-
ع
+

أثير الذكاء والتصميم

يحيى محمد

للذكاء أنماط مختلفة؛ سواء كانت طبيعية كما في البشر، أو صناعية كالتي ينتجها الانسان، أو افتراضية كالذكاء الفضائي.. وهي قابلة للمعالجة العلمية. ونعتقد ان من المبرر له اقتراح وجود أثير لولاه ما كان للذكاء الطبيعي ان يتحقق، وهو ذاته يتصف بالذكاء الخارق، ويشكّل علة أساسية لمختلف النُظم المعقدة الكونية والحيوية. وسبقت الاشارة إلى ان ما نقترحه في هذا المجال لا علاقة له بالافتراضات الدينية والفلسفية الصرفة، فالأثير الذي نتحدث عنه غير مفارق ميتافيزيقي، وهو مستنتج مما تدل عليه الظواهر الفيزيائية والبايولوجية.

ولأثير الذكاء علاقة مقترنة بقوانين الطبيعة وأسبابها ونتائجها، لكن السؤال الذي يرد في هذا الصدد: هل العلاقة بينهما مجرد اقتران محايث كاقتران الضوء بالأثير المفترض فيزيائياً مثلاً، أم ان بينهما علاقة سببية؟

وبحسب الافتراض الثاني، لا يمكننا اعتبار القوانين والأسباب الطبيعية أساساً لوجود هذا الأثير، إذ في هذه الحالة لا معنى لافتراضه أصلاً، اللهم إلا إذا اعتبرنا الذكاءهو نتاج عملية تطورية عشوائية معقدة. بيد ان هذا الافتراض حتى لو كان صحيحاً فإنه لا يصدق إلا على الانسان العاقل الذي خرج إلى الوجود منذ زمن جيولوجي قصير لا يتجاوز نصف مليون سنة، وهو يمثل آخر مراحل سلّم تطور الحياة. وبالتالي فالافتراض السابق لا يصدق على ما قبل الانسان من كائنات حية، ولا حتى على ما قبل الحياة.

في حين انه بحسب معيار اللاطبيعانية، يُفترض ان تكون نشأة النُظم الفيزيائية المعقدة، ومن ثم الحياة وتطوراتها، مرهونة بأثير الذكاء. فتخلّق هذه النُظم لم يأتِ عبر قوانين حتمية صارمة، كما ان العشوائية والمصادفات لا يسعفها المنطق الاحتمالي. لذلك نرجح وجود أثير منبسط يتصف بالقابلية على البرمجة الذكية التي تهيء ذلك التخلّق.

فباعتقادنا ان هذا هو البديل المناسب لما يطرحه الفيزيائيون وعلماء الأحياء من فرضيات لا تقدم تفسيراً معقولاً حول كيف نشأ النظام الكوني الدقيق، ومن ثم الحياة وبعدها التطور الذي أدى إلى وجود كائنات ذكية غير معهودة.

أما السؤال عن مصدر أثير الذكاء فهذا يدخلنا ضمن البحث الفلسفي الذي يخرج عن المعالجة العلمية.

أثير الذكاء ومعاني التصميم

بعد المقدمة السابقة علينا ان نعرف بأن أثير الذكاء لما كان عنصراً غير طبيعاني؛ فإن ما يقوم به من أفعال تكوينية وتطورية يعبر عن تصميم بالمعنى القوي، وذلك في قبال المعنى الضعيف الذي يتوقف عند حد الاعتراف باندماج التصميم في قوانين الفيزياء والكيمياء أو غيرها من القوانين الطبيعية؛ من دون حاجة إلى افتراض عنصر لا طبيعاني يوجه العمليات الكونية والحياتية.

وللمعنى الضعيف للتصميم حالتان، إحداهما انه لا يتعدى الحالة الاختزالية في علمي الفيزياء والكيمياء وما شاكلهما من العلوم الأساسية. أما الأخرى فهي انه يُعنى بقوانين أخرى لا تفسرها هذه العلوم الأساسية. وسواء الحالة الأولى أم الثانية فإن مردّها إلى العلوم والعناصر الطبيعانية. ويخالفهما في ذلك المعنى القوي، حيث يتمسك بالتفسير اللاطبيعاني للظواهر المتعلقة بالمعلومات والنُظم المعقدة. ويمكن تسليط بعض الضوء على هذه الحالات المختلفة من خلال الفقرات الثلاث التالية..

 

المعنى الاختزالي الضعيف للتصميم

وفقاً للمعنى الاختزالي للتصميم تم اقتراح ان يكون الكون ناشئاً كالآلة أو الساعة الموجهة كالذي جاء عن عدد من العلماء والفلاسفة، أمثال نيوتن وووليام بيلي، أو ناشئاً كالبناء المعماري كما اعتقده عالم التشريح المقارن والحفريات ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، ومثل ذلك الرأي الذي تمسك به عالم الكيمياء الحيوية المعاصر مايكل دنتون في ان الكون يضمر غاية متأصلة تم التخطيط لها ضمن قوانين الطبيعة أو في بنية الكون سلفاً؛ كما في كتابيه (قدر الطبيعة) و(التطور: ما يزال نظرية في أزمة).

ومعلوم ان أغلب العلماء يسعون إلى ردّ الظواهر الكونية والحيوية إلى القوانين الفيزيائية والكيميائية أساساً. وقلة منهم يعتقدون ان هذه القوانين مشفّرة وغائية. ويحضرنا بهذا الصدد عالم الفيزياء والكيمياء الحيوية والحائز على جائزة نوبل مانفريد إيجن الذي أجرى عام 1992 بحثاً حول أصل الحياة انطلاقاً من انها قابلة للتفسير وفق القوانين الفيزيائية والكيميائية، كما في كتابه (خطوات نحو الحياة). إذ رأى ‹‹أن مهمتنا هي العثور على خوارزمية لقانون طبيعي يؤدي إلى أصل المعلومات››. كما رأى في الوقت ذاته ان التطور قائم على سلسلة من التحولات الطورية، وهي ليست بلا هدف ولا توجيه، خلافاً للمذهب الدارويني. مع هذا اعترف ان حجته تظل مادية؛ باعتبارها قائمة على الاعتبارات الفيزيائية والكيميائية.

واستناداً إلى هذا المعنى ثمة من تبنى فكرة ارسال شفرة كونية في لحظة الانفجار العظيم تربطنا عائلياً بكل شخص وكل شيء في الكون، مع التأكيد على مركزيتنا وصغرنا في مخطط الأشياء. وهي الاطروحة التي التزم بها الفيزيائي جيمس جاردنر في (الكون الذكي) عام 2007؛ معتمداً على مذهب توالد الأكوان كما جاء عن الفيزيائي النظري لي سمولين Lee Smolin، مع فكرة انتشار الحياة والذكاء في كل مكان.

وقبل ذلك طبّق الفلكي جون بارو فكرة شانون على قوانين الطبيعة عام 1988، فاعتبر الطبيعة تتضمن تشفيراً دقيقاً، وان البحث العلمي جار في الكشف عن هذا التشفير وسط الضوضاء والتشويش الذي نحصل عليه بفعل التجارب التي نقوم بها.

ويبدو ان أغلب الذين يعولون على مذهب الاختزال في رد المعلومات والبرمجة الحيوية إلى القوانين المادية وفق معيار الطبيعانية لا يؤمنون بفكرة التصميم الهادف. لكن ثمة من يعتقد بهذه الفكرة وفقاً للمعنى الضعيف.

وفي قبال النظرة السائدة ذهب القليل من العلماء إلى رفض مبدأ الاختزال في رد المعلومات المعقدة إلى العوامل الفيزيائية والكيميائية. وبعضهم رأى انه لا بد من البحث عن قوانين طبيعية أخرى يمكنها تفسير هذه المعلومات.

المعنى غير الاختزالي الضعيف للتصميم

منذ ستينات القرن العشرين تطورت فكرة الاعتماد على المعنى الضعيف للتصميم من خلال الاستناد إلى ظاهرة المعلومات والبرمجة. وعلى أثرها أصبح يُنظر إلى الكون بمثابة حاسوب مشفر بالمعلومات اللازمة لخلق النُظم الكونية والحيوية.

وفي البداية كان الحديث عن هذه البرمجة مقيداً ببعض الظواهر الحيوية، لا سيما المعلومات التي تم اكتشافها في الجزيئات العملاقة للحامض النووي الدنا DNA، والتي أظهرت فجوة عميقة أو حاجزاً أصم بين المادة العضوية واللاعضوية. وقد جاءت هذه الفكرة كرد على المذهب السائد الذي يرى ان المعلومات لا تختلف عن بقية الظواهر الحيوية والكونية في القابلية على الاختزال إلى القوانين الفيزيائية والكيميائية وما شاكلها طبقاً لمعيار الطبيعانية.

علماً بأن البعض قام بقلب هذه المعادلة الاختزالية إلى العكس، كما هو الحال مع الفيزيائي النظري المعروف جون ويلر، وكما كتب عام 1989 قائلاً: ‹‹إن ما نسميه بالواقع ينشأ في التحليل الأخير من طرح أسئلة (نعم – لا).. وباختصار كل الأشياء المادية هي معلومات نظرية في الأصل، وهذا كون تشاركي››. كما ظهرت خلال الثمانينات فكرة احتمال ان يكون الكون عبارة عن حاسوب عملاق، وان ما نراه يمثل أجهزة هذا الحاسوب، حيث لا توجد برامج بدون أجهزة. أو ان الكون عبارة عن رسالة مشفرة، ووظيفة العالم هي فك تشفير هذه الرسالة. ثم بعد ذلك ظهرت فكرة الأكوان الدمى الملفقة الحاسوبية، وفقاً لنظرية الأكوان المتعددة.

لكن تبقى هذه التصورات شاذة في الوسط العلمي القائم أساساً على مبادئ الفيزياء والكيمياء وتعميمها على ظواهر الحياة. وما زال هناك سعي حثيث في البحث عن طرق التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى نشوء هذه الظواهر المعقدة، رغم انه لم يظهر في الأفق ما يؤكد هذه الرؤية إلى يومنا هذا.

ومن الناحية التاريخية ربما كان مايكل بولاني Michael Polanyi أول من أشار صراحة إلى رفض فكرة اختزال المعلومات الحيوية المعقدة إلى قوانين الفيزياء والكيمياء. ففي عام 1967 أصدر مقالة بعنوان معبّر (الحياة تتجاوز الفيزياء والكيمياء Life Transcending Physics and Chemistry)، ثم قام بتوسعتها بعد عام تحت عنوان مشابه (بنية الحياة غير القابلة للاختزال). وقد تضمنت المقالة بأن الحياة تمتلك سلسلة من المستويات الهرمية، حيث يتقوم وجود المستوى الأعلى بالأدنى الذي يمثل شرط وجوده، لكن يبقى الأول هو من يتحكم في الثاني من حيث تسخيره للقيام بوظيفته الخاصة، ولهذا السبب فهو غير قابل للاختزال إلى الأدنى. وقد طبّق بولاني هذا المعنى على علاقة الحياة بالقوانين والأسباب الفيزيائية والكيميائية، إذ تعتبر شرطاً ضرورياً لوجود الحياة، لكنها لا تفسرها؛ باعتبارها تمتلك مبادئ عليا لا يمكن اختزالها إلى هذه القوانين، كما انها لا تعارضها في الوقت ذاته.

وهذا ما ينطبق على البرمجة الحيوية كما في جزيئة الحامض النووي العملاقة الدنا DNA؛ لامتلاكها سلسلة من ارتباطات النيوكليوتيدات nucleotides التي تعمل على نقل المعلومات المفيدة والقابلة للتحديد الرياضي؛ من دون ان يكون لها قابلية على الاختزال إلى قوانين الفيزياء والكيمياء، وهو الحال الذي نشاهد نظائره في مبادئ الهندسة الميكانيكية والاتصالات، باعتبارها غير قابلة هي الأخرى للاختزال الفيزيائي والكيميائي.

وقد سار الفيزيائي المعروف بول ديفيز على نهج بولاني في كتابه (المخطط الكوني The Cosmic Blueprint) عام 1988، حيث اعتبر ان لكل مستوى من مستويات الكون والحياة والعقل والمجتمع قوانينه الخاصة، وليس بالامكان اختزالها إلى ما دونها؛ بسبب التعقيد الذي تتمتع به. ومن ذلك ان قوانين البرمجة الذهنية العالية المستوى لا يمكن اختزالها إلى ما دونها من الفسلجة العصبية، إذ لكل مستوى سببيته الخاصة، مثل السببية المعلوماتية كشيء متميز نوعياً عن السببية الفيزيائية. وهذا ما جعله يرى وجود عقل أو حياة ذكية مكتوبة في قوانين الطبيعة، معتقداً ان العلم قادر على تفسير التعقيد والتنظيم في جميع المستويات بما فيها الوعي البشري، لكن فقط من خلال تبني فكرة قوانين المستوى الأعلى من دون اختزال. وقد اعترف ديفيز بأنه قد استلهم الكثير من أفكاره بهذا الشأن من أعمال عالم الأعصاب الحائز على جائزة نوبل روجر فولكوت سبيري Roger Wolcott Sperry في تجاربه على الأدمغة المنقسمة.

وبعد عقد من الزمان طرح ديفيز فكرة أعمق حول عدم اختزال الحياة ضمن قوانين الفيزياء والكيمياء؛ معتمداً في ذلك على البرمجة الحياتية التي اعتبرها قوانين طبيعية جديدة تتفق مع القوانين الأساسية للفيزياء من دون اختزال. وأشار إلى انه عندما شرع في كتابة (المعجزة الخامسة) عام 1999 لم يكن يعتقد أن مثل هذه القوانين ضرورية لشرح نشأة الحياة، بل افترض انها تعالج ضمن المفاهيم الداروينية دون ان تتجاوزها، لكن ما توصل إليه خلال البحث بدى له شيئاً مخالفاً تماماً، ولم يعد يعتقد ان التفاعلات الكيميائية قابلة لفك لغز الحياة العظيم، إذ يعتمد ذلك على شيء جديد من الناحية المفاهيمية، وقصد بذلك قوانين البرمجة الخاصة بالتعقيدات المنتجة للمعلومات.

وبلا شك ان القوانين الجديدة تختلف جذراً عن قوانين الفيزياء المألوفة، فعلى الأقل انها تتجاوز الفكرة الاختزالية للعلم ازاء العالم، إذ ان الأخيرة تعتبر المعلومات مفهوماً ثانوياً مشتقاً عن تفاعل الجسيمات المادية، في حين أنها من وجهة نظر ديفيز عبارة عن كمية فيزيائية حقيقية قابلة للتداول من قبل ‹‹قوى المعلومات›› بنفس الطريقة التي يتم فيها تحريك المادة بواسطة القوى الفيزيائية. وهو ما يعني قبول التعقيد كمتغير كمي فيزيائي ذي فعالية سببية حقيقية، بدلاً من اعتباره مجرد وصف كيفي لمدى تعقيد النظام. لذلك فبموجب قانون المعلومات يمكن التحكم في برامج الشفرة الجينية باعتبارها من النُظم المعقدة.

ومعلوم ان بول ديفيز يميل في هذا الكتاب وفي مجمل كتبه الأخرى إلى فكرة التصميم بالمعنى الضعيف.

ونشير إلى مذهب توماس ناجل الذي يقترب من المعنى غير الاختزالي للتصميم، إذ يعترف بوجود غائية تقف خلف الظواهر الطبيعية من دون اختزال، حيث لها قوانين ذات علاقة بالحرية وعدم الحتمية. لكنه مع هذا ينفي التصميم والإلوهة رغم اعترافه بالغائية، وهو ما يجعله خارج اطار المعنى الضعيف الآنف الذكر. وقد استعان ناجل بمقالة للباحث روجر وايت الذي استعرض أربعة أنماط من التفسير الخاص بالحياة (عام 2007)؛ فهي إما ان تكون وليدة الصدفة أو الخلق أو القانون الفيزيائي أو الغائية الطبيعية. وقد انحاز ناجل إلى الافتراض الأخير.

المعنى القوي للتصميم

تبدي عدد من النظريات السابقة التي استعرضناها ان الكون جاء وفق تصميم محدد، وان بعضاً منها تمسك بقوانين طبيعية خارج دائرة الفيزياء والكيمياء، وهي القوانين المناطة بالمعلومات الحيوية المعقدة، وهي خطوة متقدمة، لكنها ناقصة، إذ لم تحدد طبيعة الكيانات الموضوعية التي تنشأ عنها هذه القوانين. فكل قانون يعمل بحسب كيان محدد لولاه ما كان للقانون وجود، فالجاذبية مثلاً لا وجود لها لولا حضور الكتل المادية أو الطاقوية، كذلك لولا الالكترونات والفوتونات ما كان لقوانين الكهرومغناطيسية وجود، وكذا هو الحال مع جميع قوانين الطبيعة. في حين ان النظريات التي تبنت فكرة وجود قوانين طبيعية للبرمجة الحياتية – والكونية - من غير اختزال لم تحدد بالضبط ما هو الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه البرمجة وتوليد المعلومات. وبعبارة ثانية انها لم تشخص العلاقة السببية الخاصة بالمعلومات أو برمجة النُظم المعقدة.

وهنا يأتي دور التصميم بالمعنى القوي، كما في حالة أثير الذكاء، إذ التفسير الطبيعاني لا يلائمه، وحتى التشفير والبرمجة رغم انها واضحة عند النظر إلى مجمل العمليات الكونية والحياتية إلا انها لا تُفسر ضمن اعتبارات القوانين والثوابت والأسباب الطبيعية، فالتفسيرات الطبيعية المتعلقة بها لم تستطع تحديد الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه البرمجة والتشفير، ومن ثم فهناك ما يدل بشكل واضح على وجود شيء آخر لا طبيعاني، أو ليس داخلاً ضمن الأسباب الطبيعية المألوفة، رغم ان وظيفته دفع العمليات الكونية والحياتية لغايات محددة، كالذي نفترضه في أثير الذكاء، وان الأخطاء والعشوائية المترتبة عن هذه العمليات لا تؤثر على المنحى العام للتصميم الذي يتولاه.

فالفارق بين المعنيين السابقين للتصميم، هو انه يمكن للمعنى الضعيف ان يفسر قوانين الكون وثوابته وأسبابه الطبيعية من التفاعلات الفيزيائية والكيميائية، لكنه عاجز عن تفسير ما يخرج عن هذا الاطار الطبيعي. كما ان اضافة قوانين طبيعية أخرى مناسبة للبرمجة لا تعتبر وافية طالما انها لم تحدد الكيان الموضوعي المفضي إلى هذه البرمجة. وهي نقطة ضعف يتلافاها المعنى القوي من حيث قدرته على تشخيص الكيان الموضوعي المسبب للبرمجة الحياتية والكونية، وفي الوقت ذاته لا يرفض القوانين والثوابت والأسباب المادية في تفسير الظواهر الطبيعية، لكنه يضيف إليها صوراً وعلاقات لا تخضع إلى تفسيرها، بل ويجعل منها محكومة وفق خطة غائية أدت إلى خلق الكائنات الذكية العاقلة، وما زال الطريق مفتوحاً كما يبدو نحو التسامي.

وهي فكرة تتناغم مع ما ذهب إليه بعض العلماء من وجود كائنات ذكية عاقلة شائعة في الكون وفق التفسير الغائي الموجّه.

ومن المهم ان نعرف بأن الكثير من علماء الطبيعة يتقبلون المعنى الضعيف للتصميم، طالما انه لا يمتلك في جعبته عناصر لا طبيعانية يُعزى إليها التطور الكوني والحياتي. في حين تمسك القليل من العلماء بالمعنى القوي للتصميم، كما هو حال أغلب أنصار حركة التصميم الذكي. وأرى أنهم محقون في تبني هذا المعنى، رغم ان الفكرة التي طرحوها ما زالت غامضة، فهم لم يحددوا من الناحية العلمية أي شيء يتعلق بهوية المصمم الذكي، ومن الناحية الشخصية لا ينكرون ان المصمم هو الله.

فمثلاً صرح مايكل بيهي بأنه قصد من المعنى القوي للتصميم الذكي بما يتجاوز قوانين الطبيعة، لكنه لم يحدد من الناحية العلمية ان كان تجاوز هذه القوانين داخلاً ضمن بنية الكون أم خارجاً عنها. وفي الوقت ذاته اعتبر المصمم الذكي هو الله كقرار شخصي لا يمت إلى الاعتبارات العلمية، لظنه ان ذلك يخرج عن حدود العلم، وهو الرأي الذي سبق إليه الكيميائي تشارلس ثاكستون عام 1986.

في حين بحسب اطروحتنا ثمة ما يدل على ان التصميم يعود إلى عنصر مستبطن ضمن الاطار الكوني والحياتي وإن كان نفسه لا يعبر عن شيء طبيعاني، فهو على شاكلة الذكاء البشري، حيث لا يعتبر طبيعاني رغم انه غير مفارق للطبيعة، وكذا على شاكلة المادة والطاقة المظلمتين اللتين تتحكمان بالكون بحسب الافتراض الفيزيائي المعاصر، رغم انهما ليسا طبيعيين بالمعنى المألوف.

أثير الذكاء والفيزياء

ثمة نقاشات فيزيائية تتعلق بأصل الجسيمات وطبيعة تداخلها وتحول بعضها إلى البعض الآخر، ونرى ان لها بعض الدلالة الخاصة بأثير الذكاء.

فلقد أدرك الفيزيائيون وجود تداخل بين الجسيمات الأولية، وهو ما يوحي بوجود شيء مشترك فيما بينها يمكن ان يشكل أساس وجودها وتجلياتها جميعاً. وهناك عدد من الافتراضات النظرية الخاصة بهذا المحور كالتي عرضنا تفصيلها في (انكماش الكون). وما يهمنا هنا هو بعض هذه الافتراضات، فقد يعبر الشيء المشترك عن شيء منبسط على الجسيمات دون ان يمثل واحداً منها. ويأتي ذلك على معنيين:

أحدهما سريان الشيء في صميم الجسيمات، بحيث يكون الجسيم مركباً من الشيء الخاص والشيء المشترك، وهو ما يبدو من عبارة الفيزيائيين، خاصة مدرسة كوبنهاگن، إذ من وجهة نظرها انه لا يوجد جسيم محدد يمكن ان يكون أساس البقية، بل كل جسيم يمتلك شيئاً منها ضمنياً، وبالتالي فهناك شيء مشترك فيما بينها، وان التحولات من البعض إلى البعض الآخر يجري وفق المشترك الذي يجمعها، وإن لم يحدد هذا الشيء على نحو التعيين، كالطاقة أو المادة.

وأهم ما في هذه النظرية هو أنها تتأيد بظاهرة تشابك الجسيمات وتعالقها. فهي تتضمن شيئاً مشتركاً داخلياً قد يفسر ما عليه تلك الظاهرة. فوفقاً لمدرسة كوبنهاگن ان للجسيم شيئاً من الوجود أو النزوع نحو الوجود هنا وهناك، الأمر الذي يفسّره المشترك الضمني للجسيمات، بحيث يسمح للشيء ان يكون هنا وهناك، كما يسمح بظاهرة التأثير اللحظي عن بعد من دون أسباب وسيطة خفية، خلافاً لما ذهب إليه ديفيد بوم David Bohm من وجود متغيرات مخبأة ضمن واقع ضمني دفين للجسيم.

أما المعنى الآخر عن انبساط الشيء على الجسيمات فهو ان يسري عليها من الخارج. وهو معنى يقارب النظرية السابقة من حيث الاعتراف بوجود مشترك بين الجسيمات، لكن هذا المشترك ليس من ضمن ذواتها الداخلية، بل عارض عليها من الخارج. وكتقريب لهذه الفكرة يمكن التمثيل عليها بالتصورات الفلسفية القديمة، فهي أشبه بالهيولى الأصلية التي تتوارد عليها الصور المختلفة، ومن دونها لا يظهر شيء. أو انها أشبه بالعقل الإلهي الذي ينبسط على الأشياء فتظهر بحسب طبائعها الامكانية، وبدونه تبقى الأشياء معدومة كأعيان ثابتة لا تشم رائحة الوجود، ومع ذلك لا تُعرف حقيقة هذا العقل، فهو كالنور الذي تتمظهر به الأشياء وبدونه لا يظهر منها شيء قابل للرؤية، ولا يمكن معرفته والاحاطة به استناداً إلى هذا التجلي بالصور المتنوعة.

ويمكن لهذه الاطروحة ان تفسر لنا ما يجري من تطورات دقيقة لدى الظواهر الفيزيائية، إذ يصبح العنصر المشترك عبارة عن أثير منبسط على الأشياء ضمن اعتبارات ميتافيزيائية ووجودية عامة وظيفته إمداد المعلومات والقوة للتأثير والتنوع والتطور الغائي، وأهم ما يتصف به هو الذكاء. وهو من بعض الوجوه يتفق مع رؤية ديفيد بوم في وجود عناصر دفينة مؤثرة على تفاعل الجسيمات الفيزيائية.

وتتقبل هذه الاطروحة التلبس بأي من النظريات العلمية المتعارف عليها، كاطار مرافق لها دون ان تكون عرضية معها أو منافسة لها، مع أخذ اعتبار انها تفسر من القضايا ما لا يمكن للنظريات الفيزيائية تفسيرها.

وقد يرى البعض شبهاً بين أثير الذكاء الذي نفترضه والعقول الفلكية التي اعتقد بها الفلاسفة القدماء، فأثير الذكاء هو وسيط عقلي كوساطة العقل الفعال الأخير لدى المشائين، أو العقول العرضية لدى الاشراقيين، وانه يتحكم بمجمل العمليات الكونية والحياتية. لكن الحقيقة ان بينهما فوراق كبيرة، فأثير الذكاء ليس بمفارق مثلما هو حال تلك العقول، كما ان من صفاته القدرة والإرادة، وان تحكّمه يدع شيئاً من هامش العشوائية خلاف التصور المتعلق بأفعال العقول الحتمية استناداً إلى قوانين العلة والمعلول. اضافة إلى ان الاستدلال عليه يأتي من منطق الاحتمالات والاعتبارات العلمية، وليس من مبدأ السنخية كما هي طريقة أولئك الفلاسفة.

وتجدر الاشارة إلى ان انبساط أثير الذكاء على الأشياء ربما يجعلها منطبعة به، فتحظى بأطياف متفاوتة من صفاته، أو انها تكون ببعض الجوانب على شاكلته وان لم تدرك هذه الصفات لضعفها الشديد، كما في الحياة والادراك والإرادة، حيث تبدو لنا معدومة لدى المواد غير الحية والتي تشكل أغلب ما في الكون.

وتبدو هذه الفرضية شبيهة بعلاقة مجال هيجز Higgs field بالكتل الجسيمية، إذ لا أثر لهذه الكتل المتباينة لولا احتكاكها المتفاوت بهذا المجال الأثيري بداية نشأة الكون. وكذا هو الحال في علاقة ما نجده من صفات للحياة والادراك والإرادة لدى عدد قليل من الكيانات الوجودية انما قد تكون بفعل احتكاكها القوي بهذا الأثير، مع ضعف الاحتكاك بغالبية الأشياء التي تبدو لنا غير حية ولا تمتلك الادراك والإرادة.

ولهذه الفكرة الاحيائية جذورها الفلسفية والدينية القديمة، بل وانها حاضرة في الفكر الحديث والمعاصر، حيث يتبناها العديد من الفلاسفة والعلماء بصيغ مختلفة، مع دلالات متقاربة، ويعبّر عنها أحياناً بشمولية العقل أو الروح أو النفس أو الحياة أو الاحساس أو الإرادة وما إلى ذلك. وتُعرف بمذهب النفسانية الشاملة Panpsychism. وتعتبر شائعة لدى فلاسفة وعلماء القرن التاسع عشر من أمثال شوبهاور وبيرس ويوشيا رويس ووليام جيمس وهارتمان وشيلر وارنست هيجل وكليفورد وجوستاف فخنر وفيلهلم فونت وهيرمان لوتز، وغيرهم من الاسماء الذين ينسب إليهم القول بهذه الاطروحة.

كما ذهب إليها خلال القرن العشرين عدد من الفلاسفة والباحثين والعلماء، مثل الفيلسوف المعروف وايتهيد وعالم الحفريات الثيولوجي بير تيلارد دي شاردن Pierre Teilhard de Chardin، كذلك الفيزيائي فريمان دايسون Freeman Dyson الذي كتب يقول: ان العقل متأصل بالفعل في كل إلكترون. أيضاً حاجج الباحثان تونوني Tononi وكوخ Koch بأن المادة والعقل شيء واحد. ومثل ذلك عبّر هوفمان Hoffman بأن حقيقة الواقع تتصف بالوعي. والبعض ينسب العقل بشكل بدائي للكيانات على المستوى الأساسي للفيزياء دون المواد المتجمعة أو الكبيرة مثل الصخور والمباني.

وثمة أسماء كثيرة من الفلاسفة المعاصرين، خاصة من امريكا وبريطانيا، نسب اليهم القول بهذه النظرية، مثل توماس ناجل وديفيد راي جريفين وديفيد سكربينا وجريج روزنبرج وتيموثي سبريج وفيليب جوف ووليام سيجر. ومثل ذلك ما ينسب إلى الفيزيائي المعروف ديفيد بوم.

***

على انه إذا كانت مثل هذه الأفكار تعتبر اسطورية، فعلينا ان ندرك بأن علم الفيزياء هو الآخر حافل بالأفكار الاسطورية التي ليس عليها أدنى دليل، كالذي سطّرناه في (منهج العلم والفهم الديني).

لكن بعيداً عن مثل هذه التصورات الخيالية، تبقى اطروحة أثير الذكاء مندرجة من حيث الأساس ضمن التصورات الفلسفية رغم انها ليست ذات طابع تجريدي كالذي يصدرعن فلاسفة الوجود، بل لها روابط ومبررات علمية ضمن أُفق الارتباط المستحكم بين العلم والفلسفة، أو الفيزيقا والميتافيزيقا، أو ما نعبر عنه بالتفسير اللاطبيعاني قبال التفسير الطبيعاني.

ومن المهم ان نعرف ان هناك ظواهر عديدة توحي بوجود قوانين مشفرة تقف خلف النُظم الفيزيائية مثلما تقف خلف النُظم الحية.. وهو أمر يمكن تفسيره وفق ما طرحناه حول أثير الذكاء كحقل حيوي مرافق لكل التأثيرات الفيزيائية بما تنطوي عليه من اعتبارات غائية لم يتم الاعتراف بها لحد الآن، رغم وجود اشارات حولها ما زالت تخاطر عقول الفيزيائيين، مثل اطروحة المبدأ الانساني.

أثير الذكاء وقياس التمثيل

ان افتراض مبدأ الذكاء في الأثير الكوني لا يبرره التشابه والتمثيل بذكاء البشر، كما ترد الاتهامات عليه من قبل أنصار الطبيعانية ضد خصومهم، مستخدمين الفوارق بين المصنوعات البشرية المصممة من جهة، والمنتجات الحيوية غير المصممة – من وجهة نظرهم - في عالم الأحياء من جهة ثانية. إذ يُعرف في الأولى مَن هو المصمم وقدراته، كما انها لا تتصف بسمة الحياة والاستنساخ والتكاثر الذاتي وما إلى ذلك، خلافاً لما هو مفترض في حالة المنتجات الحيوية. وهي التهمة التي وردت لدى محكمة دوفر الشهيرة عام 2005 ضد أنصار حركة التصميم الذكي.

ورغم ذلك نلاحظان قياس التمثيل الذي رفضه علماء الأحياء؛ يعتبر مصدر قوة وإلهام لدى علماء الفيزياء المعاصرة. فقد تم التفسير والتنبؤ من خلاله بالكثير من الحالات الفيزيائية، لا سيما تلك التي تجري وفق المألوف من الظواهر. ومن ذلك تفسير الضغط الجوي كما في تجربة تورشلي بلحاظ ضغط الماء. أو تفسير ظاهرة الضوء بالموجة شبيهاً بموجات الماء والصوت. وعبر هذا النمط من الإستدلال تمكن العلم من ان يوحد بين القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، ومن ثم التنبؤ بوجود جسيمين مراسلين. كما تم اكتشاف مجال القوة النووية الشديدة من خلال التمثيل بالقوة الكهرومغناطيسية. كذلك اُعتمد عليه في إفتراض جسيم بوزون هيجز ضمن مجال هيجز تشبهاً بالمجال الكهرومغناطيسي للفوتون. ومثل ذلك إفتراض جسيمة الكرافيتون للثقالة، إذ أغلب القوى الطبيعية تحملها جسيماتها الخاصة، ولم يبقَ إلا الثقالة التي يتوقع ان تحملها جسيمة على هذه الشاكلة وفقاً للقياس التمثيلي. كذلك ان إفتراض وجود أبعاد فضائية خفية كان مديناً لهذا القياس التمثيلي، تشبهاً بعلاقة الجاذبية بالأبعاد الزمكانية. أيضاً فإن فكرة الأكوان المتعددة المتوازية جاءت على خلفية مشكلة قطة شرودنجر الكمومية وفقاً لهذا التمثيل. وكذا ان فكرة المدارات البيضوية للكواكب الشمسية جاءت بفعل هذا النمط من القياس، حيث اضطر كبلر إلى تعميم ما لاحظه من الشكل البيضوي لحركة المريخ على سائر الكواكب وفقاً للدليل التمثيلي.

مع هذا فإن استنتاج وجود الذكاء لم يقم على قياس التمثيل، أو دليل التماثل مع المنتجات البشرية المصممة، بل هو قائم على مبدأ الاحتمالات المنطقية، وهو قانون عام ينطبق حكمه على المنتجات البشرية وغير البشرية، سواء تعلق الأمر بموضوع الذكاء أو غيره من الموضوعات الخارجية، ولا يضير في ذلك الجهل في معرفة سمات سبب الذكاء.

ففي علم الآثار والانثروبولوجيا قد تعطينا بعض القطع الأثرية دلالات معينة للاشارة إلى أسباب ذات طبيعة عامة وان لم يتحدد بالضبط كل السمات التي نود معرفتها. وفي علم الجريمة قد يُعرف ان حادثة الموت لم تكن طبيعية، بل نتيجة قتل وإن لم تُعرف هوية القاتل. كذلك ما زال العلماء يطمحون في البحث عن ذكاء خارج الأرض (SETI) ضمن معايير منطقية تخولهم تمييز ما يصلهم من اشارات موجية ان كانت بفعل الأسباب الفيزيائية، أو بفعل التشفير والذكاء، حتى وان لم يتم تحديد سمات مصدر هذا الذكاء. بل في الفيزياء المعاصرة اعتبرت بعض الكيانات المفترضة تفسيراً لبعض الظواهر الكونية رغم الجهل بطبيعة هذه الكيانات تماماً، كما في المادة والطاقة المظلمتين.

وتتمثل هوية أثير الذكاء بالمبرمج الذي يعمل على تشغيل الحاسوب الكوني والحيوي المعني بالصنع والتكوين. فالتصاميم التي نشاهدها على صفحة الانترنيت – مثلاً – تخفي وراءها البرنامج الذي يقوم بتشغيلها. ولا يعرف دقته ومحتواه إلا الخبراء في هذا المجال. ومع ذلك نحن نعلم بأن البرنامج هو صنيعة بعض المبدعين الأذكياء. ورغم ان الخبراء يعرفون بالضبط تركيبة ومحتوى البرنامج، لكنهم عاجزون عن معرفة الشخص – أو الاشخاص - الذي قام بالتخطيط له وصنعه؛ فيما لو لم يتم الاعلان عنه اعلامياً. فكل ما يمكن معرفته هو ان له ذكاءاً غير عادي، اعتماداً على الدقة الوظيفية المشهودة في التركيبة الخفية للبرنامج.

وينطبق هذا المثال على علاقة أثير الذكاء بمصنوعاته. فنحن نشهد نظامها المعقد الدال على برمجتها، كما نعلم القليل عن هذه البرمجة عبر بعض القوانين التي تتحكم فيها دون التوصل إلى أسرارها الدفينة، كالتي تبحث عنها (نظرية كل شيء Theory of Everything). فما زلنا في بداية الطريق. لكن ما يمكن استنتاجه هو ان هذه البرمجة تحتاج إلى مبرمج مستقل، وهو ما نعنيه بأثير الذكاء. ولأن الظواهر الكونية والحياتية مترابطة؛ فهذا يعني ان الأثير واحد غير متعدد الكيان، أو مردّه إلى الواحد، وقد افترضنا انه منبسط على كل شيء في الكون لحاجة جميع الأشياء إليه في الصنع والتكوين.

هل يحتاج أثير الذكاء إلى مفارق؟

قد نتساءل فلسفياً فيما إذا كان أثير الذكاء مديناً في وجوده لكائن آخر مفارق، أم انه هو ذاته عبارة عن مبدأ الوجود الأول؟ ولو اعتقدنا بأن وجوده مستمد من مفارق غيره؛ لكان يعني ان بالامكان الجمع بين الذكائين المفارق والمحايث، أو بين ما تتبناه الأديان التوحيدية من إله وما تتبناه سائر الأديان. بل ان في الأديان التوحيدية ذاتها نجد حضور هذين النوعين من الإله وفقاً للأفهام المختلفة، فبعض المذاهب الدينية تعول على الإله المفارق المتعال، فيما تعول مذاهب أخرى على الإله المحايث.

وقد يقال ما الضرورة من هذا التعدد في الذكاء أو الإله، فإما القول بأنه مفارق، أو محايث. ولو قلنا بأنه محايث فما الداعي من افتراض المفارق؟ إذ سيمثل لزوم ما لا يلزم وفق مبدأ البساطة الاقتصادية؟

أما لو قلنا بأنه مفارق فسيفضي الحال إلى اقحامه المباشر في تفسير النُظم المعقدة التي تعجز القوانين والعلوم الطبيعية عن تفسيرها. وهو الرأي الذي يميل إليه بعض القائلين بالتصميم الذكي، ولو على النحو الشخصي لا الطرح العلمي، فيما طرح البعض فكرة الوكيل الذكي كما في كتاب (البندا والناس) بما يبدو انه يجمع بين الإلهين المفارق والمحايث. لكن يأتي تحفظنا على المعنى الأول من انه لا يخلو من النزعة الخلقوية في اقحامات الإله المفارق في عالمنا الكوني بشكل متكرر ومباشر وفق المعنى القوي للتصميم. وهو أمر لسنا مضطرين إليه عند افتراض أثير الذكاء، حيث يصبح التصميم والتخليق من نصيب هذا الأخير غير المفارق.

كما قد يعتبر البعض ان الظواهر الحيوية تخضع للأخطاء عبر الطفرات العشوائية وغيرها، ما يعني ان الصنع والتخليق سوف لا يختلف جوهراً عن الصنع البشري؛ باعتباره هو الآخر يخضع للأخطاء رغم قدرته على صنع التصاميم المدهشة.

وبحسب هذا الافتراض انه إذا أردنا اختبار ظواهر الصنع والتخليق إن كانت تعود إلى البرمجة الإلهية المفارقة أم إلى غيرها؛ علينا ان نفحص طبيعتها إن كانت معرضة للأخطاء أم انها مثالية الصنع والتكوين. فالحالة الأخيرة تدل على ان المصمم المباشر يمكن ان يتصف بالإلوهة وإن لم يلزم ذلك بالضرورة، في حين ان الحالة الأولى تبدي ان المصمم لا يمتلك هذه الصفة، وبالتالي يمكن ان نعزوها إلى كيان آخر مفترض يناسب تفسير مثل هذه الحالة كأثير الذكاء.

وبعبارة ثانية، قد يقال انه يمكن حسم القضية لصالح التصاميم الضمنية للطبيعة دون مفارقة متعالية تتعلق بالميتافيزيقا الإلهية؛ طالما ان هذه التصاميم ناقصة غير مثالية. وهي نقطة تفترض فلسفياً ان العمل المباشر للإله هو عمل مثالي، في حين ان العمل غير المباشر يتقبل الحالتين؛ أي ان يكون مثالياً أو ناقصاً من دون ترجيح قبلي أو عقلي.

لكن يمكن ان يُطرح في الحالة الأخيرة اشكالان: أحدهما: ما المانع من ان يقع الذكاء المفارق في ممارسة الخطأ؟ أي لماذا يتعين علينا الاعتقاد بكماله المطلق كالذي يبشّر به اللاهوتيون؟

والثاني: لماذا نصنف التشويهات التي تأتي أحياناً بفعل الطفرات الجينية وغيرها ضمن قائمة الأخطاء، ولم نعتبرها نتائج خاضعة لبعض القوانين والأسباب الطبيعية المؤثرة وإن لم نتمكن من تحديدها بشكل دقيق؟

وبلا شك ان الإشكال الأول يخرج عن المعالجة العلمية. أما الثاني فهو إشكال وجيه وأقرب إلى التصور العلمي، فما يحصل من تشويهات لا يتعدى الشروط والأسباب المؤدية إلى هذه النتائج دون ان يكون لها علاقة بالضرورة بما يقوم به المصمم من صنع وتخليق، سواء كان مفارقاً أو محايثاً.

مع هذا نعتقد بعدم ضرورة اقحام الذكاء المفارق في عملية الصنع والتخليق مادام من الممكن جعل التصميم من خصوصية الإله المحايث. وفي هذه الحالة، إما ان نعتقد بوجود إلهين محايث ومفارق، بمعنى ان المحايث ناشئ من وجود المفارق، شبيهاً - من بعض الوجوه - بما كان يعتقده الفلاسفة القدماء حول العقل الأول أو الفعال وعلاقته بالمبدأ الأول من جهة، وبالصنع والتكوين من جهة ثانية. كما انه شبيه بما تقوله الأديان واللاهوتيون من وجود الملائكة وعلاقتها المزدوجة أو الوسيطة بالإله من جهة، وبتنظيم العالم الكوني والبشري من جهة ثانية.

ووفقاً لمبدأ البساطة، قد يُكتفى علمياً بالإله المحايث دون اعتبار للإله المفارق؛ سواء كان موجوداً أو معدوماً. أما من الناحية الفلسفية فقد يجد الكثير حاجة إلى الاعتراف بوجود الإلهين، أحدهما يمثل الكمال المطلق كما في الإله المفارق المتعال عن الصنع والتخليق، والآخر ما ينوب عنه في ممارسة هذه العملية.

وبذلك ننتهي إلى ان ما يعنينا هو الإله المحايث من حيث علاقته بالصنع والتخليق. وهو من هذه الناحية يمتلك صفة الإلوهة، سواء كان الإله المفارق موجوداً بالفعل، أم انه افتراض فلسفي لا دليل عليه، وزائد عن الحاجة وفقاً لمبدأ البساطة.

comments powered by Disqus