يحيى محمد
ترد احياناً بعض الإعتراضات حول طبيعة القيم الاخلاقية، وهي أنها لو كانت عقلية لما وقع التفاوت بينها وبين الضرورات الأولية للعقل، كقضية أن الكل أعظم من جزئه، إذ لا تتفاوت العلوم الضرورية فيما بينها في الحكم. فلو أن الإنسان افترض نفسه قد خُلق تام الخلقة وكامل العقل دفعة واحدة، ولم يتخلق بأخلاق قوم ولا تأدب بتأديب الأبوين ولا تربى في الشرع ولا تعلم من متعلم، ثم عرض عليه أمران أحدهما (الإثنين أكثر من الواحد) والثاني (الكذب قبيح) بمعنى أنه يستحق اللوم عليه، ففي هذه الحالة سوف يتوقف في الأمر الثاني دون الأول، ومن حكم بأن الأمرين سيان خرج عن قضايا العقول وعاند كعناد الفضول.
وهذا الإشكال غير صحيح، إذ هناك تفاوت في العلوم العقلية، كما أن فيها قيوداً يجعل بعضها يختلف عن البعض الآخر، ويظل المشترك فيما بينها هو القول بالضرورة بمعناها العام عندما يدركها العقل مجرداً، أو عند تصور طرفيها. فالعقل يحكم بضرورة صدق قضية الحسن والقبح، مثلما يحكم بهذه الضرورة للقضايا المنطقية والعقلية والإحتمالية، مع الأخذ بنظر الإعتبار القيود والإعتبارات الخاصة لكل منها.
ومن الباحثين الغربيين من شكك بالضرورات العقلية، سواء في القضايا القيمية أو غيرها من القضايا الأخرى بما فيها الأحكام الرياضية، معتبراً أن منشأ ما تتصف به هذه القضايا من الصدق والثبات والكلية والإطلاق، سواء في الرياضيات أو القيم، هو عقولنا نحن البشر، وما يدرينا فلو أن هناك عقولاً أخرى؛ فلربما ظهر لها الأمر مختلفاً؟ فمثلاً نعلم بأن الضرورة الرياضية لعقولنا تقر بأن جمع الإثنين مع الثلاثة يساوي خمسة، لكن ما الذي يضمن هذه النتيجة لعقل آخر مختلف عنا؟ وكذا يقاس الشيء نفسه بالنسبة للأحكام القيمية، فما يراه عقلنا حسناً قد لا يكون كذلك لدى عقل آخر مختلف[1]؟
ولا شك أن هذا التشكيك يفضي إلى إسقاط المعرفة البشرية قاطبة، إذ تتأسس الأحكام الرياضية على مبدأ عدم التناقض، وأن التشكيك بهذا المبدأ لا يدع مجالاً للإستدلال، ومنه الإستدلال المذكور، فلا يتم الإستدلال ما لم يقر ضمناً صدق ذلك المبدأ، والإعتراف بصدقه يعني الإعتراف بصدق الأحكام الرياضية القائمة عليه.
كما هناك إعتراض آخر، وهو أن قضايا الحسن والقبح تتباين أحكامها طبقاً للظروف والأحوال المختلفة، فما يكون حسناً في ظرف قد يكون قبيحاً لدى آخر. وبحسب بعض الغربيين من المدافعين عن المذهب الإجتماعي أنها تكون وفق ما عليه التقاليد والأعراف، بعيداً عن الإحساسات الفردية والتقييمات الذاتية، فقد رأى الاستاذ (روث بينيدكت) أن البشر يفضّلون التعبير عن الفعل في القضايا القيمية بأنه حسن – مثلاً - بدل التعبير عنه بأنه عادة وتقليد، وكما يرى أن العبارتين السابقتين مترادفتان[2].
وتتعمق المسألة أكثر عند لحاظ التزاحم الحاصل بين مصاديق قضايا القيم، كالتزاحم بين صدق القول وإنقاذ نفس محترمة، ففي بعض الأحيان يكون الصدق سبباً لهلاك هذه النفس، والكذب سبباً لإنقاذها، فكيف تكون مثل هذه القضايا عقلية ضرورية، لا سيما وأن من شروط القضية العقلية أن تكون مطلقة غير مقيدة بزمان ومكان ولا مخصصة بحالات دون أخرى؟
والجواب على هذا الإعتراض يستمد مما سبق عرضه بشأن الإختلاف بين أنواع القضايا العقلية، فلكل نوع شروط وقيود تختلف عن غيره، وأن الجامع الذي يجمعها هو كونها صحيحة بحسب النظر القبلي للعقل، وأنها من هذه الناحية تكون مطلقة وشاملة وغير قابلة للتخصيص، وينطبق هذا الحال على قضايا القيم والحسن والقبح، فهي من حيث نفس الأمر وبغض النظر عن مصاديقها تظل صحيحة صحة مطلقة، فلا تعارض بينها في نفس الأمر، إنما ينشأ التزاحم بين مصاديقها الفعلية. فالصدق حسن، وكذا انقاذ النفس المحترمة حسن أيضاً، ولا تعارض ولا تزاحم من حيث الذات بين هذين الواجبين، بل ينشأ التزاحم بالعرض بين المصاديق.
لكن السؤال المطروح: هل يؤثر مثل هذا التزاحم على ذاتية الصدق من حيث كونه منشأً للحسن؟ أو أننا أمام حالة جديدة لم نألفها من قبل؟
لو اعتمدنا على المعنى السابق لكان التزاحم لا يضر بذاتية الصدق كمفهوم قبلي يتصف بالكلية والاطلاق.
وثمة إجابات أخرى مختلفة. فمثلاً طرح إبن القيم، وهو في معرض دفاعه عن منطق الحق الذاتي، إجابتين قويتين لحل هذه الإشكالية، أُولاهما من إبداعاته، وهي أن القضايا القيمية من الحسن والقبح تكون إطلاقية من غير تخصيص، ودلل على ذلك بشاهد الصدق والكذب؛ معتبراً أن الصدق حسن بإطلاق، والكذب قبيح بإطلاق، حيث للكلام نسبتان، إحداهما إلى المتكلم وقصده، والأخرى إلى السامع وإفهامه، فإذا أخبر المتكلم بخبر مطابق للواقع وقصد إفهام المخاطب فهو صدق من الجهتين، وإن قصد خلاف الواقع وأفهم المخاطب خلاف ما قصد فهو كذب من الجهتين بالنسبتين معاً، وإن قصد معنى مطابقاً صحيحاً وأفهم المخاطب خلاف ما قصده فهو صدق بالنسبة إلى قصده وكذب بالنسبة إلى إفهامه، ومن هذا الباب التورية والمعاريض. وانتهى من ذلك إلى القول بأن الكذب لا يكون إلا قبيحاً، وأن الذي يحسن ويجب إنما هو التورية التي هي صدق، وقد يطلق عليها الكذب بالنسبة إلى الإفهام لا إلى العناية[3]. لذلك ففي حالة التزاحم بين الصدق وإنقاذ نفس بريئة، لا يجوز إخبار السامع بحقيقة الحال للمفسدة المترتبة على ذلك، لكن لا يقتضي هذا أن الصدق قبيح، حيث القبح ينشأ من الإعلام بالحقيقة وليس من النسبة الصادقة، والإعلام ليس ذاتياً للخبر ولا داخل في حدّه، فالخبر غير الإخبار، ولا يلزم من كون الإخبار قبيحاً أن يكون الخبر قبيحاً مثله[4].
هذا ما أفاده إبن القيم وأبدع فيه رغم أنه لا يخلو من مناقشة، لكنه في جميع الأحوال لا ينفع عند تطبيقه على التزاحمات الأخرى التي لا علاقة لها بمقولة الصدق والكذب، حيث ليس لها علاقة بالخبر والإخبار.
أما الإجابة الثانية التي عرضها إبن القيم، فتقريبها كالتالي: إن للقيم الأخلاقية صفة اقتضائية، فتخلّف القبح عن الكذب أحياناً؛ بسبب فوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجحة، لا يخرج الكذب عن كون ذاته تقتضي القبح. فحاله كحال الميتة التي حرّم الله أكلها إلا عند الضرورة، إذ تقتضي ذاتها المفسدة التي حُرّمت لأجلها، وأن حلية أكلها عند الضرورة لا يغير من الأمر شيئاً، وهي أن ذاتها منشأ للمفسدة. وعلى هذه الشاكلة أن العلل العقلية والأوصاف الذاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلّف عنها لفوات شرط أو قيام مانع، ولا يوجب ذلك سلب اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشرط[5].
وقديماً كان يقال إن نبات السقمونيا يُسهل الصفراء، وهو حكم عقلي صحيح من وجهة نظر المنطق الأرسطي رغم علمه أن فيه إستثناءات عارضة، لكنها لا تغير من جوهر كون السقمونيا من شأنه إسهال الصفراء، وهو ما يقصد به من حكم الإقتضاء[6].
على أن للقيم الأخلاقية دلالة عقلية ببعض الاعتبارات، أحدها حين النظر إليها في ذاتها كمفاهيم عامة ومطلقة. وثانيها عند تقييدها بعدم المزاحم، وهذا ما يجعلها تتطابق مع مصاديقها من غير تخصيص، مثلما تقيّد سائر القضايا الضرورية بقيود تجعلها نافذة، كعدم التناقض المقيد ببعض الشروط، كإختلاف الموضوع أو المحمول أو الزمان أو المكان أو غيرها[7]. وثالثها بحسب الإقتضاء كما ورد في الإجابة السابقة، رغم أن الاقتضاء لا يُعلم بشكل قبلي، فهو يعتمد على النظر البعدي أو إلى الواقع الموضوعي. ورابعها من خلال خضوعها إلى قانون الخير الأعظم كالذي نظّرنا له في بعض الدراسات المستقلة.
ووفق هذه الاعتبارات المختلفة تمثّل القيم الأخلاقية قضايا كلية صادقة. وهي من هذه الناحية لا تختلف عن سائر الضرورات. وفي بعض من هذه الاعتبارات تتخذ القيم شكل الاطلاق غير القابل للتخصيص. وهي أقرب ما تشابه القضايا الإحتمالية بكونها ضرورية واطلاقية لا تقبل التخصيص، وإن لم تتطابق مع مصاديقها الخارجية. فمثلاً نحن لا نتوقع مطابقة قضايا الإحتمالات التماثلية لمصاديقها إلا عند الحوادث غير المتناهية، ومع ذلك فإنها تظل صحيحة من الناحية العقلية، وكذا فإن وجود التزاحم في القيم وترجيح بعضها على البعض الآخر، ومن ثم إعتبار المصاديق في بعض الحالات حسنة، وفي أخرى قبيحة، كل ذلك لا يغير من جوهر ثبات صدق المسألة الكلية لهذه القضايا وعقليتها.
[1] Learm, J. Ethics Mathematics and Relativism, in Essays on Moral Realism. p. 82
[2] Sayre-McCord, G. Introduction, p. 18
[3] مفتاح دار السعادة، ج2، فصل حول الحكمة في خلق الله.
[4] المصدر السابق، ج2، ضمن الوجه الحادي عشر من وجوه الكلام على كلمات النفاة.
[5] نفس المصدر، ج2، ضمن الوجه الحادي عشر من وجوه الكلام على كلمات النفاة.
[6] لاحظ إبن سينا: البرهان، تحقيق أبو العلا عفيفي، ص96ـ97. والإستقراء والمنطق الذاتي، ص84.
[7] يذكر بأن هناك ثماية شروط تفي بتحقق التناقض، والبعض اعتبرها تسعة شروط (المنطق، ص167ـ168).