يحيى محمد
تمتلك وحدة الوجود الشخصية لدى المتصوفة العرفاء اعتبارات وصوراً مختلفة يمكن ردها الى ستة اشكال، وهي ليست بالضرورة حاملة لشيء من التضاد والتنافي فيما بينها. اي ان من الممكن ان تجتمع صورتان فاكثر ضمن مصداقية واحدة وإن اختلف اعتبار كل صورة عن الاخرى، وذلك كالتالي:
1ـ وحدة الذات والعالم الموهوم
يفترض هذا التصور انه لا وجود في الخارج غير الواحد الاحد، وان كل ما نطلق عليه العالم متوهم لا حقيقة له. فهو يعزو اللبس بين الوحدة والكثرة الى الادراك البشري، بمعنى ان الحقيقة الموضوعية وان كانت وحدة حقيقية لا تمايز فيها، الا انها تظهر للادراك البشري بهيئة عالم موهوم متكثر. وبحسب ما يذكره ابن دهقان فان العرفاء يقولون في وحدة الوجود على شاكلة ما يقوله الحكماء في الالوان، فوجودها مشروط بالضوء، حيث اذا عُدم الضوء لم يكن للالوان وجود، وكذا حال وحدة الوجود عند العرفاء، حيث ان الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك العقلي، وان الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري، ولولا هذا المدرك لما كان هناك تفصيل واختلاف، بل لظهر الوجود البسيط الواحد1.
وكما يقول ابن عربي: >العالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، اي خيّل اليك انه امر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الامر، ألا تراه في الحس متصلاً بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال، لانه يستحيل عليه الانفكاك عن الحق كما يستحيل على النور المنبسط من عين الشمس على أعيان العالم الانفكاك عنها، وكأستحالة انفكاك الظل عمن امتد عنه<2. بل ويرى ان الحياة الدنيا محض منام، وانها جعلت عبرة او جسراً يعبر منها الانسان كما يتم العبور من الرؤيا التي يراها النائم الى ما تعنيه في عالم اليقظة كالذي تنص عليه الاية: {يا ايها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعْبُرون} يوسف/43، وهو يستشهد على ذلك بالحديث النبوي: (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا)3. وان تفسيره لخلق السماوات والارض جاء على نحو احتجاب الحق في الخلق، اي اننا في هذه الدنيا قد خفي عنا الحق باحتجابه في الخلق، الامر الذي يتسق مع اعتقاده بان ادراكاتنا لا تسعفنا في مشاهدة الحق على ما هو عليه، وهو المقصود من كوننا نياماً لا نرى الحقائق كما هي. وصوّر لنا ذلك بمثل ما يحدث في ادراك الشعلة الجوالة، حيث تحدث في عين الرائي دائرة، ومع ان ما يبصره الرائي هو هذه الدائرة النارية، الا انه لا يشك في كونها غير موجودة، فهناك ادراك دائرة مع انها ليست بدائرة حقيقة، وذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لادراك العين، فيُحكم عليها بانها خلق، وبالعلم والكشف يظهر انها حق مخلوق به، اما ما يظهر للعين فهو عدم في عين وجود4.
هكذا العالم متوهم وفقاً لما يراه الرائي، مع ان الرؤية تتعدد بعدد الرائين، وهي تخفي حقيقة الوحدة. فالرؤية عائدة الى الرائي وليست هي عين الحقيقة. وعليه اعتبر ابن عربي انه قد زلت أقدام طائفة عن مجرى التحقيق فقالت ما ثم إلا ما ترى، فجعلت العالم هو الله، والله نفس العالم، من غير ان يكون هناك أمر آخر، وسبب هذه الزلة هو ذلك المشهد5.
وقد يقال ان هذا التصور للعالم المتوهم يقترب عن تصور (عمانوئيل كانت) في تمييزه بين ما هو لذاتنا وما هو في ذاته، حيث توجد فجوة بين معرفة الحقيقة كما الشيء في ذاته وبين معرفتنا النسبية كما هي لذاتنا.
وواقع الامر ان هناك بعض الفوارق بين هذا التصور وبين ما استهدفه العرفاء، فهؤلاء يقرون امكانية معرفة الحقيقة الموضوعية كما هي خلافاً للفيلسوف الالماني المشار اليه. فالحقيقة التي تنجلي خلف هذا الظاهر المرئي هي وان كانت خافية على اغلب الناس، لكنها ليست خافية على الانبياء والاولياء والعرفاء الذين يسعهم شهود الحق من حيث الباطن بخلاف عامة الناس، كما يسعهم شهود فناء الخلق والبعث والنشور والحساب والميزان وعرش الله وغير ذلك6، مثلما يسع الجميع شهود كل ذلك عند الموت. بينما الامر مع الشيء في ذاته يظل مستعصياً عن المعرفة مطلقاً.
نعم، لدى بعض العرفاء ان مشاهدة الحق في ذاته ممتنعة، اذ تكون المشاهدة - دائماً - في مادة عينية، كالذي ذهب اليه ابن عربي في (فصوص الحكم) واستشهد عليه بمضمون الاية الكريمة: {ان الله غني عن العالمين} آل عمران/977، وإن كان في (الفتوحات المكية) ابدى خلاف هذا الامر، فصرح بان العرفاء لا يشهدون في الكون الا الله، وهم لا يعرفون ما العالم لانهم لا يشهدونه عالماً. فهم يشهدون الحق عيناً ويشهدون العالم ايماناً، لكون الحق اخبرهم بان هناك عالماً فامنوا به وإن لم يروه، مثلما ان الناس يؤمنون بالله ولا يرونه.8
2ـ وحدة الذات والكثرة المتطورة
يعبر الوجود عن المقابلة بين الوحدة والكثرة، بحيث تكون الكثرة متقومة بالوحدة وناشئة بفعل اطوارها. فالكثرة تتضمن الوحدة من دون عكس. ومن ابرز الامثلة المقربة لهذا المعنى تصور العدد، فمن حيث انه مؤلف من وحدات له حقيقة واحدة لا تختلف بين افراد العدد، ومن حيث ان كل عدد له ذاتية خاصة لذا يلزم عنه تكثر الافراد واختلافها. فكما ان العدد من غير واحد هو عدم، فكذا ان العالم من غير الحضور الالهي لا وجود له، فحضوره في العالم هو كحضور الواحد في العدد، مع ان الواحد ليس من العدد وانما اساسه، وكذا فيما يخص المبدأ الحق والعالم، فمن حيث كونه ماهية يلزم ان لا وجود له، بل وجوده متوقف على الحضور الالهي، وبالتالي فانه لا وجود للعالم من غير هذا الحضور، مثلما لا وجود للعدد من غير الواحد. ومن التشبيهات الاخرى التي تتفق مع هذا المعنى؛ التشبيه بالبحر وامواجه، والمداد وحروفه، وغير ذلك.
وخاصية هذا الشكل من وحدة الوجود هو ان الكثرة فيه هي كثرة متطورة عن الوحدة. ويبدو انها متحررة عن فكرة الاعيان الثابتة او الماهيات. لكن تظل فائدتها للتقريب دون ان تلغي ما عليه الاعيان ككثرة منجمعة في عين الوحدة الالهية، كما يصورها العرفاء عادة، مثلما قد نتصور ان الواحد يتضمن كل الاعداد وان لم يظهر ذلك عليه.
3ـ وحدة السريان الذاتي
وهي التي تعد وجود الكثرة ليس ناشئاً بفعل اطوار الوحدة كما في التصور السابق لوحدة الوجود، وانما ناشئ بفعل السريان الحاصل من الوحدة على الاعيان الثابتة. وتعد هذه الاخيرة بحسب ذاتها من العدم ما شمت رائحة الوجود، لكنها من حيث الوجود تكون هي هو. لذا فبحسب هذا التصور هناك تعين للمبدأ الحق، ومع وجود هذا التعين المنفرد في ذاته فان له تعينات اخرى يجامع فيها الاعيان والماهيات. والعلاقة بينهما هي كعلاقة النفس بالجسد، حيث ان لها تعينها الخاص الذي تكون فيه متجردة عن البدن، كما ان لها تعينها الساري والملتبس في البدن والحواس الظاهرة والباطنة. وقد ذُكر ان هذا السريان في هياكل الممكنات هو سريان مجهول الكنه، وهو ليس بالحلول، انما ادراكه موقوف على المكاشفة والمشاهدة ولا يمكن فهمه بطريق الاستدلال والنظر. وقد مثّل بعضهم على هذه العلاقة ببعض التشبيهات، من قبيل ان جبريل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الان الواحد في مائة الف مكان بصور شتى كلها قائمة بهم، فمن حيث العين والحقيقة للشيء هو وجود واحد، ومن حيث التعين الصوري يظهر كثيراً9. لهذا يقول ابن عربي: ‹‹وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله››10. وهذا يعني ان الكل واحد، فليس غير الذات وسريانها، ومنه تظهر الموجودات المتكثرة. لكن مع هذا يمكن تصور علاقة سريان الحق في الاعيان على نحوين كالاتي:
الاول: وهو يعبر عن سريان المبدأ الحق في الاعيان فيظهر وجودها وتمايزها وكثرتها، ولولا الحق ما ظهر شيء لها، لكنها مع ذلك متمايزة، ويظهر هذا التمايز بفعل سريان الحق.
الثاني: وهو يعبر عن سريان المبدأ الحق في الاعيان فتنفعل به دون ان تظهر، بل الذي يظهر هو ذاته لا غير، وإن كان باشكال شتى بفعل هذا السريان.
4ـ وحدة عدم التعين الذاتي
وتعبّر هذه الوحدة عن عدم تعين واجب الوجود، انما يظهر ويتعين في كل موجود بحسبه، فالكل هو واجب الوجود من غير حصر ولا تقييد ولا تعيين خاص. فهو كالكلي الطبيعي، لا يوجد الا بوجود افراده فحسب. والعرفاء يعبرون عنه بالوجود الذي هو لا بشرط تعين الماهية وعدمه. فهناك وجود واجب مطلق بسيط، وان الكثرة فيه هي من مراتب هذا الوجود البسيط، وان الماهيات المختلفة تنتزع عنه، وان كل فرد من افراد هذا الوجود المنبسط يعد فرداً واجباً، بلا تمايز بينه وبين غيره من جهة الوجوب، وانه لا توجد للواجب مرتبة خاصة لا تجامع بها بقية المراتب الاخرى، حيث الكل واحد، وان حقيقته تقتضي الاطلاق من غير حصر. وقد نُقل عن بعض العرفاء قوله: ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله بعده، ولما ترقينا ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله معه، ولما ترقينا عن ذلك ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله قبله، ولما ترقينا عن ذلك ما رأينا شيئاً الا الله11. فالكل هو الله والله هو الكل. وتعبيراً عن هذه الوحدة اعتبر السهروردي ان التوحيد الحقيقي هو ان يقول القائل: لا اله الا انا.
5ـ وحدة الذات وصفاتها
كثيراً ما يعبر عن الكثرة الوجودية بانها عبارة عن صفات الله واسمائه، والتي بعضها يتداخل مع البعض الاخر، حيث تندك جميع الاسماء في باطن كل منها مع غلبة بعضها في الظهور على البعض الاخر، وكما يقول العارف ابو القاسم بن قسي بان كل اسم الهي يتسمى بجميع الاسماء الالهية وينعت بها، ويشير ابن عربي الى سبب ذلك هو لأن كل اسم يدل على الذات الالهية وعلى المعنى الذي سيق اليه، فمن حيث دلالته على الذات له جميع الاسماء، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به فانه يتميز عن غيره من الاسماء، كالرب والخالق والمصور وغير ذلك، فالاسم اذن عين المسمى من حيث الذات وغير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى12. فالاسماء الالهية هي عين المسمى من حيث الوجود واحدية الذات، وإن كانت غيراً باعتبار كثرتها، وليس المسمى الا عين هوية الحق السارية في الموجودات كلها13.
واستناداً الى هذه الاسماء التي يتضمن بعضها البعض الاخر لتعبر عن وحدة الذات والعين، فان كل جزء من العالم فيه مجموع العالم، او هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله، فاي شيء يشتمل على كل شيء14. فلدى العرفاء انه ليس في الوجود غير الله وصفاته، واحياناً يضاف الى ذلك فعله، باعتبار السريان والعروض على الماهيات. فما موجود هو الذات والصفات والفعل مثلما يشير ابن عربي الذي يقول: ‹‹ما ثم الا الله الواجب الوجود الواحد بذاته الكثير باسمائه واحكامه.. فوالله ما هو الا الله فمنه واليه يرجع الامر كله››15. ويقول ايضاً: ‹‹ما ثم في الوجود الا الله تعالى وصفاته وافعاله››16. علماً بان الافعال - هنا - لا تؤخذ بمعناها الظاهر، وانما هي الانبساط والسريان للحق في الاعيان الثابتة التي هي من حيث ذاتها ما شمت رائحة الوجود.
6ـ وحدة الذات وصورها
وفقاً لبعض المتأخرين فانه يمكن تصوير وحدة الوجود على النحو التالي:
لما كان الفاعل الاول تام القدرة والفاعلية والعلم، فانه كلما تصور شيئاً وتعلقت به ارادته فانه يصير منقوشاً في لوح الخارج وصفحة نفس الامر، وحيث ان النظام الكلي والترتيب الجملي للموجودات من الازل الى الا بد متصوراً ومعلوماً له تماماً منذ الازل، وان تعلق ارادته بتفاصيل هذا النظام وجزئياته يكون بحسب الاوقات المخصوصة، فان ذلك يرتسم على وفق ارادته في الخارج. لكن النظر الادق يقتضي ان نسبة ظرف الخارج ونفس الامر الى واجب الوجود هي كنسبة ظرف الذهن الينا، ونسبة ايجاد حقائق الاشياء واعيان الموجودات في الخارج الى الله، كنسبة تصور المفهومات المخترعة في الذهن الينا، وفي الحقيقة ان ظرف الخارج بمنزلة ظرف الذهن للمبدأ الحق، ويؤيد ذلك قول بعض العرفاء: ‹‹ان الوجود الواجبي عين جميع الموجودات››. اي ان حقائق الموجودات الخارجية هي الصور العلمية للذات الالهية، فهي بالتالي ليست خارجة عنها17. او يمكن القول ان العالم عبارة عن فكرة في عقل الله كما يقول اينشتاين.18
1 مقدمة ابن خلدون، المكتبة التجارية الكبرى في القاهرة، لصاحبها مصطفى محمد، ص472.
2 شرح الفصوص، ص413 . ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص473.
3 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص269 92. وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، الفص التاسع اليوسفي، ص101.
4 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص836.
5 ذكر الجنيد عن العارف السري بانه قال: سمعت غليم الاسود - وهو من العارفين - يقول: من أقبل على الأشياء وهو يراها هربت عنه، ومن تركها أتته. فقال الجنيد له: كيف ذلك يا سري؟ فأجاب: ان غليم قال بأنه كان يكسب ويجتهد دون ان يكفي ذلك معيشته، وإذا به يقرأ الآية القرآنية: ((قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم..))، فترك الكسب متوكلاً على الله بالكفاية، وعندها كان يضرب بيده على الاسطوانة فتصير ذهباً. ثم قال غليم: يا سري هذه الأعيان - كالاسطوانة مثلاً - لا تنقلب إلى شيء آخر >ولكنك هكذا تراه<. وعلى رأي ابن عربي ان قوله الاخير يعني انه هكذا يرى الحق (كتاب المسائل من رسائل ابن عربي، ج1، ص18ـ19).
6 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص186.
7 شرح الفصوص، ص679 . وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، الفص السابع والعشرين، ص217.
8 الفتوحات، مصدر سابق، ج4، ص78.
9 قرة العيون، ص218-219.
10 وقد علق الجندي في شرحه لقول ابن عربي المشار اليه: ‹‹وإن كان كل تعين عين المتعين به وقائماً وظاهراً، بل هو هو، ولكن تعين المطلق في المقيد ظهور مقيد وحد محدود›› (شرح الفصوص، ص313).
11 قرة العيون، ص233.
12 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص350.
13 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص67.
14 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص221.
15 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص837.
16 رسالة الانوار، من رسائل ابن عربي، ج1، ص1.
17 قرة العيون، ص234-235.
18 انور الجندي: الفكر العربي المعاصر، مطبعة الرسالة بمصر، ص354.