يحيى محمد
لقد تعرضنا في بعض الدراسات الى طبيعة نظم العلم وحددناها في ثلاثة بالاضافة الى النظام القديم، هي: النظام الاجرائي والافتراضي والميتافيزيائي. ومن حيث التحليل فان بين هذه النظم ونظم الفهم الديني كما حددناها في (مدخل الى فهم الاسلام) تشابهات عديدة.
بداية لنلقي نظرة مجملة حول نظم الفهم الديني ومناهجه قبل مقارنتها بنظم العلم. ففي الفهم الديني التراثي نجد نظامين معرفيين يمتلك كل منهما منهجين مختلفين، احدهما سميناه النظام الوجودي ويحتضن دائرتين معرفيتين هما الدائرة الفلسفية والعرفانية، وفي قباله هناك نظام اخر مختلف سميناه النظام المعياري، ويتضمن دائرتين معرفيتين اخريين هما الدائرة البيانية النصية والدائرة العقلية كالتي يمثلها غالب علم الكلام. فهذه هي نظم الفهم التراثي ومناهجه.
وللنظام الاول وجود مستقل سبق الاسلام لقرون طويلة. وهو يمتاز باشكالية وجودية، اذ يتخذ من «الوجود العام» موضوعاً له، مضفياً عليه الطابع الحتمي في جميع مراتبه ومفاصله. وقد أثّر هذا الحال في تعامله مع النص الديني والقضايا المعيارية، الى الحد الذي اصبح فيه النص مرآة لإظهار الوجود وحتميته بما في ذلك مسألة التكليف ذاتها. فطبقاً لهذا الفهم فإن عملية التكليف التي يبديها النص تتخذ طابعاً مجازياً حقيقته الوجود والحتمية.
أما النظام الاخر فهو غير مستقل في ذاته عن النص الديني، فعلومه إما مبنية على فهمه أو على الموضوعات العالقة بأجواءه، وحيث أن للنص طبيعة معيارية تتضمن «الروح الانشائية» وتتخذ من نظرية التكليف قطبها الأساس، لذا فقد اصطبغت هذه العلوم بالصبغة المعيارية.
ويعود مصدر التضارب بين النظامين إلى التباين الشاسع في الروح العامة لنمط التفكير لديهما. فطبيعة المعرفة لكل منهما هي ليست من جنس الثانية، إلى الحد الذي أثّر في مظهر النص، فأخذ يتمظهر بمظهرين لكل منهما الجنس المختلف كلياً عن الآخر. ولنقل أن لكل منهما مرآته الخاصة المختلفة جذراً عن الأخرى. لذلك لم تفض عمليات التوفيق بين الطبيعتين تاريخياً إلا إلى نوع من التأسيس الجديد لصالح إحداهما على حساب الأخرى. فالتضاد بينهما هو تضاد بين روح حتمية وأخرى غير حتمية، وليس من الممكن الجمع بينهما دون خسارة إحداهما لحساب الثانية.
فالفارق بين النظرتين الوجودية والمعيارية هو أن النظرة الوجودية ترى الأشياء من حيث ذواتها وصفاتها وعلاقاتها الكينونية. في حين تترصد النظرة المعيارية البحث في الفعل الإرادي ودوافعه النفسية وما ينطوي عليه أو يقتضيه من صفات وعلاقات انشائية أخلاقية لا كينونية. فشرط الوجود هو الذات، وبالأساس الذات الإلهية، فمن خلالها تتشخص طبيعة النظرة إلى سائر الوجودات. بينما شرط «المعيار» هو القدرة والإرادة، فبها يمكن الحديث عن الخصال المعيارية للفعل أو السلوك الحر. وبالتالي فلولا الذات ما كان للوجود وجود، كذلك فلولا القدرة والإرادة ما كان للمعيار عيار. وبهذا التمايز بين النظرتين (الوجودية والمعيارية) يمكننا أن نتفهم طبيعة التفكير لدى كل منهما.
فميزة النظام الوجودي عن النظام المعياري هو أن الأول لا يشرّع إلا بأخذ إعتبار «الوجود» ولأجله. فحتى القضايا المعيارية تكون محددة ومقيسة طبقاً لـ «الوجود». بينما ينعكس الحال في النظام المعياري، سواء في دائرته العقلية أم البيانية. إذ يقوم التشريع فيه على «المعيار» ولأجله؛ بما في ذلك تحديد قضايا الوجود وإعتباراته.
ورغم ان في كلا النظامين منهجاً عقلياً للفهم والتفكير، مثلما يتمثل بكل من الفلسفة وعلم الكلام، الا ان بينهما علاقة تضاد وفق التنافي الوارد لدى روحيهما، فالعقل الكلامي هو عقل معياري خلافاً لما يتصف به العقل الفلسفي من صفة وجودية غير معيارية. وبالتالي فإن الروح المعرفية وطريقة التفكير ونوع النتائج لكل منهما هي مختلفة تماماً. ويمكن القول بأن منهج علم الكلام هو أقرب للتفكير الديني، أو أنه ممزوج بهذا التفكير، وأن أتباعه يحملون عقيدة آيديولوجية مذهبية دينية، وعلى خلافه منهج الفلسفة المتحرر غالباً من هذه المذهبية، وأنه أقرب للمنهج العلمي، لا سيما وأن العلوم الطبيعية كانت في ذلك الوقت تُبحث وتُدرس ضمن الفلسفة، وأن العلماء كانوا إما فلاسفة أو دائرين في فلكهم. لذلك فالتطور العلمي الذي حصل خلال تاريخ الإسلام إنما كان بفعل الفلسفة لا الكلام، رغم بعض مؤاخذاتنا على علاقتها بعلوم الطبيعة1. لذا ففي فهم القضايا الدينية يسهل الإنفكاك تماماً من الفلسفة، لكن من الصعب الإنفكاك من علم الكلام وتفكيره الديني؛ بإعتباره مختصاً في أسس وأركان هذه القضايا خلافاً للأولى.
ومع انهما لم يتعاملا بشكل محايد إزاء القضايا التي اعترضتهما، لا سيما القضايا الرئيسة للعقيدة الدينية، اذ لكل منهما إجتهاداته الخاصة، الا انهما اتفقا على ترجيح الرؤية العقلية على النص، فكلاهما اعتبرها قاطعة خلافاً للأخير، وان اختلفا في مضامين تلك الرؤية تماماً.
ونشير الى ان جميع هذه المناهج والنظم واردة لدى المذهبين الكبيرين السني والشيعي، فكل منهما يحمل تياراً من النظام الوجودي بدائرتيه العقلية الفلسفية والكشفية العرفانية، وكذا أنهما يحملان تياراً آخر من النظام المعياري بنزعتيه العقلية والبيانية، وبالتالي فكل منهما يكافئ الآخر في حمله للدوائر الوجودية والمعيارية الأربع، أي الفلسفية والعرفانية والعقلية والبيانية.
***
هذه هي فكرة مجملة لنظم ومناهج التفكير لدى الفهم الديني التراثي كما فصلناها في كتاب (مدخل الى فهم الاسلام). وهي تحمل عدداً من التشابهات مع نظم الفكر العلمي. فالنظام العلمي القديم يشابه النظام الفلسفي الوجودي للفهم، فكلاهما يسقطان الاعتقادات بشكل توكيدي ودوغمائي دون تردد، أو دون ان يضعا في الحسبان احتمال الخطأ، بل ان نظام العلم القديم ناشئ عن النظام الفلسفي الوجودي ذاته، فقد كانت الفلسفة تضم العلوم الطبيعية لما يزيد على الالفين سنة، وكان العلماء يتداولون القضايا الفلسفية باستمرار. وبالتالي كان كل من الفلاسفة والعلماء يمارس ما يسمى مبدأ انقاذ الظواهر، وهو المبدأ الذي ظل مستحكماً قروناً طويلة، بل حتى أنه استخدم خلال النهضة العلمية الحديثة؛ تخفيفاً لما حاولت الرؤية الكوبرنيكية قوله، مع الابقاء على الرؤية البطليمية كحقيقة فعلية دون إبطالها. وهو على شاكلة ما كان يمارسه الفلاسفة المسلمون من تأويل للنص الديني.
فمثلما كان مبدأ انقاذ الظواهر يجري تطبيقه على ارض العلم، كان مبدأ التأويل يجري تطبيقه على ارض النص. واذا كان المبدأ الأول يمثل انقاذاً فعلياً للظواهر الواقعية، فإن الأخير يمثل انقاذاً فعلياً للمظاهر النصية. وكلاهما تأويل، فالأول تأويل يخص الواقع الموضوعي، والآخر تأويل يخص النص الديني؛ كالذي يمارسه الفلاسفة والمتكلمون دفاعاً عن مسلماتهم العقلية.
واذا كان النظام العلمي القديم يحاكي النظام الفلسفي الوجودي باعتباره صنيعاً له، فإن النظام العلمي الأول (الإجرائي) يشابه المنهج البياني للفهم الديني، ومثل ذلك فإن النظام العلمي الثاني (الإفتراضي) يشابه من وجوه المنهج العقلي لهذا الفهم. وبالتالي فإن الخلاف بين النظامين الإجرائي والإفتراضي العلميين يشابه إلى حد ما الخلاف الجاري بين المنهجين البياني والعقلي، أي بين مَن يعتبر النص الديني بيّن بذاته دون ان يحتاج إلى إضافة خارجية، كالذي تقوله اصحاب النزعات البيانية الصرفة، وبين مَن يرى هذا النص متشابهاً يحتاج إلى المسلمات العقلية لتسديد ثغرة التشابه وعدم الإحكام.
ففي التصور الأخير هناك حرية نسبية يتجاوز فيها الباحث العقلاني المظاهر اللفظية ليحولها إلى ما تقبع ضمن إفتراضات مصنوعة لا تدل عليها المعطيات اللغوية النصية، وبالتالي فإنها غير محكومة لهذه المعطيات، بل تظل متعالية، شبيهاً بما صوره هويويل وأينشتاين أو مجمل النظام الإفتراضي الحدسي من الحرية الخيالية للعقل في صياغة النظريات العلمية والتي لا تدل عليها المعطيات الحسية، بل ان هذه الاخيرة تصبح اسيرة تحكم وتأويل الصياغة العقلية الحدسية.
والحال مختلف مع النزعة البيانية التي لا تعترف بجواز الفضول العقلي، وتجعل من المعطيات النصية متحكمة بصياغة الفهم الديني، بحيث يكون الفهم عندها مستنسخاً عن تلك المعطيات، شبيهاً بما صوره ستيوارت مل عن قوانين الطبيعة، وبما وصى به فرانسيس بيكون من قبل بأن على رجل العلم ان يضع في رجليه نعلين من الرصاص2.
وبعبارة أخرى ان الخلاف القائم بين الدائرتين البيانية والعقلية للفهم هو من بعض الوجوه كالخلاف القائم بين النزعتين التجريبية الإستقرائية والعقلية الحدسية للعلم، حيث تحافظ الدائرة البيانية والنزعة التجريبية على ما هو ظاهر ووصفي دون ان تتعداه للتأويل أو تفترض له إفتراضات خارجية، وهو خلاف ما تقوم به الدائرة العقلية للفهم والنزعة الحدسية للعلم، فكلاهما يفترضان قضايا غير مستمدة من المعطيات الموضوعية، إحداهما تحت عنوان العقل كما في الفهم، والاخرى تحت عنوان الحدس الخيالي والرياضي كما في العلم.
وكما يظهر أحياناً بأن النظام العلمي الإجرائي لا يتقبل ما يضيفه النظام الإفتراضي الإستنباطي من إفتراضات غير مستمدة من الإستقراء والتجربة، خلافاً للنظام الثاني الذي يتقبل ما عليه الأول وان كان يضيف اليه حالات يكون فيها الأول عاجزاً عن معالجتها.. فكذا هو الحال حاصل ضمن الفهم الديني، فالدائرة البيانية لا تسمح بما تقوم به الدائرة العقلية من اضافات حاكمة على الفهم، وهي تشدد على ان تكون القراءة مستقاة من النص ذاته دون اضافات خارجية، لذلك تؤكد على الدوام التزامها وتقيدها بما تفرضه الدلالات اللفظية من معان من دون تأويل ولا تعطيل. وهو المعنى الذي لم يتغير - مبدئياً – منذ ظهور هذه الدائرة وحتى يومنا الحالي. فهي تقوم على الزعم القائل بتحقق الوضوح والكفاية في لغة النص الديني. فالبيانيون يبررون نهجهم بما يدّعونه من الوضوح والكفاية في الكتاب الكريم والسنة النبوية لكل ما يحتاج إليه المسلم للفهم الديني. وسبق للشافعي أن صرح قائلاً: ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها3. وكان إبن حزم يعلن في كثير من المناسبات تحقق ذلك دون حاجة لأي إعتبارات خارجية. فعنده أن النص بيّن تماماً وهو يكفي لسد حاجات المسلم، سواء في الأصول أو الفروع، حيث اعتبر النصوص محيطة بجميع الحوادث4.
وعلى هذه الشاكلة تبرر النزعة التجريبية الإستقرائية للعلم طريقتها، وهي ان هدفها استنساخ ما تبديه الطبيعة؛ كالمرآة دون إضافة شيء جديد يعمل على تشويهها وطمس معالمها. فطالما كان الهدف هو الكشف عما تنطوي عليه الطبيعة من حقائق وعلاقات، فإنه لا معنى للعقل ان يتدخل سوى ان يكون اداة ادراك وكشف واستنساخ لما هو موجود فيها. فالعقل سواء في حالة الدائرة البيانية للفهم، أو في حالة النزعة التجريبية الإستقرائية للعلم، ليس له حق التدخل سوى الكشف المطابق والاستنساخ.
أما مع الدائرة العقلية للفهم فهي لا ترفض ما تقوم به الدائرة البيانية من سلوك باطلاق، أي أنها تتقبل بعض المساحة من التقيد بقراءة النص وفهمه ضمن دلالاته اللغوية، لكنها تبقي في الوقت ذاته على مساحة لا يسع للدائرة البيانية تسديدها أو علاجها، وهي ما يتعلق بالقراءة المعتمدة على الاضافة العقلية عبر التأويل، أو ما سميناه في بعض الدراسات (الحرف والعدول)، دون ان تظل حبيسة الفاظ النص ذاته أو العمل بالاستنساخ، كما تفعل الدائرة البيانية. فالاضافة لدى الدائرة العقلية تأتي كشيء جديد تفرضه على النص دون ان تلغي ما تقوم به الدائرة البيانية من عمل باطلاق، وان كانت تقر بأنها تعرض جميع معطيات النص على مرجعية العقل لترى ان كانت هناك معارضة أم لا، كالذي يشير اليه الكلاميون؟ فهم يتقبلون السلوك البياني لكل ما لا يعارض العقل، ويزيدون عليه كل ما يعارضه عبر ممارسة التأويل وطرح الاستنساخ. وبالتالي فهم يرون الاعتبارات البيانية النصية تتضمن افادة ظنية مقارنة بالافادة العقلية القطعية. فالنص لديهم مصدر التشابه والإحتمال والمجاز، خلافاً للعقل الموصوف بأنه مصدر الإحكام والقطع والحقيقة. وكما قال الشيخ الطوسي: «الظواهر تبنى على أدلة العقول، ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر» 5. وقال القاضي الهمداني: «إن أدلة العقول بعيدة عن الإحتمال، والألفاظ معرضة لذلك من حيث تدخلها الحقيقة والمجاز»6. وكذا ذهب الفخر الرازي إلى أن الدليل اللفظي لا يفيد القطع واليقين بإطلاق، لكونه يتوقف على عشرة أمور ينبغي التيقن منها، ومن هذه الأمور عدم المعارض العقلي، وعنده أن انتفاء المعارض العقلي أمر مظنون لا معلوم، لإستحالة القطع، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دلّ عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع7. وشبيه بهذا الحال ما نجده لدى الدائرة العقلية الفلسفية8.
ولا شك ان هذا الفعل للدائرة العقلية في اخضاع النص للعقل سلباً وايجاباً، سواء العقل المعياري الكلامي أو الوجودي الفلسفي، يشابه ما عليه النظام الإفتراضي العلمي في اخضاع ظواهر الطبيعة والتجارب أحياناً لاحكام الإفتراضات الحدسية ولو بالتأويل، إلى الحد الذي صرح به بعض العلماء بأن التجربة يمكن ان تخطئ، لكن البساطة أو الجمال المفترض عقلياً لا يخطئ أو قلما يخطئ.
وبذلك فإن الدائرة العقلية للفهم الديني تشابه من بعض الوجوه ممارسة النظام الثاني للعلم مقارنة بالنظام الأول، مثلما ان الدائرة البيانية تمارس ذات الدور الذي يمارسه النظام الأول الإجرائي، بل تكاد النزعة البيانية تكون مماثلة في فعلها لما تمارسه النزعة الإجرائية الإستقرائية للنظام الأول.
فمثلما ان للنزعة العقلية للفهم إضافة عقلية، فكذا هو الحال مع النظام الإفتراضي للعلم. وكلاهما يخالفان ما عليه النزعتان البيانية والإجرائية. فالنزعة العقلية تقرأ النص وفقاً لقبلياتها المنظومية حتى وإن أدى ذلك الى خلاف ما تدل عليه الظواهر اللفظية بالتأويل. وهو شبيه الحال بما يسعى اليه النظام الثاني الإفتراضي من وضع إفتراضاته القبلية حتى وإن أدى الامر إلى تجاوز ما تدل عليه الظواهر الطبيعية. فهو يقوم أحياناً بنوع من التأويل لهذه الظواهر، وحتى التجارب، بما يتفق ومسلماته الإفتراضية. فمثلاً تنحو نسبية أينشتاين إلى تأويل العلاقة الظاهرة للمكان والزمان بحسب الاتصال النسبي، وكذا أنها عندما تتحدث عن السرعات الفائقة فإنها تتعامل مع الظواهر المألوفة بطريقة تأويلية، ومثل ذلك عندما تتناول الظواهر الكمومية. وعلى هذه الشاكلة كثيراً ما تتجاوز الإفتراضات المطروحة في نظرية الكوانتم المظاهر الحتمية والعلاقات السببية وقضايا الحس المشترك العام لدى عالمنا الكبير، وكل ذلك يشكل تأويلاً لقضايا الواقع المألوفة، شبيهاً بما تقوم به النزعة العقلية للفهم في تأويلها لظواهر النص اللفظية. فهما بالتالي يمارسان الشيء نفسه الذي كان يمارسه النظام القديم تحت ما يسمى مبدأ انقاذ الظواهر. فسواء لدى الدائرة العقلية في الفهم أو لدى النظريتين النسبية والكوانتم في العلم فإن المآل واحد من حيث التأويل والحرف والعدول، أو ممارسة انقاذ المظاهر والظواهر. وهو ما يعني ان هذا المبدأ لم ينته دوره وان انتهى ذكره والإعتراف به لصالح مبدأ البساطة.
كذلك مثلما ان للدائرة العقلية تناقضاتها الذاتية بحسب اصولها المولدة وقواعدها الاساسية، كالتناقض بين النزعتين الوجودية والمعيارية، ومثل ذلك التناقض بين القواعد العقلية الاصولية لعلم الكلام ضمن النظام المعياري، فكذا ان للنظام الثاني تناقضاته المتعلقة بقواعده المفترضة، وهي التناقضات المتمثلة بكل من النظريتين المتنافستين النسبية والكوانتم والتي يظهر مفعولها مباشرة عندما يتعلق الأمر بتفسير ما يحصل عند الكتل العظيمة ذات الاحجام الضئيلة؛ كمراكز الثقوب السوداء وبداية نشأة الكون.
يبقى ان النقطة الاساسية التي تختلف فيها النزعة العقلية للفهم عن النظام الثاني للعلم هي ان الأولى تتصف بالدوغمائية التوكيدية، في حين ان مبادئ النظام الثاني هي مبادئ مفترضة غير دوغمائية، سواء كانت راجعة إلى المنهج الرياضي، أو الى المنهج الخيالي. فالنظام الثاني يضع إفتراضاً قد يصح أو لا يصح، وعلى التجارب والاختبارات ان تكشف عن مصداقية هذا الإفتراض، بل حتى عندما يتبين بأن الإفتراض ينسجم مع الاختبارات فإن هناك احتمالات قائمة تمنع من تحويل الإفتراض إلى حقيقة مطلقة. أما الدائرة العقلية - سواء الوجودية أو المعيارية - فهي تعتمد على مسلمات قطعية راجعة إلى منظومتها العقلية، وبالتالي فإنها تكون حاكمة على كل ما يعارضها من ظواهر لفظية، وهنا يبدأ التأويل وفقاً لهذه المسلمات الدوغمائية. صحيح أنه في حالة النظام الإفتراضي قد تكون بعض المسلمات قطعية لدى اصحابها، مثل مسلمة الحتمية لدى أينشتاين، فهي من هذه الناحية لا تختلف عن دوغمائية الدائرة العقلية ومسلماتها، والجميع يعمل بمبدأ انقاذ الظواهر، أو ظاهرة الحرف والعدول.. لكن مع هذا يلاحظ ان مثل هذه المسلمات هي مسلمات فلسفية متعالية وفق التصور الفلسفي لاصحابها، رغم أنها مؤثرة على النتائج العلمية، فهي ليست معنية بتفسير ظاهرة ما من الظواهر، بل لها من الشمول الفلسفي، ومن ذلك ممارسة أينشتاين للتأويل بحق الظواهر الكمومية خلافاً للبيانات التجريبية التي التزم بها اصحاب مدرسة كوبنهاكن الكوانتية. وعلى عكس ذلك ما فعله الكثير من اصحاب نظرية الكوانتم في تأويل الواقع الحسي المشهود عبر المسلمات الفلسفية التي استخلصوها من تصوراتهم الكوانتية.
والنظام الإفتراضي بمنهجيه السابقين (الرياضي والخيالي) يشابه ببعض الاعتبارات النظام الوجودي بشقيه الفلسفي العقلي والعرفاني الخيالي أو الحدسي، فلولا الاعتبارات لبطلت الحكمة كما يقول فلاسفتنا القدماء9. فالمنهج الفلسفي يؤكد على المسلمات العقلية البرهانية التي لها دورها في الفهم الديني، وهو من هذه الناحية يشابه الصورة الرياضية التي يتقدم بها النظام الإفتراضي في العلم ليصبغ بها الخيال التأويلي في فهمه للظواهر الطبيعية. كما ان المنهج العرفاني - مثلما يتمثل بمذهب ابن عربي - يؤكد على دور الحدس والخيال البشري إلى الحد الذي يرجحه على الفعل العقلي، وهو بهذا يجعل من الفهم الديني فهماً قائماً على الخيال، ومن ثم فإنه يشابه بذلك ما يفعله الخيال العلمي ضمن النظام الإفتراضي والنظام الميتافيزيائي القائم عليه.
هكذا فبحسب هذه الاعتبارات نجد ان التصور الرياضي في العلم سيقابل التصور الفلسفي في الفهم ضمن اعتباراته المجردة التي يفرضها على النص سلفاً، فيفضي به الحال إلى التأويل ضمن قاعدة ما يسمى التمثيل والممثول. أما التصور الخيالي في العلم فسيقابل الخيال والحدس العرفاني كالذي يؤكد عليه ابن عربي في الكشف، ومنه الكشف المتعلق بالفهم.
وبالتالي فإن النظام الوجودي بنهجيه الفلسفي والعرفاني يناظر ما عليه النظام الثاني الإفتراضي للعلم، فلدى كلا النظامين هناك ما يعود إلى البرهان والابستمولوجيا، كما لديهما ما يعود إلى الكشف الحدسي والهرمنوطيقا.
واكثر من ذلك هناك نوع من التناظر بين العلم والفهم على صعيد العلاقة الثنائية السابقة. وهو ان انقسام النظام الإفتراضي للعلم إلى منهجين يحصل بحسب ترتيب علاقة المقدمات بالنتائج، فتارة يعبر المنهج عن بداية التأويل الرياضي الصوري لينتهي إلى تأويل خيالي، وهو ما سميناه المنهج (الرياضي-الخيالي)، كما قد يحصل العكس وفق ما اطلقنا عليه المنهج (الخيالي-الرياضي)، وهو القيام بالتأويل الخيالي لينتهي إلى الصياغة الرياضية. فالعلاقة بين الرياضيات والخيال يمكن النظر اليها كعلاقة الابستمولوجيا بالهرمنوطيقا، فعندما تعمل الرياضيات على تحديد فعل الخيال وفقاً للمنهج الأول (الرياضي-الخيالي) فهذا يعني ان هناك نوعاً من البستمة الهرمنوطيقية، وعلى العكس عندما يحدد الخيال فعل الرياضيات وفقاً للمنهج المقابل (الخيالي-الرياضي)، إذ يعني ان هناك نوعاً من الهرمنة الابستمولوجية. وبالتالي فهناك حركتان تبدأ إحداهما بالبستمة لتنتهي إلى الهرمنة، في حين تبدأ الأخرى بالهرمنة لتنتهي إلى البستمة.
وهذا الحال يناظر بوجه من الاعتبارات ما يحصل لدى العلاقة التي تربط النهجين في النظام الوجودي، أي الفلسفي والعرفاني قبال نهجي النظام الثاني الإفتراضي: (الرياضي-الخيالي) و(الخيالي-الرياضي). فلدى الفلاسفة المسلمين تحليل لدرجات الادراك الثلاث (هي العقلية والخيالية والحسية)، فقد ركزوا على القوتين المعرفيتين العقلية والخيالية، وجعلوا القوة العقلية اعلى المراتب الثلاث والتي تناسب الفلاسفة، ومن ثم تأتي بعدها القوة الخيالية التي تناسب الانبياء، ومن الطبيعي ان يكون على شاكلتهم العرفاء. فالقوة العقلية تمثل القوة الفلسفية البرهانية قبال القوة الخيالية المتمثلة بالقوة النبوية الاقناعية – ومثلها العرفانية -، فهما قوتان مختلفتان من حيث الاولوية، ويعاكسان الرؤية العرفانية التي ترى العكس صحيح، وهو الانتصار للقوة النبوية العرفانية أو الخيالية قبال القوة العقلية الفلسفية10. وهذا التعاكس يناظر النهج التعاكسي لدى فيزياء النظام الثاني، بمعنى ان القوة الفلسفية العقلية والعرفانية الخيالية يناظران في اعتباراتهما النهجين المختلفين للنظام الإفتراضي، فالاولوية التي يعطيها الفلاسفة للقوة العقلية الفلسفية قبال القوة النبوية الخيالية – أو العرفانية – تناظر الاولوية المعطاة للنهج (الرياضي-الخيالي) في قبال العكس. كما ان الاولوية التي يعطيها العرفاء للقوة العرفانية الخيالية قبال العقلية الفلسفية تناظر الاولوية للنهج (الخيالي-الرياضي)، وهو على العكس من السابق.
واذا كانت القوة الخيالية تحتاج إلى القوة العقلية كما لدى الفلاسفة، أو العكس صحيح كما لدى العرفاء، فإن هذا الحال يشاكل ما عليه النظام الإفتراضي، إذ يجعل الحاجة مزدوجة بين الخيال والرياضيات، فقد يحتاج الخيال إلى الرياضيات كما في المنهج (الرياضي-الخيالي) او البستمة الهرمنوطيقية، وكذا العكس صحيح وهو أنه قد تحتاج الرياضيات إلى الخيال كما في المنهج (الخيالي-الرياضي) او الهرمنة الابستمولوجية.
هكذا يتضح بأن النظام الثاني الإفتراضي للعلم يجد تناظرات مختلفة لدى مناهج الفهم الديني التراثي باستثناء ذلك الذي يعود إلى المنهج البياني والذي يناظر النظام الأول الإجرائي.
يبقى النظام الثالث (التخميني الميتافيزيائي) للعلم، وهو تطوير للنظام الثاني بجعل وظيفة المنهجين الخيالي والرياضي تمارس دورها بلا حدود، وليس كما كان يفعله النظام الثاني ضمن حدود افق التوقع والانتظار التجريبي. وبذلك أصبحت الرياضيات مجردة دون ان يكون لها علاقة بالواقع سوى الاسقاط، كما ان الخيال هو ايضاً أصبح في غاية التجريد عن الواقع فلا يربطه به سوى الاسقاط لادنى مناسبة. وهو من هذه الناحية يتفق مع النزعة العرفانية للفهم، فهي تسقط اعتباراتها الخيالية على النص لادنى مناسبة. لذلك فكلاهما يحمل رؤى غريبة للغاية هي على شاكلة الرؤى الاسطورية التي يصعب تصديقها.
مع ذلك فإن الفارق بين النظام الثالث للعلم والمنهج العرفاني للفهم هو ان الأول ذو نزعة تخمينية، في حين ان الأخير ذو نزعة توكيدية دوغمائية.
يبقى أخيراً انه مثلما ورد في العلم ما يسمى بالحيل الرياضية، وقد أضفنا اليها الحيل الخيالية او الفيزيائية، فانه ورد كذلك في الفهم الديني ما يناظر هذا الحال من الحيل، لا سيما في المجال الفقهي. فكلاهما يعبّران عن علاج مفتعل غير حقيقي للمشكلة التي تعترضهما. ففي الفهم – مثلاً - ان بعض الفقهاء فتح باب الحيلة أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة خلافاً للمقاصد الشرعية، فبإمكان الشخص ان يهب ماله إلى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم أو أكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم أو أكثر، وبذلك تتم الحيلة11.
***
هكذا تجعلنا المقارنات السابقة ندرك بأن التفاسير الفيزيائية هي أشبه بتأويلات النص المختلفة، فكل تفسير هو تأويل، وكل تأويل يقابله آخر، ويمكن تفسير أي شيء بتأويلات مختلفة. وعليه يمكننا ان نخضع النظم الفيزيائية لآليات القراءة كما تمارس في الفهم وفقاً لعلم الطريقة، وهو ما فصلنا الحديث عنه في كتاب (منطق فهم النص) و(مدخل إلى فهم الاسلام).
ويمكن تلخيص نتائج البحث حول آليات قراءة النص الديني الى هذه الفقرات المجملة:
1ـ يتشكل النص من ثلاثة عناصر لا عنصرين، هي: اللفظ والسياق والمجال. ونقصد بالمجال عنواناً مجملاً عاماً تدور حوله الدلالات اللفظية للنص، بحيث يدركه القارئ مباشرة من دون جهد، سواء استطاع تحديد القراءة ام لم يستطع، وسواء عمل وفق الظهور اللفظي للنص ام لم يعمل، وسواء احتمل نوعاً من القراءة ام انه توقف كلياً من دون ادراك ما هو المقصود من النص. فكل ذلك لا يخل بفعل ادراك المجال العام له، وهو المحور الخاص بدلالاته المجملة اللفظية والسياقية. فمثلما يكون للنص دلالته اللفظية المفصلة ضمن علاقاته السياقية؛ فإن له كذلك دلالته المجملة المختلفة عن الدلالة اللفظية (المفصلة). واحياناً قد تفتح بعض الايحاءات باب الاشارة للمعنى الرمزي للفظ، وذلك بحمل (المجال) على المجاز واغفال (المجال) بمعناه الحقيقي، كالذي يمارس في القصص الرمزية، مثل تلك التي يتداولها العرفاء. وبالتالي فان للنص ظهوراً اخر غير الظهور اللفظي، وهو ما سميناه الظهور المجالي.
2ـ وفقاً للفقرة السابقة فان هناك ثلاثة انواع من القراءة لا نوعين، هي كل من القراءة الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية (الرمزية). فالقراءة الاولى تعول على الاخذ بالظهور اللفظي والسياقي للنص، والقراءة الثانية تعمل على تأويل هذا الظهور وإن بقيت ضمن اطار المعنى العام للدلالات اللفظية. أما القراءة الثالثة فهي تبتعد كلياً عن الاطار المشار اليه، فضلاً عن الظهور.
3ـ يوجد مستويان للقراءة بدل المستوى الواحد. وقد اطلقنا على الاول (الاشارة)، وعلى الثاني (التفسير). فالتفسير يحمل شروطاً اضافية غير متوافرة لدى الاشارة. فالأخيرة بالنسبة للتفسير مجملة غير مفصلة، فهي تخلو من توضيح الكيفية التي يريد النص بيانها، لذا يختص التفسير بايضاح هذه الكيفية من العلاقات اللفظية التي يتضمنها النص عبر نوعين من العلاقة المتخيلة للارتباط اللفظي، اطلقنا على احدهما العلاقة المفهومية، وعلى الاخر العلاقة المصداقية. فالحاجة التفسيرية ما هي الا حاجة لايضاح طبيعة هاتين العلاقتين معاً. بل ان الحاجة الجوهرية في العملية التفسيرية تتمثل في ايضاح العلاقة المصداقية، اذ الغرض من قراءة النص هو الكشف عن الموضوع الخارجي، وما ضرورة العلاقة المفهومية الا لأنها شرط لا غنى عنه في تلك العملية من الكشف، حيث لا تتوضح العلاقة المصداقية ما لم تنكشف قبلها العلاقة الاخرى. فهذه هي طبيعة التلازم بين العلاقتين، وهذه هي حاجتها في التفسير.
4ـ لا يمكن فصل قراءة النص وفهمه عن القبليات المعرفية مطلقاً. وهو امر ينطبق ايضاً على مطلق الادراك والعلم.
فهذا ما يتعلق بآليات قراءة النص الديني التي سبق ان فصلنا الحديث عنها في (منطق فهم النص)12. وبالتالي فمثلما في الفهم ثلاث آليات للقراءة، هي الإستظهار والتأويل والإستبطان، فكذا هو الحال في العلم، حيث فيه ما يقابل كل طريقة من هذه الآليات، فيمكن تطبيق الإستظهار على النظام الأول الإجرائي مثلما يطبق على الدائرة البيانية. كما يمكن تطبيق التأويل على النظام الثاني الإفتراضي مثلما يطبق على الدائرة العقلية، سواء كانت فلسفية أو كلامية، في حين ان الإستبطان يناسب النظام الثالث (التخميني الميتافيزيائي)، مثلما يناسب المنهج العرفاني الباطني لاعتقاداته الاسطورية لأدنى مناسبة، وكلاهما يقتربان مما تتجه إليه نظريات القراءة الأدبية فيما بعد الحداثة، وذلك بجعل النص مفتوحاً وقابلاً لإتخاذ الحد الأقصى للقراءة بلا حدود وضوابط.
ومن حيث التفصيل، مثلما ان النص يتألف من ثلاثة عناصر، هي اللفظ والسياق والمجال، وان أي قراءة لا بد من ان تحتكم إلى ترتيب العلاقة بين هذه العناصر، فكذلك يتألف الكون من ثلاثة عناصر، هي الشيء والعلاقة والمجال، وان أي تفسير لا بد من ان يستظل بترتيب الروابط بين هذه العناصر. فهناك أشياء في الطبيعة يمكن الإشارة إليها بنحو ما؛ كالشجر والحجر والإلكترون والبروتون، ولهذه الأشياء علاقاتها المتشعبة. كما ان لها مجالاتها الخاصة بحيث لا يختلط بعضها بالبعض الآخر، ومن ذلك عدم اختلاط قوانين الكوانتم للعالم الجسيمي بقوانين العالم الجسمي الكبير، رغم ان هذا الأخير قائم على الأول. ومثلما ان الكائن الحي يتألف من وحدات الحياة المسماة بالخلايا، إلا ان لكل منهما قوانينه الخاصة التي لا تختلط بالاخرى رغم التراكب الحاصل بينهما.
إذاً هناك تناظر في العناصر بين النص والكون أو الطبيعة، فاشياء هذه الأخيرة تناظر الفاظ النص، وعلاقاتها تناظر سياقاته، كما ان مجالاتها تناظر مجالاته.
وفي حالة النص عرفنا بأن الآلية الإستظهارية تتصف بكونها تعمل على مراعاة سياق النص في أخذها بالظهور اللفظي والمجال. وان الآلية الإستبطانية تعمل على الضد، فلا تأخذ بالمجال مما يقتضي عدم مراعاة السياق بتركها للظهور اللفظي. وان الآلية التأويلية تتخذ الطريق الوسطى، حيث تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر.
ومن الناحية الرمزية، لو رمزنا للإستظهار بحرف (هـ)، وللتأويل بحرف (ي)، وللإستبطان بحرف (ط)، وللظاهر بحرف (ظ)، وللمجال بحرف (م)، فإن الفوارق بين الآليات الثلاث السابقة ستتخذ الصيغة الرياضية التالية:
هـ = ظ + م
ي = م – ظ
ط = - م – ظ
لذا يمكن تطبيق هذه الآليات للقراءة على النظم العلمية الثلاثة. فالنظام الأول يمارس نمط الإستظهار فيحافظ على الظهور الفعلي لعلاقات الأشياء ضمن مجالها، والثاني يمارس نمط التأويل بإعتباره لا يحافظ على ظهور العلاقات، وان كان لا يتجاوز المجال المتعلق بها، في حين يمارس الثالث نمط الإستبطان لكونه يتجاوز مجال العلاقات بإستدلالاته من أي شيء على كل شيء.
هذه هي التناظرات بين نظم العلم والفهم، فالنظام الإجرائي التجريبي للعلم يناظر المنهج البياني للفهم، فكلاهما يمارس نمط القراءة الإستظهارية. والنظام الإفتراضي الإستنباطي يناظر المنهج العقلي بشقيه الوجودي والمعياري، إذ كلاهما يمارس نمط القراءة التأويلية. كما ان النظام التخميني الميتافيزيائي يناظر المنهج العرفاني الباطني، حيث كلاهما يمارس نمط القراءة الإستبطانية لأدنى مناسبة.. وإذا كان النص هو من يحدد طبيعة المجال الذي يتضمنه عبر فعل القراءة، فإن الكون هو من يحدد طبيعة المجال الذي يتضمنه عبر فعل الملاحظة والتجربة والإختبار.
ويتأسس على هذا الأمر أن ما يخضع له الفهم الديني من سنن وقوانين وقواعد إجرائية ومستنبطات كتلك التي فصلنا الحديث عنها في (منطق فهم النص) أو بصورة أشمل في (علم الطريقة) يجد له نظائر في العلم. فمثلاً إن من ضمن قوانين الفهم قانون العلاقة العكسية، وهو ينص على وجود علاقة عكسية بين القبليات والنص في التأثير على الفهم الديني، فكلما زاد تأثير القبليات كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس.
وباختصار نصادف هنا أنواعاً ثلاثة من العلاقة في القانون المشار إليه: أحدها قانون العلاقة الضعيفة، ويعني أن القبليات المؤثرة في الفهم هي قبليات ضعيفة، مما يتيح لدلالة النص اللفظية أن تقوم بدورها القوي في التأثير. وتفضي هذه العلاقة إلى ما نسميه (المعنى الضعيف للفهم). وثاني هذه العلاقات قانون العلاقة القوية، ويعني أن القبليات المؤثرة في الفهم هي قبليات قوية، مما لا يدع للنص أو دلالته اللفظية ذلك التأثير، وتتخذ هذه العلاقة ما نسميه (المعنى القوي للفهم). أما ثالث هذه العلاقات فهو قانون العلاقة المتوسطة، ويعني توسط تأثير القبليات في الفهم، فلا هو بالقوي، ولا بالضعيف، وذلك مقارنة بالعلاقتين السابقتين القوية والضعيفة. الأمر الذي يفسح لدلالة النص اللفظية أن تقوم بدورها المتوسط في التأثير. وتفضي العلاقة في هذا القانون الى (المعنى التوسطي للفهم). ومن الطبيعي إن القبليات الضعيفة تشترك عادة في التأثير على الفهم حتى لدى العلاقتين الأخريين، لأن منها مطلقة ومشتركة لدى البشر كافة، لكن قد لا يكون دورها بارزاً مقارنة بهاتين العلاقتين.
ويمكن تطبيق العلاقات الثلاث السابقة للفهم على أنماط القراءة الثلاثة (الاستظهارية والاستبطانية والتأويلية). فقانون العلاقة الضعيفة ينطبق على القراءة الاستظهارية، وقانون العلاقة القوية ينطبق على القراءة الاستبطانية، كما أن قانون العلاقة المتوسطة ينطبق على القراءة التأويلية.
وتصدق هذه القوانين على نتاج العلوم الطبيعية، مثلما تصدق على الفهم الديني. ففي العلم الطبيعي نجد ايضاً قانون العلاقة الضعيفة والقوية والمتوسطة، وفقاً لطبيعة القبليات المعتمدة في البحث. فالنظام الإجرائي يتقوم بالقبليات الضعيفة كما تتمثل بالطريقة الاستقرائية، مما ينطبق عليه القانون الأول للعلاقة العكسية، والنظام الافتراضي الاستنباطي يتقوم بالقبليات المتوسطة لامتلاكه بعض القبليات المفترضة والقابلة للاختبار، لذا يصدق عليه القانون الثاني، وأخيراً النظام التخميني الميتافيزيائي، ويتصف بكونه يحمل افتراضات قبلية كثيرة غير مؤهلة للاختبار التجريبي، مما ينطبق عليه القانون الثالث للعلاقة القوية. ووفقاً لهذه النظم وقبلياتها فان صياغة قوانين العلاقة لدى العلم ستتخذ ذات الصياغة المعتمدة في الفهم كما أسلفنا. وهذا يعني أن نظم الفكر الحديث قابلة لأن تخضع لأنماط القراءة الثلاثة السابقة.
وبالتالي فنحن أمام ما نطلق عليه (هرمنوطيقا الفيزياء)!
1 انظر خاتمة كتاب مدخل الى فهم الاسلام.
2 روبير بلانشي: الإستقراء العلمي والقواعد الطبيعية، ص35.
3 الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص20. كذلك: ابن القيم الجوزية: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، الباب الحادي عشر، ص40، شبكة المشكاة الالكترونية: www.almeshkat.net.
4 انظر تفاصيل الموضوع في كتابنا: العقل والبيان والاشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2010م.
5 ابو جعفر الطوسي: الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون في طهران، ص162.
6 القاضي عبد الجبار الهمداني: المجموع في المحيط بالتكليف، نشر وتصحيح الأب جين يوسف اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ج1، ص419.
7 انظر حول ذلك: فخر الدين الرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ 1984م، ص25. ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، وبذيله تلخيص المحصل لنصير الدين الطوسي، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1404هـ ـ 1984م، ص71.
8 للتفصيل انظر كلاً من: مدخل الى فهم الاسلام. والعقل والبيان والاشكاليات الدينية.
9 صدر المتألهين الشيرازي: ايقاظ النائمين، مقدمة وتصحيح محسن مؤيدي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1982م، ص31.
10 للتفصيل انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.
11 محمد رشيد رضا: محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج2، ص119. ومن ذلك ما نقل عن تحايل ابي يوسف في هذه القضية من دفع الزكاة خلاف المقاصد، كالذي نقله صدر المتألهين في تفسيره لسورة البقرة (صدر المتألهين الشيرازي: تفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ ـ1998م، ج3، ص84). وانظر ايضاً الفصل الاول من: فهم الدين والواقع، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2011م.
12انظر القسم الأول من: منطق فهم النص، دار افريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2010م.