يحيى محمد
كثير من الناس يتصور بأن العلم يقف قبال الدين، فقد يتفقان أو يتعارضان. ومن الناحية المنطقية ان هذا الطرح لا يخلو من خلل، فهو لا يعبّر عن طبيعة ما يجب ان يكون عليه الموقف بين الطرفين. فالعلم هو ادراك لموضوع خارجي يطلق عليه الطبيعة. والدين هو الموضوع الخارجي، أو المدرك الذي يحتاج لادراكه عنصر ما نسميه الفهم. فالفهم هنا يقف بازاء العلم، والدين يقف بازاء الطبيعة. فكلا الموضوعين الاخيرين يعبران عن شيئين خارجيين مقارنة بالادراك المتمثل بالعلم أو الفهم. ورغم ان هذا الحال واضح منطقياً إلا ان غالب الباحثين لم يلتفتوا اليه، فألبسوا الفهم بالدين، والعلم بالحقيقة الموضوعية. وربما يكون أينشتاين من القلائل الذين اقتربوا إلى هذا المنطق، فعندما سُئل هل يتعارض العلم مع الدين؟ أجاب: ‹‹ان هذا لا يحدث في الحقيقة، لكن ذلك يتوقف بطبيعة الحال على آرائك الدينية››.
نعم قد يكون العلم في توافق أو تعارض مع الدين، لكن قبل ذلك يصادف العلم الفهم قبل مصادفته للدين. وبالتالي فقد تكون المشكلة بالعلم أو بالفهم دون الدين والطبيعة. فهناك مرحلة سابقة للفهم على الدين، والعلم على الطبيعة، لتقدم ماهية الشيء على وجوده من الناحية الابستيمية او المعرفية، أو لكون الثبوت يأتي متأخراً عن الاثبات في الادراك، رغم ان الحقيقة الموضوعية هي العكس بالضبط. بمعنى اننا نواجه في البداية ما مطروح من فهم وعلم، ولا نواجه ديناً وطبيعة رغم سبق ثبوتهما من الناحية الانطلوجية او الوجودية. واذا كانت مهمة الفهم والعلم تتحدد بامتثال ما لدى الدين والطبيعة، فإن هذا الامتثال قد لا يكون مطابقاً للاصل بعد التحول مما هو موضوعي إلى ما هو ذاتي، او مما هو انطلوجي الى ما هو ابستيمي.
صحيح ان هناك حالات لا يمكن انكارها من التطابق، لكنها – مع ذلك - تخضع لشروط وقيود قد لا تتوفر في كثير من الاحيان، لا سيما في المجال الديني. وبالتالي فنحن لا نتجاهل الحالات التي تؤكد مطابقة العلم للطبيعة، وكذا الفهم للدين، لكن هذه الحالات - كما قلنا - مرهونة بشروط ليست متيسرة دائماً.
نضيف إلى ذلك أنه لو ثبت بأن الاشكالية العلمية ليست معنية - هذه الايام - بالتطابق مع الطبيعة، فسينعكس الأمر على العلاقة مع الدين. ففي هذه الحالة لا يمكننا محاكمة الدين من منطق العلم. فقد يكون الأخير غارقاً في الذاتية وبعيداً عن الموضوعية المعبرة عن كنه الطبيعة وجوهرها. فمثلما لا يصح الخلط بين فهم رجال الدين والدين ذاته، فكذا لا يصح الخلط بين علماء الطبيعة والطبيعة ذاتها، فلكل من الطرفين رؤية تأويلية، قد تعارضها رؤى أخرى مماثلة. ونحن ندرك ان فهم الدين عائد إلى الهرمنوطيقا، لكنه ليس منفصلاً بالتمام عن الابستمولوجيا، كما ان العلم عائد إلى الابستمولوجيا، لكنه غير منفصل ايضاً عن الهرمنوطيقا. ويمكن لحاظ ان العلم ورث الرؤية التأويلية للكون من الفهم الديني. فقد كانت الأديان تثير هذا الفضول حتى قبل ان يبدأ العلم بدايته كعلم، ومع الزمن تحولت هذه الوظيفة إلى العلم بالتدريج دون الدين، واختصت به إلى يومنا هذا، حتى ظهر هناك من يقوم بتأويل النصوص الدينية لصالح العلم، أو يقوم باسقاط الرؤى العلمية على هذه النصوص. كما ظهر من يقول بأن للعلم وظيفة هي الكشف عن الواقع والحقائق الموضوعية، في حين يتعامل الدين مع سلوك الناس واخلاقهم فحسب. وقد اضطر الكثير من المؤمنين بالمسيحية وغيرهم للاعتقاد بهذا التقسيم كي لا يظهر التعارض بين العلم والدين. وربما يكون الكاردينال المؤرخ بارونيوس (المتوفى عام 1607) هو أول من أسس لهذا المنحى بقوله: ‹‹إن مقصد الروح المقدسة هي أن يعلّمنا كيف يسير الانسان إلى السماء، وليس كيف تسير السماء››. وقد استشهد غاليلو بقوله هذا لينكر كون الكتاب المقدس حجة في العلم؛ رغم أنه كاثوليكي مخلص في دينه.
فالعلم هو ما يطرح علينا التأويلات المختلفة والمعمقة ازاء الكون، حتى تحول فيها المتدين من وظيفة حمل الرؤية التأويلية للدين ازاء الكون إلى وظيفة أخرى، وهي كيف يوفق بين فهمه للدين وما يطرحه العلم من تأويلات أو نماذج تفسيرية. والنتيجة هي ان الوظيفة الموسعة للفهم قديماً قد تم اختزالها – اليوم – في كيفية ايجاد نسق ملائم يتفق مع ما يقدّمه العلم من نماذج تأويلية. فقد كان للفهم قبل النهضة العلمية الحديثة دور سيادي حتى على العلم ذاته. فسلطة الكتاب التي يستمد منها الفهم غذاؤه؛ مقدمة على سلطة العلم غالباً. ففي الوسط الغربي المسيحي كان القديس اوغسطين (المتوفى سنة 430م) يقول: إن ‹‹سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الإنساني››، مما يعني أنه عندما يقع التناقض بين العلم والكتاب المقدس، فلا محالة ان يُقدّم الأخير على الأول. وتأتي بعد الكتاب المقدس سلطة ارسطو، فهي الأخرى مرجحة على العلم عند التعارض، وبالتالي كان يؤخذ بها ما لم تناقض العقيدة المسيحية مناقضة واضحة، كانكار خلق العالم مثلاً. ثم بعد ذلك يأتي العقل الطبيعي وهو الحس المشترك العام ويؤخذ بصحة احكامه عندما تؤيدها آراء القدماء. وينعكس هذا العقل في عدد من البديهيات، كالقول بمبدأ السببية العامة وهو ان لكل حادثة لا بد من سبب.
أما في الوسط الاسلامي فكثيراً ما يُرفع شعار إنما أُمرنا أن نأخذ العلم من فوق، فيكون الاصل هو النص كملجأ لمعرفة الواقع وحل معضلاته. وقد بالغ جماعة في جعل النص القرآني دالاً على العلوم البشرية كلها، ومنهم الغزالي كما في (جواهر القرآن)، إذ اعتبر القرآن ميداناً لا ينضب في حمله لعلم الأولين والآخرين. فجميع العلوم مغترفة من بحر واحد، وأن أوائلها ليست خارجة عن القرآن. كذلك رأى عالم اللغة والقراءات ابن الفضل المرسي (المتوفى سنة 655هـ) بأن القرآن جمع علوم الأولين والآخرين. ونقل الشاطبي بأن هناك جماعة كانوا يعتمدون على تفسير الآيات طبقاً لمقررات علوم الطبيعة في ذلك الوقت، إذ أضافوا إلى القرآن كل علم يُذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وما إليها.
وسواء في الفهم أو العلم هناك تأويلات كثيرة للعالم الخارجي، ففي الفهم ان هذه التأويلات مناطة بمرجعية العقل والواقع، وهو ما يجعله ذا نزعة نقدية نظير ما يحدث في العلم. ونجد في تراث الفهم ما يناظر العلم في تأويلاته المختلفة للعالم. فالتأويلات الدينية – هنا - هي أشكال أولية للعلم. لكن حيث ان سلطة العلم قد حلت محلها من الثبات والمرجعية، لذا فكل فهم يطرح انما يعرض على هذه المرجعية، حتى أصبح من المحال تقديم رؤية تأويلية منافسة ما لم تكن ممعنة بالطريقة العلمية ذاتها. بمعنى ان ما يُقدّم أحياناً من رؤى مرجعها النص والفهم السلفي لبعض القضايا العلمية المطروحة، كحركة الارض وما اليها، انما هي رؤى خاسرة لاعتبارين، أحدهما أنها مجرد فهم دون ان تعبّر عن جوهر النص، أي خلاف ما يدعى. يضاف إلى أنها غير متسلحة بالادوات العلمية الكاشفة عن الواقع الموضوعي، وذلك بغض النظر عن مقولات النص الديني. فمن الناحية المنطقية ان الواقع الموضوعي شيء، والنص الديني شيء آخر قد يتفقان أو يختلفان. أو ان الحقيقة التي نستكشفها من أحدهما لا تعني هي ذاتها لدى الآخر بالضرورة. فعندما نريد التعرف على الواقع ينبغي المثول إلى هذا الواقع اساساً، وان امكن الاستعانة بالنص أحياناً لتقريب الرؤية دون ان تكون على حساب الواقع ذاته. وهو الحال ذاته عندما نريد التعرف على النص، فينبغي المثول إلى هذا النص في الاساس، لكن المثول اليه قد يجبرنا إلى أخذ الواقع بعين الاعتبار لتبريرين هامين: أحدهما ان النص ذاته كان يستعين بالواقع باستمرار. أما الثاني فهو ان النص بحاجة للواقع لحل دلالاته المتعارضة أحياناً، مثلما أنه بحاجة اليه في اثبات صدقه وحجته. ففي كلا هذين الحالين ان النص بحاجة إلى الواقع، لكن العكس غير وارد، فلو تعارض النص مع الواقع صراحة دون امكانية للجمع والتأويل فلا محالة من اللجوء إلى الواقع دون النص، لأن صدق الأخير لا يكون من غير الاعتماد على الأول اساساً.