يحيى محمد
من الناحية الإبستيمية تنقسم المنظومات المعرفية الى قسمين، فهناك المنظومات المغلقة، وفي قبالها المنظومات المفتوحة التي تتقبل التمحيص والفحص الخارجي، كما تتقبل منطق الترجيح والاحتمال، كالذي عليه المنظومات العلمية.
والسؤال المطروح: ما معنى كون المنظومات مغلقة او مفتوحة؟ وما هي المعايير المتبعة في التعامل والتحقيق مع هذين النوعين من المنظومات؟
إن ما نقصده بالمنظومات المفتوحة هو ان تكون قابلة للبحث والفحص خارج اطار ما تعارف عليه من المسلمات الضمنية الخاصة، اذ تسحب للتحقيق الى ساحة خارجية تتصف بالقبول باعتبارها موضع ثقة الجميع. ومن ابرز المعايير المتفق عليها معيار الواقع وحسابات الاحتمال. فكل منظومة تتقبل مثل هذا الاختبار الخارجي فانها تكون مفتوحة، والا فهي مغلقة، مما يجعلها موضع جدل ونقاش لا ينتهي، لعدم القدرة على تمحيصها بنحو محايد وبعيد عن الاعتبارات المعرفية الخاصة. والحوار فيها يصبح كحوار الصم والطرشان. فهي كمن يدعي ان عنده علماً بعدد النجوم ويتحدى من يكذبه على علمه هذا. مع أنه لا يمكن اثبات صحة دعواه او نفيها. وبالتالي لا يمكن التفاهم ما لم يتم الاستناد الى المشتركات، سواء كانت هذه المشتركات عبارة عن حقائق معرفية مستنتجة، او عبارة عن قواعد واعتبارات معرفية يتم التفاهم على ضوئها.
على ان هذا التقسيم لا يوازي تقسيم القضايا الى تجريبية وميتافيزيقية، فبعض القضايا الميتافيزيقية تتقبل الاختبار عبر منطق حسابات الاحتمال والواقع، وعلى رأسها المسألة الالهية، وفي القبال هناك قضايا واقعية لا تقبل الاختبار، ولو من الناحية العملية، مثل حساب عدد النجوم في الكون، وحجم الفضاء1.
وبعبارة ثانية، هناك شكلان من التحقيق المنطقي، احدهما مباشر والآخر غير مباشر. ويتصدى التحقيق الأول للنظريات المعرفية فيقوم بفحصها من الداخل مباشرة، ليقرر إن كانت النظرية ذات مضمون قوي من الناحية المعرفية أم لا؟ في حين يمتاز التحقيق الثاني بأنه لا يتمكن من القيام بفحص النظرية من الداخل مباشرة، لذا يلجأ الى طريقة اخرى غير مباشرة. فلو فرضنا أننا أمام منظومة معرفية تتقبل التفكيك الى نسقين، أحدهما يقبل الفحص والتحقيق المباشر بخلاف الآخر، ففي هذه الحالة يمكننا فحص النسق الأول لنستخلص منه النتائج المعرفية ومن ثم تقديرها كقيمة احتمالية على النسق الثاني. وتشابه هذه الطريقة ما يطلق عليه في علم الكلام بقياس الغائب على الشاهد، وهو الدليل المستخدم للكشف عن القضايا الخارجية من دون أن تكون له علاقة بتقييم النظريات المعرفية كما هو الحال في طريقتنا. واذا أردنا أن نعبّر تعبيراً يتسق مع القاعدة الكلامية الآنفة الذكر؛ فيمكن أن نقول بأن طريقتنا تعمل على اختبار الغائب بالشاهد المعرفي، فيتم قياس النسق الذي لا يقبل التحقيق المباشر (كغائب) على النسق الآخر الذي تمّ اختباره وفحصه مباشرة (كشاهد).
تفكيك المنظومات المغلقة للفحص والتحقيق
قلنا ان المنظومات المغلقة هي تلك التي لا يمكن التحقيق فيها مباشرة لكونها مجردة عن الواقع، كما لا يعلم عن حقيقتها شيء من خلال البحث الديني إن كان لها علاقة بهذا المجال. ومع ذلك يمكن فحصها عبر منطق الاحتمالات، وهو ذات المنطق الموظف للتحقيق في المنظومات المفتوحة. لكن يشترط في ذلك أن تكون لها القابلية على التجزئة والتفكيك، بحيث يمكن تقسيمها الى منظومتين: مفتوحة ومغلقة، فنستعين بالأولى على الثانية، بأن نكشف عن حقيقة ما تتضمنه المنظومة المفتوحة من قيم معرفية لنطبقها على المنظومة المغلقة، على شاكلة اختبار الغائب بالشاهد كما ذكرنا. وكلما كانت المنظومتان متفقتين على أصول مشتركة او طرق استدلالية متقاربة فذلك يجعل من التحقيق أكثر دقة. أما المنظومات التامة الإغلاق، اي تلك التي لا يتوفر فيها عنصر القابلية على التفكيك ولا يمكن اجتزاء منظومة مفتوحة منها، فسوف لا يمكن إخضاعها للتحقيق، سواء المباشر منه او غير المباشر. لكن توجد طريقة اخرى للتعامل معها، وهي ايضاً قائمة على منطق القيم الاحتمالية، كما سنعرف.
وكمثال بسيط على القضايا التي تتقبل التحقيق غير المباشر عبر منطق التفكيك، ما نلاحظه في حياتنا اليومية من شواهد كثيرة، فمثلاً لو علمنا بزيد من الناس أنه يكذب علينا في قضايا معينة، لكنا لا نعلم مدى صدقه في غيرها من القضايا، فهل يحق لنا منطقياً توقع كذبه في هذه الأخيرة؟ بمعنى هل يؤثر علمنا في الحالة الأولى على شكنا في الثانية أم لا؟
وكذا قد نعكس المسألة، وهو أن نعلم بأن زيداً كان صادقاً معنا في قضايا معينة، لكننا لا نعلم عنه شيئاً في غيرها، فهل ينبغي علينا توقع صدقه في غيرها أم لا؟
لقد حصلت مثل هذه الحالة مع النبي الأكرم، فالذي جعل الكثير من الناس يؤمن برسالته هو ما عُرف بصدقه وأمانته قبل نزول الوحي، وأن الناس استدلوا من هذا الصدق والأمانة في الحياة العامة على صدقه في ادعاء النبوة.
وتتعلق هذه المسألة بالقيم الاحتمالية، وحولها ترد مسألتان كالتالي:
1ـ هناك نوعان من الاحتمالات، منطقي وذاتي. فمثلاً على النوع الاول لو كنا نعلم بانه لا توجد في الصندوق سوى ثلاث كرات مختلفة الالوان، كإن تكون بيضاء وسوداء وحمراء، فإن الاحتمال المنطقي لأي من هذه الكرات عند السحب العشوائي هو الثلث، ويظل هذا الاحتمال ثابتاً لا يتغير الا بتغير شروط السحب وعدد الكرات. لكن غالباً ما نواجه في الحياة الصنف الاخر من الاحتمال (الذاتي)، فهو يشكل اغلب اعتباراتنا من الاحتمالات. ويتميز هذا النوع بكونه يتقبل التعديل والتغيير خلافاً للنوع الاول المنطقي. كما أنه مفيد في الحياة العملية، وتعتمد عليه شركات التأمين وغيرها، كما تستفيد منه البحوث العلمية في مختلف المجالات. وهو المعني في بحثنا عن علاج الأدلة والحكم عليها بالضعف او القوة من الخارج فيما لو لم نكن على علم بها من الداخل، استناداً الى قضايا اخرى نتخذها كمقاييس معتبرة الدلالة، رغم أن الدقة تأتي عبر البحث المباشر من الداخل.
اذ تشابه هاتان الطريقتان – من البحث المباشر وغير المباشر - القيام بحساب الاحتمال في تشخيص مرض السرطان - مثلاً - لشخص محدد، فتارة نقدر احتمال اصابته بالسرطان وفق حساب عدد المصابين بهذا المرض مقسوماً على عدد السكان، فيكون ناتج القسمة يمثل الاحتمال المتعلق بالمرض لأي شخص نجهل حاله وسط عدد السكان المفترض. لكن تارة اخرى يمكننا تقدير نسبة احتمال اصابته من خلال الفحص والاختبار المباشر. ولا شك ان العملية الثانية دقيقة خلافاً لما قبلها، لكن الطريقة الأولى ضرورية عند التعامل مع المجاميع الكبيرة، كالذي يجري استخدامه في شركات التأمين وغيرها، والنتيجة المقدرة تكون مقدرة على الكل وليس على فرد لحاله، بخلاف الطريقة الثانية التي تتعلق بالفرد ذاته، وهي دقيقة لكنها ضيقة الأُفق. وكذا ان من الضروري البحث في المنظومات المعرفية تبعاً لهذه المعدلات ونسب الاحتمالات اعتماداً على المماثلات والنظائر التي يمكن الاطلاع على حقيقتها، وفق قاعدة أُفق التوقع والانتظار. ويشابه هذا التحقيق البحث الجاري في العلوم الطبيعية، اذ تمثل المنظومة المعرفية المغلقة الفرض الذي ينبغي التحقيق فيه تبعاً لما يترشح عنه من لوازم، وهذه الأخيرة هي التي تخضع للتنبؤ والفحص المباشر دون الفرض. وكذا الحال في المنظومة المعرفية، حيث لا يمكن اخضاع المغلقة منها للفحص المباشر والتجريب، بل ما ينوب عنها من المنظومة المفتوحة المقترنة بها او المجتزئة عنها.
2ـ لقد اختلف الغربيون حول معالجة الحالة التي نحن بصددها من تأثير بعض الاحتمالات على البعض الاخر، عندما ينكشف لنا العلم بالاول. وأبرز مثال على ذلك حقيبة لابلاس الذي افترض وجود حقيبة ذات خمس كرات، ونملك حولها ثلاثة احتمالات متساوية، فهي إما ان تحتوي على اربع كرات بيضاء، او ثلاث كرات بيضاء، او جميعها بيضاء، وقد صادف ان سحبنا عشوائياً ثلاث منها فظهرت كلها بيضاء. ولعل من الطبيعي في هذه الحالة ان نتوقع ان تكون الحقيبة هي ذات خمس كرات بيضاء، ولو سحبنا كرة رابعة لتوقعنا - ايضاً - أن تكون بيضاء. وتعرف هذه الطريقة بمبدأ التعلم من التجارب السابقة، وقد اختلف حولها المفكرون، فمنهم من لم يعوّل عليها كالمفكر الصدر2، وكذا العديد من الغربيين، مثل بيرس (سنة 1883) وفتجنشتاين wittgenstein (سنة 1921)، بل وحتى كينز في احد فصول كتابه (رسالة في الاحتمال)، رغم انه في الفصول الأخرى أكد ببلاغة تامة على ضرورة التعلم من التجربة والخبرة3. وبحسب هذه الطريقة انه لو كانت لدينا حقيبة تحوي ألف كرة وكنّا نتردد باحتمالين متساويين فيما اذا كانت الكرات كلها بيضاء او ان واحدة منها - فقط - سوداء، فعلى ذلك الرأي يفترض انه لو سحبنا - عشوائياً - كل الكرات عدا واحدة، وتبين انها بيضاء جميعاً، فسوف لا يؤثر ذلك على احتمال لون الأخيرة المقدر بـ (1\2)، وهو خلاف الوجدان والواقع.
وقد ذهب أحد الباحثين الى ان هناك اختلافاً حول نتائج هذه الحسابات الاحتمالية بين صاحب النظر الموضوعي للاحتمال وصاحب النظر الذاتي له. فمثلاً لو كان لدينا جرة فيها كرات غير معلومة اللون، فإن سحب واحدة منها عشوائياً ومن ثم ارجاعها سيجعل من احتمال سحب الاخرى موضع اختلاف في تحديد القيمة الاحتمالية لها. فصاحب النظر الموضوعي يرى ان احتمال سحب الثانية مستقل عن واقعة سحب الأُولى، ولنفرضها كانت سوداء، بتبرير مستمد من عدم وجود علاقة سببية بين لوني الكرتين، او انه لا يوجد اتصال سببي او تجريبي بين الحادثتين للسحب، وبالتالي فإن احتمال سحب الثانية لا يختلف عن احتمال سحب الاولى. لكن الأمر مع صاحب النظر الذاتي للاحتمال مختلف، كما هو الحال مع الاستاذ (فنتي) الذي يرى بأن الحوادث في تعاقب السحب ليست مستقلة كلياً، فهي ليست مستقلة بالنسبة الى المعرفة، او الى درجات الاعتقاد. فتتابع الحوادث يزودنا بالدليل على نتائج الحوادث المستقبلية، او انه يقوم بالتأثير على درجات الاعتقاد حول الفرضيات المستقبلية4. ونعتقد بأن مبررات الاعتماد على مبدأ التجارب السابقة قوية لا يمكن اغفالها، وانها تقبل التموضع منطقياً، ومن ثم الاعتماد عليها في الحسابات المتأثرة بتلك التجارب5.
ويمكن تطبيق هذا المبدأ على الجوانب المعرفية بإخضاعها الى منطق الاحتمالات، أي تطبيقه على المنظومات المغلقة شرط أن تتقبل التفكيك وإجتزاء المنظومات المفتوحة منها، كما عرفنا.
وتتجسّد ضرورة النتائج التي نحصل عليها في البحث غير المباشر في حالتين: إحداهما عند الشك البيّن في الاطروحة التي تتضمنها المنظومة المغلقة. أما الأخرى فلا تتعلق بمثل هذا الشك الظاهر. فقد يصادف أن نعرّض ما يصلنا من نتائج البحث التقليدي للتحقيق المنطقي، فحتى لو كنّا على ثقة – نسبياً – بالبحث التقليدي؛ فإن النتائج التي نحصل عليها بالتحقيق المنطقي ستؤثر فيها، سواء كان ذلك حول المنظومات المفتوحة او المغلقة.
ويحضرنا بهذا الصدد نموذجان، احدهما مقتبس من علم الرواية والحديث، والآخر من المنظومة الفلسفية الوجودية.
ففي علم الرواية والحديث، يوجد كم كبير من الروايات التي تتوزع على موضوعات متعددة؛ كالفقه والعقائد والتفسير والإخبار عن القضايا التي لها علاقة بالشؤون العلمية والطبيعية وما الى ذلك، وقد يكون مصدر هذه الموضوعات المتعددة واحداً، فمثلاً قد نجد راوية، او سلسلة رواة معتمدين يروون موضوعات مختلفة، ومن ذلك الرواية في الشؤون الفقهية والعقائدية والإخبارية. لكن حيث أنه لا يمكن التحقيق في قضايا الروايات الفقهية والكثير من القضايا العقائدية مباشرة لغرض التعرف على دقة النتائج التي نحصل عليها، اذ تعجز مباضع الاختبار ان تطولها باعتبارها لا تخبر بشيء عن واقع الحياة وامور الطبيعة، وبالتالي ليس بوسع الاختبارات العقلية والحسية والعلمية ان تفعل شيئاً ازاءها، لذا سنلجأ الى التحقيق فيها بصورة غير مباشرة؛ وفق أُفق التوقع والانتظار، عبر التحقيق المباشر في الروايات الخاصة بالشؤون الإخبارية، لا سيما ما يتعلق بعلوم الطبيعة، شرط ان تكون المعارف المتعلقة بهذه الشؤون لم يتم التحقق منها تجريبياً وقت صدورها. ونحن نزاول هذا الإختبار في حالتين، فإما أننا نشك فعلاً في سلسلة الرواة المعتمدين وفي الطريقة المعتمدة في الرواية، او كنّا لا نشك بذلك، اذ في كلا الحالين أن نتائج البحث غير المباشر ستؤثر سلباً او ايجاباً على ما نتوصل اليه في البحث المباشر. فلو أظهر البحث نتيجة ايجابية فإن ذلك سيرفع من قيمة توقعاتنا لصدق الحديث، والعكس بالعكس.
وهذه النتيجة تشابه ما جرى مع نظرية نيوتن للجاذبية. فقد كانت هذه النظرية موضع ثقة العلماء، ثم ظهرت بعض الظواهر الشاذة، فخيبت أُفق التوقعات وقللت من احتمال صدقها، لكن عندما تبين ان هذه الظواهر متأثرة بعوامل اخرى تتفق مع منطق الجاذبية، فإن ذلك قد زاد من القيمة الاحتمالية للنظرية مقارنة بما كانت عليه من قبل. وكذا هو الحال في الرواية والحديث. فمثلاً روى أصحاب الصحاح في الوسط السني عن بعض المكثرين الكثير من الروايات المتعلقة بالجوانب الفقهية والعقائدية والإخبارية العلمية، ومثل ذلك فعل الكليني في الوسط الشيعي، اذ اعتمد على عدد من المكثرين من مشايخه في رواية الكثير من الاحاديث المتعلقة بتلك الجوانب. ومع ذلك فقد كان الغالب في الروايات المتعلقة بالجانب العلمي مصاباً بالاسطورة والبعد عن الحقيقة. لهذا فإن القيمة الاحتمالية لسائر الروايات المعنية بالجوانب العقائدية والفقهية ستتأثر سلباً بهذه النتيجة6.
أما ما يخص المنظومة الفلسفية الوجودية، فيمكن تفكيكها الى أربع منظومات: منطقية ورياضية وطبيعية وميتافيزيقية. وتعد الاخيرة مغلقة، اذ لا يمكن التحقيق فيها مباشرة خلافاً للمنظومات الثلاث الاخرى. وأقرب المنظومات التي تساعدنا على الكشف عنها هي منظومة العلوم الطبيعية، فهي تشترك مع المنظومة الميتافيزيقية بكونها تتحدث عن الامور الخارجية، خلافاً للمنظومتين المتبقيتين، كما أن هناك نوعاً من الاشتراك بينهما، فأحياناً تتحدث المنظومة الطبيعية عن امور غير محسوسة مثلما هو الحال مع المنظومة الميتافيزيقية، كما قد تتحدث عن امور لم تكن الوسائل القديمة كفيلة بفحصها واختبارها بدقة، وكل ذلك قد يسهّل علينا تعريضها للكشف والتحقيق، بفضل العلوم الحديثة.
أما المنظومتان الرياضية والمنطقية فهما لا يخبران بشيء عن الوجود الخارجي، وان قابليتهما على الصدق والدقة هي قابلية كبيرة مقارنة بالمنظومتين الأخريين. وهذا يعني ان صدقهما لا يرفع الكثير من درجة التوقع في صدق المنظومة الميتافيزيقية. لكن كذبهما او كثرة الكذب فيهما يحدث توقعاً بغياب الدقة واعتباطية العلم فيما تبقى من المنظومات.
هكذا فأقرب المنظومات التي تساعدنا على التحقيق في المنظومة الميتافيزيقية المغلقة هي المنظومة الطبيعية، لا سيما في القضايا غير المحسوسة او تلك التي لم تتضح منها التجارب المباشرة، حيث يمكن اخضاعها لقاعدة أُفق التوقع والانتظار، خصوصاً اذا ما كان الاستدلال عليها يقارب في روحه وطريقته الاستدلال على القضايا الميتافيزيقية، كما هو الحال في المسائل الخاصة بالأفلاك السماوية، او المسائل الأرضية غير الخاضعة للتجريب المباشر.
اذ تشكل القضايا الطبيعية لوازم تساعدنا على رفع درجة احتمال المنظومة الميتافيزيقية او خفضها، وحيث نعلم مثلاً ان المنظومة الطبيعية لم تكن صادقة في اغلب ما قدمته؛ فإن ذلك سيبعث على الشك فيما يتعلق بالمنظومة الميتافيزيقية، لكن هذه الامور تجري ضمن اعتبارات منطقية، فكلما كانت الأدلة المقدمة في القضايا الطبيعية تتقارب روحاً مع الأدلة المستخدمة في القضايا الميتافيزيقية، كلما كانت القيمة الاحتمالية أكثر دقة. كما لا بد من لحاظ ان النتائج الاحتمالية التي نحصل عليها لا تختص بفكرة ما او اخرى، بل لها علاقة بالثقة فيما يطرح من افكار، أي أن لها علاقة بروح التفكير ومنهجه. فهذه الروح هي التي تتعرض للاختبار ويقام عليها التقييم المعرفي. فهي الفرضية المطروحة للتحقيق غير المباشر بما يشابه الكشف عن النظريات العلمية، باعتبارها لا تخضع للتحقيق المباشر7، بل يجري التحقيق مع لوازمها القابلة للتنبؤ او أُفق التوقع والانتظار.
فمثلاً نواجه في المنظومة الوجودية مجموعة من الاعتقادات تخص قضايا الطبيعة، كتكوّن عناصر الأرض والأفلاك. فبحسب هذه المنظومة تعتبر العناصر او الأسطقسات الأربعة – الماء والهواء والنار والتراب - الأصل في جميع الأشياء والمواد الجسمية، وهي تتكون تبعاً لحركة الفلك المستدير، حيث للجرم تعقلات كلية وجزئية قابلة لنوع من التغير الخيالي الذي تتولد عنه حركة الجرم، فيكون اتصال التخيلات سبباً لاتصال تلك الحركة. لكن لما كان الجسم يدور على شيء ثابت في حشوه، فانه يلزم من محاكته له التسخين والحرارة، مما يفضي الى الخفة التي تمثل صورة النار، في حين ان ما يبعد عن ذلك الدوران والاحتكاك يظل ساكناً، فيفضي به الأمر الى البرد والتكثف فيكون أرضاً. أما الوسط بين هاتين المنطقتين فهي أقل حرارة وكثافة، وهما يوجبان الترطيب، وهذه الرطوبة من حيث قربها من الحرارة مما تلي النار؛ تكون خفيفة فتتحول الى هواء، ومن حيث قربها في الجهة الأخرى من الأرض؛ تكون باردة فيحصل الماء. وبهذا يكون الجرم السماوي في حركته سبباً لتكون العناصر الأربعة8. فهذه هي فكرة المنظومة الفلسفية عن تكون العناصر الأرضية، لكنها ليست صحيحة من الناحية العلمية، وبالتالي فإن ذلك يضعف من القيمة الاحتمالية لما تقدمه هذه المنظومة حول القضايا الميتافيزيقية.
فلسان المنطق يقول بأن من غير المعقول الوثوق بمن يدعي علماً في غيب السماوات - مثلاً - وهو يفشل في ان يكشف الشيء الصحيح في الارض، وفقاً لتقارب روح التفكير ومنهجه.
وهنالك بعض الطرق الرياضية التي يمكن من خلالها تحديد القيمة الاحتمالية لمقدار ثقتنا بالتفكير الفلسفي - وغيره -، وتعيين الدرجة الاحتمالية لاي قضية جديدة مستقبلية، كما هو الحال مع قانون الشد الذي سبق لنا صياغته لدى بحثنا حول المنطق الاستقرائي. اذ يكفي ان نطلع على مجموعة القضايا ذات النهج الفلسفي القابلة للاختبار علمياً ليمكن من خلالها ان يتعين عدد القضايا التي يصادفها النجاح مقارنة بغيرها، فعندئذ يمكن ان نقدر نسبة الوثوق في التفكير الفلسفي، وان نحدد درجة احتمال نجاح اي قضية جديدة نريد اختبارها. لكن مع افتراض ان تكون هذه القضايا متماثلة القرائن الاحتمالية وليست متباينة، وهو ما لا يتوفر في الواقع الا بنوع من المسامحة والتقدير. وهذه هي المشكلة الرئيسية التي تصادف نظرية الاحتمالات كالتي فصلنا الحديث عنها في (الاستقراء والمنطق الذاتي)9.
***
ونشير الى أن هناك من نفى ان يكون للعلم الحديث تأثير على براهين الفلسفـة الكلية، كالذي ذهب اليه العلامة محمد حسين الطباطبائي في تعليقاته على كتاب (الاسفار الاربعة)10. لكننا نعتقد بأن هناك حالتين يمكن للعلم ان يؤثر فيها على الأفكار وما يدعى بالبراهين الفلسفية. الأولى كونه يرفع او يزعزع الثقة بالاستدلالات الفلسفية. فطبقاً لما سبق أن من الممكن التأثير على توقعاتنا بالنتائج الفلسفية عموماً، لا سيما اذا كان هناك اسلوب متقارب في صياغة الأدلة لكل من قضايا الطبيعة والفلسفة. فاذا ما كنّا محايدين لا نعرف شيئاً عن قيمة الاستدلال الفلسفي بصورة عامة، او حتى لو كنّا ننحاز الى الأدلة الفلسفية، فإن بالإمكان النظر الى قيم النتائج النهائية ومقارنتها بالحقائق العلمية عند الإمكان، حيث ستتأثر ثقتنا قوة او ضعفاً بقدر ما نرى من توافقات واختلافات بين الطرفين، اذ كلما تفاقمت الحقائق العلمية توافقاً مع النتائج الفلسفية؛ فإن ثقتنا ستزداد حتماً، والعكس بالعكس، وبالتالي فإن ذلك يؤثر في ما سماه الطباطبائي (براهين الفلسفة الكلية).
أما الحالة الثانية، فهي أن العلم قد يفضي الى تأييد او إبطال الفكرة الفلسفية مباشرة او غير مباشرة. فإكتشاف العلم لإنقراض بعض الأنواع من الكائنات الحية كالديناصورات وغيرها، يفضي الى إبطال نظرية المثل والعقول العرضية التي تبناها الاشراقيون. وحتى في هذه الحالة فإن الإكتشاف العلمي كإنقراض بعض الأنواع يؤثر في ما اطلق عليه الطباطبائي البراهين الكلية للفلسفة، ومنها تلك المتعلقة بثبات العقول الطولية. فقد ذكر صدر المتألهين دعائم فلسفية وعرفانية اربع ليبرهن على ثبات الانواع ازلاً وابداً، كان اهمها هو ان العقول العرضية التي لها عناية بافراد انواعها المادية، ينافي انقطاع كليات الانواع ولو للحظة واحدة من الزمان. لكن الطباطبائي نقد فكرة العقول العرضية او ارباب الانواع، واعتبر ان العقول العرضية على فرض تقديرها ليست بعلل تامة، وانما هي فواعل يتوقف فيضها على اجتماع الشرائط المعدة، فكلما اجتمعت هذه الشرائط استأنفت الانواع ظهورها من جديد. وهي محاولة ليست موفقة من الناحية الفلسفية، فلو ان بعض الانواع انقرضت لكان يجب ان يكون هناك تخلخل في الشروط المادية. مع ان هذه الشروط هي ايضاً تمثل انواعاً محكومة بشروط اخرى وارباب اخرى، فكل تغير مفاجئ يحصل فيها لا بد ان يقتضي تغيراً في غيرها من الشروط النوعية، وهذا الحال محال لأنه يؤدي الى تسلسل الانواع بغير نهاية. أما لو فرضنا ان مقتضى التغير يلوح نفس الارباب، فهو محال ايضاً؛ باعتبارها تمثل - عند الفلاسفة - عقولاً ثابتة لا تتغير ازلاً وابداً. يضاف الى ان هذا الاعتراض لا يصدق على الاشراقيين والعرفاء فحسب، بل يعم حتى المشائين الذين نفوا ان تكون هناك عقول عرضية تضاف الى العقول الطولية. اذ يظل ان كل تغير نوعي طارئ يقتضي التغير في علته العقلية المفارقة، وهو امر محال باعتبار ان العلل المفارقة علل ثابتة لا تقبل التغير ازلاً وابداً11.
وبلا شك فقد اثرت التطورات العلمية الحديثة على العديد من القضايا الفلسفية التي كانت تعتبر ثابتة لا تتزعزع.. ومن ذلك التصورات الفلسفية حول الافلاك السماوية وطبيعة حركاتها. وكان من بينها ايضاً تبني عمانوئيل كانت للهندسة الاقليدية والزمان والمكان المطلقين وفقاً للنظرية النيوتنية السائدة. في حين قلبت نسبية أينشتاين مثل هذه التصورات رأساً على عقب، حيث اعتبرتها ليست عقلية فحسب، وإنما خاطئة وغير صحيحة.
كذلك فإن نظرية الكوانتم قد طرحت تساؤلات فلسفية تختلف عن تلك المسلم بها حول طبيعة العلاقة بين الأشياء وطبيعة السببية والزمان والمكان في العمق الجسيمي. فكل هذه النتائج قد أخذت أبعاداً من التأثير في المجال الفلسفي.
قاعدة عدم تكافؤ النفي والاثبات
وتتعلق هذه القاعدة بالمنظومات والأنساق المغلقة التي لا يمكن تفكيكها والتحقيق فيها مباشرة وغير مباشرة. وخلاصتها أنه عندما تكون هناك إمكانات متعددة، اكثر من اثنين، فإن نفي أي من هذه الإمكانات سيكون أكثر توقعاً من اثباته، ويزداد توقع هذا النفي باضطراد كلما زاد عدد الإمكانات المحتملة. وعلى عكسه تضعف قيمة احتمال الاثبات أكثر فأكثر كلما زادت تلك الإمكانات. فمثلاً لو أردنا أن نقدر حساب عدد النجوم في مجرتنا السماوية، فسنتوقع خطأ أي رقم نختاره، بل إن اثبات أي عدد نختاره هو بحكم المستحيل تقريباً، فالنفي في هذه الحالة هو المتوقع، بل المتعين تقريباً، فحالة الاثبات مترددة بين عدد ضخم من الأرقام، ويُقدّر احتمال أي رقم نختاره بواحد مقسوماً على العدد الاجمالي الكلي، فلو كانت الأرقام مترددة - مثلاً - من مليون الى مليوني نجم، فإن احتمال أي رقم نختاره هو واحد من مليون، وهو احتمال في غاية الضعف والضآلة، في حين يكتسب النفي ما يقابله من احتمال، اذ يصبح في غاية القوة وأقرب ما يكون الى اليقين، وهو مليون الا واحد مقسوماً على مليون.
هكذا يترجح محور النفي على الإثبات عند الشك والتردد بينهما، لتعدد إمكانات النفي خلافاً لمحور الاثبات. لكن لا بد من حذف حالات النفي التي تم التأكد منها. ففي مثالنا السابق عن عدد النجوم لا يصح أن نضع ضمن محور النفي تلك الأعداد التي من المؤكد أنها كاذبة تبعاً للحس او التجربة. فهي أعداد منفية قطعاً ولا تدخل ضمن الإمكانات والاحتمالات. فمثلاً ان افتراض ان يكون عدد النجوم واحداً او اثنين او عشرة او مائة او ألفاً... الخ؛ هي أعداد منفية بالقطع ولا تدخل ضمن ما نتحدث عنه من الإمكانات الاخرى.
كما أن توقع النفي ينبغي أن لا يكون لجميع الإمكانات مجتمعة مع بعض، بل لكل إمكان بما هو مستقل عن غيره، اذ توقع النفي لكل الإمكانات مجتمعة هو خلاف الفرض المسلّم به، وهو أن هناك حالة من هذه الإمكانات هي المتعينة للإثبات لكننا نجهلها على نحو التحديد. فمثلاً لا نستطيع أن نقول بأن الأرقام المليونية جميعاً مرجحة للنفي. فهذا القول هو خلاف الافتراض الذي ذكرناه – في المثال السابق - وهو أن واحداً من هذه الأرقام هو المتعين للإثبات.
وتفيدنا هذه القاعدة في الامور المتعلقة بالثقة الاجتماعية وعدمها، فالفارق بينهما ليس فارقاً يتعادل في نتائجه الطرفان، بل الفارق بينهما عظيم غير قابل للتقدير. وتوضيح ذلك لو اخبرنا شخص عن مكان زيد وكنّا نحتمل وجوده في واحد من عشرة مواقع مثلاً، فإذا كنّا نثق بإخبار الشخص فإن الاحتمال سيتعين في موقع واحد من بين المواقع العشرة، حيث يكون هو المتوقع دون غيره. في حين لو كنّا لا نثق بالخبر؛ فإن محور النفي سيكون هو المرجح لأي موقع نختاره، وسيظل ترددنا دائراً بين المواقع العشرة المحتملة. فهنا أننا لم نواجه احتمالين متضادين، بل أمامنا احتمال متوقع في حالة الثقة في قبال عشرة احتمالات يجري فيها التردد. أما في حالة عدم الثقة فستنقلب الدائرة الى العكس، حيث يكون النفي هو المرجح لأي موقع نختاره. فكيف اذا كان حال الاحتمالات والترددات منفتحاً غير قابل للحصر، كإن يتجاوز المائة او الألف احتمال؟! فمن الواضح ان ذلك سيدعو الى الضلال والحرمان من ادراك الصواب؟! بمعنى أن النفي هو المتوقع دون الاثبات12.
كما يمكن القول بأن القانون القضائي القائل (المتهم بريء حتى تثبت ادانته) مستلهم من هذه القاعدة، فعندما يُشَك في المتهم، فإن محور البراءة سيكون هو المرجح على الإدانة وفقاً لإمكانات النفي المتعددة في المحور الأول مقارنة بالثاني. وعموماً يمكن القول بأنه ليس بوسعنا ادانة أحد بشيء محدد اعتباطاً، فلو كانت الادانة واحدة، فهي غير متعينة وسط الكثير من الاحتمالات الممكنة، وتظل براءة الشخص مرجحة في كل ادانة نحددها. وبالتالي فالمعنى هو ان للنفي إمكانات كثيرة، في حين ليس للاثبات الا حالة واحدة. وهذا ما يجعل الترجيح لصالح النفي لكثرة إمكاناته واحتمالاته مقابل الحالة المنفردة للاثبات. فهي الحالة التي تمثل الجانب الموضوعي للقضية، ولا شك ان هذا الجانب واحد يراد اثباته وتحديده، في حين تكون الإمكانات في حالة النفي متعددة بلا حدود. فمثلاً اذا أردتُ أن أحدد شيئاً كالمنضدة التي أمامي فإنه لا يوجد لي سوى سبيل واحد هو الاعتراف بالمنضدة، لكن عندما أريد أن أنفي ما هو امامي فإن حالات النفي كثيرة او غير متناهية، فأقول - مثلاً - إن امامي ليس قدحاً ولا كرة ولا حجرة.. الخ.
وتنطبق هذه القاعدة على الاستدلالات الاعتباطية او غير الدقيقة. فمثلاً ان المنظومة الوجودية تخبرنا بأرقام معينة للعقول تتفاوت في العدد. لكن حيث ان الاستدلالات المعتمدة غير دقيقة، لذا قد يسهل علينا نفي أي عدد نختاره، هذا على فرض ان العقول صادرة بالشكل الذي تزعمه. وكذا كثيراً ما ترد الاستدلالات الاعتباطية على العصمة الشاملة للأنبياء والأئمة والأولياء، فإذا كانت هذه الاستدلالات غير مقنعة، ولو فرضنا أننا لا نمتلك أدلة واضحة على نفي هذه العصمة، ففي هذه الحالة يمكن أن نطبق عليها تلك القاعدة. فمثلاً اذا كنّا نشكّ بشخص إن كان يخطئ في بعض القضايا لا على التعيين، او هو معصوم لا يخطئ أبداً؟ ففي هذه الحالة يترجح محور نفي العصمة على اثباتها، اعتماداً على عدد القضايا القابلة للخطأ كما عرفنا.
والأمر ذاته ينطبق على دلالات النصوص عند التردد في مضامينها الحقيقية دون ترجيح، فإذا كان التردد كثير العدد فإن تحديد أي مضمون منها يصبح مستبعداً. وطبقاً لهذا لا يمكن انتزاع عقائد ملزمة من النصوص عندما يرد التردد في مضامينها، بل وتستبعد مثل هذه العقائد فيما لو تكثرت إمكانات التردد واحتمالاته. وأشد ما ينطبق هذا الأمر على الروايات في علم الحديث وما يتفرع عنه من علوم، كعلم الفقه مثلاً. فكل رواية تحمل ترددات كثيرة، وكل تردد محتمل، وكل محتمل ضعيف، وهو يزداد ضعفاً تبعاً لإزدياد الترددات والاحتمالات. فقد ترد الآراء في المسألة الواحد لتصل أحياناً الى ما يقارب العشرة، كل منها يدعي إصابته لمراد الشرع او يظن بذلك، مما يعني أن تسعة اعشار هذه الآراء ليست من الشريعة بشيء، ولتبين لنا من الناحية المنطقية أننا – عند التردد - نراهن على إصابة الشرع باحتمال قدره واحد من عشرة فقط.