يحيى محمد
يعتقد الكثير بأن من الممكن اثبات الواقع الموضوعي العام من خلال الدليل الإستقرائي، فلو ثبت بهذا الدليل وجود بعض القضايا المحسوسة في الخارج؛ لدلّ في حد ذاته على وجود واقع مجمل منفصل عنا. لكن هذه الطريقة تتنافى مع حقيقة وجود إحتمال يستحيل نفيه بأي دليل كان، سواء من حيث العقل أو الإستقراء، وهو إفتراض ان تكون الحياة عبارة عن حلم دائم لا ينتهي1. وعلى حد تعبير بعض المفكرين: ‹‹لو أنني فقط استطيع أن أَخرج من رأسي لرأيت ما إذا كان هناك شيء››.
لا يقال ان الحلم يختلف عن الواقع من جهة افتقاره للانسجام والاتساق والوضوح، وذلك لأن من الأحلام ما يحمل مثل هذه الصفات التي يمتاز بها الواقع. بل من الناحية المنطقية ليس هناك ما يمنع إفتراض كون واقعنا عبارة عن حلم متسق طويل يتضمن أحلاماً متقطعة تتصف بكلا الحالين من الاتساق وعدمه.
فتصور حالك وانت في حالة المنام كيف تتعامل مع الأشياء وكأنها حقائق موضوعية خارجية، وربما تسأل نفسك - وانت في المنام - عن حقيقة الأمر إن كان حلماً أو واقعاً، وقد تجيب عن ذلك بأنه واقع، بدليل كذا وكذا.. ولكن سرعان ما يتبدد هذا الظن حيث تفاجأ بحقيقة أخرى منافية، وتشعر بأن ما جرى عليك ليس إلا رؤيا في المنام. وربما تشعر بحالك ولا تدري إن كنت في حلم أو واقع. كما قد تشك في امرك وانت في اليقظة حين المفاجآت، وتخشى ان يكون حلماً إن كانت سارة، أو تتمنى ان تكون حالماً إن كانت المفاجآت تبعث على الحزن والاسى. وقد تطرأ عليك حالة ربما تتوهم انك في حلم لا واقع، ولو افترضنا استمرار هذه الحالة لكنتَ تظن انك هائم في عالم الرؤيا، ويصبح حالك حال من يحلم ويتوهم انه يقظان!
اذاً الدليل الذي يستهدف إثبات الوقائع الجزئية لا ينجح ما لم يفترض سلفاً الإعتقاد بالواقع المجمل العام. وقد حاول المفكر الصدر في (الأسس المنطقية للإستقراء) أن يثبت الواقع المجمل عبر تقديم عدد من الأدلة التي تعتمد على التمايز في الاتساق والنظام بين الواقع والحالة الذاتية، فهو ينمي القيمة الإحتمالية للواقع عبر لحاظ الثبات الذي يمكن تفسيره بقوة تبعاً للواقع مقارنة بالحالة الذاتية، أو عبر ما نتحسس به من نسق وانتظام في إقتران حادثتين مع بعض2. لكن تظل هذه التنمية تفترض بعض القضايا المصادرة سلفاً ليتم نجاحها. واذا كنا لا نميز عادة بين اليقظة والمنام إلا من هذه الناحية، فإن ذلك - في حد ذاته - لا يدل على إثبات الوقائع الجزئية. فقد يفترض البعض عكس ما نريد إثباته، وهو ان ما نراه مناماً يراه واقعاً، وما نراه واقعاً يراه مناماً، وان الثبات والاتساق الملحوظ هو ثبات واتساق في المنام لا الواقع. فهذا الإفتراض لا يمكن الإستدلال على نفيه أو ضده، كذلك لا يمكن الإستدلال على نفي الإفتراض الذي يرى ان كلاً من الاتساق وعدمه هما من حالات الرؤيا الدائمة، وبالتالي فإن التمييز بين ما يعد من عالم الرؤيا وما يعد من عالم اليقظة لا يفيد في المسألة المطروحة. بل وان الطريق الذي اتخذه المفكر الصدر في إثبات الواقع المجمل عبر الوقائع الجزئية هو طريق غير صحيح، ذلك لأن هذه الأخيرة لا تثبت ما لم يفترض الأول سلفاً.
هكذا فإعتقادنا بوجود الواقع الموضوعي مفعم بآثار الإنطباعات النفسية، فنحن نجده اطول مدة واشد اتساقاً ووضوحاً من الحلم. وقد لفتت هذه المشكلة انظار الكثير من المفكرين، القدماء منهم والمحدثين. وهناك فقرة مفعمة بالشك استشهد بها بعض مفكري الصين القدماء كالتالي:
‹‹لقد حلم تشوانغ تسو (369ـ286 ق.م) ذات يوم بأنه كان فراشة تحوم طائرة، هنا وهناك، كما لو كانت حقاً فراشة واعية في اتباعها لميولها. هذه الفراشة كانت تجهل أنها كانت تشوانغ تسو. وفجأة استيقظت، ومنذ ذلك أصبح بديهياً بأنها كانت تشوانغ تسو. ولكنه لا يعرف الان إذا كان تشوانغ تسو هو الذي حلم بأنه صار فراشة أو ان الفراشة قد حلمت بأنها أصبحت تشوانغ تسو››3.
وكان باسكال يرى انه ليس بوسع الإنسان ان يعرف إن كان في حلم أو يقظة، طالما ان ما يحدث في الحلم من احساس هو مثل الذي يحدث في اليقظة، وبالتالي لا مانع من أن نكون في حلم لا نستيقظ منه إلا عند الموت. كذلك كان برتراند رسل لا يرى مانعاً من إفتراض اننا في حلم دائم، إذ يقول: ‹‹انا لا اعتقد باني الان احلم أو غير يقظ، لكن في الوقت ذاته ليس بوسعي ان اثبت انني لست حالماً. فانا على يقين تماماً باني احمل خبرات معينة، لكن لا اعلم إن كانت عبارة عن تلك التي تعود إلى الحلم أو انها تعود إلى اليقظة››4.
وقد كان فيلسوف المثالية جورج باركلي يقول: ‹‹فما يحدث في الأحلام يدل على أن من الممكن أن نتأثر بجميع الافكار التي لدينا الان دون أن تكون هناك اجسام تشابهها. وعلى ذلك فمن الواضح ان إفتراض الاجسام الخارجية ليس ضرورياً لاحداث افكارنا، مادام من المعترف به ان هذه الافكار قد تحدث أحياناً وربما كانت تحدث دائماً، بنفس الترتيب الذي نراه به حالياً، دون وجود الاجسام الخارجية››5. وكان العالم الفيزيائي هلمولتز يقول: ‹‹لست أدري كيف يتم تفنيد المذهب المثالي الذي يذهب إلى حد القول أن الحياة لا تنطوي إلا على احلام››6.
كما ظهر على هذه الشاكلة من يرى باننا لا نعرف على وجه الحقيقة ان كنا حقيقيين ام نسخاً ممثلة داخل حاسوب عملاق، كما عبّر عن ذلك الفيزيائي الرياضي فرانك تيبلر7. بل لقد استنتج الفيلسوف نيك بوستروم باننا ممثلين لحاسوب ضخم، وان هناك اكواناً ملفقة تمثيلية ضمن حاسوب عملاق، وبالتالي فنحن نعيش وهماً عندما نتصور الأشياء حقيقية8.
بل وذهب البعض بأنه لا يمكن نقض ادعاء كون العالم مخلوقاً قبل خمس دقائق فقط. فالحاضر حقيقي، لكن الماضي ملفق، إذ يعتمد على ذكريات لا يعرف مصدرها ان كان ذاتياً ام موضوعياً9.
لكن يمكن أن يجاب على الإفتراض الأخير باننا إذا كنا قد سلمنا بوجود العالم الحاضر، فسيشكّل ذلك ركيزة للبناء الإستقرائي لمعرفة تاريخ العالم قبل خمس دقائق حسب المثال. فلو وجدت في نفسي – مثلاً - ذكريات قديمة مع صديق لي، ففي هذه الحالة يمكنني ترجيح موضوعية هذه الذكريات إذا ما أكدها معي هذا الصديق، وهكذا مع بقية الناس. ولو فرضنا انه ليس في العالم غيري من بشر، ففي هذه الحالة يمكنني ايضاً معرفة موضوعية ذكرياتي السابقة من خلال فعل التنبؤ بما يتسق معها. فلو ان ذاكرتي اخبرتني بانني كنت جالساً في مكان معين قبل أيام وهو يتصف بمواصفات محددة، ففي هذه الحالة يمكنني إختبار وجود هكذا مكان لأعرف من خلاله حقيقة ما تتنبأ به ذاكرتي.. وبحسب ذكرياتي ايضاً ان برتراند رسل هو من طرح هذا الاشكال المفترض في كتاب له بالانجليزية بعنوان المعرفة الانسانية وقد نُشر (عام 1948)10. فهذه هي ذكرياتي عن الكتاب ومؤلفه والموضوع الذي نحن بصدده، وقد يكفي التحقيق في ذكرياتي من خلال البحث عن هذا العنوان ومؤلفه واللغة المدونة ليتأكد لي القسم الاعظم والأهم من هذه الذكريات، ومن ثم البحث عن خصوصية المسألة لأرى ان كانت ذات مصداقية حقيقية أو انها وهمية.
ومن منطلق صوفي إعتبر محي الدين بن عربي ان الحياة الدنيا محض منام، وانها جعلت عبرة أو جسراً يعبر منها الإنسان كما يتم العبور من الرؤيا التي يراها النائم إلى ما تعنيه في عالم اليقظة كالذي تنص عليه الاية الكريمة: ((يا أيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعْبُرون))11، واستشهد على ذلك بالحديث النبوي: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)12. وان تفسيره لخلق السماوات والارض جاء على نحو احتجاب الحق في الخلق، أي ففي هذه الدنيا قد خفي عنا الحق باحتجابه في الخلق. الأمر الذي يتسق مع إعتقاده بأن إدراكاتنا لا تسعفنا في مشاهدة الحق على ما هو عليه، وهو المقصود من كوننا نياماً لا نرى الحقائق كما هي. وقد صوّر لنا ذلك بمثل ما يحدث في إدراك الشعلة الجوالة، حيث تحدث في عين الرائي دائرة، ومع ان ما يبصره الرائي هو هذه الدائرة النارية، إلا ان من المعلوم كونها غير موجودة، فالدائرة المرئية ليست بدائرة حقيقة، وذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين، فيُحكم عليها بأنها خلق، وبالعلم والكشف يظهر انها حق مخلوق به، أما ما يظهر للعين فهو عدم في عين وجود13.
ويعد ديكارت من أبرز الذين اعترفوا بعجزهم عن ايجاد السبيل للإستدلال على الواقع الموضوعي، الأمر الذي اضطره إلى الاستعانة بالثقة بالله المدبر، فاعتبر يقينه الذاتي بالله كافياً للإطمئنان بواقعية العالم الخارجي، بعد ان يأس من التمييز بين عالمي اليقظة والرؤيا. فحاله حال الامام الغزالي الذي انتهى به الإعتقاد والتسليم بأن هناك ما هو فوق الدليل والعقل، وهو الثقة بالله تعالى، فهو القائل: ‹‹من ظنّ ان الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة››14.
هكذا نرى ان الإستدلال على الواقع الموضوعي مستحيل، رغم اننا على يقين به وجداناً، مثلما نكون على يقين من ضرورة بعض المبادئ العقلية غير المنطقية؛ كمبدأ السببية العامة، وكون الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، أو ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الان نفسه، إذ ليس لدينا من الدليل ما يؤكد هذه القضايا غير الشعور والكشف. إلا ان مثل هذه المبادئ تختلف عن مسألة واقعية العالم، فنحن نستمد يقيننا من الأولى بضرورتها الوجدانية، في حين ليس هناك احساس بضرورة تلك المسألة، فلا مانع عقلياً من أن تكون حقيقة الأمر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم أن شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى. ونحمد الله على هذه الالفة والغريزة التي لم تدع مجالاً لعقول الناس ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، أو ان يعاملوها على مستوى ما يعاملون به القضايا الأخرى. ولو فعل بعضهم ذلك لارتد خاسئاً وهو حسير!
1 نشير إلى ان استخدام لفظة (حلم) وما شاكلها قد تثير الالتباس، ومن ذلك انها اوهمت عدداً من المفكرين، منهم الاستاذ فؤاد زكريا الذي إعتبر الإعتقاد بالحلم هو في حد ذاته كاشف عن الواقع الموضوعي الذي يقابله، وان القول بالحلم الدائم متناقض ومستحيل فلسفياً، حيث ذكر في مقدمته لكتاب (نشأة الفلسفة العلمية، ص9) يقول: ‹‹ان الإعتقاد بأن الحلم أو الوهم أو خداع المعرفة شامل هو إعتقاد متناقض مع نفسه، وهو مستحيل فلسفياً، لأن الحلم لا يعرف بوصفه حلماً إلا لوجود واقع في مقابله، ولان الخداع لا يكون خداعاً إلا لاننا نقيسه على أساس معرفة صحيحة لا بد أن تكون موجودة إلى جانبه››. مع ان الصحيح هو ان لفظة (حلم) وغيرها من الالفاظ إنما ترد لتقريب المعنى، لذا يكفي تعبيراً عن المقصود استخدام لفظة (الصور الذاتية) في قبال الوقائع الخارجية، فنتحدث كما يتحدث فلاسفة المثالية عن الافكار من دون موضوعات، فاين هو التناقض؟ واين هي الاستحالة الفلسفية يا ترى؟!
2الأسس المنطقية للإستقراء،ص454ـ462.
3 البان.ج. ويدجيري: المذاهب الكبرى في التاريخ، ترجمة ذوقان قرقوط، الطبعة الأولى، ص18.
4 Russell; 1948; p.186.
5 فؤاد زكريا: نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، ص175.
6 المصدرالسابق،ص181.
7بولديفيز: التدبيرالالهي.
8بول ديفيز: الجائزة الكونية الكبرى، ترجمة محمد فتحي خضر، مراجعة حسام بيومي محمود، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى.
9 الجائزةالكونيةالكبرى،.
10 انظرالكتابالمذكور،.
11 يوسف/43.
12ابن عربي: الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418هـ ـ 1998م، ج1 ، ص296. وابو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار احياء الكتب العربية، 1365هـ ـ 1946م، ج1 ، الفص التاسع اليوسفي، ص101.
13 الفتوحاتالمكية،ج1 ،ص836. وانظرحولذلككتابنا: الفلسفةوالعرفانوالاشكالياتالدينية.
14 الغزالي: المنقذمنالضلال،حققهوقدملهجميلصليباوكاملعياد،مطبعةالجامعةالسورية،الطبعةالخامسة،1956م،ص88.