يحيى محمد
لقد اهتم فلاسفة العلم برصد التطورات العلمية ضمن مراحل معينة واختلفوا في تحديدها. فعلى رأي روبير بلانشي ان العلم مر بمراحل ثلاث هي: مرحلة العلم بالجوهر، ثم العلية، ثم الدوال الرياضية. وفي سياق اخر اعتبر بلانشي أن تطور العلوم من حيث العمليات الاستدلالية والادراكية تمت عبر المرور بمراحل تاريخية أربع، هي: المرحلة الوصفية فالاستقرائية فالاستنباطية فالاكسيومية. فقد اعتقد بأن المرحلة الاستقرائية للفيزياء بدأت منذ بزوغ القرن السابع عشر واستمرت حتى القرن الثامن عشر، وكان أبطالها كل من غاليلو وكبلر وهويجنز ونيوتن واخرين. فجميع هؤلاء أخذ بمنهج الاستقراء طبقاً لتحديد فرانسيس بيكون او قريب منه. ثم بعد ذلك بدأت المرحلة الاستنباطية خلال القرن التاسع عشر. والان وصلت اللحظة التي تنطبق عليها الصياغة الاكسيومية.
ولدى باشلار تصور اخر مختلف، فهو قد رسم لنا محطات تاريخية كبرى، تتميز فيها ثلاث مراحل رئيسية متقاطعة، يسمي الاولى منها ما قبل العلمية، وتشمل الازمنة الكلاسيكية القديمة وعصر النهضة، وقد انتهت عند نهاية القرن الثامن عشر. وبعدها بدأت المرحلة الثانية والتي تمثل عنده الحالة العلمية، وتبدأ مع انتهاء المرحلة الاولى، اي منذ أواخر القرن المذكور وحتى مطلع القرن العشرين. اما المرحلة الثالثة والاخيرة وهي ما يطلق عليها عصر العقل العلمي الجديد فتبدأ من سنة 1905، وهي السنة التي دشنها اينشتاين في نظرية النسبية الخاصة وحتى يومنا هذا.
ويواجه هذا التقسيم لدى باشلار مشاكل عديدة، منها انه جعل فترة النهضة الحديثة تمثل مرحلة ما قبل العلم، وهو شيء مستغرب، اذ ان بعضاً من التطورات العلمية خلال القرن العشرين كانت تعتمد على شيء من نتائج تلك الحقبة. كذلك يلاحظ ان التطورات العلمية لم تتخذ في مراحلها الرئيسية شكلاً من القطائع المعرفية التامة. وهي وان صادفها احياناً العديد من التصحيحات، لكنها لم تفض الى هجر كل ما بناه السابقون من نظريات. فالنظرية النسبية عولت على فكرة المجال لماكسويل دون ان تتقاطع معها، ومثل ذلك تعويلها على نظرية نيوتن في الجاذبية دون رفضها كلياً، بل جعلت لها حدوداً من التأثير ضمن استيعابها لها. وهي بذلك استهدفت التوفيق بين النظريتين المختلفتين حول الجاذبية لنيوتن والمجال الكهروطيسي لماكسويل.
صحيح ان نظرية ماكسويل حول الضوء جاءت مختلفة كلياً عن نظرية نيوتن، فهي تقاطعها من هذه الناحية، لكن المسار العام لما طرحه كل منهما لا يمكن تفسيره ضمن اطار القطيعة العلمية. فمع ان نظرية ماكسويل مختلفة كلياً عن نظرية نيوتن في الجاذبية، الا انهما يدوران في فلكين مختلفين، فاحدهما يعالج الكتل المادية، فيما يعالج الاخر الحقول الكهروطيسية. لهذا سعت نظرية اينشتاين للتوفيق بين الاثنين ضمن ما يعرف بنظرية المجال الموحد، فكان من بين ما اعتمده عليهما كونه لم يخالف نيوتن في قوله بتأثير الكتل المادية، وان اضاف الى ذلك تأثير المجال الذي اقتبسه من ماكسويل، وحاول ان يجعلهما ضمن مبدأ موحد يزيل هذه المثنوية عبر فكرته المتعلقة بانحناء الزمكان، لكن محاولته باءت بالفشل. وبقيت الفكرة تعبر عن نوعين من الجذب، احدهما يعود للكتل المادية، والاخر للمجال، او لنقل ان الجذب لدى اينشتاين هو مجموع الجذبين النيوتني والماكسويلي. وكلا الجذبين رهينان بطبيعة ما عليه انحناء الزمكان المتصل، وهو تفسيره الجديد في الموضوع والذي يختلف فيه عمن سبقه من الفيزيائيين.
كذلك فان علاقة النسبية بميكانيكا الكوانتم هي علاقة تعارض محايث، فاحداهما لم تستطع ازاحة الاخرى، وكلاهما مقبولتان. وان جميع المحاولات التي استهدفت التوفيق بينهما لم تلجأ الى فكرة القطيعة. فالمعول عليه عادة إما تأويل الكوانتم وفقاً لجاذبية النسبية، او القيام بالعكس. واحياناً يعبر عن ذلك بتفسير قوانين العالم الجسيمي الصغير من خلال قوانين العالم الكبير، او عكس ذلك بتفسير قوانين العالم الكبير من خلال قوانين عالم الكوانتم الصغير. وبعبارة اخرى ان تفسير العالمين إما ان يكون وفق قوانين الحتمية كما يراهن عليها اينشتاين، او وفق القوانين الاحصائية الاحتمالية كما هو مطلب ميكانيكا الكوانتم الجسيمية. وفي كلا الحالين وبحسب الاعتراف العلمي لا يبدو في المقام قطيعة الا من وجهة نظر منطقية.
كما يقدّم توماس كون تصوراً مختلفاً لمراحل العلم، وهو انه يمر بعدد من المراحل، فاذا تجاوزنا مرحلة ما قبل العلم، باعتبارها غير قابلة للتكرر، فأول ما يبدأ به العلم هو العادي القياسي والذي يتقوم بما يطلق عليه النموذج الارشادي (بارادايم paradigm)، ومع مرور الزمن تظهر عليه المعاناة من عدم قدرته على تفسير ظواهر معينة، وقد يتفاقم الامر فتتحول المسألة الى ازمة تتطور شيئاً فشيئاً، ولم يعد من الممكن تكييفها مع العلم القياسي المألوف، فيفضي الامر الى ثورة علمية بتبني نموذج ارشادي جديد (بارادايم paradigm).
وبحسب توماس كون فانه غالباً ما ينبثق النموذج الارشادي الجديد ضمن مرحلة جنينية، قبل ان تستفحل الازمة وتتطور بشدة، ومن ثم الاعتراف بها صراحة. وبعد ان يمرر هذا النموذج يغدو علماً قياسياً عادياً، ومن ثم يمكن ان يواجه ذات المراحل السابقة من ظهور مشاكل معينة شاذة لا تخضع لتفسيره، وقد تتطور الى ملامح ازمة، وربما يفضي الامر الى ثورة جديدة وتبني نموذج ارشادي جديد، وهكذا.. وتحصل هذه المراحل بفضل ما يتحقق من الازمة، وهذه الاخيرة تتحقق عند لحاظ الشذوذ او الوقائع المناقضة التي تستعصي على التكيف مع العلم القياسي العادي. فقد يفضي الامر عند الازمة الى تبديل النظرية كلياً إن لم تحصل حالة تعديل تعيد النظرية الى مكانتها. فعند الشذوذ او الوقائع المناهضة ينذر الامر بالثورة إن لم يكن هناك حل لتعديل النظرية لتستوعب هذه الوقائع الشاذة. وبالتالي فالقضية ليست تأويلاً قبال تأويل اخر، بل تسليم بنموذج ارشادي جديد على خلفية اخر قديم. وكما يرى كون فانه في الثورات العلمية تُرى الاشياء المألوفة وكأنها غير مألوفة، اذ تتم اعادة صياغة العلم من جديد بتجاوز ما كان مسطوراً في السابق.
ويلاحظ على هذه الفكرة انها صورية تخلو من المضمون المحدد لتطورات العلم، وهي اشبه بفلسفة التاريخ. كما ان التعويل على النماذج الارشادية لا يفي بواقع التطور العلمي. فمثلاً خلال القرن العشرين والى يومنا هذا تتربع نظريتان هامتان ليس بينهما علاقة من النوع الارشادي الذي يتحدث عنه كون، رغم ان كلاً منهما تشكل ثورة في حد ذاتها.
لقد تعرض توماس كون الى نقد الكثير من الفيزيائيين وفلاسفة العلم، وكان من بينهم الفيزيائي المعروف رولان أومنيس، وذلك في مسألتين جوهريتين: احداهما قوله بالثورات او القطيعات العلمية، في حين ذهب أومنيس الى التدرج العلمي المتصل. والثانية قوله بالنماذج الارشادية التي تجعل النظريات بعضها يحاكي البعض الاخر ويتأثر به، في حين رأى أومنيس انه لا توجد محاكاة بل تحول من مبادئ علمية الى قوانين بايجاد مبادئ جديدة.
على هذا قام الاخير بتقسيم نظم العلم الى اربع مراحل متصلة: الاولى ملاحظة الوقائع واجراء التجارب، ومنها قواعد كبلر التي هي تلخيص لوقائع ملحوظة. والثانية تحديد المفاهيم او المبادئ، اذ تتحول فيها القواعد الى قوانين مستنبطة من المبادئ، مثل قواعد كبلر المستنبطة من مبدأ الجاذبية لنيوتن، بعد ان قام الاخير بتحديد مفاهيم الكتلة والقوة والموضع والسرعة والتعجيل. والثالثة النظام المنطقي، وهي عكس المرحلة الثانية، اذ يُجرى فيها فحص المبادئ واختبارها، فمثلا ان نيوتن قام باختبار مبادئه على الحركة الكوكبية وعلى الاجسام الساقطة، وغالباً ما يكون الاختبار في الفيزياء متخذاً الصيغ الرياضية. اما المرحلة الاخيرة فهي التحقق والقابلية على التكذيب، طبقاً لتبني نظرية كارل بوبر، وهي المتعلقة باختبار النظرية على مستوى الواقع، كما يحصل في حالة التنبؤات العلمية التي تفترضها النظرية.
هذا فيما يتعلق بالنظريات العلمية الدقيقة، أما النظريات غير الدقيقة فقد رأى أومنيس انها لا تخضع لمثل هذا النوع السابق من القابلية على التكذيب والتفنيد، كالعلوم الاجتماعية والنفسية عادة، ومن ذلك منهج ستراوس كمثال للانثروبولوجيا، اذ تتصف مثل هذه المناهج بانها تفتقد للمرحلة الاخيرة او القابلية على التكذيب خلافاً للعلوم الدقيقة كالفيزياء.
ونلاحظ أولاً ان اعتبار أومنيس للمرحلة الاخيرة الرابعة جزءاً متأصلاً في العلوم الدقيقة كالفيزياء هو امر غير دقيق. فهناك من القوانين الفيزيائية ما لا يمكن تعريضها للتحقيق ومن ثم الكشف عن قابليتها للتكذيب، ومنها قانون نيوتن الاول في العطالة او القصور الذاتي، او ذلك العائد الى غاليلو مع بعض الاختلاف، فهو مفترض ولا يقبل التفنيد ولا التحقيق، اذ لا يوجد شاهد عليه في الطبيعة كما صرح بذلك اينشتاين، فهو ينص على ان كل جسم يحافظ على حالة سكونه او حركته المنتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوة مؤثرة على تغيير هذه الحالة، وهو يعني ان كل جسم يتحرك بمعزل عن كل احتكاك وتأثير خارجي فانه يستمر في حركته بانتظام في خط مستقيم دون توقف. في حين ان جميع الاجسام يتأثر بعضها بالبعض الاخر، وبالتالي فليس هناك سكون ولا حركة منتظمة. يضاف الى ان هناك الكثير من النظريات أخذت تظهر رغم بعدها عن التحقيق كما سنرى. هذا ناهيك عن ان العلم قائم على التأييد اكثر مما هو على التكذيب والتفنيد.
كما نلاحظ ايضاً ان المرحلة الثانية تحتاج إلى تحقيق، فما ذكره رولان أومنيس هو ذاته ما كان يزعمه نيوتن من ان قانون الجاذبية مستخلص إستقرائياً عبر قواعد كبلر الناتجة عن تجميع الملاحظات، وقد نقده فيلسوف العلم دوهيم على هذا الزعم في كتابه (هدف النظرية الفيزيائية وبنيتها) موضحاً بأن قانون الجاذبية ليس فقط يختلف عن قواعد كبلر في حركة الكواكب، بل ويتناقض معها. بمعنى أنه إما ان تكون هذه القواعد صحيحة والجاذبية خاطئة، أو العكس هو الصحيح. فهذه القواعد تجعل من حركة الكواكب حركة اهليليجية منتظمة، في حين أنه بحسب الجاذبية فإن تأثير الكواكب بعضها على البعض الآخر يجعل الصورة الاهليليجية تتضمن شيئاً من الحركة المضطربة غير المنتظمة، أي أن الكواكب بعضها يخلّ ويشوش على البعض الآخر، فنظرية كبلر في حركة الكواكب قائمة على الإنتظام، في حين ان نظرية نيوتن قائمة على التشويش. كما نقده ايضاً عبر ايضاح ان مفاهيم نيوتن في الجاذبية لا تُردّ إلى نظرية كبلر ولا علاقة لها بمفاهيمه. فمفاهيم الأخير هي المكان والسرعة والمسافة والوقت.. الخ، لكنها لا تتضمن مفهومي الكتلة والقوة، وبالتالي كيف يمكن استخلاص هذين المفهومين من منظومة لم يرد بشأنها حاجة ولا ذكر كما في قواعد كبلر؟!
ويفسر دوهيم علاقة نيوتن بكبلر كما يقول: ‹‹اكتشف نيوتن بجهوده قوانين الحركة الدائرية الاطرادية، وقارن هذه القوانين... بقانون كبلر الثالث، فادرك من هذه المقارنة ان الشمس تجذب كتلاً متساوية من كواكب مختلفة بقوة تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعد هذه الكواكب عن الشمس››.
ومن وجهة نظرنا فان الخلل في جميع ما ذكرناه من افكار وتصورات حول مراحل العلم ومناهجه هو انها لم تتعرض الى المرحلة المعاصرة في اختلاط العلم بالفلسفة او بالنظام الميتافيزيائي. واذا كان بعضها معذورة لكونها لم تشهد التطورات المعاصرة للفيزياء، الا ان بعضها الاخر قد شهدت هذه التطورات وخبرتها تماماً. كذلك فان التقسيمات الواردة تركز على فكرة المراحل المتتابعة فقط دون المحايثة التي نجدها واردة بين المتقدم والمتأخر. وبالتالي نرى بان مراحل العلم تتضمن نظماً معرفية متحايثة، بحيث انها ابقت احياناً على النظم التي سبقتها رغم التطور الحاصل. لذا فمن وجهة نظرنا ان هناك ثلاثة نظم للفكر العلمي الحديث كما يمارسه العلماء اضافة الى النظام القديم، ونطلق عليها: النظام الاجرائي، والنظام الافتراضي، والنظام التخميني الميتافيزيائي.. وهي معالجة في دراسة مستقلة..