يحيى محمد
نعتقد ان نقطة ضعف النظريات حول فهم الاحتمال، وعدم اعطائها نتائج مرضية؛ تعود الى انها أهملت أحد أقسامه الرئيسية، فلم تضع يدها على تحديده ونشأته وعلاقته بتبرير سائر انواع الاحتمال. فبحسب رأينا تنقسم الاحتمالات الى قسمين أساسيين تُشتق عليهما سائر الانواع الاخرى، نطلق على أحدهما الاحتمال السوي، وعلى الآخر غير السوي. وهذا الأخير هو حجر الزاوية الذي تتأسس عليه وظائف الاحتمالات (البعدية) الاخرى، كما انه الاساس الذي به يمكن تبرير الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي لاثبات وتفسير الاشياء على ما سنرى. وقد سبق لبرنولي ان استشعر المشكلة التي تخص عملية توحيد الانواع المختلفة للبينات في الواقع الموضوعي، ليتسنى حساب الاحتمالات بطريقة الامكانات المتساوية مثلما يجري الحال مع العاب المصادفة، وقد وجد نفسه عاجزاً امام هكذا مشكلi.
وكما قلنا انه يتأسس على القسمين الرئيسيين الانفي الذكر عدد من الاحتمالات، وذلك من خلال الاعتماد على النسبة العقلية الرياضية التي تحدد العلاقة بين الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، أي انها عبارة عن قسم آخر من الاحتمال، هو الاحتمال الرياضي الذي بدونه لا يمكن اشتقاق سائر الانواع الاخرى من الاحتمال، على ما سيتضح لنا فيما بعد.
أـ الاحتمال السوي
وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم تمييز الحالات بعضها عن البعض الآخر، مثلما هو حاصل في حالة القطع بوجود تماثل بين الحالات الممكنة للحدوث او فيما لو لم نجد هناك ما يميز الحالات بعضها عن البعض الآخر. اذ ينشأ لكل حالة احتمال يساوي في مقداره احتمال غيرها من الحالات الاخرى، فتتوزع الاحتمالات على الحالات بالتساوي، وذلك بتبرير مستمد من مبدأ عدم التمييز.
وعن هذا القسم يتأسس عدد من الاحتمالات النوعية الاخرى، نطلق عليها كلاً من الاحتمال المنطقي والحدي والقبلي والتقديري.
ب ـ الاحتمال غير السوي
وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم وجود تماثل او انتظام بين الحالات الممكنة للحدوث، ويبرره مبدأ التمييز او اختلاف الحالات وعدم انتظامها. فهو احتمال يعبر عن وجود قرائن تختلف في قوتها الاحتمالية إزاء احتمال حادثة ما يراد اثباتها او تفسيرها. فمثلاً عندما نريد ان نفسر نشوء الارض بافتراض انها منشقة من الشمس؛ نجد هناك عدداً من القرائن التي تعمل لصالح هذا الفرض، وهي قرائن تختلف فيما بينها من الناحية النوعية، كقرينة سخونة باطن الارض واتجاه حركتها وبعدها عن الشمس وما الى ذلك من القرائن التي تفتقر الى ما يبرر توزيع الحصص المتساوية للاحتمال عليها، لعدم تماثلها. وكمثال آخر على ذلك، ما يواجهه علماء الحديث من وجود اختلاف في القرائن النوعية بين الروايات. فمثلاً ان الرواية الضعيفة السند لها قرينة تختلف نوعاً عن الرواية الضعيفة المتن، وبهذا الاختلاف فان الحصص الاحتمالية المقدرة لكل منهما لا يمكن ان تكون متساوية. كذلك انه في الرواية الضعيفة السند، قد ينشأ الضعف من ضعف الحافظة، كما قد ينشأ من عدم الثقة واحتمال الكذب او الوضع، يضاف الى ان لقصر السلسلة السندية وطولها دوراً في ذلك، وكل هذه الحالات وغيرها تعد انواعاً مختلفة من القرائن التي لا تجد ما يبرر توزيع الحصص الاحتمالية عليها بالسوية. الامر الذي يفسر لماذا كان علماؤنا يعدون الحديث المتواتر لا يخضع - اطلاقاً - للتحديد العددي من الرواية، فقد يتحقق التواتر بعدد قليل منها، كما قد لا يتحقق حتى مع العدد الكبير، وما ذلك الا بفعل الاحتمالات غير السوية التي تبديها القرائن المختلفة.
على ان عدم امكان رد القرائن المختلفة الى القرائن المتماثلة التي تبرر العمل بالتسوية الاحتمالية يجعلها تقدّر تقديراً كيفياً من غير عد حسابي الا بنوع من المسامحة والتقدير، قد تعظم وقد تصغر.
مع ذلك فان بهذا القسم من الاحتمال يتأسس نوع هام من الاحتمالات هو الاحتمال التفسيري (الاستقرائي) الذي به تتشكل حلقة الوصل في تأسيس الاحتمالات البعدية التي يبرر العمل بها طبقاً للتسوية الاحتمالية، وبالتحديد انما يتم تأسيس كل من الاحتمالين الحدي والتقديري على ما سنرى.
ج ـ الاحتمال الرياضي
سبق ان ذكرنا بأن جميع انواع الاحتمال تتأسس إما على الاحتمال السوي او غير السوي، لكن كما قلنا ان تأسيسها يفترض وجود نسبة رياضية بين عدد الحالات الملائمة والحالات الممكنة الكلية، فبدون هذه النسبة لا يمكن اشتقاق أي نوع من انواع الاحتمالات، وعليه فان هذه النسبة هي عبارة عما نطلق عليه الاحتمال الرياضي. وبذا يكون الاحتمال الرياضي هو حلقة الوصل التي بها يتم تأسيس الاحتمالات المشتقة.
فالاحتمال الرياضي هو عبارة عن النسبة المقدرة بين عدد الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، بغض النظر عما تكون عليه هذه الحالات من تساو او غير تساو. أي ان هذه النسبة تفترض سلفاً وجود الاحتمال، لذا فانها تعتمد على القسمين السابقين من الاحتمال. كما ان النسبة بهذا الشكل هي نسبة رياضية ثابتة بالقدر الذي يحدد فيه عدد كلا المجموعتين من الحالات. وهي بهذا الشكل غير المشروط تتحدث عن فرد افتراضي ليس له علاقة بالواقع الموضوعي للحادثة. الا ان عليها تعتمد سائر الاحتمالات المشتقة الاخرى، وذلك تبعاً للشروط التي تخص تلك الحالات كما سيتضح لنا كالآتي:
الاحتمالات المشتقة
وهي من حيث التفصيل كالاتي:
1 ـ الاحتمال المنطقي
وهو احتمال عقلي ليس له صفة الاخبار عن الواقع الموضوعي او عن الحادثة المحتملة خارجاً، ويتصف بالضرورة القطعية والكلية الشرطية، فكلما كان هناك تماثل او انتظام بين الحالات الممكنة، فان احتمال ظهور الحادثة يعبر عن النسبة - الرياضية - ما بين الحالات الملائمة للحدوث وبين جميع الحالات الممكنة، وذلك تبعاً لتقرير الاحتمال السوي الذي به تتوزع القيم الاحتمالية على جميع الحالات بالتساوي طبقاً لمبدأ عدم التمييز. فمبرر هذا الاحتمال مستمد من الاحتمال السوي الذي يشترط التماثل بين الحالات الممكنة للحدوث. كما ويشترط تحديد عدد كل من الحالات الممكنة والملائمة. فمثلاً يمكن تقرير انه اذا ما كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه فان احتمال ظهور أي وجه منها يساوي (1\6). وهو احتمال عقلي ثابت وضروري لا يقبل التغيير بحسب ما افترضنا له من مقدمات.
وفارق هذا الاحتمال عن غيره، هو ان بقية الاحتمالات تتحدث عن وقائع خارجية، كإن نريد ان نعرف قيم احتمالات ظهور كل وجه من أوجه هذه القطعة من الزهر، حيث في هذه الحالة سنواجه مشاكل واقعية ابرزها مشكلة التماثل بين الوجوه. ذلك ان تحديد القيم الاحتمالية بشكل متساوٍ لجميع الحالات الممكنة يعتمد أساساً على افتراض انها منتظمة او متماثلة الشكل، لكن كيف نتحقق ليثبت لنا هذا التماثل او الانتظام؟ وما العمل فيما لو وجدنا اختلافاً بين الوجوه؟ فكل ذلك يجعلنا نخرج عن دائرة الاحتمال المنطقي لنلج دائرة الاحتمالات الاخبارية على ما سنعرف.
2 ـ الاحتمال الحدي
وهو احتمال ناتج عن وجود قرائن متماثلة وعدد ثابت ومعلوم من الحالات الممكنة الكلية والملائمة، وقيمته تعبر عن نسبة الحالات الملائمة للحادثة الى الحالات الكلية التي تتساوى في قيمها الاحتمالية طبقاً لمبدأ عدم التمييز.
فنشأة هذا الاحتمال مبررة بحسب وجود الاحتمال السوي تبعاً للتماثل بين الحالات. ويلاحظ انه لا يختلف في تحديده للقيمة الاحتمالية عن الاحتمال المنطقي، لكنه مع هذا يختلف عنه في كونه احتمالاً اخبارياً يتحدث عن واقعة موجودة فعلاً. بينما لا يتحدث الاحتمال المنطقي عن واقعة محددة ولا يخبر بشيء عن الموضوعات الخارجية. كذلك يمكن القول ان هذا الاحتمال انما ينشأ - حقيقة - بفعل الاحتمال المنطقي القائم على النسبة الاحتمالية الرياضية، ولولاه لما أمكن تحديد قيمته الحسابية. فنحن لا يسعنا تحديد نسبة الحالات الملائمة للحادثة الى الحالات الكلية الا من منطلق عقلي صرف، بحيث لسنا على استعداد لاختبار ما افترضناه من قانون النسبة وجعلها. وبالتالي فأي خطأ نكتشفه في نتيجة الاحتمال الحدي لا يجعلنا نشكك بحقانية النسبة العقلية بين مجموعتي الحالات، وانما نشكك بالمحتوى الذي تتضمنه شروط هذا الاحتمال من صدق التماثل وتحديد عدد الحالات الملائمة والكلية.
وتتم عملية استنتاج الاحتمال الحدي بالشكل التالي:
بحسب الاحتمال المنطقي فان احتمال الحادثة هو عبارة عن نسبة الحالات الملائمة الى الحالات الكلية الممكنة، وذلك عند افتراض تحقق كل من التماثل وعدد حالات المجموعتين. ومن حيث الواقع نجد هناك ما يفي بهذه الشروط من التماثل وتحديد عدد المجموعتين بشكل قاطع. لذا فان الاحتمال الحدي انما يعبر عن نفس تلك النسبة بين الحالات، وان النتيجة المترتبة على هذه النسبة هي ذات النتيجة. فواقع الامر ان الاحتمال الحدي هو احتمال عقلي اخباري يستمد تبريره من الاحتمال المنطقي. وهو على هذا لا يقبل التشكيك طالما سلمت مقدماته، الى درجة انه حتى لو اظهرت لنا بعض الاحصاءات ان نسبة ظهور الحادثة في الواقع لم تكن بنفس القدر الذي حددناه عقلياً، فان ذلك وإن كان قد يبعث على الشك بصحة الشروط الخاصة بالتماثل وتحديد العدد لمجموعتي الحالات، الا انه لا يبعث على الشك بالحكم العقلي طبقاً لافتراض صدق هذه الشروط، أي اننا لو كنا لسبب ما متأكدين تماماً من صدق الشروط لما صح التنازل عن النتيجة حتى ولو أظهرت الاحصاءات الاخبارية عدم اتفاقها مع الاحتمال المحدد سلفاً، ولاعتبرنا ذلك ناتجاً عن وجود صدف كثيرة عارضة منعت من تحقق النتيجة. مع ما يلاحظ بأنه لا يشترط ضرورة ان يتفق الحكم الاحتمالي الحدي مع الواقع، رغم الجانب العقلي للاول، بدلالة انه في اختبارات ألعاب المصادفة ان احتمال المطابقة التامة بينهما هو احتمال ينتفي احياناً ويضعف احياناً اخرى. فرمية واحدة او اي رميات فردية لقطعة النقد لا تحقق حالة التطابق بين الاحتمال القبلي وما يحدث في الواقع، كما ان احتمال المطابقة التامة بين الاحتمال القبلي لمائة رمية - مثلاً - وبين ما يحدث في الواقع هو احتمال ضعيف.
على ان مشكلة الاحتمال الحدي تتعين بالتحقق من شروطه، فكيف يمكن التأكد من عدد كل من الحالات الممكنة الكلية والملائمة، وكيف يمكن اثبات التماثل فيما بينها؟ ففي الحالات الاحصائية كيف يمكن معرفة ان احصاءنا صحيح دون ان ندخل فيه اضافات او ننقص منه اخريات؟ وكيف نتحقق من ان ما أحصيناه هو ذات الافراد المطلوبة؟ كذلك انه في السلسلة المفتوحة او غير المتناهية هناك مشكلة اخرى تتعلق بمبرر تعميم القيمة الاحتمالية على الحالات التي لم تخضع للملاحظة والاختبار، اذ نواجه هنا مشكلة التحقق من ثبات الشروط الخاصة بالتماثل وعدد كل من الحالات الممكنة والملائمة.
هكذا فان التعرف على الحلول الخاصة بما عرضناه من مشاكل يحيلنا الى الدخول في احتمال آخر له اهمية خاصة هو الاحتمال التفسيري المتأسس على الاحتمال غير السوي. وبالتالي يمكن القول ان الاحتمال الحدي الذي ينتمي الى حضيرة الاحتمال السوي مدين في نشأته ووجوده الى الاحتمال غير السوي. فمثلاً نحن نحتمل في بادئ الامر ان هناك تماثلاً وعدداً محدداً من الحالات الكلية والملائمة، وان هذا الاحتمال انما يتحقق بوجود قرائن مختلفة تبرر وجود الاحتمال غير السوي، وكلما ازددنا تحرياً في التحقق من التنمية الاحتمالية لتلك الشروط كلما احتجنا الى التفتيش أكثر عن القرائن المختلفة الدالة على تلك الشروط، وبالتالي ازددنا اعتماداً على ممارسة وتوظيف الاحتمال غير السوي، حتى يتحقق الامر بمصادرة القطع واليقين اذا ما كانت القرائن المختلفة ذات قوى احتمالية متعاظمة. الامر الذي يؤكد كون الاحتمال الحدي لا ينشأ الا بفعل تأسيس الاحتمال التفسيري القائم على الاحتمال غير السوي، رغم ان تبريره انما يتم بفعل الاحتمال السوي طبقاً لمبدأ عدم التمييز كما علمنا.
3 ـ الاحتمال التفسيري
وهو الاحتمال الذي ينشأ حول فرض معين يراد التحقق منه استناداً الى وجود عدد من القرائن المختلفة التي تبرر القيم الاحتمالية غير السوية. وكثيراً ما يستخدم هذا النوع من الاحتمال في الفروض والنظريات العلمية، وكذا في اثبات الاشياء وتعليلها، وهو يتأثر بما يقابله من نظائر للفروض المنافسة. وتعود اهميته الى كونه يمثل العنصر الأساس الذي بوسعه ان يحقق بناء الدليل الاستقرائي لاثبات القضايا الخاصة بشكل لا تصدق عليه الشبهات المألوفة كتلك الواردة بحق التعميمات الاستقرائية. واذا كانت هناك شبهة محددة تلوح سلامة هذا الدليل فليس غير كونه قائماً على مورد للاحتمال لا يقبل العد الحسابي، طبقاً للاختلاف النوعي للقرائن التي تبرر عدم التسوية الاحتمالية.
مع هذا فان عدم هذه التسوية لا يمنع من بلوغ مرحلة القطع واليقين. فطالما هناك تعاظم وتنمية في الكيفية الاحتمالية طبقاً لزيادة القرائن المختلفة الدالة على الفرض؛ فان ذلك يهيء الوصول الى تلك المرحلة عندما لا نحتاج فيه الى قرائن جديدة اضافية، حيث تتحول العملية الى حالة ذاتية من اليقين يمكن تفسيرها طبقاً للاطار العام لنظرية المفكر الصدر.
هكذا فليس لنا من طريق آخر غير تلك القرائن الاحتمالية غير السوية التي بتعاظمها تتحقق مصادرة القطع واليقين في تحقيق الفروض واثبات وجود الاشياء وتفسيرها. كذلك انه لا يوجد غيرها من طريق يمكننا ان ننشئ به الاحتمالات البعدية، أي تلك التي تنحصر بكل من الاحتمالين الحدي والتقديري.
ففيما يخص الاحتمال الحدي يمكن للاحتمال التفسيري ان يثبت الشروط التي تحققه، وهي التماثل والعدد الخاص بكل من الحالات الكلية والملائمة. فمثلاً لو أردنا ان نحدد نسبة إحتمال سحب كرة واحدة بيضاء في صندوق يحوي خمس كرات؛ أربع منها سوداء اللون، فسنعتبر أن هذا الإحتمال - في هذه الحالة - هو إحتمال حدي، وذلك إذا ما افترضنا أن هناك تماثلاً بين حوادث السحب للكرات، وأن عددها وألوانها هي كما قدرناها قبل قليل. ومع ذلك فإن تحديد الشروط المذكورة لا يتم من غير الرجوع الى احتمال سابق يعمل على اثباتها، الامر الذي يحققه الاحتمال التفسيري القائم على الاحتمال غير السوي. فلابد ان نثبت ان أمامنا كرات بالفعل، وان عددها خمس، وان واحدة منها بيضاء لا أكثر ولا أقل. فلو اننا تحققنا من ذلك لكان من السهل تحديد القيمة الاحتمالية لسحب الكرة البيضاء طبقاً للاحتمال الحدي. وكما علمنا انه ليس بوسعنا اثبات ذلك من غير وجود قرائن مختلفة من الناحية النوعية، وان ذلك لا يمنع من بلوغ تحقيق حالة اليقين الذاتي. فمن الممكن مثلاً ان نجري عدة اختبارات مختلفة تؤكد لنا ان ما في الصندوق هي كرات حقيقية بالفعل، من خلال رؤيتها، ولمسها، وربما الاستعانة بآخرين للتأكد منها، او حتى أخذ صور فوتوغرافية وهكذا.. كذلك يمكن التأكد من اوزانها واحجامها وحرية حركتها، كما يمكن التأكد من الوانها واعدادها بحسب عدد من القرائن المختلفة. فبعد التأكد من كل ذلك فان بالامكان ان نقطع بأن الصندوق يحمل ما افترضناه من الكرات، وان بالامكان ان نؤسس على ذلك الاحتمال الحدي. وعليه لولا الاحتمال التفسيري المؤسس على الاحتمال غير السوي ما كان بالامكان تأسيس ذلك الاحتمال، ولا كان يمكن بلوغ القطع واليقين عن اي شيء استدلالي يخبر عن الواقع الموضوعي. فاثبات هذا الواقع مدين للاحتمال التفسيري.
لكن قد يقال اننا حتى مع تلك الاختبارات البسيطة من السحب العشوائي للكرات ومجمل العاب المصادفة؛ لا يمكننا التحقق من تماثلها المطلق، وذلك اننا لسنا على علم دقيق وكامل باوزانها واحجامها، حيث مهما حسبنا الوزن والحجم فيظل هناك بعض الفوارق التي تخص الحسابات الجزيئية الدقيقة، مثل عدم العلم بعدد ذراتها واوزانها وما اليها..
والجواب على ذلك يأتي بوجهين: احدهما ان الاختلاف بين الاشياء التي نعدها متماثلة هو اختلاف ضئيل للغاية فإما ان يهمل، او انه لا يؤثر شيئاً عن كون القضية ثابتة في الحدود النسبية للقيمة الاحتمالية المستنتجة عن التماثل النسبي. وبعبارة اخرى تصبح هذه القضية ذات قيمة احتمالية محددة تحديداً مرناً بعض الشيء لما تتضمنه من حدود الاختلاف الضئيل، وبالتالي يمكن اضافة اليها قيمة ضئيلة تُقدر من الجهتين ارتفاعاً وانخفاضاً. والقيمة الاخيرة هي تعبير عن جهلنا بدقة الاختلاف الحاصل. فمثلاً من الناحية التقريبية ان قيمة احتمال ظهور وجه واحد من وجهي قطعة نقد متماثل بقدر عال جداً تساوي نصفاً مع اخذ اعتبار الهامش الضئيل في الاضافة، ولنفرض انه لا يقل عن واحد من الف، فتكون القيمة الاحتمالية التقريبية نصفاً مع زائد ناقص واحد من الف.
اما الجواب الاخر، فالملاحظ ان هذه المشكلة هي مشكلة عملية اكثر منها نظرية، وذلك انه يمكن تطبيق هذه القضية بشروطها على نموذج لا يخضع الى مثل تلك الاعتبارات من الوزن والحجم. فمثلاً لو كانت لدينا خمس اوراق متشابهة ومرقمة من واحد الى خمسة، وقد اُلقيت مصفوفة افقياً دون ان تُرى الارقام فيها، فان ذلك سيجعل من قيمة احتمال ان نعرف اي رقم منها قيمة ثابتة عقلياً، وهي واحد من خمسة.
كمايرد بهذا الصدد سؤال مهم يمكن ايضاحه بعد المقدمة التالية:
سبق ان علمنا ان بواسطة الاحتمال التفسيري يتم اثبات الاشياء وتماثلاتها وبالتالي يتحقق تبرير العمل بالاحتمال السوي، وان هذا الاحتمال (التفسيري) قائم على وجود الاحتمالات غير السوية التي تبررها اختلاف القرائن، مما يعني ان التماثل يستدل عليه بهذا الاختلاف. فالاختلاف هو الاساس في اثبات الاتفاق او التماثل وليس العكس. لكن السؤال الذي يرد بهذا الصدد: ما هو الدليل على الاختلاف ذاته؟
لا شك انه ليس بوسعنا ان نتخذ من التماثل او الاتفاق ما يكون أداة لاثبات الاختلاف، والا لوقعنا بحلقة من الدور والتسلسل. والحل هو ان اثبات الاختلاف من حيث الاصل انما يتم عبر الادراك المباشر من غير حاجة الى اي دليل. فنحن حينما نريد ان نثبت التماثل لابد في أول الأمر ان نثبت وجود الشيء الذي يحتمل ان يكون متماثلاً مع غيره. ولأجل ذلك لابد من ان نستعين بقرائن مختلفة لها علاقة باثبات الشيء. فمن الناحية الاولية ليس لدينا غير الاحساسات المباشرة يمكن ان نستعين بها، وذلك عبر حواسنا الخمس، ولا شك ان كل احساس يعد حادثة من الحوادث المختلفة، لهذا فانها لا تحتاج الى ما يدل عليها باعتبارها تدرك مباشرة باختلاف انواعها، لكن بتعدد هذه الاحساسات يمكن ان نثبت وجود الشيء.
فمثلاً عندما ترى شجرة وتشك في حقيقتها، اذ قد تكون وهماً محضاً كما قد تكون شيئاً آخر يتراءى لك بأنه شجرة، فانه لأجل اثبات ذلك او تنمية احتماله لابد من مزاولة قرينة اخرى مختلفة، كإن تذهب الى المكان وتمد يدك لترى إن كانت ستقع على شيء او على لا شيء، وإن كان احساسك باللمس يثير خشونة او لا؟ وهكذا يمكنك التحقق بما تحتمله وتشك به، ولو انك فعلت شبيهاً بهذا الأمر مع شجرة اخرى عبر احساساتك المختلفة، فانك عن طريق الادراك المباشر ستدرك إن كان الشيئان متماثلين كشجرتين مثلاً، او غير متماثلين. اذ لو كانت الصور الحسية المشتركة لكل منهما تعطي صورتين متماثلتين لدل ذلك على تماثل الشيئين ووجود عناصر مشتركة بينهما، وبالتالي فان الاختلاف هو الاساس في اثبات التماثل، وان اثبات الاختلاف من حيث الاصل انما يحصل عبر الادراك المباشر.
4 ـ الاحتمال القبلي
وهو الاحتمال الناشئ ابتداءً من غير بينة ولا مقدمات، كاحتمالنا لوجود مخلوقات طبيعية حية في المجرات الاخرى من السماء، وهو احتمال حقيقته لا تستند الى معرفة مسبقة من القرائن البعدية التي لها دور في تحديد القيمة الاحتمالية، لذلك فليس لهذا الاحتمال من حكم الا على ضوء (التقدير) بحسب الحالات الممكنة القبلية، والتي يفترض ان يقدر لها التساوي طالما لا نعلم عنها اي شيء يمكن ان يميز بعضها عن البعض الاخر لجهلنا بذلك، بخلاف ما رأيناه في الاحتمال الحدي الذي هو ايضاً يقوم على الاحتمال السوي، لكنه لا ينطوي على جهل بمثل تلك الناحية، بل من شروطه العلم بالتماثل بين الحالات، في حين نحن مع الاحتمال القبلي ليس لدينا علم بالتماثل وانما نفترض هذا التماثل افتراضاً لنبرر به الاحتمال السوي وبالتالي نقيم عليه الاحتمال القبلي كحكم تقديري يقبل التغيير لأي معرفة بعدية لها علاقة بهذا الاحتمال. ففي مثالنا السابق توجد لدينا حالتان ممكنتان ومتنافيتان، وكونهما قبليتين لا نعلم عنهما شيئاً فان التقدير المبرر بشأنهما هو ان يفترض ان لكل منهما احتمالاً يساوي احتمال الاخر، او ان احتمال كل منهما عبارة عن (1\2).
لكن هناك حالات من الاحتمال القبلي لا تخضع للتقدير. فمثلاً لو علمنا ان هناك كائنات حية في احدى المجرات السماوية نجهل عددها، ونجهل إن كانت قليلة او كثيرة، ففي هذه الحالة ان اي عدد يطرح هو عدد محتمل من دون تقدير كمي او كيفي.
5 ـ الاحتمال التقديري
وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم القطع بشروط الاحتمال الحدي. فقد علمنا ان هذه الشروط تثبت من خلال الاحتمال التفسيري، وبه يبرر العمل بالاحتمال الحدي. لكن اذا لم يكن بوسع الاحتمال التفسيري ان يثبت تلك الشروط من التماثل بين الحالات وكذا عددها الكلي وعدد الملائمة للحادثة منها؛ فان ذلك يبرر العمل بالاحتمال التقديري، اي جعل النسبة الرياضية مقدرة للحادثة في الواقع.
وبعبارة اخرى ان الاحتمال التقديري يتم في حالة حدوث واحد او اكثر من الشروط الثلاثة التالية:
1 ـ عدم القطع بالتماثل.
2 ـ عدم القطع بعدد الحالات الملائمة وكذا الحالات الكلية.
3 ـ عدم القطع بثبات واحد او اكثر من الشرطين السابقين في السلسلة المفتوحة.
وهذا يعني ان الاحتمال التقديري قائم على احتمال آخر يخص تلك الشروط. فكل شرط يعبر عن مضمون احتمالي، وبالتالي فان الاحتمال التقديري يقوم إما على احتمال التماثل، او على احتمال عدد الحالات الكلية وكذا الملائمة، او على احتمال ثبات ما سبق من التماثل وعدد الحالات. وهو ما يميزه عن الاحتمال الحدي الذي يجري فيه القطع بتلك الشروط. وتوضيح ذلك يكون كالاتي:
الشرط الاول للتقدير
وهو الشرط الذي يتضمن عدم القطع بالتماثل او الانتظام. ذلك انه لو كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه بقيمة احتمالية كبيرة، لنفترض اننا قدرناها بـ (95%)؛ لكان ذلك يعني اننا نحتمل القيمة الاحتمالية (1\6) لكل وجه منها بنسبة احتمالية قدرها (95%). أي اننا في واقع الامر عاملنا هذا الاحتمال طبقاً لما نعامل به الاحتمال الحدي من تحديد النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية، لكن مع فارق هام، وهو ان النسبة المحددة في الاحتمال الحدي هي نسبة ثابتة وصحيحة (100%)، لذلك لا يمكن ان يجري عليها اي تغيير في الاختبارات البعدية. في حين انه في الاحتمال التقديري ان نسبة التقدير ليست ثابتة ولا قطعية، وانما هي محتملة بدرجة ما، كتلك التي قدرناها بـ (95%).
الشرط الثاني للتقدير
في هذا الشرط اننا اذا لم نتأكد من مجموع الحالات الملائمة للحادث وكذلك عدد الحالات الكلية في السلسلة المتناهية، بحيث نحتمل ان هناك زيادة او نقيصة، او كنا على علم بوجود خطأ ما غير محدد في الزيادة والنقيصة، فان ذلك يبعث على تقدير القيمة الاحتمالية. حيث تكون القيمة غير مؤكدة، او انها تقوم على احتمال آخر، لذلك فهي مقدرة وقابلة للتغيير من خلال الاجراءات الاختبارية الاخرى، وكذا يجري نفس الحال مع هذه الاختبارات ما لم يتم التأكد من العدد الخاص بالحالات الكلية والممكنة فضلاً عن التماثل او الانتظام.
مثلاً لو ان السجلات السكانية أظهرت لنا ان عدد نفوس قرية ما في سنة محددة هو (500)، وان عدد المتوفين منهم في تلك السنة هو (5)، لذا تكون النسبة الاحتمالية للوفاة عبارة عن (1%). لكن هذه النسبة يمكن ان تكون تقديرية وليست نهائية او حدية، وذلك فيما لو كان هناك احتمال بأننا قد أخطأنا العدد، سواء بالنسبة الى عدد النفوس، او بالنسبة الى عدد المتوفين منهم، على فرض ان هناك تماثلاً في امكانية الوفاة. اذ من المتوقع ان لا تكون تلك النسبة صحيحة طالما انها تقديرية وقابلة للمراجعة باستمرار. ولو فرضنا اننا قدرنا بأن هناك احتمالاً في الخطأ يقارب الـ (10%)، فان ذلك يعني ان القيمة الاحتمالية للوفاة هي محتملة بنسبة قدرها (90%). أي اننا حينما نقدر تلك القيمة لابد من ان نأخذ بعين الاعتبار ما لها من القوة الاحتمالية التي تعمل على تحديد قدر مصداقيتها. وهذه القوة ليست معنية بتقدير نسبة الوفاة، وانما معنية بتقدير احتمال صدق هذه النسبة.
كذلك يصدق الاحتمال التقديري في حالة ما اذا كنا نقطع بوجود خطأ مجمل دون امكانية تحديده، فلو علمنا اننا اخطأنا تحديد العدد الكلي لافراد القرية دون ان نعلم إن كان هذا الخطأ لصالح الزيادة او النقيصة، فان تقدير القيمة الاحتمالية للوفاة تصبح مربوطة بنسبة هذا الخطأ. فلو كنا مثلاً قد علمنا ان نسبة هذا الخطأ الاجمالي بـ (10%)، لظلّت القيمة الاحتمالية للوفاة مقدرة بـ (1%)، رغم قطعنا بخطأ هذه القيمة، لكنها تبقى قيمة تقريبية ليس لدينا ما يبرر رفعها او خفضها طالما كنا لا نعلم إن كان الخطأ لصالح الرفع او الخفض.
الشرط الثالث للتقدير
يتحدد هذا الشرط بوجود سلسلة مفتوحة او غير متناهية مع فرض عدم القطع ببقاء حالة التماثل وكذا عدد الحالات الملائمة ومجموع الحالات التي يجري فيها الاختبار، اي ان احد هذين الشرطين يكون محتملاً بالنسبة للحالات المستقبلية. ذلك اننا نواجه عادة نوعين من السلسلة المفتوحة، احدهما ينطبق عليه الاحتمال الحدي، والاخر ينطبق عليه الاحتمال التقديري الذي نحن بصدد بحثه كالاتي:
1 ـ لو كان لدينا قطع بثبات تماثل الحالات وعددها والملائمة منها فان ذلك يفضي الى ثبات الاحتمال في السلسلة المفتوحة. ففي مثالنا عن قطعة الزهر المتماثلة الوجوه، لو كنّا على علم بأن التماثل سيظل طيلة ما سنقيمه من الرميات، فان النسبة الاحتمالية المحددة بـ (1\6) ستظل ثابتة على الدوام. ولا شك ان هذه القيمة تعود الى الاحتمال الحدي الذي يشترط القطع بتلك الشروط. ومنه يستخلص قانون برنولي الذي يؤكد على اننا كلما زدنا في الرميات او الاختبارات فان النسبة الاحتمالية البعدية لجميع الرميات المقامة انما تقترب شيئاً فشيئاً باضطراد من الاحتمال المحدد سلفاً.
2 ـ يلاحظ في الحالات الاحصائية المفتوحة والغير متناهية اننا حتى لو تمكنا فعلاً من التأكد من التماثل وكذلك عدد الافراد التي تم اختبارها، ومن ثم كان باستطاعتنا ان نحدد القيمة الاحتمالية لكل حادثة ضمن المجموعة المختبرة بحسب ما ينص عليه الاحتمال الحدي، فمع ذلك ليس بالاستطاعة قبول هذه النسبة كأمر ثابت طالما اننا نحتمل او نتوقع طروء التغير المفضي الى عدم التماثل او مجموع عدد الحالات الكلية وكذا الملائمة التي من شأنها تغيير القيمة الاحتمالية الاولية، وعليه لابد من تقدير هذه القيمة واعتبارها غير نهائية، لكونها نسبة قائمة على الاحتمال نظراً الى التوقعات المستقبلية.
فمثلاً على عدم ثبات التماثل انه لو كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه، لكنها مصنوعة من مادة ركيكة، بحيث انها يمكن ان تتشوه ولا تنتظم عند الرميات الكثيرة، ففي هذه الحالة لا يمكننا ان نعتبر كل رمية مستقبلية تعطي ذات القيمة الاحتمالية القبلية (1\6)، طالما نحتمل ان الوجوه في المستقبل سوف لا تتماثل، لذلك فليس أمامنا سوى تقدير الرميات المستقبلية بهذه القيمة، بالرغم من ان الرميات الاولى تعطي قيماً ثابتة لقطعنا بثبوت التماثل والانتظام.
أما ما يخص احتمالات التغير في مجموع عدد كل من الحالات الكلية والملائمة؛ فيمكن ان نضرب عليها المثالين التاليين:
لنفترض انه قد تبين لنا من خلال احصاء دقيق اجري لسنة معينة ان نسبة مراجعة المرضى لأحد المستشفيات من عدد سكان احدى المدن هي (1 %)، وقد تأكد لنا عدد المرضى المراجعين وكذا عدد سكان المدينة، فمع ذلك لا يمكننا ان نعتبر هذه النسبة ثابتة بحيث نطبقها على اي سنة قادمة، وذلك لأن من المتوقع ان لا يثبت كلا العددين من الحالات، باعتبارهما يخضعان الى عوامل كثيرة عارضة تلعب دوراً في حرف تلك النسبة. لذلك تظل النسبة السابقة تقديرية وقابلة للمراجعة والتعديل باستمرار.
كذلك لو تبين لنا من خلال احصاء ان نسبة المدخنين في قرية ما هي (30%)، وذلك بعد التأكد من عدد النفوس وعدد المدخنين منهم، فمع ذلك ليس هناك ما يبرر بقاء هذه النسبة كما هي في المستقبل، ومن ثم تظل النسبة السابقة تقديرية للحالات المستقبلية.
***
ونستخلص مما سبق ان العمل بالاحتمال التقديري لا يتم ما لم يؤخذ باعتبار الاحتمال المنطقي. ذلك ان نشأة النسبة التقديرية انما تتم بجعلها كما لو كانت نسبة حدية فيها يفترض القطع بالشروط بصورة مؤقتة. لكن حيث ان الاحتمال الحدي لا يقوم من غير الاحتمال المنطقي، لذا فان الاحتمال التقديري هو ايضاً لا يمكنه ان يستغني عن هذا الاحتمال. حيث انه الوحيد الذي يسوغ اعتبار النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية، وانه اذا كان لابد من العلم بعدد هذه الحالات لتتحدد من خلالها القيمة الاحتمالية، فانه لا يشترط في ذلك ان يكون العلم قطعياً، بل يكفي افتراضه عند الظن الكبير ومن ثم تقدير القيمة الاحتمالية. أي سواء علمنا قطعاً بعدد الحالات - فضلاً عن التماثل - كما في الاحتمال الحدي، او كنا نظن بذلك كما في الاحتمال التقديري، فان القيمة الاحتمالية المصاغة لابد وأن تمر عبر ما يحدده الاحتمال المنطقي.
كما نستخلص ان هناك ثلاث حالات من الصيغ مما يصدق عليها تطبيق الاحتمال التقديري كالاتي:
احداها فيما لو كان اثبات الشروط المذكورة يحمل قيمة احتمالية كبيرة جداً وإن لم تتحدد بنسبة حسابية معينة، حيث فيها يقدر صدق الشروط، ثم تعامل كما لو كان الاحتمال احتمالاً حدياً، ويظل انه قابل للمراجعة والتصحيح من خلال الاختبارات البعدية، سواء في السلسلة المتناهية او غير المتناهية. فمثلاً اننا لو فحصنا قطعة زهر وتوصلنا الى انها منتظمة بشكل كبير يقارب التمام، وقد تأكدنا ان عدد وجوه القطعة ثابت وكذا الحالات الملائمة، ففي هذه الحالة يمكننا ان نفترض مؤقتاً نفي الفارق البسيط في عدم الانتظام لكونه ضعيفاً جداً، ونعامل الحالة كما لو اننا بصدد قطعة تامة الانتظام، لذلك فان احتمال كل وجه من وجوهها يقدر بـ (100% × 100% × 1\6= 1\6). وهذا التقدير يجعلنا نتوقع ان ظهور اي وجه في الرميات الكبيرة سوف يقترب من هذا المعدل. فهو تقدير مبرر بوجود الانتظام الكبير مع القطع بعدد الوجوه والوجوه الملائمة للحدوث. كما انه يقبل التعديل بحسب ما تظهره الرميات الكبيرة. لذلك فان التقدير يظل وارداً ما لم يتم التأكد من وجود انتظام وتماثل في الامكانات الاحتمالية للوجوه الستة.
والحالة الثانية هو فيما اذا كان من الممكن التأكد او افتراض وتقدير القيمة الاحتمالية للشروط بنسبة احتمالية معينة. ففي مثالنا السابق لو اننا افترضنا عدم الانتظام بنسبة ضئيلة كإن تكون عبارة عن (1%)، مع علمنا القطعي بعدد الحالات الكلية والملائمة، ومن ثم اجرينا النسبة بين عدد الحالات الملائمة والحالات الكلية، فان النسبة الاحتمالية المقدرة بـ (1\6) هي نسبة غير قطعية، بل لها قوة احتمال قدرها (99%). وهذا يعني ان توقعنا لاحتمالات الوجوه المستقبلية في الرميات الكبيرة يقارب النسبة المذكورة بحسب درجة تلك القوة. وتظل النسبة قابلة للتعديل. ونفس الامر يجري فيما لو كنا مترددين بالقطع في الانتظام، كإن نحتمل وجود عدم تماثل بين الوجوه بقيمة ضئيلة، ففي هذه الحالة نفترض مؤقتاً حالة التماثل ثم نحدد قيم احتمال الوجوه الستة ونقدرها كما لو اننا كنا قاطعين بالامر، وندع هناك فرصة لتعديل النتائج بحسب ما تظهره الرميات الكبيرة.
على انه كان من الممكن ان نفعل مثل ذلك حتى في حالة كون النسب الاحتمالية للشروط نسباً ضعيفة لولا ان النتائج المستخلصة ستكون ذات قيم ضئيلة لا يعول عليها. فسواء اننا تأكدنا من هذه النسبة، او كان باستطاعتنا تقريبها حسابياً؛ فان من الممكن ان نحدد القيم الاحتمالية لأي حادثة كما لو كنا نقطع بصدق الشروط ثم نقدرها على ارض الواقع مع أخذ اعتبار ما لها من نسبة احتمالية. فاذا كانت هذه النسبة ضعيفة كما في الفرض السابق؛ فان القيمة الاحتمالية المقدرة ستكون ضعيفة الصحة او المصداقية. فمثلاً لو كنا نعتبر ان شرط التماثل ضعيف يمكن تقديره بـ (20%)، وان شرط العدد الكلي للحالات يمكن تقديره بـ (80%)، ولنفترض اننا نقطع بشرط الحالات الملائمة، اي انها ذات نسبة (100%). وحيث ان الاحتمال التقديري يتوقف على جميع هذه النسب، فان بضرب هذه القيم تكون النسبة عبارة عن (16%)، وهي نسبة ضعيفة تعبر عن ضعف الاحتمال التقديري للحادثة، فلو ان الحادثة قدرناها بـ (1\2)، لكان يعني ان نسبة صدق هذا الاحتمال هي نسبة ضعيفة تقدر بـ (16%).
أما الحالة الثالثة ففيها قد تخضع الحادثة المراد تقدير احتمالها لعوامل مختلفة ومتباينة، وبالتالي من الممكن بطريقة الاحصاء تحديد النسبة الرياضية وتقديرها على الواقع العام للحادثة. أما الواقع الشخصي لها فحيث انه لا يعلم نسبة تماثل امكانها مع غيرها؛ لذا تكون النسبة الرياضية المقدرة عليها هي نسبة غير دقيقة. فلأجل الدقة لابد من دراسة الحادثة دراسة شخصية قائمة على القرائن المختلفة. فمثلاً لو أنّا قمنا بدراسة احصائية لتحديد نسبة المدخنين في بلد معين، وتبين خلالها ان هذه النسبة عبارة عن (20%) من مجموع عدد السكان، فصحيح انه يحق لنا تقدير هذه النسبة على سكان البلد عموماً، الا ان تقديرها على كل فرد من هؤلاء السكان هو تقدير غير صحيح ولا دقيق. فعلى الاقل ان هذه النسبة قد تكون كبيرة جداً بالنسبة لصغار السن، حيث لا يتوقع للطفل الصغير ان يمارس هذه العادة، وقد تنتفي في حالة الرضّع منهم، كما ان هناك تباينات في النسب الاحتمالية بالنسبة للافراد بحسب ما ينتابهم من ظروف ثقافية واجتماعية، ولا يصلح تقدير القيم الاحتمالية على الظواهر الشخصية من هذا القبيل الا بفعل تطبيق الاحتمالات غير السوية.
خلاصة النتائج الاخيرة
يمكن تلخيص ما طرحناه عبر النقاط التالية:
1 ـ ان جميع الاحتمالات كما مرت معنا انما تتأسس إما على الاحتمال السوي، او على الاحتمال غير السوي، وذلك بفعل الاحتمال الرياضي. وبالتالي ليس هناك احتمال مستقل دون ان يعتمد على غيره من الاحتمالات سوى هذه الأقسام الثلاثة من الاحتمال.
2 ـ ان تعريف الاحتمال السوي عبارة عن نسبة المتماثلات في الامكانات نسبة واحدة متساوية. فهو تعريف الشيء بنفسه، لذا انه لا يقبل التعريف. وفي قباله الاحتمال غير السوي حيث انه عبارة عن نسبة غير المتماثلات في الامكانات نسبة متباينة غير متساوية. وهو بالتالي تعريف للشيء بنفسه. أما الاحتمال الرياضي فهو عبارة عن النسبة العقلية بين عدد الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، فهي نسبة تفترض ابتداءً وجود احتمالات مسبقة معبر عنها بالحالات الممكنة، سواء كانت سوية او غير سوية.
3 ـ ان ما يميز الاحتمال السوي هو مبدأ عدم التمييز، في حين ان ما يميز الاحتمال غير السوي هو مبدأ التمييز.
4 ـ ان الاحتمال الرياضي هو الاحتمال الوحيد الذي يسوغ اعتبار النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية. وانه بهذا التسويغ يكون العمل بالاحتمالات الاخرى مبرراً.
5 ـ ان جميع الاحتمالات المشتقة هي احتمالات اخبارية يمكنها ان تتحدث عن الوقائع الخارجية الا الاحتمال المنطقي.
6 ـ تتفق النتيجة في الاحتمالين الحدي والمنطقي، والفارق بينهما هو ان الاول اخباري بخلاف الثاني، كما ان الاول قائم على الثاني ولولاه لما كان صحيحاً.
7 ـ ان الاحتمال القبلي والاحتمال المنطقي ينشآن بشكل صرف طبقاً للاحتمال السوي. كما ان الاحتمال التفسيري ينشأ طبقاً للاحتمال غير السوي. في حين ان كلاً من الاحتمالين الحدي والتقديري رغم انهما ينشآن طبقاً لتبرير الاحتمال السوي، الا ان شرط قيامهما يعتمد في الاساس على الاحتمال غير السوي.
8 ـ بالرغم من ان الاحتمال التفسيري يقوم على الاحتمال غير السوي الا ان به يتم تكوين الاحتمالات البعدية المتمثلة بكل من الاحتمالين الحدي والتقديري. وبذلك ان الاحتمال التفسيري هو الوحيد الرابط بين الاحتمالين السوي وغير السوي.
9 ـ ان العد الحسابي للاحتمال ينشأ بفعل الاحتمال السوي او مبرر مبدأ عدم التمييز. وعليه فليس جميع الاحتمالات ما يمكن اخضاعها للعد الحسابي الا بنوع من المسامحة والتجاوز.
10 ـ رغم ان الاحتمال التفسيري لا يقبل العد الحسابي باعتباره قائماً على الاحتمال غير السوي؛ الا ان به يمكن اثبات القضايا وتفسيرها ومن ثم ايجاد الشروط التي يمكن من خلالها تبرير العد الحسابي.
11 ـ مع ان الاحتمال التفسيري هو أساس نشأة كل من الاحتمالين الحدي والتقديري؛ الا ان الفارق بينهما هو ان الأول ثابت وصحيح لكونه ينشأ طبقاً لشروط قطعية، في حين ان الثاني يتصف بعدم القطع والثبات لكونه ينشأ طبقاً لشروط غير قطعية. أي ان الشروط التي تهيء العمل بالاحتمال الحدي والتقديري هي شروط متقابلة تتوقف على الموقف من القطع. فاذا كانت الشروط تتضمن القطع فالاحتمال القائم عليها هو الاحتمال الحدي، أما اذا كانت لا تتضمن القطع فالاحتمال الناشئ منها هو الاحتمال التقديري.
12 ـ تتحدد مشاكل الاحتمالات البعدية بقضية اثبات كل من التماثل وعدد الحالات الكلية والملائمة.
i Hacking; p.150.