لقد اصبح من المسلم به ان العلم دخل طور المرحلة الميتافيزيقية بعد ان استبعدها من حسابه كلياً خلال القرون الثلاثة الاولى للنهضة. فجاءت هذه المرحلة تتويجاً للمراحل التي سبقتها والتي بدأت بالمرحلة الاجرائية الاستقرائية او التجريبية، ومن ثم المرحلة الافتراضية الاستنباطية، واخيراً اصبحت النهاية عند المرحلة التخمينية الميتافيزيائية. لذا كان لا بد من مقارنة هذه النظم العلمية الثلاثة كالتالي..
بداية لا بد من التذكير بان اهم ما يحمله النظام الثاني من نظريات هو النسبية لاينشتاين وميكانيكا الكوانتم كما تتمثل لدى مدرسة كوبنهاكن بزعامة نيلز بور، في حين ان اهم ما يحمله النظام الاول هو نظرية نيوتن، وبالتالي فهذه النظريات الثلاث هي ما تمثل اهم النماذج العلمية حتى يومنا هذا. ووفقاً للفيزيائي كابرا فان لكل نموذج من هذه النماذج تطبيقاته التي تناسبه، فما يناسب النموذج النيوتني هو وجود الاجسام الكبيرة والسرعات الصغيرة في الكون، وعند غياب الاول يحل النموذج الكوانتي، في حين عند غياب الثاني يحل النموذج الاينشتايني.
وهنا قد نتساءل عن طبيعة العلاقة التي تربط النظام الثاني بالاول، فهل انه اعتمد عليه في الاساس ثم غايره في المراحل المتأخرة، ام انه قاطعه مقاطعة كلية؟ فقد عرفنا ان النظام الاول اعتمد على الطريقة الاستقرائية، في حين اعتمد النظام الثاني على الطريقة الافتراضية، والسلوكان متعاكسان، وهو معلوم، فاحدهما يصعّد المعرفة من الواقع، في حين يعمل الاخر على تنزيل المعرفة وبسطها على الواقع. وبعبارة اخرى ان الاول يعتمد على القواعد المنطقية، في حين يعتمد الثاني على المغالطة المنطقية. واذا كان الاول يظن في اعتماده على الطريقة المنطقية بانه يحصل على القطع – عادة - دون خيارات ممكنة اخرى، فان الثاني على العكس، يعي بان طريقته الافتراضية لا تسمح له بالقطع الدوغمائي، ويعي ايضاً انه يطرح مغامرة وفق النهج المنطقي المغالط. لكن رغم كل ذلك فهل ان النظام الثاني قد اعتمد في الاساس على جزء من مسلمات النظام الاول؛ كإن يفترض النهج الاستقرائي لقضايا معينة يعتقد بصوابيتها؟ ام هناك قطيعة معرفية مثلما صوّرها عدد من فلاسفة العلم؟
كما يرد سؤال اخر يتعلق بالتأثير الفلسفي على رؤية النظامين السابقين؟ وهو ما سنطرحه الان كالتالي:
ان جذور التمايز بين هذين النظامين يمكن ارجاعه الى الخلاف الفلسفي - كما ظهر خلال النهضة الغربية الحديثة ابان القرن السابع عشر - بين النظرية العقلية كما تتمثل لدى ديكارت واتباعه، والنظرية الحسية التجريبية كما لدى فرانسيس بيكون واتباعه. فبحسب النظرية الاولى ان بامكان العقل الكشف عن الواقع الموضوعي، وان التجربة تظل بحاجة ماسة للتعميمات والافتراضات العقلية. فقد كان ديكارت يعتقد بان المعرفة المحصلة لا ترتكز على التجربة، وانما على بديهات الهندسة الرياضية وعلم الحركة التي يدركها العقل بنوع من الحدس، حتى قال مرة متفاخراً: ‹‹اعطني امتداداً وحركة لأبني لك العالم››. في حين انه بحسب النظرية الثانية فان معرفة الواقع لا تتعدى حدود الحس والتجربة. وكل ذلك قد انعكس على المنطق العلمي فيما بعد.
وربما يكون اول نزاع صريح بين النظامين على مستوى هذا المنطق هو ما حدث بين جون ستيوارت مل ووليام هويويل خلال القرن الثامن عشر، وذلك قبل ان تتكشف ثمار النظام الثاني ودواعيه ابان القرن العشرين. وقد تعلق النزاع بينهما حول طبيعة المفاهيم والنتائج المستخلصة من المنهج العلمي بواسطة الاستقراء. فقد كان ستيوارت مل يعتقد ان النتائج العلمية انما تعبر عن مفاهيم مستنسخة من الواقع، أو انها تمتاز بالمطابقة معه، وفاقاً مع الرؤية البيكونية، وخالفه في ذلك وليام هويويل الذي رأى ان القوانين العلمية عبارة عن افرازات ذهنية بما يتسق مع الرؤية الديكارتية. فبينما كان ستيوارت مل يقول: «اذا صح ترتيب الوقائع تحت المفاهيم، فالسبب في ذلك هو ان الوقائع نفسها تتضمن شيئاً يكون المفهوم نسخة منه»، فإن هويويل اعترض عليه قائلاً: «ولكنها نسخة لا يستطيع صنعها الا شخص ذو موهبة طبيعية خاصة، وهذا الوضع شبيه بوضع الشخص الذي يتعذر عليه ان يعدّ نسخة مفهومة من نقوش رديئة الكتابة الا اذا كان ملماً باللغة». لهذا رأى هويويل ان كل استقراء ناجح هو بمثابة مفهوم جديد ونظام جديد يصنعه المؤلف من مادته اللغوية والمنطقية. فمثلاً يتمثل هذا المفهوم في المنحى الاهليليجي لحركة الكواكب في حالة كبلر، وفي العجلة في ميكانيكا غاليلو، وفي العجلة والجاذبية في فكر نيوتن، وفي الموجات في علم الضوء الحديث. وعليه فانه يصل الى تقرير: «ان تاريخ العلوم الاستقرائية هو تاريخ الاكتشافات، على الأقل فيما يختص بالوقائع التي جمعت بعضها الى بعض لتؤلف العلم. وفلسفة العلوم الاستقرائية هي تاريخ الآراء والمفاهيم التي تربط الوقائع بعضها ببعض» .
ويتضح من النص السابق ان ما يقوله ستيوارت مل انما يعبر عن النظام الاول (الاجرائي)، في حين ان ما يقوله هويويل يقترب من النظام الثاني (الافتراضي). فالاول متمسك بالجانب التجريبي المحض من دون اضافة شيء اخر، في حين يرى الثاني ان للعقل اضافاته الخاصة، وهي اشبه بالاضافات التأويلية كما يمارسها اصحاب قراءات النصوص ضمن فن التأويل (الهرمنوطيقا). أو كما يرى فيلسوف العلم دوهيم أن التجربة في الفيزياء تؤدي إلى الملاحظة المثقلة بالنظرية دائماً، فالتجربة ليست مجرد ملاحظة لظاهرة ما، بل هي كذلك تأويل نظري لهذه الظاهرة
وهنا يلاحظ ان النظام الاول يتصف بالحفاظ على الطابع المنطقي، وهو المنهج الاستقرائي الذي يعول على انتزاع التفسير وفقاً للظواهر الفيزيائية المرصودة، او القابلة للاختبار والتحقيق، فهو بالتالي قائم على التوالد المنطقي او الموضوعي. في حين يقوم النظام الثاني بتجاوز هذا التوليد والعمل وفق المغالطة المنطقية التي لا تبررها العملية الاستقرائية ولا الاختبارات التجريبية وحدها. ولأنه يعتمد على التوالد الافتراضي؛ لذا نجده غارقاً في مسبح التأويل المفتوح والهرمنوطيقا خلافاً للنظام الاول.
لذلك كانت الوضعية المنطقية بداية القرن العشرين حريصة على جعل البناء العلمي يتخذ صبغة منطقية دقيقة وفقاً للتجارب والتحقيق الاستقرائي كما يفترضها النظام الاول، خلافاً للنزعات التي تعول على الافتراضات الاستنباطية المفتوحة الافق، رغم ان لاينشتاين تأثيراً كبيراً على توسع افق هذه المدرسة الفلسفية، من خلال تقبل بعض زعمائها لنظرياته الجريئة في النسبية وما تنطوي عليه من حدس وخيال، كما هو حال صديقه الفيلسوف الوضعي الالماني ريشنباخ.
لقد كان من بين النتائج المترتبة على النظامين السابقين هي ما يتصف به النظام الاول من الميل الى القطعية كما هو الحال في الزمن السابق للقرن العشرين، او على الاقل الاعتبارات المدعومة بنظرية الاحتمال كالذي عليه الوضعية المنطقية، خلافاً للنظام الثاني. اذ ما يعتمد عليه الاول هو التوالد المنطقي، وقد ظن العلماء قبل القرن العشرين ان ذلك كفيل بجعل الممارسة قطعية غير قابلة للاحتمالات الاخرى، وشاهد تصورات نيوتن بهذا الصدد واضحة تماماً، لذلك فهو لا يشكك في نظريته عندما يعجز عن تفسير بعض الظواهر، بل يلجأ الى القضايا الميتافيزيقية كطوارئ استثنائية، مثل تعويله على حكمة الله لاكثر من مرة. في حين لا يرد هذا الحال لدى النظام الثاني، فحيث انه يعول على الفرض ويخاطر في التوليد دون اتباع القواعد المنطقية الصارمة؛ لذا فهو لا يدمغ النتائج التفسيرية بوصمة القطع، ولا باعتبارات نظرية الاحتمال المنطقية كالذي ترتكز عليها الوضعية المنطقية، كما انه ليس مضطراً للتعويل على القضايا الميتافيزيقية، ربما لأنه يدرك بان افتراضه غير قطعي وقابل للتبديل بآخر.
وسبق لاينشتاين أن صرح بأن اغلب الفيزيائيين والفلاسفة الطبيعيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا يعتقدون بأن التصورات والمسلمات الفيزيائية، ومنها القوانين الفيزيائية، لا يجوز أن تختلق بحرية، بل تشتق وتستنتج من الخبرة الحسية المباشرة عبر التجريد النظري. وعلى رأيه بأن محاولات الاشتقاق المنطقي للتصورات ومسلمات الفيزياء الميكانيكية وردها الى الخبرات البسيطة الاولية؛ هي محاولات محكوم عليها بالفشل. واعتبر هذه الفكرة من العملية الاستقرائية ضيقة الافق، بحيث انها كما لو كانت تدعو الى الوصف المحض للوقائع عبر صياغتها في عبارة وجيزة، فتكون تضمينات لعدد كبير من الملاحظات الفردية في صورة قوانين وصفية طبقاً للاستقراء، مع ان ذلك لا يمكنه ان يحيط بكل نواحي الوصف الواقعي كالذي يسعى اليه الحدس والفكر الاستنباطي. واعتبر ان ما يقبل الاختبار والفحص عن طريق المشاهدة المباشرة ليس المبادئ العامة، بل بعض النتائج التي تترتب عليها والتي يمكن ان تصاغ في اصطلاحات من المفاهيم الحسية. اما نفس المبادئ فلا يمكن اختبارها مباشرة.
ولا نجانب الصواب لو قلنا بان هذا الخلاف بين النظامين قد حسم لصالح النظام الثاني، فمع انه مازال هناك من يريد الالتزام بمحض المنهج الاجرائي الحسي كالذي عليه الوضعية المنطقية؛ الا ان غالبية العلماء قد اتفقوا على ان هذا المنهج لا يفي بالوصول الى النتائج البعيدة الغور، كتلك التي تتعلق باعماق الفيزياء الجسيمية، او تلك التي لها علاقة بعلم الفلك والفيزياء الكونية. فمثلاً لم يكن من الميسر فهم القوى النووية الشديدة والضعيفة عبر حساب المصفوفات الكمية التي يمكن رصدها في الفيزياء المجهرية، وانما تم تفسيرها عبر الحقول الكمومية التي لا يمكن رصدها. ومثل ذلك ايضاً فيما يتعلق بالنظرية الحديثة الخاصة بالكواركات، فقد عرف ان التخلي عن المبادئ الحسية للرصد كما يزاولها النظام الاول هو الذي كان له اعظم الاثر في صنع نظرية الكواركات اوائل الستينات من القرن الماضي.
كذلك ثبت بان مسار العلم لا يمكنه الاستغناء عن التجارب الخيالية التي يمارسها هذا النظام، ومن ضمنها تلك التي عول عليها اينشتاين وغيره. بل ظهر ان لهذه التجارب اثارها خلال النهضة العلمية الحديثة ابان القرن السابع عشر، اذ كان غاليلو يعتمد احياناً على التجارب الخيالية، مثل تلك المتعلقة بالسقوط الحر للاشياء ومثلها الحركة المنتظة للسفينة والتي لا يشعر بحركتها؛ كتبرير لحركة الارض التي لا يحس بها. وقد عوّل عليها غاليلو، حتى وإن بدت مفارقتها للحس المشترك العام، اعتماداً على ما يعرف بمبدأ العطالة او القصور الذاتي، والذي اعتمده نيوتن كقانون اول لقوانين الجاذبية الثلاثة مع بعض الاختلاف. وما زال العمل في التجارب الخيالية ساري المفعول، سواء في وسط الفيزياء الجسيمية كما يمارسه علماء الكوانتم، او في وسط الفيزياء الفلكية والكونية كما يمارسه علماء النسبية وغيرهم.
وعلى العموم نرى ان العلم ينظر الى هذه الامور بحسب خواتمها، فلو كانت التجارب الخيالية والمفاهيم النظرية والرياضية منتجة على مستوى التفسير والتنبؤ فإنها ستكون ملائمة ومقبولة، اما لو كانت غير ذلك لكان مصيرها العزل والطرد. وبالتالي يمكننا تقدير اهمية هذه التجارب والمفاهيم النظرية طالما اثبتت فائدتها البراجماتية ودفعها للعلم نحو الامام. ولو ان السحر كان له هذا الفعل الايجابي لكان العلم كفيلاً بالاعتماد عليه، لكن حيث انه لم ينتج ثمرة تذكر على هذا الصعيد، لهذا فانه مع غيره من المعارف الاخرى كالدينية وما اليها ليست مورداً للاعتماد العلمي، وهو امر يختلف فيه الحال مع التجارب الخيالية والتأويلات الرياضية. رغم ان البعض – مثل فيلسوف العلم فيرابند - ينازع في ذلك ويرى ان العلماء لا يعرفون شيئاً عن بقية المعارف الاخرى ويهاجمونها ويتهمونها من دون ان يتعرفوا عليها تفصيلاً او من حيث الداخل، وهو يعطي بعض الامثلة الخاصة بالتنجيم؛ حيث هاجمه بعض العلماء مع اعترافه انه لا يعرف عنه شيئاً محصلاً. وبالتالي فهو يرى ان للمعرفة المتقدمة ابواباً متعددة، احدها هو العلم وهو ليس افضلها، وعنده ان المعرفة الصحيحة لا تعتمد على منهج محدد، لذا كان المبدأ الذي يعول عليه دائماً هو: ‹‹كل شيء يمر››.
ومع ان بداية القرن العشرين كانت مزدحمة بالنتائج العلمية لكلا النظامين الاول والثاني، لكن النظام الاخير اخذ يسيطر على المواقع العلمية أكثر فأكثر، وكل هذا كان على حساب النظام الاول الذي اخذ يتقلص ويضمحل بالتدريج، وظهرت النقلة من الاول الى الثاني، كتلك التي عبّر عنها احد رواد فيزياء الاوتار من نقلة تقدم المنهج التجريبي على النظري الى العكس، فكما صوّر الفيزيائي ديفيد غروس الموقف في عبارة بليغة: ‹‹اعتدنا اثناء تسلق جبل الطبيعة ان يكون التجريبيون في مقدمة الطريق، وكنا نحن النظريين الكسالى نتبعهم. وبين الحين والاخر كانوا يركلون حجراً تجريبياً يصطدم برؤوسنا، وكنا نفهم الفكرة في نهاية الامر ونتخذ الطريق الذي مهده التجريبيون. وعندما نلحق بهم كنا نفسر لهم المنظر وكيفية وصولهم اليه. كان ذلك هو الطريق القديم السهل لتسلق الجبل، ونتوق جميعاً للعودة الى تلك الايام. لكننا نحن النظريين قد يتحتم علينا ان نقود الان، وهذا امر اكثر وحشة››.
لقد كان اينشتاين يعمل وفق الطريقة الافتراضية الاستنباطية في صياغة المبادئ النظرية والتصورات العقلية ليستخرج منها النتائج التجريبية. ويعتبر ان المفاهيم والقوانين الاساسية كما تحددها المبادئ النظرية هي ابتكارات حرة للفكر الانساني، باعتبارها غير منتزعة عن التجربة والاستقراء. لكن هذه الابتكارات الحرة ليست مفصولة كلياً عن الاختبار والتجربة، فهي ليست كالرياضيات العقلية المحضة، كما انها لا تشبه حرية كاتب الروايات الادبية او تخيلاته، بل هي اقرب الى حرية من يقوم بحل لغز من ألغاز الكلمات المتقاطعة. صحيح انه يستطيع اقتراح اي كلمة لحل اللغز، لكن ليس هناك الا كلمة واحدة فقط تحل اللغز في جميع اجزائه. ومن ثم فالطبيعة تتخذ مثل هذا الطابع للغز.
وبلا شك فان هذا المعنى مبالغ فيه للتعبير عن التفسير النظري لعلاقات الطبيعة، فمازالت التفسيرات مفتوحة على مصراعيها، ففي كل مرة يظن العلماء بان الكلمة الاخيرة قد وجدت لحل اللغز في جميع اجزاء الكلمات المتقاطعة، الا انه يظهر بان هذه الكلمة ليست هي المطلوبة على نحو الدقة، ومن ذلك انه ثبت بان النظرية النسبية لاينشتاين لم تكن الكلمة الاخيرة لحل اللغز، ولا توجد نظرية لحد الان تقوم بهذا الدور العظيم. لكن ما يستفاد من تمثيل اينشتاين السابق هو انه اراد ان يجعل الحدس العلمي الخلاق مهماً للغاية في التعبير عن الوصول الى النظريات المناسبة، خلافاً للطريقة الاستقرائية التقليدية، لهذا وصف الحرية في هذا العمل العلمي بالتعبير (ضد الاستقرائية)، وهو ما يعني صياغة المبادئ النظرية غير المستخلصة من التجربة مباشرة وفق ارضية منطقية بحتة. وقد اعتمد في ذلك على لحاظ التعارض بين النظريات دون الاهتمام بالتجارب الفعلية.
هذا هو المنهج الافتراضي الاستنباطي، وقد وجد رفضاً من قبل النزعة الاجرائية وطريقتها التجريبية. فبحسب المنهج الاخير انه ينبغي ان تتجسد النظرية الفيزيائية برمتها للاختبار التجريبي. فاستناداً الى الفيزيائي بريجمان ان عناصر النظرية الفيزيائية من المفاهيم والمبادئ لا بد من ان تخضع للاثبات التجريبي كي يمكن قبولها، فهذا هو المعنى الاجرائي الوظيفي للتجسيد التجريبي للنظرية الفيزيائية بحسب بريجمان. مع انه بحسب المنهج الافتراضي كما لدى اينشتاين فان في النظرية عناصر لا يمكن للتجربة ان تدلي بها مباشرة، وهي بحسب المنهج الاجرائي لبريجمان لا بد من عزلها عن النظرية الفيزيائية، مع ان عزلها يطيح بالنظرية كاملة.
ان هذا المعنى الذي تدلي به النزعة الاجرائية جعلت من بريجمان يقف موقفاً سلبياً اتجاه التجارب الخيالية كما لدى النزعة الافتراضية لاينشتاين. فبحسب رأي بريجمان فان هذه التجارب تقدم عنصراً تأملياً في حل المسائل القابلة للملاحظة، الامر الذي لا يقبل – بحسب وجهة نظره – في الفيزياء، وعليه لا بد من اقصائها من هذا العلم واستبدالها بتجارب حقيقية او واقعية، فمثلاً انه يرى بان الباحث الفيزيائي لن يتمكن ابداً من معرفة ماذا يوجد داخل النجوم، او ماذا حدث قبل ملايين السنين، وبالتالي فان الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات يصبحان بحسب وجهة نظره مليئة بالفرضيات التأملية الخارجة عن العلم.
ويُذكر بان اينشتاين كان في بداية امره مشدود الاعتقاد بهذه النظرة الضيقة متأثراً في ذلك بالفيلسوف الفيزيائي الوضعي ارنست ماخ. فقد كان هذا الفيلسوف شديد التأكيد على عدم مفارقة الحس ومعارضة الافكار الميتافيزيقية. وطبّق هذا الرأي الفلسفي على الاعتقادات العلمية المتمثلة بالكيانات النظرية كما هو الحال مع النظرية الذرية. فحتى بعد ان استتب المذهب الذري لدى كافة الناس تقريباً كتب رسالة الى بلانك (عام 1910) يقول فيها: ‹‹اذا كان الاعتقاد بواقعية الذرات حاسماً لهذه الدرجة فسأتخلى عن طريقة التفكير الفيزيائية، ولن اكون فيزيائياً محترفاً، وسوف ارتد عن سمعتي العلمية››. لذلك يذكر انه عندما كتب اينشتاين نظرية النسبية الخاصة (عام 1905) كان بادي التأثر بأفكار ماخ الحسية، ومن ذلك ما كان يذكره من تعاريف تخص الزمان والمكان، فهو لا يتعدى المعنى الحسي المألوف لهما، فالزمان هو ما يقاس بالساعات وما شاكلها، ومثل ذلك المكان حيث يقاس بالقضبان كالمسطرة وما شابهها. وهو بعد بضع سنوات من كتابته للنسبية الخاصة كتب رسالة الى ماخ ذيّل فيها عبارة: ‹‹تلميذك المخلص››. وخلال العشرينات من القرن الماضي ادرك هايزنبرغ بأن اينشتاين قد غيّر مسلكه الفلسفي ازاء النظرة الحسية المحدودة كما جسدها في بداية تناوله للنظرية النسبية. ففي محاضرة القاها هذا الفيزيائي (عام 1974) ذكر بأنه قد جرت بينه وبين اينشتاين في برلين محادثة قديمة اوائل (عام 1926) كالتالي:
لقد لفت اينشتاين الى اننا لا نستطيع في الواقع ان نلحظ مسار الالكترون في الذرة، ان ما نسجله فعلاً هو تواترات الضوء الصادرة عن الذرة وشداته واحتمال الانتقالات بين المدارات الذرية، لا المسار الفعلي، وبما ان من غير المعقول ان نُدخل في النظرية الا كميات يمكن ان ترصد مباشرة فان مفهوم المسارات الالكترونية يجب ان لا يوجد في النظرية. لكنني فوجئت بان اينشتاين لم يكن راضياً عن هذه المحاكمة، كان يرى ان النظريات كلها تحوي في الواقع كميات غير قابلة للرصد، وان مبدأ استخدام الكميات القابلة للرصد وحدها ليس صالحاً في كل الاحوال. وعندما اعترضت على ذلك بانني لم افعل سوى ان طبقت نوع الفلسفة الذي اتخذه هو اساساً لنظريته النسبوية الخاصة؛ أجابني بكل بساطة: ‹‹ربما كنت قد استخدمت بالفعل كهذه في الماضي، وكتبت ذلك ايضاً، لكن هذه الفلسفة هراء على كل حال››. لذلك وصف اينشتاين ماخ وحتى قبل هذه المحاورة (عام 1922) بانه ميكانيكي جيد لكنه فيلسوف بائس.
لكن علينا ان لا نغالي بتأثر اينشتاين بالافكار الحسية عند صياغته للنسبية الخاصة، والا كان من الصعب ان نفسر كيف كان يستخدم التجارب الخيالية ليصل الى نتائج غير مألوفة، مثلما كان من الصعب تفسير كيف انه احتفظ ببعض الفروض المسلمة التي لا دليل عليها كثبات سرعة الضوء وما اليها. يضاف الى ان له بحثاً في ذات السنة التي نشر فيها النسبية الخاصة (عام 1905) حاول فيه ان يقنع الفيزيائيين بوجود الذرات والجزيئات من خلال ما يعرف بالحركة البراونية، وقد كانت الذرات والجزيئات في هذا الوقت مستبعدة لدى الفيزيائيين كما نص على ذلك صديقه الفيزيائي المعروف ماكس بورن.
مع هذا لم يأتِ النظام الثاني ليطيح بالنظام الاول تماماً. فقد نجد في النظام الثاني بقايا ما للاول احياناً، حتى ان نظرية النسبية لاينشتاين قامت على فرضية الجاذبية لنيوتن وان فسرتها تفسيراً مختلفاً، كما انها استندت الى بعض فروضات هذه النظرية لا سيما ما يتعلق بمبدأ العطالة (القصور الذاتي) او القانون الاول للجاذبية ضمن ما يعرف بالنظرية النسبية الخاصة. وبالتالي يظهر احياناً ان هناك شيئاً من التداخل بين النظامين، وهو ان النظام الاول لا يخلو من تضمنه لبعض الفروض التي يتأسس عليها الطابع الاستنباطي، كالقانون الاول لنيوتن، ولو من غير ادراك له، اذ كان نيوتن يصف استنتاجاته بانها استقرائية بحتة من غير فروض، مثلما سبقت الاشارة الى ذلك. لكن تظل هذه الفروض ضيقة لا تقارن بالطلاقة التي صنعها النظام الثاني، لا سيما ان فرضياته ونتائجه تتضمن الكثير من القضايا غير المألوفة التي تتجاوز الحس الوجداني العام.
هكذا لا يلغي النظام الافتراضي النظام الذي قبله، بل يضيف اليه ما لم يستوعبه الاول، بمعنى انه يحترم ما للطريقة الاجرائية من دور علمي، لكنها تظل محدودة الافق، فلو كان بالامكان اقامة التجارب الواقعية على كل ما تتضمنه النظرية الفيزيائية لما كانت هناك حاجة للتجارب الخيالية والافتراضات الحدسية، ولا الى المفاهيم النظرية والتأويلات الرياضية المجردة نسبياً. لذا يتميز هذا النظام عن سابقه بعنصر الافتراضات الحدسية والخيال والتأويلات الرياضية المفتوحة والبعد عن التجارب المباشرة كما رأينا.
وعموماً فان كل نظام جديد ما ان يبدأ حتى يحتفظ بشيء من النظام الذي قبله، كما ان كل نظام قديم يحمل شيئاً من جذور النظام الجديد. فالنظام الاول الاجرائي بدأ وفي احشائه شيء من بقايا النظام القديم، كما ان هذا الاخير بقي مدة من الزمن ينافس النظام الجديد حتى اخذ يتضاءل شيئاً فشيئاً ومن ثم انتهى ظاهرياً تقريباً، وان اخذ يظهر بوجوه اخرى متطورة. كذلك فان جذور النظام الاول كانت موجودة لدى النظام القديم، فهناك بوادر خلاقة لبعض العلماء القدماء يمارسون دوراً علمياً وفقاً للطريقة الاجرائية الحديثة، ومن ابرزهم الفيزيائي البصري ابن الهيثم ومن قبله ارخميدس. وبالتالي فالنظام الاول يجد بعضاً من جذوره لدى النظام القديم، كذلك فان النظام الثاني يجد جذوره في النظام الاول، وهو واضح من الافتراضات العلمية لنيوتن وغاليلو التي لا تبررها الطريقة الاجرائية او الاستقرائية، مثل قانون العطالة او القصور الذاتي، وفكرتي الزمان والمكان المطلقين، ومثلها فكرة الاثير المفترضة، فهي افكار فلسفية دون ان تستقى من التجارب والملاحظات الاستقرائية. كما ان بقايا النظام الاول نجدها في احشاء النظام الثاني وان اخذت تضمحل وتتلاشى تدريجياً. فقد كان اينشتاين في بداية تفكيره يحمل بقايا طريقة النظام الاول، كما في النسبية الخاصة.
بل ان رفض اينشتاين لفكرة الاثير والزمان والمكان المطلقين هو مما ينسجم وروح النظام الاول، رغم ان ذات هذا النظام كان متمسكاً بمثل هذه الافكار رغم انها ميتافيزيقية، وقد آل اينشتاين اخيراً الى ترك طريقته الحسية هذه واعتبرها ساذجة بائسة كما اشرنا اليها من قبل. ومثلها كانت طريقة هايزنبرغ في الكوانتم، فهي تميل الى النظام الاول الاجرائي خلافاً لاتجاه استاذه نيلز بور. ومن ذلك ان الاخير قد افترض فكرة مسارات الالكترون مع انها لا تتبين في الرصد، وقد رفضها هايزنبرغ معتمداً في تفسيره على الاطوال الموجية لخطوط الطيف الشعاعية التي يصدرها الالكترون عند فقده للطاقة.
لذا فان هناك بقايا للنظام الاول اخذت تزاحم النظام الثاني المتصاعد.
كذلك هو الحال في المقارنة بين النظامين الثاني والثالث. فمن الواضح ان النظام الاخير له جذوره القوية في النظام الثاني، وهو يستخدم ذات المنهجين (الخيالي-الرياضي) و(الرياضي-الخيالي) دون ان يتعداهما، كما ويعتمد عليه في التفسير عادة. بمعنى ان للثاني بقايا لدى الثالث. وهما الان يتزاحمان، اذ اخذ الاخير يتصاعد على حساب الثاني، وقد يصيب الثاني ما اصاب الاول من ضمور، وتبقى الساحة فارغة للنظام الاخير. لكن لهذا النظام شبهاً بالنظام القديم، فهما يشتركان في الافتراضات الميتافيزيقية التي لا تلوحها الاختبارات التجريبية، رغم ان النظام القديم دوغمائي الاتجاه فيما ان الاخير ذو نزعة تخمينية. تبقى ان الرابطة بينهما قد تحوّل الاخير الى الأول، لا سيما عندما يتخذ التفسير الفيزيائي صبغة فلسفية تتعلق بوحدة الوجود كما يميل اليها الكثير من العلماء بالفعل، مما يستدعي تفصيلها ضمن كتاب مستقل.
هكذا فان لكل نظام بقايا ظلت موجودة تزاحم النظام الاحدث فترة من الزمن قبل ان يطرأ عليها الاضمحلال، لكنها قد تستعيد حياتها بطريقة توفيقية مع النظم الجديدة السائدة. فالنظام القديم ظل حاضراً مدة من الزمن مع وجود النظام الاول الذي زاحمه حتى ازاحه كلية، رغم ان طريقته العقلية كما تتمثل بما يطلق عليه مبدأ انقاذ الظواهر مازالت باقية الى يومنا هذا ضمن النظام الثاني. كذلك فان النظام الاول بقي حاضراً فترة طويلة من الزمن حتى مع هيمنة النظام الثاني، الا ان الاول اخذ يضمر ويضمحل حتى انتهى تقريباً من عالم الفيزياء. لكن سبب انتهائه يختلف عما اصاب القديم. فقد انتهى النظام القديم باعتباره كان نقيضاً للنظام الاول الذي ازاحه عن مسرح العلم، اما هذا النظام فقد انتهى تقريباً، او انه آيل الى الانتهاء، بسبب انه لم يجد شيئاً يمكن القيام به بعد ان استنفد اغراضه لاعتبارات تتعلق ببعد الظواهر الفيزيائية عن الحس والتي تستدعي الافتراضات الجريئة خارج حدود الانتزاعات الاستقرائية او الاجرائية. ومن ثم قد يصل الحال بالنظام الثاني الى الانتهاء بمثل ما آل اليه الاول، وتبقى الفيزياء من نصيب النظام الثالث بعد تقلص القضايا التي يمكن تعريضها للتجارب. وحينها قد يعود النظام القديم من جديد، مثلما ان بعض نظرياته شائعة اليوم، لا سيما تلك التي لها علاقة بوحدة الوجود.
ويمكن القول انه باستثناء النظام القديم فان سائر النظم لا يتقاطع بعضها مع البعض الاخر. فالنظام الثاني يضيف شيئاً جديداً لا يرد في الاول، كما ان النظام الثالث هو الاخر يضيف شيئاً جديداً غير وارد لدى الاول والثاني، ولولا كونه غير متقاطع مع النظامين السابقين لما كان يمكن ان يشكّل حلقة من حلقات العلم الحديث، ولكان يعد من النظم الفلسفية الصرفة، او يلحق بالنظام القديم.
وحقيقة ان ما يحدد الاساس الذي يقوم عليه العلم الحديث انما هو النظام الاول، وكل ما يتقاطع معه فانه يكون خارج نطاق هذا العلم، فجميع النظم التي تلته لم تستطع ان تنكر الاساس الذي يعتمد عليه، كما يتمثل بالتجربة والاستقراء. وبالتالي فان نقطة التقاطع بين هذه النظم تتمثل بالدائرة التي تفصل النظام القديم عن سائر النظم الاخرى. وتتحدد هذه القطيعة في كون الاول فرض نظاماً عقلياً قطعياً لا علاقة له بالاختبار والتجربة، الا ضمن حدود ضيقة جداً. وهو الامر الذي جعل فرانسيس بيكون يرى أن هناك تقاطعاً بين العلمين القديم والحديث، باعتبار أن الاول قائم على العقل، في حين يقوم الثاني على التجربة. لكن هذا الحال قد استجد لدى النظام الثالث، فهو لا يختلف من هذه الناحية عن النظام القديم، سوى كونه تخمينياً دون ان يحمل منظومة محددة قطعية ليدمغ بها النتائج العلمية سلفاً. لذا فالقطيعة نسبية غير مطلقة.
وما ننتهي اليه هو ان النظام الثاني مازال يحتفظ بقوته في الفيزياء ضمن ما يعرف بتخوم العلم، رغم تعاظم النظام الثالث الجديد كمنافس له، فهما متحايثان رغم تعارضهما. لكن ما يبدو هو ان النظام الاول لم يعد له اثر ملحوظ لدى الفيزياء حالياً، وان تربّع بقوة في سائر العلوم الاخرى، وقد حل محله النظام الثالث المنافي له. وكأن الاخير اراد الثأر للنظام القديم الذي اطاح به النظام الاول!