يحيى محمد
معلوم ان العلم يتقبل وجود نظريتيتن متناقضتين طالما لا يوجد سبيل للتعويض عن خسارة اي منهما ولا للتوحيد بينهما، مثلما هو الحال مع تناقض النظرية النسبية مع ميكانيكا الكوانتم. فلو كانت الاشكالية هي اشكالية مطابقة لكان من المفترض على العلماء ان ينقسموا الى فريقين، احدهما يأخذ بوجهة النظر الخاصة بالنسبية دون الكوانتم، والاخر يعول على العكس من ذلك، مع ان الحاصل بين العلماء هو غير ذلك تماماً، فهم يعولون على كلا النظريتين، كل في مجاله رغم التعارض بينهما، والغاية من ذلك هو الحصول على اكبر قدر ممكن من الفائدة والاستثمار العلمي. فقد اعتبرت النسبية اكثر جمالاً واقناعاً لكنها اقل تطبيقاً، في حين ان الكوانتم ضبابية لكنها ذات نجاحات قياسية لم يسبق لها مثيل في العلم. والعلماء يقدرون ان التعارض بينهما ينطوي على خلل عميق وخطير في قلب الفيزياء. فالكثير من الفيزيائيين لم يرتاحوا للتناقض الحاصل بينهما، وهم يشيرون الى وجود عيب اساس في فهمنا للعالم الفيزيائي. في حين ان هناك فيزيائيين اخرين يتجاوزون هذه المشكلة عبر تقسيم التعامل الى عالمين.
ومع ان هناك محاولات عديدة لحل النزاع بين النظريتين، وغالباً ما يلجأ الفيزيائيون للبحث في تغيير بنية النسبية العامة من خلال تأثير الكوانتم، والقليل منهم يرى انه من الضروري فعل العكس، وهو تغيير بنية الكوانتم لتلائم ما عليه النسبية، لكن مع ذلك لا توجد لحد الان نظرية متسقة للجمع بينهما دون مشاكل، ومن ذلك لا توجد نظرية جيدة تفسر وجود الكتل للجسيمات، وهي مفهوم مرتبط بمفهوم الثقالة التي هي لب النظرية النسبية العامة، اذ لا وظيفة للكتلة سوى انها مصدر للثقالة. ومن ثم فان دمج النسبية العامة بالكوانتم مبرر للغاية، رغم صعوبة الحال. اضافة الى ان نواة الذرة تحتوي على جسيمات لها سرعات كبيرة قد تقترب من سرعة الضوء مثل الكواركات، وهي مورد معالجة النسبية. وعليه فهناك دوافع عديدة لحل اشكالية العلاقة بين النظريتين المتعارضتين النسبية والكوانتم. وكان من بين الاتجاهات الهامة التي سعت نحو معالجة هذه الاشكالية ما يعرف بنظريات الاوتار التي تنطوي على شيء يشبه الثقالة، وقد تكون اخصب النظريات المتماسكة رياضياً والمنسجمة مع مبادئ الكوانتم، رغم ان عدد هذه النظريات قد قُدّر بالالاف النظرية المتماسكة رياضياً على غرار نظريتي غرين وشوارتز، وكلها تستجيب للتناظر الاساسي نفسه المعروف باسم التناظر التشاكلي. ويُعتقد اليوم ان نظريات الاوتار لا تحمل الخلافات الجوهرية، بل تمثل على الارجح طرائق شتى لحل نظرية اساسية واحدة. رغم ان لكل واحدة من هذه النظريات التناظرات الخاصة بها، بعضها يستجيب لمبدأ اينشتاين في النسبية، وبعضها الاخر لا يملك اي شيء نعتبره فضاءاً عادياً ذا ثلاثة ابعاد. وهي تعترف بوجود مفارقة وتناقض بين النسبية والكوانتم بحاجة الى حل، واعتبرت ان جزءاً من المفارقة بينهما يعود الى محدودية مقدرتنا على التخيل.
وعموماً يتضح ان التعارض بين النظريات العلمية لا يمنع من الاخذ بها سوية مادام لها ثمار علمية، كالذي تحققه نظريتا النسبية والكوانتم المتناقضتين.
فهذا على صعيد العلم، أما على صعيد الفهم الديني فالامر يختلف. فعندما تتعارض النظريات الدينية بشكل ثابت ومؤكد يصعب حله ينقسم العلماء والباحثون حولها، بحيث لا نجد شخصاً يعول على نظريتين متعارضتين مثلما لاحظنا ذلك في العلم، والا كان متهماً بالتناقض. فكل قارئ عندما يعول على نظرية فهم معينة فانه في الوقت ذاته يرفض او يستبعد ما يعارضها.
ففي مسألة الامامة مثلاً ينقسم المسلمون بين مؤيد لنظرية الوصية وبين معارض لها، ولكل من النظريتيتن لوازم تناسبها، ولا نجد بين المسلمين من يعول تارة على هذه النظرية وأخرى على تلك، بل عند تعويله على إحداهما فإنه يرفض الأخرى ولا يتقبلها. نعم توجد بعض الرؤى الشاذة للتوفيق بين الرؤيتين المتناقضتين بجعل كل رؤية تدور في مجال غير المجال الذي تشغله الرؤية المقابلة، وكأن إحدى الرؤيتين جاءت لتشغل العالم الكبير، والأخرى لتشغل العالم الصغير، كما في الفيزياء. فالاقتراح المطروح هو لِمَ لا تكون الامامة بمعناها الديني دالة على الرؤية الشيعية، وهي ان هناك مرجعية دينية موصى عليها من قبل الله تعالى منحصرة في أهل البيت، وفي قبالها تأتي الامامة بمعناها السياسي لتدل على الرؤية السنية، وهي ان الخلفاء الراشدين قد تمت توليتهم بطريقة مقبولة شرعاً؛ دون اعتداء ولا اغتصاب ولا مؤامرة كالذي يراه الشيعة، وبالتالي أصبحت المرجعية الدينية حقاً لأهل البيت لا يعارضهم في ذلك معارض، في حين أصبحت المرجعية السياسية مفتوحة غير منحصرة في فئة دون أخرى. فغياب النص على خلافة علي السياسية لا يسقط النظرية الشيعية، بل غياب النص على خلافته الدينية تخصيصاً هو ما يسقط هذه النظرية. بمعنى قد يكون للنص دلالة على الولاية الدينية دون السياسية. فلو ان هذه الولاية سقطت لسقط الصرح الشيعي في ولاية الأئمة باجمعه، واصبح من غير الممكن الاعتماد على وساطة الأئمة في نقل التشريع والعقيدة قاطبة، ولكان حالهم كسائر العلماء المجتهدين كالذي يراه بعض قدماء الشيعة. أما غياب النص على الولاية السياسية فهو لا يؤثر بشيء على الولاية الثانية الدينية. وواقع الأمور انه جرت السياسة دون حكم الأئمة ومع ذلك لم يؤثر هذا الحال على ولايتهم الدينية ان صحت كما يقول الشيعة. ويبقى كل ما يقال عن العصمة والعلم اللدني وغير ذلك فإنه لا يؤثر في الموضوع على النظرية الشيعية، بمعنى ان غياب هذه الأمور لا يُسقط النظرية الشيعية. إذ تبقى الدلالة في فحوى هذه النظرية هي اتباع أهل البيت بالتخصيص دون غيرهم ممن لم يرد حولهم نص. وعلى الاقل فيما ثبت لبعضهم النص. كما ان هذا الحال لا يلغي شرعية الخلفاء الراشدين حتى لو كان علي أحق منهم بالخلافة إذا ما كان سيد الأئمة راضياً عنهم. وقد كنت خلال الثمانينات من القرن المنصرم اميل إلى هذا الرأي الجامع بين المذهبين وفقاً لتوجهاتي التوحيدية أو التقريبية. وعلى ما اتذكر اني قرأت لشيخ ايراني (المازندراني) ما يقارب هذه الوجهة من النظر خلال التسعينات ضمن أحد اعداد مجلة التقريب بين المذاهب.
فهذه الصورة من الاقتراح يمكن ان تعبر عن معالجة التناقض الوارد وفقاً لفتح الباب امام مجالين مختلفين، مثلما تمت معالجة التناقض في الفيزياء مؤقتاً وفقاً لابقاء العالمين مفتوحين كلاً في مجاله دون خلط بينهما. لكن لكل من الحالين مترتبات غير سارة، ويبقى التناقض مفتوحاً يتطلب شيئاً من الحل او التجاوز. ففي الفيزياء ان انقسامها بالشكل الانف الذكر يجعل الفيزيائيين مضطرين احياناً الى ترجيح احدى الرؤيتين على حساب الاخرى عند اجتماعهما في موضوع واحد، كما في حالة الانفجار العظيم والثقوب السوداء. وعادة ما يميل العلماء الى ترجيح رؤية الكوانتم على النسبية، فالاخيرة تحتم وجود شروط للتكون الزمكاني، وبالتالي فهي مضطرة الى افتراض وجود اسباب تؤدي الى الانحناء الضخم في نشأة الكون ومثل ذلك في الثقوب السوداء. في حين تعتمد الكوانتم على مبدأ الارتياب والاحتمال دون شروط ملزمة، ويؤيدها في ذلك ظاهرة الانحلال للعناصر الثقيلة المشعة، فهو انحلال ذاتي محتمل بنسبة 50%، مما يعني ان الحوادث الكمومية تحدث تلقائياً دون اسباب او شروط خارجية، كالذي كشفت عنه مدام كوري، ومنذ ان تم التعرف على قفزات الالكترون من موضع الى اخر كالذي كشف عنه رذرفورد ونيلز بور. فهذا هو ما يجعل العلماء يميلون الى ترجيح نظرية الكوانتم على النسبية.
أما المترتبات الصعبة في المقترح الخاص حول الامامة فهو أنه يغير من طبيعة المترتبات الفقهية والدينية لكلا الدائرتين السنية والشيعية، وبالتالي لا يقبله الشيعة ولا السنة. فاعتراض الشيعة عليه هو أنه يؤدي إلى التشكيك بالاخبار الفائضة الشيعية التي تؤكد المؤامرة واغتصاب الخلافة والطعن في الخلفاء وكبار الصحابة، ومن ثم سيؤثر ذلك على مصداقية سائر الاخبار وفق منطق الإحتمالات كما عرضناه في (منطق فهم النص)، وهو ما يوقع الشيعة بانسداد الباب والطريق، سواء في العقائد والأصول، أو الفقه والفروع. بمعنى لو ان علماء الشيعة استجابوا للمترتبات المنطقية لأدى الأمر إلى تهديد ما تبقى لديهم من روايات، سواء ما يتعلق بالامامة ذاتها أو ما يتعلق بالفقه أيضاً، فالربط بينهما قائم لأن رواة الطعن بالخلفاء هم انفسهم رواة نظرية الامامة، كما انهم انفسهم رواة الفقه، ولا يمكن التفكيك بين هذه المفاصل الثلاثة، فالشك في مرويات بعضها سوف يجر إلى الشك في غيرها، وبالتالي يصبح الشك في مجمل هذه الروايات، والتعويل على ذلك يُسقِط المذهب الشيعي من الأساس، فتفاصيل نظرية الامامة قائمة على الرواية.
في حين ان اعتراض السنة على المقترح السابق هو لكونه سيفضي إلى اتهام جلّ الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم بالتجاهل والتقصير ازاء المرجعية الدينية المنحصرة في أهل البيت1.
ويمكن ان يُطرح في مثل هذه الحالة الخيار النفعي البراجماتي عند العجز عن الحل المعرفي الابستيمي، كالذي يحصل في العلم. ولدى هذا الخيار وسائل متعددة مختلفة، فقد تعبّر الاطراف المتنازعة بقناعتها بعدم جدوى البحث المعرفي للاقناع ومن ثم الركون إلى المسائل العملية التي ليس لها علاقة بالنزاع الدائر فيما بينها، كالذي تلجأ إليه الحركات الاسلامية المعاصرة احياناً، حيث الاهتمام بمشاكل الامة السياسية والاجتماعية. كما قد يعبّر هذا الخيار عن ترك القضايا المختلف حولها واللجوء إلى النقاط المشتركة بين الاطراف، كالذي تعول عليه دوائر التقريب بين المذاهب.
كما قد يكون اللجوء إلى الحل النفعي من خلال الاعتراف بحق الآخر في الإختلاف بالرأي والعقيدة، طبقاً لمبدأ التعايش الحر والتسامح والايمان بالتعددية الثقافية والعقائدية. وهو حل لم ينجح لدى مجتمعاتنا في الغالب، فضمان نجاحه يتوقف على وجود مؤسسات قانونية وقضائية تدعم هذا التوجه، كالتي يفرضها المجتمع المدني في الغرب، إذ تتم محاسبة كل ما له علاقة بالعنصرية والكراهية الدينية والعرقية.
وقد يتمثل الحل بتنازل بعض الاطراف المتنازعة عن بعض الافكار والعقائد المتبناة، ليس لأنها غير صحيحة، بل لتغليب مصلحة التقريب والتعايش، أو للخوف من سلطة الآخر وطغيانه، كالذي تقوم به الاقليات عادة لصالح الاغلبية عند شدة الضغط وعدم توفر الحريات الثقافية والدينية اللازمة. كما قد يكون التنازل من خلال ما تفتي به بعض الشخصيات المذهبية بجواز التعبد وفق ما يراه الآخر عند المشاركة لتغليب المصلحة، مثل جواز الائتمام بالاخر عند الصلاة، وجواز ممارسة العبادة وفق أصول الآخر إذا ما كان هذا الأمر يجلب مصلحة راجحة، ومن ذلك فتاوى الإمام الخميني بهذا الشأن، أو الفتاوى الشيعية التي تخص التقية عند الخوف من سلطة الآخر.
ومع كل ما تقدم فإنه لم تنفع الحلول العملية في القضاء على النزاع المذهبي لدى بلداننا، خاصة ونحن لا نمتلك مؤسسات مدنية وقضائية لمحاسبة كل من يعمل على تجريح الآخر أو يشجع على الكراهية المذهبية أو الدينية. أما التنازل عن الافكار لصالح المصلحة العامة فهي ضيقة ومحدودة، كما انها لا تمس الأمور الجوهرية ولا يتوقع لها ان تكون كذلك. كما ان ترك الأمور العقائدية والاهتمام بالمسائل العملية لم يؤت هو الآخر أي ثمرة تذكر، لكون العاملين بهذا الشأن هم من اصحاب الحركات السياسية في الغالب، خلافاً للحركات الدينية عادة. لذا ظل التعارض في الفهم الديني غير قابل للحل، سواء على المستوى المعرفي، أو على المستوى النفعي البراجماتي.
وعلى هذه الشاكلة ان الخلاف الحاصل حول القيم بين الاشاعرة والمعتزلة لا يدع مجالاً للعمل بهما ضمن مجالين مختلفين، كإن يجري التفكيك بينهما فيُعمل بإحدى النظريتين على صعيد عالم الشهود، وبالأخرى على صعيد الآخرة، مثلما أجرى العلم التفكيك بين العالمين المجهري الصغير والجسمي الكبير، لتُطبق الكوانتم على الأول، والنسبية على الثاني، كحلّ مؤقت ريثما يجد الفيزيائيون علاجاً لهذه الثنائية المزعجة. ففي الفهم ان التفكيك في قضية القيم يبعث على المفارقة والإزدواجية مما لا يلائم الكشف المطابقي الذي يؤكد عليه العلماء، رغم ان حال بعضهم قد وقع في مثل هذه المفارقات. فمنها الإزدواجية التي جمعت بين فقه المقاصد ومقولات نظرية الاشاعرة، كالتي حللنا نتائجها في (فهم الدين والواقع)2. كما أن جماعة من الأشاعرة انقلبوا على الأصل الذي اعتمدوه، فاعترفوا بالواجبات العقلية كما يراها خصومهم المعتزلة ومن على شاكلتهم، وأقروا بأن الخطاب الديني أمضى ما في العقول من تلك الواجبات، وعدوا الإستدلال على معرفة الصانع واجباً عقلياً قبل ورود السمع به ودعوة الشرع إليه. ومن هذه المفارقات أيضاً ان الاشاعرة اضطروا للتعامل مع القيم بإزدواجية لدى بعض الحالات الخاصة بتأسيس المسألة الدينية، ومن ذلك مسألة الكذب والخداع الإلهيين، حيث أن الحكم فيها مختلف عن سائر القيم، فاعتبروها من المحالات العقلية خلافاً لسائر الأحكام الأخلاقية أو قضايا الحسن والقبح. ومثلها ما قالوه بشأن النبوة، إذ قرروا استحالة ظهور المعجزة عند دعوى الكاذب. وبهذا اضطروا إلى إعتبار الصدق من الأمور الحتمية المناطة بالكلام الإلهي والنبوة خلافاً لسائر موارد القيم ليثبتوا الصدقين الخاصين بهما3.
كذلك هو الحال مع مفارقة ابن القيم في تفكيكه للقيم عند تعرضه للأفعال الإلهية، فهو يستثنيها من قاعدة الحسن والقبح الذاتيين التي يرى صوابها عند تطبيقها على البشر. مع أن هذه التفرقة لا يقرّها العقل المحض، فما يراه العقل من قبح القبيح، وحسن الحسن، هو أمر ثابت لا علاقة له بدرجة الوجود أو الشروط الخارجية. ولو قلنا بمثل ما يقوله إبن القيم لكان الاشاعرة على صواب في الرأي القائل بنسبية الحسن والقبح وأنها لا تطبّق على الرب لأنه المالك المطلق4.
كما حصلت مثل هذه الخروقات مع الفلاسفة المسلمين عندما تناولوا القضايا الدينية. فمثلاً أن لإبن رشد رأياً حول القضاء والقدر يخالف مبناه الفلسفي. فهو يتوسط في حل المشكلة ويرى أن إرادتنا للأشياء لا تتم إلا بمؤاتاة الأسباب الخارجية والداخلية - في أبداننا - التي سخّرها الله تعالى، والتي منها ما يكون حافزاً على الفعل أو مثبطاً له. بهذا تجري الأفعال على نظام محدود مقيّد بالأسباب والإرادة معاً، حيث كلاهما يشكل الحد العام للقضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده5. لكن هذه الرؤية تخالف مبنى إبن رشد الفلسفي وحتمية نظام الضرورة في الأسباب والمسببات في الوجود كله من أوله حتى آخره6. كما أن لصدر المتألهين آراءاً حول خلق السماوات والأرض تتعارض مع مبانيه الفلسفية. ومن ذلك جمعه بين الإعتبارات الفلسفية القائلة بضرورة أزلية الفيض وأبديته وإستحالة عدم الكائنات أو خلقها من العدم تبعاً لمنطق السنخية، وبين الإعتبارات الدينية التي تقر بأن الله قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحدة7، كما وله القدرة على إفنائهما متى شاء في أي لحظة8، وأن الدنيا ستفنى بقيام الساعة الكبرى. كذلك إعتقد تبعاً للمنطق الفلسفي أنه لا بد للعقول المجردة أن تظل ثابتة لا تتعرض للتغير والتحول بإعتبارها ليست من جملة العالم ومما سوى الله، بل باقية ببقائه وموجودة بوجوده من دون جعل وتأثير9. لكنه مع ذلك أقر بفناء العقول ورقيها بالتحول إلى ما هو أعلى منها شأناً، تلفيقاً مع بعض النصوص الدينية التي صرحت بموت وفناء الكل10.
كل هذه خروقات ومفارقات لا تعكس الإتساق الذي يعنينا.. فما يعنينا هو حمل النظريات المتعارضة ضمن نسق متسق.
فقد يقال بأن في الفهم من يتبنى انساقاً متناقضة؛ يعود بعضها إلى النظام الوجودي، والآخر إلى النظام المعياري، كالحال مع الكثير من الفلاسفة والعرفاء الذين يجسدون حالة الانضمام إلى كلا النظامين دون إحساس بالمفارقة والتناقض. فبعض الفلاسفة والعرفاء هم في الوقت ذاته فقهاء، وكذا العكس صحيح، رغم ان الفقه يقع في مناقضة مع نسق النظام الوجودي. مع هذا فإن اصحاب النظام الوجودي لا يرون انفسهم واقعين في تناقض، ولا يقرون ان بين الفقه وعموم القضايا الدينية شيئاً من المناقضة لتصوراتهم الفلسفية والعرفانية. فهم يقسّمون الأمور إلى ظاهر وباطن، وان الحقيقة متعلقة بالأخير لا الأول، ويجعلون الحقائق الوجودية الحتمية تقبع خلف الاوامر الفقهية من الظواهر، فلدى الفيلسوف ابن رشد مثلاً ان تكليف الإنسان مرتبط بحتمية ما عليه الحركات الفلكية السماوية القائمة على المبادئ العقلية المفارقة11. وبهذا الارتباط ينتفي التناقض ما لم تكن الرؤية تلفيقية تجمع بين القضايا المتناقضة من هنا وهناك دون ضابط محدد، كالذي يشهد عليه العديد من رؤى العلماء. بل في كثير من الاحيان انهم يقومون برد الأمور المعيارية إلى الحقائق الوجودية، أو انهم يقومون بتفسيرها تفسيراً محتماً من الناحية الوجودية، كالذي يظهره ابن رشد وابن عربي وصدر المتألهين وغيرهم. فعندهم أنه لا فرق بين تنوع الكائنات إلى حيوانات ونباتات وبشر وفقاً للرؤية الوجودية الحتمية وبين تنوع السلوك البشري إلى كفار ومؤمنين وغيرهم، أو إلى فقراء واغنياء، فالكل محكوم عليه بالحتم والوجوب الوجودي.
وفي جميع الاحوال لا يرى الفلاسفة بأن هناك إعتبارات متناقضة في الحالين المعياري والوجودي خلافاً لما يراه الفيزيائيون من تناقض في الصفات بين العالمين الكبير والمجهري. وقد تكون هناك رؤية تأويلية للجمع بين العالمين. فالعالم الكبير قائم على الصغير، وكون الإختلاف الجذري بينهما لا يلغي حقيقتهما النسبية. فالحقيقة تتحدد بحسب ما عليه الشيء من ظرف وشروط. فالحال هنا هو اشبه بعلاقة العناصر الكيميائية بمركباتها. فمع ان أصل المركبات يعود للعناصر لكن حقيقة كل منهما تختلف عن الأخرى جذرياً، وكمثل على ذلك علاقة الماء بمكوناته العنصرية، وهي ذرتا هايدروجين لكل ذرة اوكسجين، رغم الإختلاف العظيم بينهما. فللماء طبيعة وصفات تختلف كلياً عن طبيعة وصفات مكوناته، فأقل ما يقال هو أن الأوكسجين يساعد على الاشتعال، والهايدروجين يشتعل، لذا فالمناسب من التفاعل بينهما هو أن يفضي الأول منهما إلى إشعال الأخير، لكن ما يحدث هو شيء آخر مناقض لهذا بالتمام، إذ يتكون الماء ضمن النسبة المشار إليها سلفاً وخاصيته أنه لا يشتعل ولا يساعد على الإشتعال، بل يفعل العكس في إخماده للإشتعال، وبالتالي فخاصية الماء تخالف خاصية كل من الهايدروجين والأوكسجين. وقد يقال الشيء ذاته مع علاقة العالم الكبير بالعالم الصغير وهي ان لهما علاقة كيميائية، دون حاجة لاختزال أحد العالمين لحساب الآخر.
لكن ما يعترض على هذه الفكرة هو ان الحقيقة النسبية بالشكل المطروح ليست منكرة في علاقة الأشياء ببعضها، إنما الشيء المنكر عندما تتعارض إحدى الحقائق النسبية مع مسلمات العقل البديهية، فقوانين العالم الصغير كما تسطرها الفيزياء الجسيمية لا يعترض عليها أنها مخالفة لقوانين العالم الكبير، بل يعترض عليها لكونها معارضة لبديهات العقل ومسلماته الأساسية، ولو ان هذا الحال يحصل مع العالم الكبير لكان الاعتراض عليه من هذا الباب. فقوانين السببية تكاد تكون ملغاة في العالم الصغير. وبعض البديهات التي يسلم بها العقل هي أيضاً ملغاة أيضاً، وكأن العالم الصغير هو مرتع للنقائض خلافاً للعالم الكبير.
وعلى صعيد النظريات المتعارضة قد يقال بأن الكوانتم التي تفسر العالم الصغير يمكنها ان تفسر العالم الكبير أيضاً، رغم ان ظاهر العالم الكبير يبدي متناقضاً مع طبيعة العالم الصغير، الأمر الذي يعكس صورة من العلاقة بين العالم الكبير كظاهر، والعالم الصغير كباطن، وان الباطن هو ما يحدد الظاهر ويفسره من دون عكس، على شاكلة ما يحصل في الفهم الديني من علاقة بين ظاهر النص وباطنه كما يصورها النظام الوجودي ضد غريمه المعياري، وهي ان من يعول على باطن النص يمكنه استيعاب ظاهره من دون عكس.
وعلى العموم رغم ان التفكيك في الفهم غير مقبول على صعيد النظريات، إلا أنه مقبول على صعيد العلوم أحياناً، مثلما أنه مقبول في أحيان أخرى على صعيد النظم كما عرفنا. فمثلاً على الصعيد الأول ان العقل المأخوذ به في علم الكلام كأساس للرؤى؛ هو ذاته مرفوض أو معطل في علم الفقه. فغالباً ما يعتبر العقل في الكلام بأنه مصدر البداهة والقطع والإحكام، وأن الدليل فيه قطعي لا يقبل التشكيك، خلافاً للفقه، حيث لا يملك فيه العقل تلك المنزلة ولا دليله، فضلاً عن أن يتقدم فيه على الدليل المستنبط من النص. لذا فأول ما يبدأ به علم الكلام هو البحث في الدليل العقلي قبل النص، ثم يُعرض هذا الأخير على الأول للحاظ إن كان له معارض أم لا، وبذلك يتوقف فهم النص على النظر القبلي للعقل، خلافاً للفقه الذي يقدّم البحث في النص على العقل أو الإجتهاد، ويتحكم به أخداً ورداً، توظيفاً وتأسيساً. وقد بدت مظاهر الإزدواج حتى لدى الشخصية العلمية الواحدة، فغالباً ما يكون المتكلم فقيهاً، وأحياناً يكون الفقيه متكلماً، فأغلب الفقهاء ليسوا متكلمين، رغم انه تبقى مظاهر الإزدواج واردة عبر القرون12.
لكن ما الذي يعنيه بحثنا هذا ازاء إشكالية العلم والفهم؟
لا شك ان ما يعنيه هذا البحث هو ان الفهم حريص على اعطاء الرؤية التي تقرّبنا للحقيقة الموضوعية للنص الديني. لذلك كان الفهم المتناقض غير مقبول، فلا يمكن التعويل على فهم في ناحية، وعلى آخر في ناحية ثانية إذا ما كانا متناقضين تماماً. أما في العلم فكما شهدنا ان ذلك مقبول، ولو على الصعيد المؤقت، بمعنى أنه مقبول ما لم تكن هناك طريقة معينة لحل التناقض، وهو أمر يفضي إلى ان الأنساق العلمية ليست بصدد الكشف عن الواقع في اخذها بالنظريات المتناقضة.
1من جهتنا نحن نتجاوز المعنى السياسي للامامة، إذ لا نعتبرها اصلاً مؤصلاً من أركان الدين ولحمته الذاتية. أما المعنى الديني لها كما مشار إليه في القرآن الكريم، فواضح أنه لا يتعلق بفئة محددة موصى عليها، بل طبيعة الامامة عامة وكسبية كالذي كشفنا عنه في (مشكلة الحديث).
2انظر: فهم الدين والواقع، ص13 وما بعدها.
3انظر حول ذلك: العقل والبيان والإشكاليات الدينية، ص97ـ99 و232ـ234.
4المصدر السابق، ص342.
5ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص .227 – 226
6انظر حول ذلك كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2009م.
7صدر المتألهين: تفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ ـ 1998م، ج8، ص181.
8تفسير صدر المتألهين، ج6، ص123.
9صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج3، ص127، وج6، ص302-303 و315، وج8، ص396. وأسرار الآيات، ص95.
10انظر حول ذلك: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية.
11تهافت التهافت، ص185ـ186.
12للتفصيل انظر: مدخل إلى فهم الاسلام، ص424ـ434.