يحيى محمد
ان لمفهوم الوجود معنيين رئيسيين مختلفين لدى الفلاسفة المسلمين، نطلق على احدهما المعنى الفعلي والكوني للوجود، وهو يقع في قبال الماهية. ويعبّر عنه بانه محض التحصل والفعلية1. او انه ليس له في ذاته الا الحصول والفعلية والظهور2، او الثبوت والتحقق والتشخص3، وقد كان القيصري شارح (فصوص الحكم) لابن عربي يؤكد على هذه المعاني، حيث الوجود عنده وعند العديد من العرفاء هو الكون والحصول والتحقق والثبوت4، او انه عبارة عن الكون في الخارج5. وعادة ما يطلق هذا المعنى على الحقيقة الالهية.
وفي قبال المعنى السابق يظهر لنا معنى اخر مختلف، اذ فيه يكون الوجود عين الذات المتحققة وليس الفعل والكون، وبه تتحقق صورة شبحية الماهية وحكايتها له، فصورتنا الذهنية للذات المتشخصة في الخارج تحاكي ما هي عليه، وبالتالي فان الماهية الذهنية تطابق ما عليه الوجود الخارجي. وبهذا المعنى تكون الماهية في الخارج هي عين الوجود لا غير، خلافاً للمعنى الاول، فالنار كصورة ذهنية مثلاً هي ماهية محضة، لكنها كحقيقة خارجية تكون ماهية متشخصة، فالصورة والحقيقة الخارجية كلاهما يمكن تسميتهما بالماهية، سوى انها في الخارج لها اثارها الفعلية بخلاف ما هي عليه في الذهن، لهذا يطلق عليها الوجود في الخارج دون الذهن، باعتبارها غير موجودة الا بحسب الوجود الذهني، وهو نحو من الوجود. فهذا هو معنى كون الوجود عين الماهية في الخارج.
والذي يتتبع النصوص الفلسفية التي تخص علاقة الوجود بالحقيقة الالهية يجد ان هناك تطوراً في المقصود من اطلاق مفهوم الوجود بالمعنى الفعلي على تلك الحقيقة، اذ بدأ المفهوم وهو يحمل بعض الاضطراب، فتارة يراد منه المجاز صراحة، واخرى قد يراد منه الحقيقة، وعلى ما يبدو ان الاوائل لم يسعهم الا التعويل على المعنى المجازي، ثم تطور الحال حتى انتهى الى معناه الحقيقي الذي يراد به محض التحقق والكون والثبوت. وما علينا الا ان نرصد تجليات هذا الاختلاف والتحول، وذلك قبل ان نتعرف على اثر ما استقر عليه الامر في فهم العلاقة التي تربطه بالممكنات تبعاً للاصل المولد الوجودي (السنخية). فما هي حقيقة مبدأ الوجود الاول بحسب النظر الفلسفي؟ وكيف انقلب وصف هذه الحقيقة من التعبيرات المجازية الى الحقيقية؟
ما سنشهده فعلاً هو ان لفظ الوجود الذي استخدم في وصف المبدأ الاول كان لفظاً مسلماً به لدى الفلاسفة المسلمين وإن بدا معناه متعارضاً. وقد يكون هذا التعارض ناشئاً - منذ البداية - كدلالة على الالتباس في اصل الوضع والمعنى، وإن كان المرجح ان المعنى المجازي للمفهوم ظهر اول الامر قبل ان يتخذ ليدلّ على المعنى الحقيقي الفعلي، وهو المعنى الذي تلقفه الفلاسفة المتأخرون غير آبهين بما عوّل عليه المتقدمون من المعنى المجازي. ويظل ان لكل من الفريقين مبرراته الفلسفية.
هناك الكثير من العبارات الدالة على اعتبار المبدأ الاول محض الوجود والثبوت، وسبق للفارابي (المتوفي سنة 339هـ) ان ذكر في (فصوص الحكم) بان الوجود غير الماهية، وان هذه الاخيرة لا تقتضي بنفسها الوجود، وبالتالي فان المبدأ الذي عنه يكون الوجود هو ليس بماهية، او ان ماهيته لا تختلف عن هويته، وكما يقول: ‹‹فكل ما هويته غير ماهيته وغير المقومات لماهيته فهويته عن غيره، وينتهي الى مبدأ لا ماهية له مباينة للهوية››6. وكان ابن سينا يصرح بان وجود المبدأ الاول هو نفس حقيقته وان ماهيته لا تكون غير انيته7. وكذا كان الغزالي يقول: ‹‹وحقيقته تعالى محض الوجود››8 ، ويقول ايضاً: ‹‹وحقيقة ذات الاول هو انه وجود بلا ماهية زائدة على الوجود، وان انيته وماهيته واحدة››، ومثل ذلك قوله: ‹‹ان حقيقته الوجود المحض››9.
تلك كانت بعض النصوص التي وصفت المبدأ الاول بالوجود المحض. لكن مع لحاظ ان هذا الوصف قد لا يراد به المعنى الحقيقي الذي آل اليه المتأخرون. فاحياناً يضطر الفيلسوف الى اتخاذ هذا اللفظ والتعبير حيث لا يجد لفظاً اخر انسب منه. ومن ذلك ان رئيس الفلاسفة (ابن سينا) اومأ بنفسه الى هذا الاضطرار، فاعتبر الاشارة اليه بذلك الوصف من جهة عدم معرفة حقيقته، فكما يقول في (التعليقات): ‹‹.. كذلك لا نعرف حقيقة الاول، انما نعرف منه انه يجب له الوجود او ما يجب له الوجود. وهذا هو لازم من لوازمه لا حقيقة. ونعرف بواسطة هذا اللازم لوازم اخرى كالوحدانية وسائر الصفات. وحقيقته ان كان يمكن ادراكها هو الموجود بذاته اي الذي له الوجود بذاته. ومعنى قولنا الذي له الوجود اشارة الى شيء لا نعرف حقيقته، وليس حقيقته نفس الوجود ولا ماهية من الماهيات، فان الماهيات يكون بها الوجود خارجاً عن حقائقها. وهو في ذاته علة الوجود، وهو اما ان يدخل الوجود في تحديده، ودخول الجنس والفصل في تحديد البسائط على حسب ما يفرضهما لها العقل، فيكون الوجود جزءاً من حده لا من حقيقته، كما ان الجنس والفصل اجزاء لحدود البسائط لا لذواتها، انما يكون له حقيقة فوق الوجود يكون الوجود من لوازمها››10.
كما سلك جماعة من المتأخرين نفس المسلك الذي كان عليه ابن سينا، فاطلقوا الوجود على الحق تعالى بضرب من الاصطلاح وكاشارة الى حقيقته المجهولة الكنه11. وكذا نجد من المحققين من يعتبر ان اطلاق الوصف عليه تعالى بالوجود انما هو لضيق العبارة12، ومن هؤلاء ابن عربي الذي صرح في (الفتوحات المكية) قائلاً: ‹‹ان اطلاقنا عليه الوجود من ضيق العبارة وقصورها، والمقصود سلب العدم منه، لان حقيقة وجوده لا تقبل التصور›› 13. وقبله كان الغزالي يلوح الى هذا المعنى بقوله: ‹‹فان قلت: فعلمنا انه وجود بلا ماهية وان حقيقته الوجود المحض، هو علم بماذا ان لم يكن علماً به، قلنا: هو علم بانه موجود، وهذا امر عام. وقولك انه ليس غير الماهية بيان انه ليس مثلك، فهو علم ينفي المماثلة››.14
اضافة الى ان بعضاً آخر فسر هذا الوصف بان ما يقصد به هو انه مبدأ للاثار فحسب15. ولعل المعبرين عنه تعالى بلفظ مبدأ الاثار؛ لم يجدوا ما يمكن ان يدركوا منه سوى تلك الصفة، حتى ان صدر المتألهين رغم ما عُرف عنه من كلمات يشير فيها الى مكاشفة ذات الحق - كما سنرى - فانه اعترف في بعض كلماته بما يشير الى ذلك الجهل عدا ما ذكرنا، فأقر بان كنه ذات الواجب وهويته لم تكن معلومة لاحد غيره، واعتبر ان ما معلوم منه انما هو صفاته المختصة كالالهية والقيومية والخالقية المطلقة باعتبارها مفهومات كلية متعلقة بذوات الممكنات وهياكل الماهيات التي هي بمنزلة صفحات وسطوح مصقولة تقع عليها اشعة تلك الصفات الفائضة من نور الحق تعالى. فبهذا السبيل اجاز للعقل ان يتصور الصفات الالهية الاضافية ويدل عليها بالفاظ موضوعة لمعانيها الخاصة، فيكون بذلك مدركاً لذات الحق، حيث الصفات لا تنشأ الا من هذه الذات. والنتيجة التي يخلص اليها ذلك الحكيم هي استحالة معرفة الذات الاحدية مع قطع النظر عن النسب والاضافات، حيث تعقّل الحق باعتبار ذاته بذاته مستحيل، ولكن تعقله باعتباره قيوماً للعالم ومبدأ الموجودات وخالق ما في السماوات والارض، فهو جائز لان للعقل سبيلاً الى اكتناه هذه المعاني، وكذا الحال مع تعقله من حيث سلب الكثرة عنه والاشتراك، فهو ممكن ايضاً.16
فلعل المعنى السابق هو نفسه الذي اختلج في اذهان الفلاسفة، فعبروا عن الحق تعالى بالوجود كتلويح يشير الى الجهل بحقيقة كنهه ويرمز الى انحصار المعرفة في كونه مبدأً للاثار فحسب.
وواقع الامر اننا نصادف هنا ذات المعنيين للوجود، وهما المعنى الفعلي والذاتي، كوصف لحقيقة المبدأ الاول. بل نجد ذات التردد يلوح لدى صدر المتألهين، فتارة انه يريد المعنى الفعلي، واخرى يريد المعنى الذاتي، لكنه في كلا الحالين يستفيد من المعنيين في توظيفه لحل المشكلات الفلسفية.
والبعض لم يتقبل اعتبار المبدأ الاول محض الوجود بالمعنى الفعلي الدال على الكون والثبوت والحصول، فوصفه بالماهية والذات خروجاً عن المألوف الفلسفي، الامر الذي جعل بعض الفلاسفة يرد عليه انتصاراً لذلك المعنى. فالمحقق الدواني لم يستسغ نفي الماهية بمعنى الذات عن المبدأ الاول، وأشكل على كلام السيد الصدر الذي صرح بنفي الماهية مطلقاً عن هذا المبدأ، وقال في رده: ‹‹إن أراد انه لا ذات له فهو ظاهر البطلان، وإن أراد ان له ذاتاً، لكن لا تسمى ماهية بحسب الاصطلاح فهو بحث لفظي، فان من يقول: ان حقيقته وماهيته هو الوجود القائم انما يريد به المعنى الذي يريد به من الذات، فلا يبقى المباحثة الا في اللفظ››. الا ان هذا الاشكال لم يرضِ صدر المتألهين فرد عليه معتبراً ان المراد من واجب الوجود هو انه ليس له ماهية كلية، انما له هوية شخصية يعبر عنها تارة بالوجود الصرف واخرى بالوجود البحت او الوجود او التشخص او الواجب البحت ‹‹فان الماهية للشيء هي التي يتصورها الذهن بعد تجريدها عن الوجود والتشخص، ويعرض لها الكلية والاشتراك، وحقيقة الوجود هي عين الهوية الشخصية لا يمكن تصورها ولا يمكن العلم بها الا بنحو الشهود الحضوري. فهذا معنى قولهم (لا مهية له) وليس هذا مجرد اصطلاح لفظي، بل تحقيق حكمي وبحث معنوي، وظهر مما ذكرنا ان القول بان (ذات الباري موجود خاص) كلام محصل لا غبار عليه، بشرط ان يتفطن قائله، بان المراد منه ليس ان ذاته عين المفهوم الكلي او عين فرد من افراده الذاتية حتى تكون نسبته الى ذلك الفرد كنسبة الذاتي الى الذات، لانك قد علمت ان مفهوم الوجود والموجود وكذا مفهوم التشخص والمتشخص والجزئي الحقيقي والهوية وامثالها ليست لها افراد ذاتية، كما للاجناس والانواع، وانما هي عنوانات ذهنية وحكايات لاحاد وافراد لا وجود لها في الذهن حتى يعرضها العموم والاشتراك››. وظاهر كلامه هذا هو عدم نفيه للذات المتشخصة التي تختلف عن معنى الكون والتحصل، لكنه سرعان ما يختم كلامه بعبارة قد تبدو قريبة الى المعنى الفعلي للوجود، وإن كان يمكن حملها على المعنى الذاتي، اذ يقول: ‹‹وبالجملة فالقول بان ذاته تعالى هو الموجود البحت صحيح، اذا اريد به حقيقة الوجود، فان للوجود حقيقة وهو بنفسه موجود وغيره به موجود، كما ان للبياض حقيقة وهو بنفسه ابيض وغيره به ابيض››.17
ومع ان النصوص التي ستأتينا لصدر المتألهين تجعله يلتزم اعتبار الحقيقة الالهية بانها محض الوجود بمعنى الكون والفعلية، لكنه مع هذا يخرج عن هذا الطور احياناً ليصب في المعنى الذاتي لمفهوم الوجود، فيعبّر عن الحقيقة الالهية بانها جسم الهي لا كالاجسام18، او انه نور حقيقي هو اشرف مراتب الانوار، باعتباره ظاهراً بذاته ومظهراً لغيره، وما هذا النور الحسي الا رتبة متدنية وناقصة من ذلك النور الكامل الذي يظهر به كل شيء19. بل ان صدر المتألهين يتبع الغزالي وابن عربي في جمعهما بين التنزيه والتشبيه او تمسكهما بالصفات الالهية من اليدين والعينين والمجيء وغيرها مما يتسق والمفهوم الذاتي للوجود، فيعطي بذلك معنى الماهية للذات الالهية، مما يتنافى مع ما يدلي به في محل اخر من ان الصفات الالهية هي عين الذات لا غيرها، وانها فوق كل حد ووصف. وايضاً نجد في بعض تعبيرات صدر المتألهين ما قد يفيد المعنى الذاتي للوجود كما يبدو ذلك في شرحه لكتاب (الكافي)، حيث تعرض الى حديث روي عن الامام الصادق (ع) يجيب عن سؤال مفاده: هل لله انية وماهية؟ فقال: ‹‹اعلم ان الماهية لها معنيان احدهما ما بازاء الوجود كما يقال وجود الممكن زايد على ماهيته، والماهية بهذا المعنى مما يعرضه العموم والاشتراك، فليست له ماهية بهذا المعنى. وثانيهما ما به الشيء هو هو، وهذا يصح له››.20
وعلى العموم يلاحظ ان الفلاسفة المتأخرين وعلى رأسهم صدر المتألهين ارادوا المعنى الفعلي من الوجود البحت في وصف مرتبة الواجب الحق، ذلك انه اذا كانت الماهية في الممكنات لا توجد الا بالوجود، وان الوجود موجود بذاته، فهذا يعني انه لا يمكن فك المبدأ الاول عن الوجود البحت، والا اصبح عروض الوجود عليه من الخارج مثلما هو الحال في الممكنات، وهو محال. فهذا هو اهم ما يبرر الاحتفاظ بكون المبدأ الاول هو عين الوجود، وان ماهيته لا تختلف عن وجوده. ولا شك ان لهذا المفهوم اغراضاً اساسية، اذ قام الفلاسفة بتوظيفه لاجل اثبات وحدة الحق وعينية الصفات للذات وتبرير وحدة الوجود.
فقد عبّر صدر المتألهين عن هذا المعنى بالقول: ‹‹كيف لا تكون حقيقة الواجب القيوم صرف الوجود ومحض التقوم وهو ينبوع كل وجود››21. وقوله: ‹‹ان الواجب بالذات يجب ان يكون متشحصاً بنفس حقيقته، لا بأمر زائد عليه، اي تكون حقيقته عبارة عن تشخصه كما انه عبارة عن نفس وجوده، بل الوجود والتشخص امر واحد كما هو التحقيق››22. وقوله: ‹‹ثبت ان الواجب تعالى هو الوجود البحت››23. وقوله: ‹‹لا يتصور شيء أكمل واشرف من صرف الوجود المتأكد الذي هو فعلية محضة يستفيض منه سائر ماهيات الوجود وكمالات الوجود››24. ومثل ذلك قال ابن ياقوت الاهري في (الاقطاب القطبية): ‹‹بل الحق ان وجوده نفس الكون والحصول، لا ما به الكون والحصول، حتى لا تفهم من قولهم (كان الله في الازل) معنى كان زائداً على معنى (الله)، ومعنى (الازل) ايضاً زائداً عليه، اذ هو اكبر من ان يكون مظروف الازل ليحوى به ظرفاً زمانياً، بل هو الازل والا بد والدهر والسرمد، اي هو فاعل الازل والابد.. وهوالوجود والكون المجرد عن الاين والبون، ولذلك قال الامام (ع): (لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر››)25.
هكذا يحرص الفلاسفة على التأكيد بان الوجود الخارجي، وعلى رأسه الحقيقة الالهية، عبارة عن محض الكون والتحصل، ويمكننا ان ندرك مصدر اغترار الفلاسفة بمقالة اصالة الوجود وعينيته. فمرد الامر يعود الى البحث في حقيقة المبدأ الاول، اذ يعتبر الوجود في غيره خارجاً عن ذاته وفائضاً عليه من الاول، أما الاول فمن المحال ان يستفاض عليه الوجود من الخارج، والا تسلسل الحال، كما لا يمكن ان يكون قريناً لذاته والا تعدد وتركب، فلم يبق الا الحل الاخير وهو كون الوجود عين ذات الحق. فهذا الاغترار نجده في بعض النصوص المصرح بها لدى الفلاسفة والعرفاء، فهناك نص لابن رشد يقول فيه - وهو في معرض رده على بعض تهم الغزالي -: ‹‹ان القوم لم يضعوا للاول وجوداً بلا ماهية ولا ماهية بلا وجود وانما اعتقدوا ان الوجود في المركب صفة زائدة على ذاته وان هذه الصفة انما استفادها من الفاعل. واعتقدوا فيما هو بسيط لا فاعل له ان هذه الصفة فيه ليست زائدة على الماهية، وانه ليس له ماهية مغايرة للوجود، لا انه لا ماهية له اصلاً››.26
كما جاء على لسان بعض العارفين ما يؤكد ذلك الاغترار، فذكر بان الحكماء والصوفية رأوا ان للوجود تقدماً ذاتياً على جميع الموجودات، لانه إن فرض لشيء معية للوجود؛ كان هناك شيئان لا بد من تقدم احدهما على الاخر ‹‹فيحكم البتة بتقدم الوجود، لان احاطته وانبساطه ازيد من احاطة جميع الامور المحيطة، لان كل ما يعرض، يعرض بنحو من الوجود سوى نفس الوجود، فانه معروض بنفسه لا لغيره. وايضاً: اول ما يدرك من الاشياء بالبصيرة ما يعبر عنه بالثبوت والكون و- بودن - ومرادفاتها، وبعد ذلك يدرك التشخص. وهذا الامر، اعني الثبوت ومرادفاته، زائد في الموجودات، وحاصل من غيرها، وفي الواجب ليس من غيره، فيدرك هذا الامر في الواجب احق واقوم واولى، بل ما يدرك من الواجب منحصر في هذا، فاطلقوا عليه لفظ الوجود من غير ارادة المعنى اللغوي مع شائبة الوصفية، بل اطلقوا عليه للتفهيم، وللاشعار على ان المدرك من ذات الاقدس منحصر في هذا الامر››.27
واذا كان العديد من المتأخرين السابقين لصدر المتألهين قد ذهبوا الى اصالة الماهية في الممكنات، فما ذلك - على ما يبدو - الا لكون الوجود لا يعد مقوماً من مقومات الذات او الماهية، فهو يعرض عليها من الخارج، خلافاً للمبدأ الاول الذي تتحدد فيه الماهية بالوجود فتكون ماهيته عين وجوده. فلهذه العلة ربما يكون القول باصالة الماهية له سبق زماني على القول باصالة الوجود في الممكنات، خاصة اذا عرفنا بان من المتأخرين من يعدّ ابن سينا ممن يذهب الى القول باصالة الماهية تعويلاً على بعض كلماته.
مع ذلك فالقول باصالة الوجود في مرتبة المبدأ الاول هو المسلم به عند الفلاسفة تعويلاً على ان ذاته عين الوجود من دون عارض ومعروض. وعليه يمكن ان نستوحي ونستنتج ان الاعتقاد باصالة الوجود في الممكنات متفرع في الاساس عن مقالة عينية الوجود للمبدأ الاول، وفقاً للتناسب والسنخية، فلا يصدر عن الوجود الا الوجود، وهو الامر الذي التفت اليه صدر المتألهين مع انه كان من مريدي اصالة الماهية قبل ان تنكشف له الحقيقة الاخرى.28
اذن نحن أمام مفارقة سنجدها حاضرة في طيات البحث، حيث الالتزام تارة بالمعنى الفعلي (الكوني) للوجود، واخرى بالمعنى الذاتي (الماهوي) له، مع ما بينهما من اختلاف وتغاير.
فالموارد المترتبة على المعنى الاول تختلف عن تلك التي تترتب على المعنى الثاني. فبحسب الوجود بمعناه الفعلي يصبح هناك التفريق بين واجب الوجود وغيره من الممكنات مبرراً، وذلك حين يقال ان واجب الوجود محض الوجود وماهيته عين وجوده بخلاف غيره، اذ تكون ماهية الاخير غير وجوده لا عينها. ويستفاد من هذه التفرقة في حل بعض المشكلات المناطة بالمبدأ الاول، فالفلاسفة ليسوا على استعداد للاخذ بزيادة الماهية على الوجود، والا كان مركباً وبعضه يحتاج الى البعض الاخر.
أما بحسب المعنى الذاتي للوجود فلا مبرر لتلك التفرقة، اذ يصير الكل، سواء كان واجباً او ممكناً، وجوده عين ماهيته، مادام يعني الذات المشخصة. ولو قيل ان الفارق بينهما يتحقق عندما يراد بالماهية ذلك المفهوم الكلي القابل للتطبيق على الكثير من المصاديق ضمن النوع الواحد، حيث انه يصدق على الممكن لا الواجب، فيكون وجود الممكن غير ماهيته.. لقلنا ان التعميم في ذلك غير صحيح، اذ العقول الطولية المفارقة كالعقل الاول وغيره هي من الافراد التي ليس لها ما يشاركها في المصداقية ضمن النوع الواحد، فكل فرد منها يندرج في نوعه الخاص من غير مشارك، وبالتالي فانها من هذه الجهة لا تختلف عن المبدأ الاول الذي لا يشاركه فرد اخر ضمن المرتبة التي هو فيها. ولو قيل ان جميع العقول الطولية تندرج ضمن ماهية مشتركة للعقل المفارق، لقلنا ان ذلك يصدق على واجب الوجود ايضاً، اذ يعتبر هو الاخر عقلاً لا يختلف عما دونه من حيث الصورة العقلية، وإن كان اشرفها واكملها وجوداً.
هكذا ان لدينا ثلاث قضايا متنازع حولها لا قضيتين، احداها القول بأصالة الوجود بمعنى الكون والثبوت. وثانيها القول باصالة الذات المشخصة التي يعبًر عنها بالوجود، كما يعبر عنها بالماهية احياناً أخرى. وثالثها القول بأصالة الماهية بالمعنى النوعي.
ومن حيث التوظيف يلاحظ انه إذا كان يمكن بحسب المعنى الاول للوجود اثبات المبدأ الاول - كما سنرى - واثبات عينية صفاته ونفي الشرك عنه، فان المفهوم الآخر ليس بقادر على ذلك، إذ ان اثبات ذات مشخصة لا ينفي اثبات ذات اخرى غيرها، وهو ما قيل في شبهة ابن كمونة المعبر عنها بوجود ذاتين ينتزع منهما ماهية مشتركة، او هويتين بسيطتين كل منهما عبارة عن موجود بسيط مستغن عن العلة مطلقاً29.
نعم قد يجاب على ذلك بان ذات الواجب لما كانت تمثل كل الاشياء؛ لذا لا يمكن فرض ذات اخرى معها. فكل ذات تُفترض انما تكون داخلة ضمن الاشياء التي يحتويها المبدأ الحق.
لكن هذا الجواب يصادر على المطلوب، اذ كيف نثبت ان مبدأ الحق هو كل الاشياء بما في ذلك الذات الاخرى المفترضة، انطلاقاً من المعنى الذاتي للوجود؟ فهذا ما لا يمكن اثبات. مع الاخذ بعين اعتبار ان مقالة كون الحق حاملاً لكمالات كل الاشياء هو اكثر تصوراً وقبولاً بحسب المعنى الذاتي للوجود مقارنة بالمعنى الفعلي له.
كما ان من مترتبات المعنى الفعلي للوجود هو سريان الوجود الواحد والمنبسط على كل الاشياء وعلى هياكل الماهيات، فلعله الاقرب في التصور من سريان الذات المشخصة. كذلك فان من المترتبات على هذا المعنى هو التفرقة بين جانبي الخير والشر في الاكوان الناقصة والشرور العارضة، حيث ان كل ممكن وحادث فيه هذان الجانبان من المعنى الفعلي للوجود والمعنى الذاتي له، اي ذلك المعبر عنه بالماهية.
اما من مترتبات المعنى الذاتي للوجود فقد تمكن صدر المتألهين من تبرير اعتبار المبدأ الاول كل الاشياء، حيث اقام التفرقة بين الماهية والوجود المحض تبعاً لصفة المحدودية، فاعتبر المراد بالماهية هو كونها محدودة بحد خاص جامع مانع، أما المراد بالوجود المحض فهو انه غير محدود بحد خاص جامع مانع بل هو شامل لكل الحدود والماهيات.. كل ذلك ليجيب على الشبهة القائلة: ان اعتبار الحق تعالى عين ماهيات الاشياء يفضي الى اعتباره ماهية ايضاً30. والواقع ان اضفاء صفة الحد على الماهية للاشياء لا يثبت محض الوجود لما هو غير محدود، فقد يكون هذا الشيء عبارة عن ماهية غير محدودة، واذا لم يجز نعت الماهية بصفة اللامحدود، فذلك لا يدل على محض الوجود؛ ما لم نقصد بالاخير الذات المشخصة التي تشترك في مفهومها العام لكل من الواجب والممكن على حد سواء. فالمعنى الاخير يتسق مع اعتبار المبدأ الاول كل الاشياء كما يقول الفلاسفة، فتكون ذات الواجب ذاتاً حاوية على ماهية كل شيء، وهو ما يبرر القول ايضاً بانه جسم لا كالاجسام، او هو نور الانوار، حيث النور كما يرى السهروردي اشرف الموجودات، وان اشرف الاجسام انورها31، مما يعني انه لا يمكن تبرير هذه المقالة بحسب المعنى الفعلي للوجود.
ويلاحظ ان اعتبار الحق نوراً ووجوداً هو - في الوقت ذاته - يعطي نوعاً من التماثل المعنوي مع بعض التمايز. فالنور والوجود كلاهما ظاهر بذاته ومظهر لغيره، وهذا بيّن لا شك فيه، وعلى خلافهما العدم والظلمة، لذا يصرح العرفاء عادة بان النور هو الوجود والظلمة هي العدم32. كذلك فان النور متصف بصفة التشكيك او الشدة والضعف، وهو امر واضح، وقد اعتبر الوجود هو الاخر يتصف بهذه الصفة كما هو الحال لدى صدر المتألهين واتباعه، وربما يكون اطلاق التشكيك على الوجود مستمداً مما يلاحظ في النور. لكن نقطة الافتراق بينهما هي ان النور هو من جنس الماهية او الطبيعة خلافاً للوجود الذي يحمل المعنى الكوني.