يحيى محمد
يتمثل هدف العلم تارة بتفسير الطبيعة، وثانية بإكتشاف الحقائق، وثالثة بالتنبؤ بما هو جديد. كما تتمثل غاية الفهم في تحقيق هذه المطالب الثلاثة أو اغلبها. ويمكن تسليط الضوء على الأهداف العلمية المشار إليها، ومن بعدها المطالب الدينية، كالتالي:
نبدأ أولاً بالأهداف العلمية كما يلي:
1ـ التفسير العلمي:
وفيه يتم البحث عن القوانين والاسباب الخاصة التي يمكن من خلالها تفسير الظواهر الكونية، وابرز الامثلة عليها قانون الجاذبية الذي وضع لتفسير الحركات الفلكية وسقوط الأشياء. ويعتمد التفسير العلمي على مبدأ السببية طبقاً لعدد من القواعد؛ كالتأييد والاستبعاد والبساطة أو الجمال وما إليها.
فهناك نوعان من التأييد للنظرية العلمية، أحدهما عندما تقوم الفرضية بتفسير ما هو مشاهد، فتكون المشاهدات مؤيدة للفرض المطروح. كما هناك نوع آخر من التأييد المختلف، إذ يمنح الفرضية امتيازاً وقوة، وهو يعتمد على التنبؤ المصيب حين تصادف الفرضية أنواعاً جديدة من الظواهر المؤيدة لم تكن ملحوظة عند طرحها أول الامر، ففيها تصبح الفرضية قوية الإعتبار.
وبحسب ستيفن واينبرغ أنه على الرغم من ان الناس يلحون في ترجيح التنبؤات على التفسير لقلة الثقة بالنظريين، وبالتالي يخافون من ان يعمد اصحاب النظريات إلى تدبير نظرياتهم بما تلائم ما عليه الوقائع التجريبية المعروفة سلفاً، إلا أنه يرى بأن النبوءات الناجحة هي ما ينبغي ان يشك فيها غالباً. فمثلاً يعتقد بأن تفسير أينشتاين لشذوذ حركة عطارد اوثق من تنبؤه بانعطاف الضوء بفعل الشمس الذي تم التحقق منه اثناء كسوفها (عام 1919)، أو في سائر الكسوفات اللاحقة. وقد حصل شيء من التشكيك في نتائج هذا الكشف، إذ بينت بعض الكسوفات التي لحقت (عام 1919) بأنه لم يتم إكتشاف الدقة فيما قاله أينشتاين بهذا الصدد، لذلك كان فلكيو بعثة الكسوف لهذا العام متهمين بشيء من الشطط، إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية بينت التقنيات الجديدة حول هذه الظاهرة وظواهر أخرى ان ما رآه ايثنشتاين كان دقيقاً بالفعل.
2ـ الإكتشاف العلمي:
وفيه يتم إكتشاف حقائق موضوعية لم تُعرف من قبل، كإكتشاف العناصر الكيمياوية مثلاً. وهو لا يخضع لقواعد محددة، فقد يأتي عن طريق الرصد والإستقراء والتجارب، كما قد يأتي من خلال التشبيه والتمثيل، أو من خلال التأملات الخيالية، أو عبر المنهج الرياضي، أو عن طريق الصدفة، أو حتى عبر الالهامات والمنامات، كما هو حال إكتشاف البنية الحلقية لجزيئة البنزين خلال القرن التاسع عشر، حيث ينقل أن مكتشفها كيكول قد رأى بالمنام أفعى تعض ذيلها، فتوصل من خلاله إلى الشكل الحلقي لهذه الجزيئة.
3ـ التنبؤ العلمي:
وفيه يتم وضع فرضية ما ليستهدى بها للتنبؤ ببعض ظواهر الطبيعة. وهو يعتمد على التفسير، إذ لا يمكن التنبؤ بشيء إن لم تسبقه فرضية ما للتفسير. فمثلاً فيما يتعلق بتفسير ظاهرة المذنبات كانت نظرية كبلر ترى أنها اجسام تتحرك باتجاهات مستقيمة، و«قبال هذه النظرية كانت هناك نظرية دينية شائعة حول تفسير حركة المذنبات، حيث تعتبرها علامة تنبئ بغضب الله وانه سيجلب الخراب والدمار». لكن طبقاً لنظرية نيوتن في الجاذبية التي نشرها (عام 1686) فإن بعض المذنبات يتحرك بشكل اهليليجي، والبعض الآخر بشكل مخروطي دون عودة. وقد كان العالم الفلكي هالي Halley يعمل ضمن البرنامج النيوتني فأراد حساب امتداد مرور أحد المذنبات من الصنف الاهليليجي طبقاً للمشاهدة، فرأى أنه سيعود بعد 72 سنة من الزمن، وحدد نقطة رؤيته التي سيعود فيها. وبالفعل حصل هذا التنبؤ بعد أن كان هالي ونيوتن ميتين. وهو ما يدعم نظرية نيوتن في الجاذبية.
فأصل التنبؤ كما في الإطار العلمي يعتمد على حيوية الفرضيات المطروحة، وهي قد تصيب أو تخيب. وكما قال نوفاليس: ‹‹الفرضيات شِباك من يرمي بها يجني ثمارها››.
ويمكن ان يقال بأن الطريقة العلمية تتبع نظام الفروض (المؤقتة) في التفسير والتنبؤ، وهي القفزة الذهنية التي يطلق عليها الحدس العلمي والتي يتم اخضاعها من جديد تحت الإختبار للحاظ ما يمكن ان تكسبه من قوة تأييد أو استبعاد .
وكثيراً ما تتخذ الطريقة العلمية المنهج المغامر في التنبؤ أو وضع الفروض، وعادة ما تمارس نوعاً من الإستدلال لا يعد مقبولاً من الناحية المنطقية، بإعتباره يقفز من ملاحظات محدودة لينتهي إلى نتيجة لا تبررها تلك الملاحظات منطقياً، أو ان هذه الملاحظات قابلة لاكثر من تفسير وإحتمال. ومن ذلك ما يتعلق بنظرية الإنفجار العظيم والتمدد الكوني.
أما في الفهم الديني فيمكن لحاظ المطالب والأهداف كالتالي:
1ـ التفسير الديني:
وفيه يتم تحديد معنى النص الديني وقصده. فإذا كان التفسير العلمي معنياً بالسبب والقانون فإن التفسير الديني معني بالقصد والمعنى، إذ تلعب العلة القصدية الدور المقابل لما تلعبه السببية في التفسير العلمي.
وبلا شك ان الفهم الديني قائم على مسار التفسير، فاغلب ما يمتاز به هو التفاسير والافهام المتجددة أو التأويلات المفتوحة. والفهم من دونها ينتهي كفهم، أو أنه لا يعود هناك فهم سوى فهم واحد ‹‹مطابق›› لا غير، إلا ان حركة الفهم تتجلى بكثرة الافهام وتجددها. وقد يتخذ طابع التجديد مورداً للنموذج المثالي كأفضل حالات الفهم. فمثلاً ان من الأعمال التي عُدت نموذجية كأفضل حالات الفهم المتعلقة بمجال التفسير القرآني لدى الشيعة هو كتاب (الميزان في تفسير القرآن) للمرحوم محمد حسين الطباطبائي، إذ يكاد يجمع الشيعة الأصوليون اليوم على كونه أفضل كتاب في التفسير، بإعتباره يتميز بالطابع العقلاني والعصري بعيداً عن الخرافة والباطنية والتأويل التي امتلأت بها التفاسير الشيعية، لا سيما القديمة منها. وبالتالي فهو الكتاب النموذجي للفهم القرآني لدى الشيعة. وعلى ما يبدو أنه لا يوجد في قباله كتاب في التفسير أو الفهم متفق على نموذجيته لدى السنة، بل هناك كتب متعددة مختلفة الاتجاهات.
2ـ الإكتشاف الديني:
وفيه يتم إكتشاف بعض الحقائق التي لم تكن معروفة من قبل. مع ضرورة التمييز بين الإكتشاف والتفسير. ففي حالات كثيرة تحصل تفاسير جديدة للنص وهي ليست مكتشفات. لذا فما يتميز به الإكتشاف الجديد هو ان تكون هناك قرائن إحتمالية واحصائية تدل على المعنى المراد بما لا يقبل الشك. فمثلاً ان رشيد رضا وحسين النائيني اعتبرا القرآن الكريم يحمل القضايا الدستورية، وان لم تتبين لدى القدماء. فهنا ان ما ادعاه هذان العالمان إما أن يكون إكتشافاً جديداً لم يتهيء للقدماء إكتشافه رغم ظهوره، أو أنه تفسير للقرآن ارادا ان يظهراه مظهر الإكتشاف. لكن من حيث التحقيق يتبين بأنه تفسير لا إكتشاف. كذلك فهناك محاولات للإكتشاف تبرز لدى المهتمين بقضايا الاعجاز العددي وبالتجديد المفارق للتراث، لكن هذه المحاولات مازالت لم تصل إلى الغاية المرجوة، فكثيراً ما يبدو فيها الادعاء أو ضعف الحس الاحصائي والإستقرائي. ومن ذلك محاولة الاستاذ محمد شحرور في ان يجد فارقاً غير ملتفت إليه في القرآن بين الصلاة والصلوة، أو بين النبوة والرسالة، أو المحكم والمتشابه. وتعد الفوارق بين هذه الثنائيات الزوجية من صنف الإكتشاف إن تبين الاحصاء الكامل للأزواج المذكورة بأنها تثبت ما ذكره، لكن حقيقة الأمر غير ذلك مثلما عرفنا.
وعموماً ليس الإكتشاف بالامر الهين لدى الفهم الديني مقارنة بالعلم، إذ المسار العلمي قائم باستمرار على الإكتشاف، ولولاه ما كان للعلم دور، ولكان حاله حال الفلسفة من دون فارق. خلافاً للفهم فإنه لا يقوم على الإكتشاف من حيث الأصل والاساس، بمعنى أنه حتى ولو لم يكتشف أي شيء جديد فذلك لا يدعو إلى الغائه، فما يلغيه هو انعدام التفسير والتأويل.
3ـ التنبؤ الديني:
اذا كان التفسير العلمي يقابل التفسير الديني، وان الإكتشافات التي ترد في العلم هي كالحقائق التي تكتشف في الدين بما لم يعرف من قبل، فإن ما يتبقى من مشكل هو ذلك المتعلق بالتقابل بين التنبؤ العلمي والديني. فمن مهام العلم التنبؤ ومعرفة ما إذا كان صحيحاً أم لا، وان العلماء يمارسون هذا الدور بنوع من المغامرة، كالذي أشار إليه بعض فلاسفة العلم، واعتبر العملية لا تخلو من المغالطة المنطقية.. لكن يبقى السؤال متعلقاً بالتنبؤ الديني، فهل يمكن ان نجعل من مهام فهم الدين العمل بالتنبؤات وفقاً للمعايير والقواعد المطلوبة، أم ان ذلك غير ممكن؟
فمن المعلوم ان المهمات التي يقوم بها (علم الطريقة) عديدة، مثل ايضاح كيفية الفهم ومزاولته عبر ابراز القواعد الإجرائية والدوائر المعرفية المعمول بها مع نقدها، كذلك الكشف عن القوانين والسنن المتحكمة في الفهم، ومثلها البحث في تحديد الأنواع المختلفة من مستنبطات الفهم ومحاولة الترجيح بين مضامينها وقواعدها النظرية، ووضع المعايير التي يرجع إليها في النقد والترجيح. يضاف إلى ان له مهمة أخرى، هي تقديم المقترحات الخاصة بالقواعد المناسبة للفهم، ممن لها القدرة والكفاءة العالية في الكشف عن مضامين النص الديني باتساق. لذا فإن لهذا العلم أربع مهام طرقناها في كتاب (منطق فهم النص) ونجملها كالتالي:
1ـ ابراز القواعد والمناهج النظرية المعمول بها في الفهم.
2ـ الكشف عن السنن والقوانين التي تتحكم فيه.
3ـ الاقتراحات الإجرائية.
4ـ التقويم والترجيح وفقاً للمعايير الموضوعة.
وتعتمد هذه المباني بعضها على البعض الآخر، وقد تتحد فيما بينها أحياناً.
لكن هل لعلم الطريقة علاقة بالتنبؤ؟ فهل يمكن لبعض القواعد الإجرائية التنبؤ عن شيء ما، ومن ثم التحقق ان كان له مصداقية ما؟
وعموماً هل يمكن التنبؤ بقضايا دينية قابلة للإختبار اعتماداً على التفسير الديني، كالذي يجري في العلم، وإن كان في إطار اضيق منه؟
لا شك ان الإختلاف بين العلم والفهم – هنا - يتعلق بعنصر الزمن. إذ يشترط في التنبؤ العلمي وجود فاصل زمني بين النظرية والمتنبأ به. فهو ادعاء يتحدث عن شيء مستقبلي أو حتى ماض لا ترد دلالة ظاهرة عليه. فهو يختلف مثلاً عمن يقول ستشرق الشمس غداً، فهذا القول لا يعد تنبؤاً بالمعنى العلمي، لأنه متوقع الحدوث. ومثاله ما يتعلق بنظرية أينشتاين حول انحراف الاشعة الضوئية للنجوم عند إقترابها من الشمس، وقد تأكد هذا التنبؤ كما سبق أن أشرنا.
أما في الفهم فليس هناك فاصل زمني كما في العلم، إذ ليس فيه حوادث مستقبلية لكونه يعتمد على الفاظ وكلمات هي بمثابة الحوادث، لكنها حاضرة على الدوام وليس فيها ماض ولا مستقبل، خلافاً لوقائع الطبيعة، وبالتالي ليس هناك ما يمكن ان نطلق عليه تنبؤ بالمعنى المشابه للعلم. رغم ان التطورات الأخيرة للعلم جعلت بعض الاتجاهات العلمية ترى تفسيرها لبعض الظواهر العلمية هي نوع من التنبؤ المتأخر، مثل ما تدعيه نظرية الأوتار من أنها اكتشفت الجاذبية رغم ان الأخيرة معروفة منذ نيوتن خلال القرن السابع عشر، وحتى قبل ذلك لكن من غير دقة رياضية. فقد قال ابرز أعظم رجال هذه النظرية ادوارد ويتن: ‹‹ان واحدة من أعظم الحقائق على الإطلاق هي ان الجاذبية تنبع من نظرية الأوتار››، أو ان ‹‹لنظرية الأوتار خاصية واضحة في التنبؤ بالجاذبية››. وعلّق عليه برايان غرين بأن هذا التنبؤ هو تنبؤ ما بعد الحدث. واشار ويتن بأن إكتشاف الفيزياء للجاذبية خلال القرن السابع عشر كان مجرد صدفة تاريخية على الارض، وان من المحتمل في حضارات أخرى متقدمة في الكون ان تكون نظرية الأوتار قد اكتشفت أولاً، ومن ثم جاء إكتشاف الجاذبية بعدها نتيجة تنبؤ الأولى. ومثل ذلك اعتبرت رؤى أينشتاين في الثقالة بأنها مثبتة من خلال رصدين مذهلين، أحدهما تنبؤ لاحق والآخر تنبؤ سابق، كالذي يقوله الفيزيائي ماكيويجو. بمعنى ان تفسير أينشتاين الدقيق لشذوذ حركة عطارد يعتبر نوعاً من التنبؤ اللاحق في قبال التنبؤ السابق والمتمثل في انعطاف اشعة الضوء عند إقترابها من الكتل والطاقات ذات الجاذبية الضخمة كالشمس مثلاً.
مع هذا هناك نوع من التنبؤ في الفهم، وهو الكشف عن قضايا لها علاقة في الواقع لم تكن معروفة، أو هي خلاف المتصور. ومثال ذلك ما قد يُذكر من ان تحريم لحم الخنزير قد جرى لوجود اقوام تستخدمه لاغراض طقوسية خاصة، فهو إفتراض يثار كقضية تقبل الإختبار، ليعرف ما إذا كان الفرض يحقق نجاحاً أم لا؟
لكن ترد حول ذلك عدد من المشاكل، أهمها ما يلي:
1ـ أنه حتى مع نجاح الفرض السابق؛ فإن ذلك قد لا يكشف عن العلة الحقيقية للحكم، إذ قد يكون للحكم ارتباط بسبب آخر، أو ان له علة أخرى مشاركة.
2ـ ما الذي يؤكد لنا الحقيقة التاريخية وهي منقولة بالرواية؟ إذ ليس كل رواية منقولة صحيحة أو معتبرة، فلأجل الاطمئنان من صدق النقل التاريخي لا بد من ان يكون هناك تواتر على مستوى النقل، وعلى الاقل ان يكون مقنعاً وفي غاية الإعتبار، وهو من الحالات القليلة، الأمر الذي يختلف فيه الحال لدى إختبار التنبؤ العلمي.
3ـ ان دعوى التنبؤ على فرض صدقه قد يشكك بها، فمن الممكن تماماً ان يعلم الباحث سلفاً بالنتيجة التي يراد إختبارها، فتكون النتيجة تحصيل حاصل، خلافاً للحالة العلمية التي تبقى مجهولة حتى تتم فرصة الكشف عنها. مع ذلك فالمهم هو قبول الفرض للإختبار، سواء جرى عندما لم يتم الكشف عن العلة المدعاة، أو جرى بالتفسير عند العلم بالعلة المدعاة سلفاً. ففي جميع الاحوال أنه كلما نجح الإختبار كلما زادت قوة إحتماله وتأييده.