ليس في المواقع الالكترونية ما يختص بفلسفة العلم للناطقين بالعربية، مثلما يفتقر العرب الى مجلة تختص بهذا الحقل الحيوي.. ومن هنا تأتي أهمية هذا الموقع.. ونحن الآن في بداية الطريق..
ان ما نعنيه بفلسفة العلم – هنا – لا يقتصر على منهج العلم، كما يوحي المصطلح، بل ينطبق ايضاً على المعنى الحرفي التقليدي للفلسفة، أي ذلك المتعلق بفلسفة الواقع والوجود، لكن بعد قيامها على النظريات والمفاهيم العلمية.
لقد كان الفلاسفة القدماء يطبقون قواعدهم النظرية على العلم الطبيعي، اذ الاخير هو نتاج الفلسفة وخاضع لاعتباراتها، رغم تأثر الفلاسفة بالشروط العلمية بشكل او بآخر. أما اليوم فقد اصبح من الصعب قيام فلسفة للمعرفة والوجود دون ان تتأثر بالعلم. بل صار الاخير عدسة تنفذ من خلالها طبائع المعرفة والوجود معاً، وبدونه ليس من السهل تحديد شيء خارجي. لكن في القبال ان العلم غير كاف ما لم يؤطر بالفلسفة. فالعلاقة بينهما جدلية، أحدهما يؤثر في الآخر، ومن ثم فانها تعبر عن المزاوجة بين الافتراضات الميتافيزيقية والنتائج العلمية، فهي بين بين، وقد يصح ان نطلق عليها (العلم الفرضي). فحتى التعميمات العلمية تندرج ضمن هذا الاطار، فلا هي محض علمية ولا انها ميتافيزيقية، فهي جامعة للأمرين معاً.
ان الفيزياء اليوم تأتي على رأس قائمة العلوم الحديثة التي تخضع للفلسفة وفق ما تثمره من نتائج، وهي نتائج تؤثر على الصعيدين الابستمولوجي والانطلوجي، ولكل منهما انعكاساته على البحث القيمي (الاكسيولوجي). لذلك فعلى الهيئات التي تتبنى الفلسفة التقليدية ان تكون على دراية وخبرة بالفيزياء اذا ما ارادت ان تصبح عصرية وذات طابع قريب من (الوجود)، فهو الموضوع الاساس الذي تدور حوله رحى الفلسفة.
ان أزمتنا المعاصرة تتجلى بانعدام اليقينيات وفوضى النظريات واضطراب الاراء، كما تدل عليه الفيزياء الحديثة والاتجاهات الفكرية والدينية والفلسفية وعلى رأسها فلسفات ما بعد الحداثة، يضاف الى انها تشهد واقعاً تغيب فيه القيم الى حد بعيد.
لقد تغيرت بفضل العلم نظرتنا للاشياء وتعدلت افاقنا المعرفية، لكن حال القيم لم يشهد تحولات بعد.. وهي تثبت يوماً بعد اخر اننا ‹‹كائنات مراهقة›› تتذبذب بين سن الطفولة والرشد، فما ان تسمو شيئاً حتى تنكص وتتهاوى، وهكذا دون بلوغ الرشد وما بعده ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)).
هذا هو حال الانسان، فهو الوحيد بين الكائنات الطبيعية يتصف بالمراهقة الذاتية والمرونة العجيبة، وهي مرونة توحي انه يستعد لتحول اسمى، وقد يبادر بنفسه في خلق هذا التحول كما يخمّنه الفيزيائيون من ان المستقبل البعيد ربما يشهد صنع كائن جديد من البشر يكون بلا لحم ولا عظم ولا دم، وفقاً للتلاعب في الخريطة الجينية.
فاذا كانت جميع الكائنات الطبيعية تندرج ضمن سن الطفولة دون بلوغ المراهقة، وانها جميعاً قد تم انتخابها وفقاً لعوامل بيئية واخرى ميتافيزيقية او مجهولة، وهو الحال الذي يصدق على الانسان من وجهة نظر العلم الحالية، أي انه نتاج الانتخاب الطبيعي والدينامية الذاتية.. فان ما بعد الانسان شيء مختلف، اذ يتم انتخابه – وفقاً للتخمين السابق - بفعل تصميم هذا الكائن المراهق بالذات ((قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)).
ان الافعال الوحشية التي يمارسها البشر بعضهم للبعض الاخر، والتفنن في القتل وصناعة الموت، كل ذلك يدعو للاعتقاد بان المسؤول عنها هو هذا الكائن المراهق (الأنا)، فهو البعد الدفين الذي تعتدي فيه انفسنا على انفسنا وان لم يتحقق ذلك بايدينا بالفعل، او كنا الضحية ايضاً. فهو القاتل وهو المقتول، وقد يُعد القاتل مجاهداً والمقتول شهيداً، وكما يقول الحلاج: انتم المجاهدون في سبيل الله وأنا الشهيد.
ومن المفارقة – حقاً – ان يسقط رافعوا راية المقدس في أسفل درجات نكوص (الأنا)، فلا حجة لهم على غيرهم ولا هم من الشهداء على الناس، فعوض ان يكونوا اسمى خلق الله لحملهم راية هذا المقدس؛ صاروا اسوء الخلق لخيانتهم الأمانة العظمى التي رفعوها ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)). وهو ما يستدعي مراجعة الفهم الديني والبحث في بنيته التحتية عبر الحفر للوصول الى ابلغ طبقة ينبع منها توليد الفكر، ليس وفقاً لأركيولوجية فوكو، بل استناداً الى العلم الجديد: علم الطريقة.
واذا ما كان في العين نقطة عمياء لا تتجاوز حجمها، فان في القلب دائرة سوء مظلمة تتسع في الجهل والضلالة بلا حدود.. وهي ما تميّز (الأنا) عن سائر المخلوقات. وهنا نسأل عما اذا كان من الممكن ان يكفّ هذا المراهق (الغريب - المألوف) عن المراهقة بالتحول الى سن الرشد أم لا؟
ان كل ذلك يدعونا للنظر والبحث في فلسفة العلم مع اخذ اعتبار المعنى الحرفي للفظ الفلسفة، فقد اصبح من غير الممكن ان نطرح اسئلة ابستيمية وانطلوجية وقيمية دون اعتبار ما يقدمه العلم من نظريات وحقائق، رغم ان من الصعب ان نجد عليها اجابات شافية محددة، ربما لكوننا في طور المراهقة ولم نصل بعد الى ضالتنا كتلك التي يعدنا بها العرفاء لبلوغ العلم المشروط بفتح الفطرة الثانية، وكذا الفعل المطلوب بالتحلية بعد التخلية.