يحيى محمد
لقد عُرف الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيومبنقده الحادللمعرفة عموماً والإستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع أنه ‹‹أثار الفضيحة في الفلسفة››، فكثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً. وهناك من المفكرين من يؤمن بالطريقة الإستقرائية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن أن تجد حلاً لمشكلة الإستقراء كما طرحها هيوم، وينطبق هذا الحال على كل من الاستاذين برود ووايتهيد، فهما يؤمنان بالطريقة الإستقرائية، إلا انهما مع ذلك عبرا عن مشكلتها تعبيراً متقارباً، وهو ان الأول أطلق عليها (فضيحة الفلسفة)، في حين وصفها الآخر بـ (بؤس الفلسفة)1. وقد ذكر الاستاذ كاتز Katz ان المعضلة التي جاء بها هيوم بقي مفعولها سارياً من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة2. وعلى رأي ستوف Stove انه لم يخالف هيوم أحد من الفلاسفة على المأزق الذي طرحه طيلة مائتين وخمسين سنة3. فمع ان بيرس Peirce قدّم الحجة البراجماتية لتبرير الإستقراء والتي ظهر انها كثيرة الشبه بما سعى إليه من بعد ريشنباخ، لكن ما قدّمه بيرس (سنة 1878) لم يكن معروفاً حتى شيوع افكار ريشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي زرعها هيوم4.
وطبقاً للاستاذ سالمون ان من الخطأ التصور بأن ما جاء به هيوم هو انه كشف عن فشل الإستقراء في أن يضمن لنا تحقيق النتائج الصحيحة على الدوام، كالذي توهمه الاستاذ كاتز في كتابه (مشكلة الإستقراء وحلها). فعلى رأي سالمون ان هذا الأمر كان معروفاً قبل هيوم بمدة طويلة، بل ما جاء به هذا الأخير ابعد غوراً من ذلك، وهو انه من غير الممكن باي دليل كان ان نثبت ضمان أي نتيجة ايجابية جزئية عبر المقدمات الصحيحة التي يقدمها الدليل الإستقرائي5. فمثلاً ليس بوسع المشاهدات الإستقرائية ان تثبت لنا ان هذه النار التي امامنا ستحرقنا إذا ما قذفنا بانفسنا فيها. مما يعني ان الدليل الإستقرائي غير منتج تماماً. بل وزاد على ذلك كاتز، معتبراً ان له محاولة مكملة، وهي انه ليس هناك إمكانية تطمح إلى تبرير الإستقراء على الاطلاق، فالإستقراء لديه لا يمكن تبريره فضلاً عن إثباته6.
وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الإستقراء يقوم على محورين أساسيين لا بد من دراستهما معاً:
الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للإستدلال على مبدأ الإستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.
الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى إليه من إستنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الأول.
لكن قبل معالجة هذين المحورين يحسن ان نذكر بأن هيوم يرى بأن المعرفة الصحيحة لا تتخطى نوعين من القضايا، يضاف إلى نوع ثالث غير صحيح، وبالتالي فالقضايا تصبح ثلاث كالتالي:
1ـ عقلية مجردة: وهي تتصف بالضرورة المطلقة وتقوم على مبدأ عدم التناقض، لكنها لا تخبر عن الواقع الخارجي بشيء، أو لا تعطي نتيجة جديدة؛ باعتبار ان المحمول متضمن في الموضوع، أو ان المعرفة مشتقة بالقياس المنطقي ومتضمنة في المقدمة دون زيادة تذكر. وهي المعروفة بالطريقة الإستنباطية.
2ـ واقعية: وهي على العكس بالضبط من المعرفة التحليلية، فهي لا تتصف بالضرورة المطلقة، ولا تتأسس على مبدأ عدم التناقض، ولا ان المحمول متضمن في الموضوع، وليست المعرفة مشتقة عبر القياس المنطقي، ولا انها مستبطنة في المقدمة، وهي تعطي نتيجة جديدة، وتخبر عن الواقع الخارجي بالشيء الجديد. وهي المعروفة بالطريقة الإستقرائية خلافاً للطريقة الإستنباطية السابقة. فهي بقدر ما تخبر عن الواقع الموضوعي بقدر ما تفتقر إلى ضمان الصدق الذي تتصف به الطريقة الأولى الإستنباطية.
3ـ سفسطائية: وهي كل معرفة لا يمكن ارجاعها إلى أي من النوعين السابقين، بمعنى ان مثل هذه المعرفة هي سفسطة واوهام وكلام فارغ ينبغي ان يُقذف بها في النار. وبحسب تصويره ان كل كتاب الهي أو ميتافيزيائي لما كان لا يضمن الاستدلال الرياضي حول العدد والكم، ولا يتضمن الاستدلال التجريبي حول الواقع والوجود العيني، لذا لا بد من القائه في النار لتضمنه السفسطة والاوهام.
ووفقاً لهيوم فان المعرفة العقلية المجردة تعارض المعرفة الواقعية، وكلاهما يعارضان المعرفة السفسطائية. وسنرى ان ما جاء به فتجنشتاين والوضعية المنطقية من تقسيم المعرفة لا يكاد يتعدى ما طرحه ديفيد هيوم الآنف الذكر.
1 ـ محاولة إثبات الدور في الإستقراء
لعل أول من اومأ إلى وجود الدور في الدليل الإستقرائي هو جون لوك، اواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لكن صياغة هذا النوع من التناقض لم تنكشف بجلاء إلا عند هيوم، رغم أنه لا هذا الأخير ولا سابقه لوك قد استخدم مصطلح (الإستقراء) في سياق كلامه عن ذلك التناقض8.
لقد ادرك هيوم انه لا يوجد ما يبرر الدليل الإستقرائي، سواء لجأنا إلى القياس أو إلى الإستقراء ذاته. فمن حيث ان النتيجة في الإستقراء هي غير منتزعة من المقدمات ولا مستبطنة فيها، فهذا يجعله لا يستند إلى القياس، أما لو إعتبرناه مبرراً تبعاً لعملية النجاح الإستقرائي في الماضي، فإن ذلك يجعله واقعاً في الدور9.
وتوضيحاً للنقطة الأخيرة، هو ان العملية الإستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك إفتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث أن هذا الإفتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فإن الإستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الإستدلال الإستقرائي لا بد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الإستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء... الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالإمكان أن نعمم عليها الحالات الأخرى المشابهة لها.
لكن واقع الأمر أننا نستدل على الدليل الإستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور10. وسنبرز هذه الحجة من خلال المثال التالي:
لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. ففي هذه الحالة لا بد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:
الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الأشياء المتشابهة تخضع إلى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.
لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الإستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة، فتبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية فارغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الإستقراء في الماضي تدعونا إلى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، أو إفتراض مصادرة ان الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الأرسطي (الحالات المتشابهة تفضي إلى نتائج متماثلة) والذي هو أيضاً نتاج العملية الإستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.
وهناك عبارات عديدة لهيوم يشير فيها إلى هذا النوع من الإفتراض المتعلق بتشابه المستقبل للماضي، ومن ذلك قوله: ‹‹كل النتائج التجريبية تقوم على إفتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي››، ‹‹وان جميع الأدلة المعتمدة على الخبرة تفترض أساساً كون المستقبل سيشابه الماضي››، ‹‹وان كل التفكير القائم على الخبرة يتأسس على إفتراض ان عمل الطبيعة سوف يستمر على نفس الهيئة باضطراد››11.
فهذه الحالة من الدور هي نفسها التي لم يكترث لها ستيوارت مل فتعرض إلى نقد من جاء بعده، ومن أبرز هؤلاء النقّاد برتراند رسل الذي قال: ‹‹كان الكتاب الذي أذاع شهرته - لجون ستيوارت مل - أكثر من أي شيء آخر هو كتاب (نسق في المنطق). وكان الشيء الجديد في الكتاب بالنسبة إلى عصره هو معالجته للإستقراء الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا إلى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيوم.. وكان رأي مل هو ان ما يعطي مبرراً للسير على هذا النحو - أي بالنسبة إلى تبرير البرهان الإستقرائي - هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته إستقراء على أعلى مستوى. وبالطبع فإن هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الامر››12.
وعلى هذه الشاكلة من عدم الاكتراث ما ذهب إليه كل من ماكس بلاك وبريثوايت، حيث إعتبرا الاطراد في الماضي ونجاح الإستقراء فيه دليلاً على نجاحه في المستقبل، ولم يحسبا ذلك من الدور الباطل، بل هو دور بالمعنى الذي تؤكد فيه النتيجة صحة ما سيكون عليه الأمر في الحالات التنبؤية أو المستقبلية. فهذا الدور عندهما ليس فاسداً ولا معاباً أو منافياً للحجة. وقد تعرضا على ذلك للنقد من قبل الاخرين13.
هكذا ان هيوم يُشْكل على الدليل الإستقرائي بأنه يفشل كلياً في تأسيس المعرفة الخاصة بالتنبؤات المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة غير منتظمة أو مطردة، وانه لا يمكننا ان نعرف، لا قبلياً ولا بعدياً، حقيقة ما عليه الطبيعة من انتظام أو عدم انتظام. فلا يوجد سبب قبلي ولا بعدي يبرر صحة الدليل الإستقرائي، إذ القبلي لا يكشف ولا يخبر عما في الخارج، وان البعدي يعتمد على الإستقراء ذاته؛ فكيف يمكن تبرير ذاته؟!
وقد كان عدد من المفكرين يرون مبدأ انتظام الطبيعة واطرادها أساساً قبلياً لحل مشكلة الإستقراء وتبريره، فلو رأينا ظاهرتين إحداهما تتبع الأخرى على الدوام، فالنتيجة تعني انهما سيستمران على هذا النحو من التتابع في المستقبل طبقاً لذلك المبدأ. وهو مبدأ مستقل عن الزمان والمكان، فلو اننا لاحظنا ان الغاز يتمدد بالحرارة في مكان أو لحظة ما يكون فيها الضغط ثابتاً، فإن ذلك يجعلنا نتأكد من حصول هذه النتيجة على الدوام في المستقبل، وبعض الفلاسفة فضّل صياغة هذا المبدأ بالقاعدة التي تقول: ان نفس السبب ينتج النتيجة ذاتها. أو كما يقول المنطق الأرسطي: (الحالات المتشابهة تنتج نتائج متماثلة). لكن المعترضين على هذا المبدأ رأوا انه وضع كتبرير لحل المشكلة الإستقرائية مع انه يحتاج إلى تبرير، فهو ليس مبدأً منطقياً بحيث ان مخالفته تفضي إلى التناقض، وبالتالي فهو مستمد من التجربة، الأمر الذي يفضي به إلى الوقوع في الدور، مثلما اكد على ذلك هيوم14. ومع انه ليس بالضرورة ان يكون كل مبدأ قبلي قائماً على مبدأ عدم التناقض، لكن لا شك من أنه لا بد أن يقوم على مبدأ الضرورة العقلية إن كان عاماً وشاملاً بلا حدود.
وعلى رأي هيوم ان خبرتنا الماضية ليست فقط لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل إنها أيضاً لا تبرر ذلك على وجه الإحتمال، إذ الإحتمال على رأيه مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الإستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه15؟!
وعلى حد قوله: ‹‹ان الإحتمال يتأسس على إفتراض المشابهة بين تلك الموضوعات التي لنا فيها خبرة وتلك التي لم نجربها بعد››16. فالإحتمال المتعلق بمعرفة الواقع عند هيوم ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإحتمال التخميني الخاص بالمصادفات، والآخر الإحتمال البرهاني الخاص بالاطرادات السببية، ويتصف بأنه ينشأ في البداية على أساس الأول. إلا ان كليهما منزوعان عن الإنطباعات الحسية التي تفسرها العادة بحسب كثرة الاحساس بوقوع الحوادث المتشابهة17. وهما على هذا عاريان عن الشكل المنطقي كما هو في ذاته18.
مهما يكن فالملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الإستقرائي على أساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه حول تفسير الإحتمال برده إلى الإنطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.
2 ـ الإستقراء وتحليل السببية
في هذا الجانب يعتمد هيوم في كشفه لطبيعة الإستقراء على تحليل السببية منطقياً ونفسياً بالصورة التي نوضحها كما يلي:
الإستقراء والتحليل المنطقي للسببية
في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية أم لا؟ فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الإستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الإفتراض إلى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟
ان هيوم بإعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه إلا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.
وإذ يمكن أن نتساءل: هل هناك سبيل - مثلاً - لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم - ومن حقه ذلك - بأن كل ما نراه إنما هو وجود إقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر أكثر من ذلك. وهو يضرب لنا مثلاً على ذلك، ويقول بأن ‹‹كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة أخرى، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية››19.
بهذا يصل هيوم إلى انه لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وهو بذلك لا يفرق إن كانت السببية خاصة أو عامة، إذ كلاهما لديه يخضعان إلى نفس الحكم. فهو يعتبر السببية العامة ليست من القضايا التحليلية التي تتصف علاقاتها بالضرورة والمنطقية كالرياضيات ومبدأ عدم التناقض؛ حيث النتائج فيها منتزعة من نفس مقدماتها، لهذا كانت لا تخبر بشيء عن الواقع الخارجي20. وهو إذ يعتبر مبدأ عدم التناقض أساس هذه القضايا؛ فإنه يرى ان كل قضية لا يتناقض خلافها معها فهي تحتاج إلى دليل من التجربة؛ بخلاف القضية التي تنطوي على التناقض.
فمثلاً ان القضية القائلة ‹‹ان الاعزب هو من لا زوجة له›› هي قضية تحليلية؛ بإعتبار ان خلافها ينطوي على تناقض، وذلك لأن معنى المحمول هو عين الموضوع. أما مع السببية العامة فالأمر يختلف تماماً، إذ كشف هيوم - بحق - ان خلافها لا ينطوي على تناقض، إذ لا مانع منطقياً من وجود حوادث بدون اسباب، أو على حد تعبيره الخاص: ‹‹ليس ثمة شيء ينطوي على شيء آخر››21، مما يعني انها ليست مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فلا بد ان تحتاج إلى دليل من التجربة. لكن كيف للتجربة ان تدل عليها وهي عاجزة عن كشف الضرورة؟!
بذلك التحليل يقرر هيوم ان لا سبيل إلى إثبات الضرورة ولا إلى نفيها، فهي في كل الأحوال تظل مشكوكة الوجود ابداً. والدليل الإستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لإثبات التعميم في العلاقات الخارجية المطردة.
وقد كانت هذه المشكلة التي طرحها هيوم موضع اهتمام الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت الذي حاول حلها بإفتراض العلاقة السببية كمقدمة لا غنى عنها، فاعتبر ان موضوعات أحكامنا الإدراكية مبنية على تلك العلاقة، وان كل سببية خاصة تفترض اطراد الاتصال في هذه العلاقة، وبالتالي فإن اطراد الطبيعة يشمل كل العالم الظاهر القابل للإدراك. لكن هذه الفكرة لم تقنع النقاد، إذ ان نظرية كانت لم توضح وجه اللزوم العقلي الذي تحتاجه عمليات الإستقراء، ولم تبيّن لماذا مثلاً تتفوق فرضية على أخرى تبعاً لعدد ما تقدمه من أدلة وبيّنات22.
***
هكذا هناك عدد من النقاط الأساسية التي يمكن إستنتاجها من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم، وهي كالآتي:
1 ـ إن أساس معرفة السببية يعود إلى التجربة لا العقل، بإعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.
2 ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها أو تنفيها.
3ـ على هذا فإن عدم إثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الإستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.
هذه أهم النقاط التي نستخلصها من تحليل هيوم للسببية وعلاقتها بالدليل الإستقرائي. وقد عرّضها بعض المفكرين للنقد والتحليل، ومنهم المفكر الصدر، فهو يختلف مع هيوم حول النقطة الأولى المتعلقةبتفسير أساس معرفتنا بمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض أو غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الأولية المنطوية على الضرورة23. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، إذ كما عرفنا أنها تدور لديه بين ان تكون تجريبية أو مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الصدر لا تنضم إلى أي من هذين المنبعين.
وحول النقطة الثانية يعتقد الصدر خلافاً لهيوم ان بإمكان التجربة إثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها أو العامة، مؤكداً بأنه حتى مع استبعاد الجانب القبلي للسببية العامة فإن من الممكن إثباتها بالتجربة24. كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: ‹‹الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الإحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي.
فالخبرة + الإحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية››25.
أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، إذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت - على الأقل - الضرورة في العلاقة السببية. لهذا رأى ان من الممكن إثبات التعميم استناداً إلى إثبات الضرورة إستقرائياً. لكننا نعتقد انه لا سبيل لإثبات الضرورة بالتجربة. وبالتالي فإذا كان من الممكن تبرير الضرورة في السببية العامة بإعتبارها قضية أولية، فإن ذلك لا يصح مع الضرورة في السببية الخاصة، حيث انها ليست من القضايا الأولية، كما انه لا يمكن إثباتها عبر التجربة. الأمر الذي ينعكس أثره على التعميم في القضية الإستقرائية، فطالما ان هذه الضرورة لا يمكن إثباتها، فلا مجال - إذا - لإثبات التعميم أو تبريره.
وقد نتساءل أخيراًإنه إذا كان هيوم قد شكك في قيمة الدليل الإستقرائي ونتائجه فكيف كان يتعامل مع الأشياء في حياته اليومية؟ فعلى سبيل المثال: إذا أراد أن يجهز لنفسه ابريقاً من الشاي، ألم يعتقد أنه سيحتاج إلى استخدام الحرارة والماء وما إلى ذلك من أمور؟ واذا اراد ان يرجع إلى بيته فهل كان يشك في بقاء مكانه على ما تركه؟ وعلى العموم: هل كان الشك المنطقي الذي أبداه هيوم في الدليل الإستقرائي منعكساً على طريقة حياته الخاصة؟
لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الشك عن نفسه وهو يجيب عن مثل تلك الأسئلة: ‹‹لو سئلت هنا عما إذا كنت اوافق بصدق على هذه الحجة التي يبدو انني أجهد نفسي من اجل دعمها، وعما إذا كنت بحق واحداً من هؤلاء الشكاكين الذين يرون ان كل شيء غير مؤكد، وان حكمنا على أي شيء لا يتم بأي قدر من الحقيقة أو البطلان؛ لأجبت ان هذا السؤال لغو في صميمه، وانني لم اكن ابداً اقول بهذا الرأي باخلاص وثبات، ولا كان أي شخص آخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة ان نصدر أحكاماً مثلما نتنفس ونشعر.. أما الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل فإنه في الواقع قد دخل في نزاع ليس فيه معارض››26.
بيد أنّا نتساءل: ما هي هذه الطبيعة القاهرة التي يمكنها أن تجعل أفكارنا العملية متسقة لا يشوبها خلل ولا شك؟ وعلى إفتراض أنها تفعل ذلك، فهل هناك علاقة بينها وبين التفكير المنطقي المجرد الذي انتهى إليه هيوم؟ وهل كان هذا الفيلسوف يعاني عقدة من التناقض بين ما يملي عليه العقل وبين ما تضفي عليه الطبيعة من أحكام مخالفة؟
هذه تساؤلات تجعلنا ندخل إلى التحليل النفسي للدليل الإستقرائي كما رسمه لنا فيلسوف الشك. فلنبحث أولاً عن الطبيعة القاهرة التي إعتبرها هيوم مصدر التفكير المنسجم مع الحياة العملية. فما هي هذه الطبيعة يا ترى؟
التحليل النفسي للسببية
لم يكن أمام هيوم وهو يواجه مشكلة مستعصية غير التعويل على طريق آخر لبحث الموضوع؛ عله يجد ما يخفف عن المشكلة. فقد ترك العقل المجرد بعد ان وجده خالياً من الأدلة والمبررات، واتجه نحو ‹‹الطبيعة›› وهي تعمل بتلقائية دون اكتراث بصاحبها. فقد حاول هيوم ان يلقي ضوءً على الشروط التي تقوّم فكرة السببية، واستخدم لذلك مثاله الخاص بكرة البيلياردو، إذ كثيراً ما نعبر عن حركة الأولى بأنها سبب لحركة الثانية. وفي هذا المثال لاحظ وجود إقتران مكاني وتعاقب زماني بين الحادثتين، لكنهما مع ذلك لم يكفيا عنده ان يحققا ظرف السببية، فأقر بوجود شرط ثالث هو المعبر عنه بـ ‹‹الضرورة›› التي تجعل الحادثة الثانية واجبة الوجود حين تتحقق الحادثة الأولى.
تلك هي مقومات السببية عند هيوم الذي إعتبر الشرطين الأولين عبارة عن صفتين محسوستين بخلاف الشرط الأخير. لهذا حاول ان يبحث عن مصدر صفة هذا الشرط في افكارنا، طالما ان التجربة لا يسعها الكشف عنه. فحين ننظر إلى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن أن نتحسس بإقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فإنه يتمدد؟
لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها الاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالإقتران والتعاقب باطراد فإنه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت إحدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الأخرى إلا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الأشياء الخارجية. إذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الأخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر إلى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم ‹‹تداعي المعاني››27.
من ذلك التحليل توصل هيوم إلى ان يعرّف العلة باحدى صيغتين كالتالي: ‹‹شيء سابق ومقترن بشيء آخر، حيث تقع كل الأشياء المشابهة للأول في موقع مشابه من السبق والإقتران بالنسبة للأشياء التي تشبه الأخير››. أو انها ‹‹شيء سابق ومقترن بشي آخر ومتحد معه، بشكل يجعل فكرة الواحد منهما يدفع العقل إلى تكوين فكرة الآخر، وإنطباع الواحد منهما يشكل فكرة أكثر وضوحاً عن الاخر››28.
ومع ان هيوم يؤكد على دور العملية الذهنية في تكوين فكرة الضرورة لدى العلية29؛ إلا انه يعترف بعجزه عن تفسير هذا النشاط النفسي، فكما يقول: ‹‹ان في علاقة التداعي تناقضاً صريحاً: كيف يمكن أن يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي››30.
والنتيجة التي يخرج بها هيوم من تحليله السابق هو انه لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، أو ان تحدث الأشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.
تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الإستقرائي من الناحية النفسية، بردها إلى مركز العمليات اللاعقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.
نقد التحليل النفسي
تتلخص النتائج التي توصل إليها هيوم في تحليله السابق إلى هاتين النقطتين:
1 ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الإقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.
2 ـ يستحيل تبرير الدليل الإستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي تُنتزع فيها الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.
وحول النقطة الأولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فإنها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها إلا لمرة واحدة فقط. كذلك فإن الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزال لم يسبق أن خبرناه من قبل؟ هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني إذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟
على أن تفسير ‹‹الضرورة›› بواسطة تداعي المعاني يقتضي الاقرار بدءاً بالسببية. إذ لم يكتفِ هيوم بالاعتراف بالضرورة النفسية وإنما سعى ليبحث عن سبب وجودها. الأمر الذي اوقعه بالدور، فهو يفسر السببية من خلال التداعي في الوقت الذي يجعل العلاقة بين التداعي والضرورة النفسية هي علاقة قائمة على السببية. أي حيث هناك تداعي معاني فهناك ضرورة، وهذا الإقتران والتعاقب بين الظاهرتين النفسيتين باطراد هو ذات البند الذي إعتبره هيوم شرطاً لتحقق ما نحسبه سببية في الواقع الموضوعي، أي ان الظاهرتين النفسيتين يخضعان إلى حكم السببية، مما يتولد عن ذلك الدور والتسلسل.
كما ان رغبة هيوم لمعرفة سبب اتخاذ العملية النفسية لإسلوب التداعي بدلاً عن إسلوب الإنفصال بين الافكار؛ إنما هو دليل آخر على ما في قرارة نفسه من ايمان بالضرورة السببية، بحيث لم يحتمل قط ان تكون العلاقة بينهما صدفة مطلقة.
وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح إلى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات إنطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الإنطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز إلى قوانين الإحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي إلى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي إليه التداعي. فعلى سبيل المثال - وكما يقول المفكر الصدر -: ‹‹نفرض أن إنساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد إقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سبب لهذه الظاهرة. ومرد الإستنتاج - في رأي هيوم - إلى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه - االذي قدم إليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم - كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي إلى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول إعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة››31.
أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الإستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الأحكام الإستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الإستقراء، وهو منطق الإحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.
هيوم بين الطبيعة والعقل
لقد أدرك هيوم المأزق الحاد الذي وصل إليه في تفسيره للمعرفة بشكل عام، حيث وقع ضحية طرفين متناقضين يتنافسان عليه، فوقف وقفة المتردد الحائر بين ما تضفيه عليه أفكاره وتأملاته، وبين ما تجذبه إليه الطبيعة من التفكير العادي كبقية الناس، أو التعامل كما تريد له الطبيعة أن يتعامل. وكأنه في ذلك يقف بين الجنة والنار؛ بين ما تفيض عليه الطبيعة من ثقة وحنان، وبين ما يهدم له العقل من تفكير.
ولعل من المفيد أن أنقل نص هيوم وهو يعبّر عن المأزق المأساوي الذي عاشه فكتب يقول: ‹‹ولكن ماذا تراني أقول هنا؟ بأن التأملات الراقية جداً والميتافيزيقية لا تؤثر فينا؟ من الصعب عليّ أن لا أتراجع عن هذا الرأي وأرفضه حين أنظر إلى شعوري وتجربتي الحاضرين. إن مظهر هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الإنساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحت معها مستعداً لرفض أي إعتقاد وإستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه أكثر إحتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟ ما هي العلة التي أشتق وجودي منها؟ والى أي شرط يجب ان أعود؟ وحظوة من يجب ان ألتمس، وغضب من يجب ان أرهب؟ وما هي المخلوقات التي تحيط بي؟ على من استطيع التأثير؟ ومن يستطيع التأثير علي؟ لقد اربكتني كل هذه الاسئلة، وبدأت اتخيل نفسي في أكثر الحالات يأساً، محاطاً بأحلك الظلمات، وقد فقدت القدرة على استعمال أية ملكة أو عضو. ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي أو بتذكر ما، وإنطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث أو أربع ساعات من اللهو ارجع إلى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من أن ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط إلى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بأنه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني إلى الخمول والملذات؟ وان عليّ ان انزوي إلى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته إلى الحقيقة واليقين؟ ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الإنسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فإن حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الان..››32.
1انظر:I. Hacking, The Emergency of Probability, Cambridge University Press, 1975, p.31. And see also: J. Katz, The Problem of Induction and its Solution, The University of Chicago Press, Chicago, 1962, p.17.
2 Katz; p.45.
3 انظر:Stove; p.14.
4 Katz; p.45.
5انظر: C. Wesley Salmon, ‘The Concept of Inductive Evidence’, in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.49.
6 Katz; p.99. .
7دايفد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ترجمة محمد محجوب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008م، ص52 و208، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
8انظر: L. Jonathan Cohen, An Introduction to the Philosophy of Induction and Probability, Oxford University Press, New York, 1989, p. 176ـ177. .
9 Katz; p.43. .
10 انظر: تحقيق في الذهن البشري، ص61ـ63.
11 Stove; p.8.
12 برتراند رسل: حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد (72)، 1983م، ج2 ، ص219.
13انظر:Richard Swinburne, Introduction; The Justification of Induction. edited by Swinburne, Oxford University Press, 1974, p.13. .
14انظر:Madden, ‘Introduction; The Riddle of Induction’, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.288ـ289.
15 عصر التنوير، ص243ـ244. كذلك:John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis, 3rd. ed. London, p.199. .
16 Stove; p.8.
17دايفد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ص80. ديفيد هيوم، ص79ـ80.
18فرّق هيوم بين الإحتمال المنطقي والإحتمال التخميني من خلال مثال عرض فيه علة ترجيحنا للعدد المكرر على أربعة جوانب دون العدد المكرر مرتين في قطعة زهر خاصة؛ فاعتبر الحكم المنطقي يقضي بتساوي الإحتمالات في الجوانب الستة جميعاً، لكن الحكم الذي رجح العدد الأول يرجع إلى تبرير نفسي، إذ على رأيه ان الخيال حين يمر على الجوانب الستة مراً سريعاً؛ يجعل الصورة الذهنية للعدد المكرر أربع مرات أوضح وانصع من الصورة الذهنية للعدد الآخر المكرر مرتين، وذلك بسبب فارق الزيادة للإنطباع الحسي (ديفيد هيوم ص80ـ81).
19 عصر التنوير، ص240. كذلك: ديفيد هيوم، ص71ـ72 و86.
20 نشأة الفلسفة العلمية، ص85.
21 عصر التنوير، ص239.
22 Cohen; 1989; p.178ـ179. .
23الاسس المنطقية للإستقراء، ص111و114.
24 لاحظ، ص78ـ79.
25 ما يبدو في هذا النص انه يناسب إثبات السببية الخاصة دون العامة، لتضمنه القول بعجز التفكير العقلي المحض عن إثبات العلية أو نفيها، ولو كان المراد منه السببية العامة لما صحّ هذا الكلام، كما ان مناسبة ذكره إقترنت بمناقشة هيوم حول السببية الخاصة، لكن في جميع الأحوال ان مفاد النص ينطبق على كلا السببيتين (الأسس المنطقية للإستقراء، ص117).
26 حكمة الغرب، ج2 ، ص140ـ141.
27 انظر: تحقيق في الذهن البشري، ص76 و83ـ84 و107 و111.
28 عصر التنوير، ص275.
29 أصبح من المعروف ان تحليل هيوم يشابه ـ إلى حد كبير ـ ما نصّ عليه الغزالي في تفسيره لعلاقة السببية الخاصة؛ رغم ما بينهما من اختلاف مذهبي كبير. فمثلاً يقول الغزالي: ‹‹الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل.. الخ›› (الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الخامسة، ص239).
30 يوسف كرم: الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، ص121.
31 الأسس المنطقية للإستقراء، ص123.
32عصر التنوير، ص325ـ327.