يحيى محمد
مازالت قضية الفضاء (الكوني) أو الخلاء تعد من المسائل الشائكة. وربما يميل الوجدان إلى إعتبار الفضاء غير متناهي الأبعاد، مع وجود المادة المتناهية. فمن الصعب على العقل أن يتصور محدودية الفضاء للإشكال الذي يرد عما بعده، إذ كيف يمكن تصور ما هو خارج عنه؟! في حين يسهل على العقل أن يتقبل فكرة عدم تناهي الأبعاد. لذا فالنظرية العلمية في تمدد الكون وأنه شبيه بالمنطاد الآخذ بالتوسع والإنتفاخ؛ ليست معقولة ما لم يجرِ ذلك ضمن فضاء غير متناه يسمح بعملية التوسع والتمدد.
فالتردد العلمي حول ما إذا كان الكون مفتوحاً إلى ما لا نهاية كسرج الحصان، أو أنه مغلق متناهٍ كالكرة أو الفقاعة، لا يؤثر في النتيجة التي ذكرناها. وسبق لعالم الرياضيات الروسي ألكسندر فريدمان أن تنبأ لأول مرة (عام 1922) بأن الكون يتمدد، قبل اكتشافات هابل بسنوات معدودة، وقدّم نموذجاً مبنياً على معادلات أينشتاين الأولى والذي زوّد العلماء بالقاعدة الرياضية لمعظم النظريات الكونية الحديثة باعتباره يتضمن تمدد الكون دون سكونه، أي خلاف ما تصوره أينشتاين في صياغته الأولى للنسبية من أن الكون ثابت لا يتغير[1]، لكنه عدل عن ذلك واعترف بتمدد الكون. ولوحظ بهذا الصدد أن التحول في الطيف الضوئي هو باتجاه الأحمر، وهو ما يشير إلى ابتعاد المجرات والنجوم عنا وفقاً لظاهرة دوبلر، ومن ثم التوسع. مع هذا أبقى أينشتاين على أصل فكرته في انتهاء الكون وإن لم يكن محدوداً، شبيهاً بالمنطاد. فالذي يسير من نقطة معينة ويواصل سيره باستقامة سوف يعود إلى نفس النقطة، مثلما يجري الحال على الأرض، مع أخذ إعتبار أن لسطح الأرض بعدين، في حين إن التحرك في الكون يجري ضمن ثلاثة أبعاد لا بعدين، يضاف إلى عدم وجود شيء خارج الكون[2]. ويطلق على هذا النموذج للكون – كما لدى أينشتاين - بالمغلق، ويقابله الصنف المفتوح. وبالتالي فالكون إما مغلق أو مفتوح اعتماداً على الكثافة الحرجة. ويمكن تشبيه ذلك بقذف حجر شاقولياً، إذ إما أن تكون سرعته الإبتدائية كبيرة بحيث أنه يفلت من جاذبية الأرض رغم تباطؤه تدريجياً، أو أن حركته ليست كبيرة مما يجعله يعود إلى الأرض ساقطاً، فلو كانت سرعته أكبر من سبعة أميال في الثانية فسوف يفلت من الأرض دون عودة. الأمر الذي يشبه ما عليه الكون عندما تكون كثافته أقل من القيمة الحرجة أو أكثر منها. بمعنى أن التردد المذكور حول إنغلاق الكون وإنفتاحه يعتمد على متوسط كثافة المادة الكونية، رغم أن تقدير هذه الكثافة هو أمر غير متفق عليه، كسائر التقديرات الفلكية التي ينتابها الكثير من الإختلاف والتغيير مقارنة بسائر علوم الفيزياء.
هكذا تشكل الكثافة الحرجة الحد الفاصل بين إنغلاق الكون وإنفتاحه، فإذا كانت الكثافة الفعلية لمادة الكون أكثر من الكثافة الحرجة فإن الكون آخذ في الإنغلاق ومن ثم التهاوي، إذ ما إنْ ينتفخ الكون حتى ينتهي إلى حد معين عند تباطؤ السرعة فيبدأ بالإنكماش والتهاوي مجدداً إلى نقطة الإبتداء والصفر، فلا مكان ولا زمان ولا مادة، فهو الإنسحاق العظيم. أما إذا كانت أقل من الحد الحرج فإن الكون آخذ في الإنفتاح إلى ما لا نهاية دون عودة. وقد بدا لدى معظم الفيزيائيين في بعض الفترات أن هذا النموذج هو الصحيح. في حين لو كانت هذه الكثافة بقدر الحد الحرج فإن ذلك سيجعل من تمدد الكون يتباطأ بالتدريج بإتجاه الصفر والسكون دون أن يصل إليه. وقد تنبأت نظرية الإنتفاخ الكوني بأنه يجب أن تكون كثافة المادة الكونية مساوية للكثافة الحرجة بالضبط[3]. وهي حالة التسطح من دون إنغلاق ولا إنفتاح. لكن حيث لا تتوفّر جاذبية كافية لهذا التسطح، لذا تمّ إفتراض وجود (90%) من الكون يتألف من مادة مظلمة غير قابلة للإدراك؛ هي التي توفّر الكمية الكافية لجاذبية التسطح، إذ إن كثافة المادة المرئية تقرب من (1%) من القيمة الحرجة، وإذا أضفنا إليها النجوم المعتمة وما إليها فإن المادة الباريونية سوف لا تكون أكثر من (10%) من الكثافة الحرجة. لذا فإن (90%) أو أكثر من كتلة الكون لا بد من افتراضها لحل مشكلة التسطح، وفي البدء كان الإفتراض بأن هذه المادة الغريبة غير الباريونية تتألف من النيوترينوات، لكن تبيّن فيما بعد أن من المستبعد أن تكون النيوترينوات سبباً للجاذبية باعتبارها خفيفة للغاية، كما افترض أنها يمكن أن تكون عبارة عن أوتار كونية[4]، وبالتالي بقيت هذه المادة غير معروفة إلى يومنا هذا.
مع ذلك بيّنت المشاهدات الفلكية بأن الأمر أكثر تعقيداً مما سبق ذكره، فقد توضح بأن معدل تمدد الكون يتسارع مع الزمن بدل أن يتباطأ، الأمر الذي لا يتفق مع أي من نماذج فريدمان الثلاثة الآنفة الذكر. وهو ما يثير الغرابة الشديدة، إذ ما هي القوة المؤثرة على تسريع تمدد الكون والتي تدعو إلى افتراض ثابت كوني[5]؟!. وهو ما سبق إليه أينشتاين في صياغته الأولى لنظريته قبل أن يندم على ادراجه ويعتبره أعظم خطأ في حياته. ويُعتقد اليوم أن هذا التسارع للكون نابع من تأثير طاقة مظلمة غامضة من نوع ما[6]. وبالتالي فالكون بحسب هذه الطاقة متجه للإنفتاح لا الإنغلاق، إذ تصبح كثافة المادة أقل بدرجة ملموسة من الحد الحرج، وهي تعني ان الكون مفتوح، وبحسب ستيفن هوكنج إننا لو أضفنا المادة المظلمة كلها فسنحصل على واحد من عشرة أجزاء فقط من كمية المادة المطلوبة لإيقاف التمدد أو التسارع. لكن رغم ذلك يُعتقد اليوم ان هناك دليلاً نظرياً وتجريبياً قوياً على ان الكون يعج بمادة مظلمة تجعله يميل إلى التسطح[7].
من جهتنا نعتقد أن الكون لا يتوسع، بل ينكمش ضمن فضاء غير متناه، كالذي انتهينا إليه في كتاب (انكماش الكون)[8]. لكن حتى لو فرضنا أن الكون يتوسع وآخذ بالانفتاح أو الانغلاق كما يرى اينشتاين، تبعاً للكثافة المادية، فذلك لا ينافي فكرة الفضاء المفتوح، فقلة وجود المادة وكثرتها لا تنافي كونها تتمدد - وقد تتقلص بسبب الجاذبية فيما بعد - ضمن وعاء الفضاء الذي يسمح بتمددها أو حتى انكماشها. إذ لا تتسق فكرة التوسع مع مقالة عدم وجود شيء آخر خارج حدود المجال الكوني، إذ على الأقل لا بد من إفتراض وجود الخلاء الذي يسمح بالتوسع. لكن بإعتبار أن نظرية أينشتاين علمية فإنه لا ينظر لها التعبير عن حقيقة الكون كما هي، خاصة وانه ينتابها بعض الشذوذ الذي لم تستطع تفسيره كغيرها من النظريات الفيزيائية. ومن الناحية التاريخية فإن فكرة الفضاء المفتوح – كوعاء - هي الفكرة السائدة حتى ظهور النسبية العامة، فإعتماداً على الأخيرة تمّ اعتبار التمدد في الكون لا يحدث بواسطة المجرات المتباعدة، بل إن الفضاء ذاته هو المتمدد مما يجعل المسافات بين المجرات تتسع. بمعنى أنه قبل نشوء الكون لا يوجد فضاء، ثم بدأ الأخير بالتكون والتوسع شيئاً فشيئاً وما زال على هذه الشاكلة، وقد يستمر إلى ما لا نهاية له، كما قد يصل إلى نهاية ثم ينكمش ويعود إلى ما كان عليه أول الأمر. وهي فكرة تتضمن اعتبار الأشياء ساكنة بالمعنى البارمنيدي - نسبة إلى اليوناني بارمنيدس القائل بثبات الأشياء واعتبارية الحركة والتجدد[9] - باستثناء الفضاء، وبالتالي تجد صعوبة في تفسير كيف أن هذه الأشياء تتصادم فيما بينها إن لم تكن متحركة؟!
لذلك يمكننا القول مع ستيفن واينبرغ[10]، بأن فكرة توسع الفضاء هي فكرة مضللة، فما يجري واقعاً هو تباعد المجرات بعضها عن البعض الآخر دون توسع[11].
ومع كل ما سبق ظهرت في السنوات الماضية الأخيرة بعض الأفكار الفيزيائية التي تؤكد وجود الفضاء اللانهائي، لا سيما تلك المتعلقة بالأكوان المتعددة غير المتناهية، ومن ذلك ما اقترحه الفيزيائي اندريه ليند من أن ظروف التمدد التضخمي قد تكررت مرات ومرات في مناطق منعزلة منتشرة في الكون مؤدية إلى عوالم جديدة منفصلة ضمن شبكة كونية لا نهائية. كذلك ما اقترحه غاسبريني وفينيتسيانو - من دعاة نظرية الأوتار الفائقة - بأنه قد يكون هناك عالم لا نهائي في فضاء سابق على بداية كوننا هذا، أو في عصر ما قبل الإنفجار العظيم (Big bang)[12].
يضاف إلى أن من الممكن التوفيق بين نظرية أينشتاين وفكرة الفضاء اللامتناهي. فمعلوم أنه يرى بأن المادة هي ما تحدد الفضاء دون استقلال، الأمر الذي ينسجم مع الكون المنتهي[13]؛ لإنتهاء المادة ومحدوديتها. وهذا الإعتقاد وإن بدى متناقضاً مع فكرة الفضاء اللامتناهي، لكن من الممكن التوفيق بينهما ضمن قيود معينة، إذ يمكن افتراض أن في هذا الفضاء مادة متناهية تحدد الفضاء المتعلق بها وتفرض عليه الإنحناء من غير استقلال، وهو ما يحقق صيغة أينشتاين الآنفة الذكر، بيد أن ذلك لا يمتد إلى سائر أرجاء الفضاء التي تخلو من المادة ومن ثم يغيب عندها الإنحناء فتكتسب – لهذا - طابع التسطح والإنفتاح بلا نهاية.
وعموماً نحسب أن فكرة الفضاء اللامتناهي هي كفكرة الزمان الوجودي اللامتناهي كلاهما من الوجدانيات التي يتقبلها العقل البشري، لكن لا بإعتبار أنها بسيطة وإنما لكونها مفهومة مقارنة مع غيرها من الإطروحات المنافسة التي تفتقر إلى ما نصطلح عليه مبدأ (المفهومية).
[1] انظر: ألبرت أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، تقديم محمود أحمد الشربيني، ترجمة رمسيس شحاته، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص199ـ201، عن مكتبة الموقع الإلكتروني ليبيا للجميع: www.libyaforall.com.
[2] لاحظ حول ذلك: ألبرت أينشتين: أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص30. ولاحظ:Russell, B. Human Knowledge, first published in 1948, Sixth Impression, London, 1976, p. 34.
[3] انظر مثلاً المصادر التالية: فرانك كلوز: النهاية: الكوارث الكونية وأثرها في مسار الكون، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، عالم المعرفة (191)، 1415هـ ـ 1994م، ص231، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية: www.www.al-mostafa.com. وريتشارد موريس: حافة العلم: عبور الحد من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، اصدارات المجمع الثقافي، ابو ظبي، ص145ـ146، عن الموقع الإلكتروني: www.4shared.com. وستيفن هوكنج وليونرد ملوندينوف: تاريخ أكثر ايجازاً للزمن، ترجمة احمد عبد الله السماحي وفتح الله الشيخ، ص73، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com. وبول ديفيز وجون جربين: اسطورة المادة، ترجمة علي يوسف علي، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص150ـ151، عن نفس مكتبة الموقع الإلكتروني السابق. كذلك الأصل الانجليزي للكتاب الأخير:Davies and Gribbin; p.168-169.
[4] حافة العلم، عبور الحد من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ص199 و122. وجورج جونسون: بحث في نظام الكون، ترجمة أحمد رمو، منشورات وزارة الثقافة السورية، ص60ـ61، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[5] تاريخ أكثر ايجازاً للزمن، ص74ـ75.
[6] الجائزة الكونية الكبرى، ص11. وطبقاً لبيانات مسبار ويلكينسون (WMAP) المقدمة لعام 2010، فإن تقدير ما تشغله المادة والطاقة في الكون هي كالتالي: تقرب المادة الباريونية المؤلفة من الجسيمات والذرات (4.56%)، والمادة المظلمة (22.7%)، أما الطاقة المظلمة فهي حوالي (72.8%). انظر:http://en.wikipedia.org/wiki/Wilkinson_Microwave_Anisotropy_Probe
[7] للتفصيل انظر: انكماش الكون. كما انظر حول ذلك نظرية الانفجار العظيم والشكوك حولها (3)، موقع فلسفة العلم والفهم: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=124
[8] سيصدر كتاب (انكماش الكون) لدى مؤسسة العارف.
[9] للتفصيل انظر القسم الأول من: نُظم التراث، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (2)، مؤسسة العارف، بيروت، 2017م.
[10] ستيفن واينبرغ هو عالم فيزياء أمريكي حاز على جائزة نوبل (عام 1979) بالتقاسم مع كل من الباكستاني محمد عبد السلام والأمريكي شيلدون غلاشو، لكشفهم عن التوحيد بين الطاقة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة.
[11] ستيفن واينبرغ: أحلام الفيزيائيين، ترجمة أدهم السمان، دار طلاس، الطبعة الثانية، 2006م، ص38، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[12] الكون الأنيق، ص399 و394ـ395.
[13] أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، ص172 و173.