشاب ماكس بلانك في جامعة ميونخ (عام 1875) حاول استاذ الفيزياء فيليب جولي ان يثنيه عن دراسة العلوم مدعياً انه لم يبق فيها شيء يستحق الاكتشاف. كما تعرض الفيزيائي ميليكان لنصيحة مماثلة اذ قال: ‹‹في عام 1894 كنت اسكن في الطابق الخامس من الشارع الرابع والستين، غربي برودوي، مع اربعة طلاب اخرين من كولومبيا، واحد في الطب والثلاثة الاخرين في علم الاجتماع والسياسة. كانوا كلهم يقرعونني باستمرار على انغماسي في شيء منته، نعم في موضوع ميت كالفيزياء، في حين ان حقلاً جديداً حياً في علم الاجتماع قد فتح ابوابه الان على مصراعيه››.
وتكررت هذه المعزوفة في مطلع القرن العشرين، ومن ذلك ما توهمه كلفن اذ القى محاضرة (عام 1900) امام الجمعية البريطانية لتقدم العلوم قال فيها: ‹‹لم يبق امامنا الان شيء جديد نكتشفه في الفيزياء. بقي علينا فقط ان نزيد في دقة القياسات››. وهو قبل ذلك بقليل كان يتصور بانه لا يرى سوى غمامتين سوداويتين تعكران صفو السماء النيوتنية، هما الضوء والحرارة. وعلى هذه الشاكلة كان مايكلسون يرى بان الفيزياء مشرفة على الاكتمال، ثم بعد ذلك توغل اكثر فاعتبر الفيزياء يمكنها ان تفسر الكيمياء، ففي (عام 1912) توقع بان المستقبل القريب سيشهد اكتمالاً يضم الكيمياء والفيزياء على حد سواء.
وفي ذلك الوقت كان الاعتقاد السائد انه يمكن تفسير كل شيء عبر العلم بخواص استمرارية المادة، كالمرونة والتوصيل الحراري. لكن اكتشاف التركيب الذري ومبدأ عدم الحتمية او اليقين لهايزنبرغ قد وضع نهاية لهذا الاعتقاد. ومرة اخرى صرح الفيزيائي ماكس بورن لجماعة من زوار احدى الجامعات (عام 1928) بقوله: ‹‹ستنتهي الفيزياء التي نعرفها في خلال ستة اشهر››، وكانت هذه الثقة مبنية على اكتشافات ديراك للمعادلة التي تتحكم في الالكترون، وكان يعتقد بان معادلة شبيهة تتحكم في البروتون، وهو الجسيمة الثانية في الذرة آنذاك، لكن اكتشاف النيوترون والقوى النووية قد قضى على هذه الفكرة جملة وتفصيلاً.
كما ان محاولات اينشتاين للبحث عن قانون موحد للفيزياء يجمع فيه كلاً من القوتين الثقالة والكهرومغناطيسية؛ ما هي الا تعبير للبحث عن نهاية مكتملة للفيزياء، اذ لم يتخيل ان يكون هناك مجال لتعدد القوى والمبادئ في الطبيعة. بمعنى ان حسه الفيزيائي كان يصور له بأن الطبيعة لا بد وان تكون بسيطة ومقتصدة بحيث لا تحتمل اكثر من مبدأ واحد فقط رغم مظاهر التعدد والتكثر، وهو ما يعرف بنظرية المجال الموحد. وقد امضى ما يقارب ثلاثين سنة حتى وفاته وهو منشغل بهذا البحث النهائي دون نتيجة، رغم انه توضح فيما بعد بان اينشتاين كان يبحث في اطار ضيق، اذ لم يعالج قوتين اخريين لم تكونا معروفتين ايام شبابه، وهما القوتان النوويتان الضعيفة والشديدة، والتي تبين فيما بعد ان اي ادخال للقوة الثقالية معهما تفضي الى مشكلة ما يسمى باللانهائيات مع عدم القدرة على اعادة تطبيعها.
وفي منتصف الثمانينات وفي اوج ثورة الاوتار الفائقة الاولى كانت هناك امال عريضة بان الفيزيائيين سيفهمون نظرية الاوتار في فترة وجيزة وانهم سيكتشفون بانها النظرية النهائية الحتمية للكون. ولكن بدا ذلك ساذجاً فيما بعد، اذ ادت التوقعات غير الواقعية الى التراجع، حيث لم تتفق النظرية مع جميع القضايا، واصيب الكثيرون من الباحثين بالاكتئاب، حتى ان البعض اقترح وقف اقامة المؤتمرات السنوية الخاصة بالاوتار، الى ان حلت (سنة 1995) فتجددت الامال بولادة ثورة الاوتار الفائقة الثانية.
وخلال هذه الفترة وبالتحديد (عام 1992) وضع ستيفن واينبرغ كتاباً اطلق عليه عنواناً يشير الى ما نحن بصدده من البحث عن نظرية نهائية للفيزياء، وهو كتاب (احلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية جامعة شاملة)، واستهل هذا الكتاب بذكر اهدافه، فقال في الفقرة الاولى من مقدمته: ‹‹يروي هذا الكتاب قصة مغامرة فكرية عظيمة تهدف الى البحث عن القوانين النهائية للطبيعة. فمعظم الابحاث الحالية في فيزياء الطاقة العالية تستوحي مبرراتها من الحلم بالحصول على نظرية نهائية بهذا الصدد. ولئن كنا ما نزال نجهل الشكل الذي يمكن ان تتخذه القوانين النهائية، او عدد السنين التي سوف تنقضي قبل ان نعثر عليها، الا اننا نعتقد بوحي من النظريات التي نعرفها اليوم، اننا بدأنا ندرك ملامح اطار نظرية نهائية شاملة››.
كذلك فان ستيفن هوكنج - الذي نقلنا عنه بعضاً من هذه التفاؤلات الزائدة - يخبرنا هو الاخر بأنه على الرغم من كل ما ذكر ‹‹فان هناك اساساً لتفاؤل حذر بأننا نقترب من نهاية البحث عن القوانين النهائية للطبيعة››. وقبل ذلك صرح في خطاب له بمناسبة تسنم كرسي الرياضيات في جامعة كمبردج قائلاً: ان ‹‹نهاية الفيزياء النظرية اصبحت في مرمى البصر››، وذلك بموجب ما طرحته الثقالة الفائقة من امل عظيم. لكنه ادرك فيما بعد، كما في كتابه (الكون في قشرة جوز) بان الامور لا تجري بمثل هذه البساطة، فقال في مقدمة كتابه المذكور: ‹‹عندما نُشر (تاريخ موجز للزمان) لاول مرة في 1988، كان يبدو وقتها ان نظرية كل شيء النهائية تكاد تلوح لنا عند الافق. كيف تغير الموقف من وقتها.. سيصف هذا الكتاب كيف تقدمنا من وقتها لمسافة طويلة. الا ان الرحلة لا تزال تتواصل ولا تبدو نهايتها بعد للبصر.. على اني اعتقد انه لن يحدث قط اننا سنتوقف تماماً، سوف نزداد تركباً ان لم نزدد عمقاً، وسنكون دائماً محوراً لافق من الامكانات يظل يتزايد اتساعاً››. بل انه ذهب مؤخراً الى نقض ان تكون هناك نظرية موحدة لكل شيء بسبب مفارقة نظرية جودل الرياضية.
تتأسس نظرية الاوتار على فكرتين متصلتين، هما تكثر الابعاد الفضائية والاوتار. وتعود جذور الفكرة الاولى الى العشرينات من القرن الماضي على يد كالوزا وكلاين، اذ كان الرياضي كالوزا هو اول من ادخل فكرة الابعاد التي تزيد على اربع (عام 1919)، فاحتمل ابعاداً صغيرة جداً ملتفة على نفسها بشدة دون ان يكون هناك مجال للحاظها او الكشف عنها. وقد وجد كالوزا في معادلاته الرياضية انها ذات معادلات ماكسويل المستنبطة لوصف القوى الكهرومغناطيسية (عام 1880)، لذلك قام بتوحيد نظرية اينشتاين وماكسويل للضوء. بمعنى ان هناك علاقة بين قوتي الثقالة والكهرومغناطيسية. فكل منهما يرتبط بتموجات نسيج الفضاء، فحيث ان تموجات الجاذبية تُحمل في الفضاء الثلاثي الابعاد، لذا ينبغي ان تُحمل تموجات الكهرومغناطيسية في البعد الجديد المتموج والمدمج. وقيل ان اينشتاين اعجب بنظرية كالوزا الخماسية الابعاد والتي قامت بتوحيد القوتين الانفتي الذكر، وكتب الاول الى الاخير (عام 1919) ليخبره بانه لم يتخيل في حياته ان التوحيد بين النظريتين يمكن ان يتحقق من خلال عالم اسطواني ذي خمسة ابعاد، ثم اضاف: لقد اعجبتني فكرتك بشدة لأول وهلة. لكنه بعد اسبوع عاد وكتب اليه رسالة ثانية مشككة.
وتُستمد فكرة وجود ابعاد جديدة من قاعدة التمثيل، فمثلما ان الجاذبية محمولة في فضاء ثلاثي، فلماذا لا يكون المجال الكهرومغناطيسي هو الاخر محمولاً في ابعاد اخرى اضافية غير مرئية؟
هذا مع كالوزا وفكرة الابعاد الاضافية التي لها علاقة وثيقة بنظرية الاوتار. ومن العجيب ان يكون هناك اهداء لرجل دين انجليزي (عام 1884) يبدي تخيله لابعاد كثيرة للكون رباعية وخماسية وسداسية.
لكن الجذور الحقيقية لفكرة الاوتار تعود الى اواخر الستينات، وبالتحديد الى اعمال الشاب فينيزيانو (عام 1968). وكان الكثير من الفيزيائيين يحاولون العثور على مغزى كثرة الهدرونات التي تظهر تباعاً في المصادمات العالية الطاقة من المسرعات الجسيمية، وكان الشيء المحير هو ان لبعض الهدرونات فترة حياة قصيرة جداً من رتبة (10-23 ثانية) ، وهو اقصر الجسيمات عمراً ويسمى بالرنين. فكان هذا الشاب يحاول فهم الخواص التجريبية المختلفة التي لاحظها للقوى النووية الشديدة، وكان يعمل كمساعد باحث في مختبر المسرعات الاوروبي بجنيف بسويسرا والمعروف بمختبر سيرن (CERN). واستمر لعدة سنوات من البحث فتوصل في يوم ما الى كشف عظيم، اذ بدا ان هناك معادلة رياضية صالحة لوصف خواص القوى الشديدة، لكن من دون معرفة احد لماذا هي كذلك؟ وقد وضعها الرياضي السويسري البارز ليونارد يولر لغرض رياضي بحت منذ حوالي مائتي سنة، واسمها معادلة بيتا الخاصة بيولر، وكانت معروفة للقلة. فمع ان فينيزيانو اقترح هذا النموذج من الاجراء الرياضي، لكنه كان يعتقد بانه يخلو من اي معنى فيزيائي. في حين اتضح فيما بعد بانه يحوي اوصاف حركة وتر كمومية. فكانت الصدفة التي بدأها هذا الشاب هي ما ادت في النهاية الى نظرية الاوتار. فاصبحت فكرة الاوتار وصفاً للقوة التي تمسك بالكواركات معاً على شاكلة الرباط المطاط، وكأن الكواركات مربوطة عند اطراف هذه الاوتار، فكلما زادت مسافته ازداد قوة وتوتراً. وفي سنة 1970 قام كل من نامبو ونيلسن وسوسكيند بالكشف عن فيزياء خفية غير معروفة في ذلك الوقت وراء معادلة يولر الرياضية التي استخدمها فينيزيانو لوصف القوى النووية الشديدة دون تفسير. وقد بين هؤلاء انه اذا وضعنا نموذجاً للجسيمة الاولية صغيراً مثل اوتار احادية البعد متذبذبة فان تداخلاتها النووية يمكن ان تصفها معادلة يولر الرياضية بدقة.
وبذلك انبثقت اول نظرية للاوتار، وكان يطلق على النواة الاولى لها بنظرية الاوتار البوزونية. وتدل كلمة (بوزون) على ان كل الانساق الاهتزازية للوتر البوزوني لها حركة مغزلية (سبين) ذات رقم صحيح، ولا توجد انساق فيرميونية، اي لا توجد انساق ذات حركة مغزلية يختلف رقمها بمقدار (1\2) عن عدد صحيح. ويؤدي هذا الحال الى وجود مشكلتين: الاولى انه اذا كانت هذه النظرية تصف كل القوى وكل المادة فلا بد من ان تتضمن انساقاً اهتزازية فيرميونية ولها حركة سبين (1\2) ثانية. كما ان ما يدعو للحيرة هو التحقق من وجود نسق واحد للاهتزاز في هذه النظرية له كتلة سالبة سمي تاكيون.
لكن هاتين المشكلتين وجدتا حلاً مناسباً. فقد اكتشف شوارتز ونوفو نظرية وترية ثانية تحوي اوصاف الفيرميون (عام 1970). وفي (عام 1971) نقح بيير راموند نظرية الاوتار البوزونية لتحتوي انساق اهتزاز فيرميونية. وعلى اثر هذه الابحاث وابحاث شوارتز ونوفو بدأت بالظهور نظرية للاوتار جديدة، اذ تبين ان انساق الاهتزاز تأتي في ازواج، فلكل نسق بوزوني هناك نسق فيرميوني والعكس صحيح. فبحلول (عام 1977) وضعت بصيرة غليوتسي هذا الترافق والتزاوج على الطريق الصحيح فتضمنت النظرية الجديدة للاوتار التناظر الفائق والازدواج الملحوظ السابق بين الانساق الاهتزازية البوزونية والفرميونية. وبهذا ولدت نظرية الاوتار الفائقة التناظر. وقد بينت ابحاث غليوتسي وتشيرك واوليف ان اهتزازات التاكيون المزعجة للاوتار البوزونية لا تضر بالاوتار الفائقة.
وفي نظرية الاوتار يتطلب ان يكون لها ابعاد اضافية اكثر من اربعة لتتماسك رياضياً. وفي البداية كان الافتراض بان الابعاد (26 بعداً) ثم انخفض الى عشرة ابعاد (عام 1971). فالابعاد الستة والعشرون موضوعة لتفسير البوزونات والفرميونات، فالفرميونات تظهر كذبذبات في عشرة ابعاد، في حين ان ثراء عالم البوزونات يتطلب تفسيره في ستة عشر بعداً، والمجموع هو (26 بعداً).
وفي الايام الاولى لنظرية الاوتار اكتشف الفيزيائيون ان حساباتهم تفضي الى احتمالات سلبية غير معقولة لانها تكون تحت الصفر وليس بين الصفر والواحد، الا انه تبين فيما بعد انه عندما تتذبذب الاوتار في تسعة ابعاد فضائية مستقلة فان كل الاحتمالات السالبة تتلاشى. لذلك اكدت النظرية على ضرورة ان يكون الكون ذا عشرة ابعاد؛ ستة منها مجعدة والوتر مغروز فيها. فبعد تطور الانفجار العظيم توارت الابعاد الستة لتعبر عن وجودها كخواص كامنة في الجسيمات والقوى، ومن علاماتها الحقل الكهرومغناطيسي والنشاط الشعاعي، خلافاً للجاذبية التي بقيت الوحيدة المصاحبة لهندسة الزمكان، رغم ان جميع القوى والجسيمات هي ذات اصل هندسي.
ولم يمض وقت طويل قبل سقوط الوصف الوتري للقوى النووية الشديدة. ففي حوالي (عام 1974) حصل تطوير للكهروديناميك الكمومي وتوقف الاهتمام بالنظرية الوترية كنموذج للهدرونات. اذ كانت هناك محاولة لتطوير النظرية الوترية وتطبيقها على الثقالة كالذي قام به شوارتز وتشيرك.
وكان من ضمن مشاكل الاوتار القديمة، كالتي يستعرضها برايان غرين في كتابه (الكون الانيق)، هو ان هناك جسيمات اضافية تشبه المرسال تتضمنها النظرية مع انه لا يبدو ان لها علاقة بالقوة الشديدة. ففي (عام 1974) قام شوارتز وتشيرك بخطوة جريئة حولت هذه النقيصة الى فضيلة. فبعد دراسة النسق المحير شبيه المرسال لتردد الوتر ايقن هذان العالمان بان خواص تلك الجسيمات تتفق تماماً مع الجسيمات المراسلة المفترضة للجاذبية – اي الجرافيتون -. وقد اكتشفا ان هذه الصفات تتحقق بالضبط بواسطة انساق اهتزازية معينة. لذا تم الاعلان بان نظرية الاوتار ليست مجرد نظرية للقوى الشديدة ولكنها نظرية كم تتضمن الجاذبية ايضاً. ولكثرة المحاولات الفاشلة في ربط الجاذبية بالكوانتم فقد اهملت هذه النظرية ايضاً. واستمر الحال حتى (عام 1984)، وهو العام الذي اعتبر بانه يحمل الثورة الاولى للاوتار.
واهم ما في الامر هو انه لوحظ بان النظرية تتضمن نظريات عديدة ذات اشكال رياضية كثيرة، فهي من حيث الاساس عبارة عن خمس نظريات مختلفة. وقد حاول الفيزيائي ادوارد ويتن ان يرد هذه الصور الخمس المختلفة الى نظرية واحدة اساسية اطلق عليها مؤقتاً نظرية (M). فقد تم وصف احد المؤتمرات للاوتار (عام 1995) بانه يحمل ثورة اوتار ثانية بزعامة ويتن، اذ اخذت تتراكم ادلة على ان المعادلات الدقيقة قد تقوم بحل مشكلة التكثر في النظريات المتعددة للاوتار، ورسخت قناعة بان هذه الصور مرتبطة ببعضها بشكل حميمي مثل اطراف نجمة البحر. فبدلاً من وجود خمس نظريات مختلفة اقتنع الفيزيائيون بان هناك نظرية واحدة تنسج هذه النظريات الخمس في اطار نظري فريد. بل وهناك ذراع سادس او نظرية سادسة مع النظريات الخمس فصار المجموع يشكل نجمة بستة اذرع، او نظرية ذات تفرعات ستة.
فقد جمع ويتن هذه النظريات ضمن نظرية اساسية اطلق عليها بشكل مؤقت نظرية (M)، اذ قد تمضي عقود وربما قرون لتكون نظرية الاوتار كاملة ومفهومة، كما تشير الى ذلك ملاحظات ويتن وغيره، وكان ويتن يقول: ‹‹نظرية الاوتار جزء من فيزياء القرن الواحد والعشرين سقطت صدفة في القرن العشرين››.
ولرمز النظرية (M) معان متعددة محتملة مثل نظرية الغموض Mystery، او الأُم Mother باعتبارها أُم كل النظريات، او نظرية الاغشية Membranes، او المصفوفات Matrix. وهي نظرية ذات احد عشر بعداً وما زالت تحت التطوير. فنظرية (M) هي الارضية الموحدة لربط كل نظريات الاوتار الخمس معاً.
ولعل اقرب المعاني للمقصود من نظرية (M) انها أُم النظريات او نظرية الاغشية او البرانات.
فهي أُم النظريات باعتبار ان النظريات الاخرى للاوتار صور مختلفة لها، وجميعها تشترك بقضايا اساسية، منها ان لها عشرة ابعاد زمكانية، وان انساقها الاهتزازية تحدد الكتلة وشحنات القوى، وانه لا بد لابعادها المتجعدة ان تكون احد اشكال (كالابي – ياو). ومع ان احدى هذه النظريات تختلف عن البقية في عدد ابعادها، حيث تتطلب (26 بعداً) للزمكان، وهي النظرية البوزونية، لكن تم التوصل الى ان الانساق الاهتزازية اذا كانت ضد اتجاه عقارب الساعة فانها تتطلب (26 بعداً)، اما لو كانت باتجاه عقارب الساعة فستتطلب (10 ابعاد) فقط. وقد بين غروس ومعاونوه بان الابعاد الستة عشر الزائدة في الجانب البوزوني لا بد من ان تتجعد في شكل واحد من شكلين خاصين جداً من اشكال الدونت او الكعكة ذات الابعاد الكثيرة. لذا فكل واحدة من هاتين النظريتين تسلك كما لو كان لها عشرة ابعاد.
كما ان نظرية (M) هي نظرية الاغشية او البرانات، ذلك ان عناصرها ليست اوتاراً فقط، بل اغشية او برانات لها ابعاد متنوعة. فقد تم اقتراح ان ابعادنا الثلاثية المألوفة يحتمل ان تكون اغشية ثلاثية – اي ثلاثة برانات – كبيرة وغير ملفوفة لكنها مدمجة ضمن ابعاد اكثر، ولأننا ضمن غشاء فاننا لا ندرك هذه الابعاد، وعندما نقوم باعمالنا اليومية فاننا نسير داخل هذا الغشاء الثلاثي الابعاد، وتجري الان دراسات لمثل هذه الاحتمالات.
كما وصفت النظرية بانها غامضة جداً، وهو ما يناسب رمزها المذكور، وهي ايضاً مجردة للغاية دون اعتبار للتنبؤات التجريبية.
وعلى العموم هناك اوتار ذات بعد واحد، وبعض الاوتار يحوي اغشية ذات بعدين، كما هناك اوتار لها ثلاثة ابعاد او اربعة، والاحتمالات تصل الى حد تسعة ابعاد. فنظرية (M) لها اجسام ممتدة ذات عدد وافر من الابعاد الفضائية المختلفة، مثل ثلاث برانات او اربعة وهكذا؛ حتى نصل الى تسعة برانات للابعاد الفضائية التسعة. وتوصف الاوتار احياناً بانها واحد بران والاغشية اثنان بران، وهذا ما جعل بول تاونسند يعلن عن ديمقراطية البران.
لكن ظلت مشكلة نظرية الاوتار قائمة بتعددها وكثرة حلولها الرياضية، دون ان يعرف لحد الان اي صيغة تتلائم مع الواقع الموضوعي. وبالتالي ما بدا للفيزيائيين ان نظرية الاوتار هي نظرية كل شيء فان الحقيقة تبدي انها لم تقدم شيئاً يمكن فيه اختبارها لحد الان. بل ظهرت الاف النظريات للاوتار والاغشية المحتملة، ولهول القضية فقد كان الفيزيائي آندي آلبخت يقول مرة وهو غاضب: ‹‹ان نظرية الاوتار ليست نظرية كل شيء، بل هي نظرية اي شيء››. كما عبّر ميشو كاكاو وهو احد منظري هذه النظرية عن قلقه بقوله: ‹‹اذا كانت نظرية الاوتار نفسها خاطئة فان ملايين الساعات والاف الاوراق ومئات المؤتمرات وعدداً من الكتب ستذهب سدى. وما املنا منه ان يكون نظرية لكل شيء سيتحول الى نظرية للاشيء››.
وعموماً تتضمن نظرية الاوتار العديد من الافتراضات الميتافيزيقية المختلف حولها بين العلماء، كتلك المتعلقة بعدد الاوتار.