يحيى محمد
وفقاً لما سبق عرضه خلال الحلقتين السابقتين ننتهي الى النتائج التالية:
اولاً:
في قراءة النص لدينا عناصر ثلاثة متلازمة، هي النص والاشارة والايضاح. ومن حيث التمييز بين هذه العناصر نلاحظ ان للنص بعده الموضوعي المستقل عن معرفتنا به، فهو عندما يدخل في حيز المعرفة يتحول الى ما نطلق عليه الاشارة، ومن بعد ذلك الايضاح او التفسير. ومعلوم ان الاشارة هي كشف عن معنى النص، وان الايضاح يزيد عليها بشرح هذا المعنى فيكون عبارة عن معنى المعنى. وبالتالي فآليات الاشارة والايضاح وإن كانت مستندة الى النص، الا انها من هذه الناحية لا تكشف عنه كشيء في ذاته.
فرغم قيام آليات الاشارة والايضاح الست – التي سبق عرضها -على النص، مباشرة وغير مباشرة، الا انها ليست عين النص، وهي لا تتطابق معه بالضرورة. فالنص شيء وفهمه المتمثل بالآليات شيء اخر.
فالنص كشيء في ذاته خارج عن حدود المنال الذهني. او لنقل ان الذهن لا يتعامل مع الاشياء في ذاتها ما لم تكن من العلوم الحضورية التي يحضر فيها الشيء بنفسه، بل يتعامل مع القضايا الخارجية وفقاً للعلم الحصولي الذي ترتسم فيه صورة ذلك الشيء، وارتسامها في الذهن هو العلم الحضوري لها، او العلم الظاهر لذاتنا. ولا شك ان حضور هذا العلم لذاتنا يمنعه من ان يكون عين ذلك الشيء في ذاته، للاختلاف بين الشيئين «في ذاته ولذاتنا»، فالأول هو الموضوع المتعين عالمه في الخارج فحسب، والثاني هو المعنى المحدد عالمه في المجال التصوري للمعرفة، لذا فأحدهما لا يمكنه ان ينقلب الى الاخر لاختلاف العالمين.
والامر لا يختلف من هذه الجهة بين الموضوع الطبيعي الذي ينتمي الى العالم الكوني، وبين الموضوع النصي الذي ينتمي الى العالم اللغوي. فسواء الشيء الطبيعي او النص، كلاهما يحتفظ بكيان الشيء في ذاته. فالنص كشيء في ذاته يستحيل ان ينقلب الى ما هو معرفي لذاتنا، لكن ما يحصل هو ان هناك صورة تتجلى في ذاتنا للتعبير عن ذلك الشيء، سواء تطابقت معه او لم تتطابق.
والنص كشيء في ذاته اشبه بما يقوله العرفاء عن الماهية والعين الثابتة قبل الايجاد، حيث لا تظهر ما لم تتنور بنور الوجود من الخارج، وكذا النص لا يظهر لذاتنا ما لم يتنور بنور المعرفة، وان الماهية اذا أُخذت من حيث هي هي فانها تظل معدومة لا تشم رائحة الوجود، وكذا النص اذا أُخذ بما هو هو، او هو في ذاته، فانه يظل مجهولاً وشبه معدوم لا يشم رائحة الادراك والمعرفة، ومن هذه الخصوصية نطلق عليه (النص المجهول).
فمثلما لا تظهر الماهية من حيث ذاتها بمظهر الوجود، كذلك لا يظهر النص من حيث ذاته بمظهر المعرفة والفهم من الآليات الاشارية والايضاحية. فلولا المعرفة والادراك ما كان يمكن ان نطلق عليه ظاهر النص او الاشارة، ومن ثم الايضاح. وقلنا ظاهر النص باعتباره اول ما يتبادر من النص عند المعرفة، والا فكل الية عند المعرفة تتصف بالظهور نسبة الى الذات الكاشفة، حيث تتجلى بالحضور كصورة ظاهرة او مشهودة، وهي بهذا المعنى تختلف عما قصدناه من ظاهر النص الذي هو اول تبادر المعنى.
ثانياً:
يمكن عدّ آليات الإشارة نصاً اخر يقوم على ذلك النص المجهول، وان الايضاح هو نص ثالث يقوم على نص الإشارة، وكلاهما يعبران عن النص المعلوم. واذا كان النص المجهول ينتمي الى العالم الموضوعي الخارجي فان النص المعلوم بشطريه (الاشارة والايضاح) ينتمي الى عالم الادراك المعرفي. هكذا لدينا نص مجهول، وهو الجانب الموضوعي للنص، مع نصين معلومين، وهما الجانب الذاتي للنص، ومن ثم فالنصوص ثلاثة كالتالي:
1ــ نص كشيء في ذاته، وهو الاساس الذي لا يقبل التحديد والتعريف من حيث هو هو، اذ لا علاقة له بالادراك والذات العارفة، شبيه بما عليه الماهية من حيث هي هي، اذ لا علاقة لها بالوجود. لذا فهو نص مجهول.
2ــ ونص ثان يقوم على ذلك النص باعتبارات الادراك والذات العارفة، وهو المعبر عنه بالاشارة على اقسامها الثلاثة: الاستظهار والتأويل والاستبطان. فنص الاشارة بهذا الاعتبار ينشأ عن امرين، هما: النص المجهول وذات القارئ، والاشارة بهذا الاعتبار هي نوع من القراءة والفهم، نطلق عليها القراءة الاولى او الاشارية.
3ـ ونص ثالث يتحدد بقراءته لنص الإشارة، وهو ما نطلق عليه نص الايضاح باقسامه الثلاثة: الاستظهار والتأويل والاستبطان. وهو بالتالي يعتمد على كل من ذات القارئ والنص المجهول. ومن حيث الدقة انه يعتمد على كل من ذات القارئ والاشارة، والاشارة بدورها تعتمد على النص المجهول وذات القارئ. فهنا في الايضاح تحديداً يصبح العنصر الاخير – ذات القارئ – مضاعفاً.
هكذا فذات القارئ تتسع لقراءتين او فهمين، احداهما تتعلق بقراءة النص المجهول فنسميها نص الاشارة، واخرى تتعلق بقراءة هذا النص الأخير فنسميها نص الايضاح او التفسير. او قل ان لدينا قراءتين احداهما تقوم بقراءة الاخرى، او ان لدينا فهمين احدهما يعمل على فهم الاخر. كما ان لدينا ثلاثة نصوص، بعضها ينتج عن البعض الاخر، فهناك النص المجهول، وعليه يقوم نص الاشارة مما نعبر عنه (نص النص)، ومن ثم يقوم على هذا الأخير نص الايضاح الذي هو (نص نص النص).
إذاً لدينا نص، ونص النص، ونص نص النص. او قل: لدينا نص، وقراءة النص، وقراءة القراءة. او لدينا نص، ومعنى النص، ومعنى المعنى. او قل: لدينا نص، وفهم النص، وفهم الفهم.
وواضح اننا باستثناء النص المجهول نتعامل مع قراءتين واجتهادين احدهما قائم على الاخر، مما يجعلهما طبقتين تتفاوتان في البساطة والعمق، حيث القراءة الايضاحية هي تعميق للقراءة الاشارية، وانه لا وجود للقراءة الايضاحية من غير الاشارية، وان كان العكس غير صحيح. لكن في كلا القراءتين والفهمين نواجه القابلية على التعددية. فالتعددية قد تكون اشارية، كما قد تكون ايضاحية.
وفي جميع الاحوال لدينا انماط من التعددية على مستوى القراءتين الاشارية والايضاحية؛ تعود الى ما لدى النظم المعرفية من القبليات المختلفة، وقلما يحصل الاتفاق بينها. لذلك قد تكون القراءة الاشارية، وكذا الايضاحية، عبارة عن قراءة وجودية او معيارية او واقعية.. الخ، كما لا يوجد تلازم بين القراءتين التعدديتين، فرغم ان القراءة الايضاحية قائمة على الاشارية الا ان الاتفاق على هذه الأخيرة لا يلزم منه الاتفاق على الاولى. والامثلة على ذلك كثيرة؛ كتلك التي يتفق فيها بعض اقطاب النظام الوجودي مع غيرهم في القراءة على مستوى الاشارة، لكنهم يختلفون معهم في القراءة الايضاحية او التفسيرية غاية الاختلاف، ومن ذلك اتفاقهم حول الاشارة الاستظهارية رغم انهم يختلفون حول شرحها وتفسيرها، فيكون لدينا انماط من الايضاح الاستظهاري، ومنه الوجودي الذي يختلف عن غيره من الانماط الاستظهارية للايضاح او التفسير، وقد تعرضنا الى نماذج عدة تكشف عن هذا الاختلاف في دراسة مستقلة.
ثالثاً:
لو اردنا التعرف على علاقات النصوص الثلاثة السابقة رياضياً فسيكون كالتالي:
نرمز لذات القارئ او القبليات بـ (ق)، وللنص المجهول بـ (ن)، ولهذا النص عندما يتحول الى صورة ذهنية في ذات القارئ نطلق عليها الظهور المعنوي للنص بـ (ن ع)، ولنص الاشارة بـ (ش)، ولنص الايضاح بـ (ض). وعليه ستكون العلاقات كما يلي:
ن = ن
ق + ن ع ← ش
وحيث انه في الايضاح لدينا نوع من القبليات يضاف الى الاشارة، لذا فان:
ق + ش ← ض
والطرف الايمن من العلاقة السابقة يمكن ان يحلل كالتالي:
ق + ش = ق + (ق + ن ع)
وبالتعويض فان:
ق + (ق + ن ع) ← ض
2ق + ن ع ← ض
وتعني العلاقة الاخيرة بان الايضاح يتضمن قبليات مضاعفة مقارنة بالاشارة. فللاشارة قبلياتها، لكن الايضاح يضيف اليها المزيد من القبليات. واذا كان هناك نوع من الاندماج او الاتحاد بين الاشارة والايضاح كالذي لاحظناه في السابق؛ فان قبلياتهما تكون غير متمايزة، الامر الذي تنطبق عليه العلاقة الرياضية السابقة. أما في حالة التمايز بين قبلياتهما والتي تجعل من الايضاح غير متحد مع الاشارة؛ فان ذلك سيجعل من العلاقة السابقة تتحلل كما يلي:
لنرمز لقبليات الاشارة بـ (ق ش) ولقبليات الايضاح بـ (ق ض). وعليه ستتحلل العلاقة السابقة كالتالي:
2ق + ن ع ← ض
ق ش+ ق ض+ ن ع ← ض
واذا ارمزنا الى العلاقة المفهومية بـ (هـ)، والى العلاقة المصداقية بـ (ص)، وهما علاقتا الايضاح (ض)، فان قبليات الايضاح ستكون كالتالي:
ق هـ + ق ص ← ق ض
بمعنى ان قبليات الايضاح هي مجموع القبليات المتعلقة بالعلاقتين المفهومية (هـ) والمصداقية (ص). وبالتالي فستكون النتيجة في علاقة الايضاح بحسب التعويض كالتالي:
ق ش+ (ق هـ + ق ص) + ن ع ← ض
وتعني العلاقة الاخيرة ان الايضاح يتضمن كلاً من مجموعة قبليات الاشارة وقبليات العلاقتين المفهومية والمصداقية المحددتين للايضاح، بالاضافة الى الظهور المعنوي للنص.
ويلاحظ أننا لم نعر أهمية لقبليات الظهور المعنوي للنص، حيث لا يمكن ان يتحقق هذا الظهور الا من خلال بعض القبليات التي تتصف بالصورية، وهي تختلف عن طبيعة القبليات السابقة للاشارة والايضاح، وبالتالي لا بد من اخذ هذا الاعتبار في العلاقة الرياضية، كالذي تناولناه في دراسة مستقلة تتعلقبطبيعة القبليات الصورية واختلافها عن تلك التي تتصف بها قبليات الاشارة والايضاح او التفسير.
رابعاً:
قد يقال انه اذا كان النص المجهول لا يخضع للمعرفة وانه عبارة عن ذلك الشيء في ذاته، وان الذي يعرّف به هو كلا النصين الخاصين بالقراءة الاشارية والايضاحية، وان هذين النصين او القراءتين يتقومان بالقبليات المعرفية، فالسؤال الذي يرد بهذا الصدد هو: هل يمكن التوصل الى تطابق النصين او القراءتين مع الاول، او على الاقل الاقتراب من المعنى الذي يتضمنه؟ وما مبرر ذلك؟
نعترف - ابتداءاً - بأن هذه المسألة معقدة، بل فيها مستويان من التعقيد، فالعلاقة التي تربط نص القراءة الايضاحية بالنص المجهول هي اشد تعقيداً من تلك التي تربط نص القراءة الاشارية به. والامر واضح من حيث ان القراءة الايضاحية تتضمن الاشارية وتزيد عليها، وكما رأينا فانه من الناحية الرياضية فان القبليات التي تتضمنها القراءة الايضاحية تكون مضاعفة مقارنة بالقراءة الاشارية. لكن مع ذلك يمكن القول إنّا نواجه قضية هي ذات القضية التي نواجهها في الكشف عن طبيعة الاشياء الخارجية، فهذه الاشياء هي ايضاً عبارة عن اشياء في ذاتها، وبالتالي يستحيل نقلها كما هي في ذهن الرائي، وبالتالي كيف نطمئن بان الصورة الذهنية تعبر عن الحقيقة الخارجية وتحاكيها؟ او على النحو الادنى: كيف نبرر اقتراب الحقيقة من الحالة التصورية للشيء في الذهن الى حالته الموضوعية في الخارج؟
هذه هي الإشكالية التي تواجهنا، وقد تعرضنا الى علاجها في دراسة مستقلة.
***
اخيراً نذكّر القارئ قبل ان ننهي دراستنا بما تسالم عليه علماء التراث والمفسرين من التعامل مع النص وفق العلاقات التالية:
يتألف النص من عنصرين لا غير، هما اللفظ والسياق.
وفقاً للفقرة السابقة فانه ليس للنص ظهور غير الظهور اللفظي المتعارف عليه.
كما وفقاً للفقرة الاولى فان هناك نوعين من القراءة فقط، هما القراءة التي تأخذ بالظهور اللفظي، وتلك التي تأخذ بخلافه. وعادة ما تسمى الأولى بالتفسير، والاخرى بالتأويل.
لقد اعتاد علماء التراث ان يتعاملوا مع القراءة وفق مستوى واحد فقط لا غير.
ان القراءة لديهم يمكن ان تستقل مبدئياً عن القبليات المعرفية.
هذا في حين توصلنا خلال البحث الى نتائج مغايرة لتلك الفقرات، وهي من حيث الاجمال كالتالي:
يتشكل النص من ثلاثة عناصر لا عنصرين، هي: اللفظ والسياق والمجال.
وفقاً للفقرة السابقة فان للنص ظهوراً اخر غير الظهور اللفظي، وهو ما سميناه الظهور المجالي.
كما وفقاً للفقرة الاولى فان هناك ثلاثة انواع من القراءة لا نوعين، وهي كل من: القراءة الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية (الرمزية).
يوجد مستويان للقراءة بدل المستوى الواحد. وقد اطلقنا على الاول (الاشارة)، وعلى الثاني (الايضاح) او التفسير.
لا يمكن فصل القراءة عن القبليات المعرفية مطلقاً، الامر الذي سنتناوله بالتفصيل خلال القسم القادم.
على ذلك يمكن تلخيص خلافنا مع الرؤية التقليدية ازاء النظر الى النص وكيفية التعامل معه عبر الجدول البياني التالي:
الموقف التراثي |
الرؤية الجديدة |
اللفظ + السياق ← النص |
اللفظ + السياق + المجال ← النص |
الظهور اللفظي ← ظهور النص |
الظهور اللفظي + الظهور المجالي ← ظهور النص |
انواع القراءة = إستظهار + تأويل |
انواع القراءة = إستظهار + تأويل + إستبطان |
مستويات القراءة = واحد |
مستويات القراءة = اثنان (اشارة +إيضاح) |
تأثير القبليات المعرفية = 0أو 1 |
تأثير القبليات المعرفية = 1 |