يحيى محمد
افتراضات ميتافيزيقية لعالم الاخلاق الحدسية
يمكن تصور اربعة افتراضات محتملة لعالم الاخلاق الحدسية كالتالي:
1ـ ان يكون للنظام الاخلاقي الحدسي عالم اعتباري لا يتجاوز العلاقات الخارجية. ويمتلك النظام وفق هذا الافتراض سمة ميتافيزيقية مقدّرة، شبيهاً بسمة التأثير السببي بين ظاهرتين متعاقبتين، من دون ان يكون له مكان ميتافيزيقي خارج العلاقة الاخلاقية. بمعنى ان ما يترتب على هذا النظام من الخير والشر، ولو عبر التقدير الالهي للترتيب، هو ما يراد به دون شيء اخر وراء ذلك. فالعلاقة الكائنة بين موضوع القضية الاخلاقية ومحمولها هي علاقة لزوم مقدّرة.
2ـ ان يكون للنظام الاخلاقي الحدسي عالم مفترض ذهنياً ضمن ما يسمى بعالم نفس الامر او لوح الواقع الاعم من الوجود الخارجي كما يصوّره بعض العلماء المسلمين.
3ـ ان يكون للنظام الاخلاقي الحدسي عالم متأصل وقائم بنفسه بشكل مستقل خارج العلاقة الاخلاقية التي نشهد ظواهرها، وذلك على شاكلة العالم المثالي الافلاطوني، فكل ما نلاحظه من ظواهر اخلاقية حدسية انما هو انعكاس عن اصالة هذا العالم الميتافيزيقي.
4ـ ان يكون للنظام الاخلاقي الحدسي ارتباط لزومي بعالم ميتافيزيقي مستقل عن العلاقة الاخلاقية التي نشهد ظواهرها الواقعية. ومع ذلك فان هذا النظام ليس له خصوصية مستقلة كما هو حال الافتراض الثالث؛ لارتباطه اللزومي بعالم مستقل ذاتياً، وبالتحديد انه يشكل نوعاً ثالثاً من صفات الوجود الالهي، فهو عنصر ثالث يضاف الى الصفتين الذاتية اللزومية والفعلية؛ كما في التقسيم اللاهوتي المتعارف عليه. وخصوصية هذا النوع من الصفات هي انه ليس لزومياً كالصفات الذاتية، كما انه ليس من الصفات الفعلية الخاصة بالخلق والابداع، بل مصدره الانحياز الالهي لما يتضمنه من نتائج خيرة وصالحة للعباد، لذلك لا يتخذ طابع التعميم المطلق عند التنفيذ والتطبيق، بل يتبع قاعدة ما يحقق الخير والصلاح الاعظم، ويمكن التعبير عنه بالصفات الاخلاقية للاله كمصدر اساس لما نشهده من نظام حدسي متميز.
ووفق الافتراض الاخير تصبح الاخلاق الحدسية لدى البشر انعكاساً عن تجليات صفات الله الاخلاقية. فهي نفخة الله الروحية، وفطرته التي فطر الناس عليها، والأمانة التي حملها الانسان دون غيره من الكائنات المعروفة. لذا فمصدر الاخلاق الحدسية يصبح مفسراً وفق معلوليتها لهذه الصفات. فهذه الاخيرة هي شرط قيام الاخلاق الحدسية لدى البشر، وهي شرط قيام النظام الاخلاقي بشموليته الكلية في الوجود. ومن ذلك نستنتج بان القرارات الالهية هي من تخضع لموضوعية هذه الصفات دون ان تكون اساساً لها.
وبعبارة ثانية، لو نسبنا النظام الاخلاقي الى العالم الالهي فسيكون من المناسب ان يمتلك الاله بعض الصفات التي لا تتسم بالذاتية والفعلية، فهي ليست من لوازم الذات المحتمة كالعلم والقدرة والارادة، ولا انها من افعاله وما يرتبط بها كالخلق والرضا والرزق والتكليف وما الى ذلك، بل تتميز بالميول المنسجمة مع الكمال الالهي، فهي اخلاق الله التامة واسماؤه الحسنى. ومن طبيعتها انها تتصف بالكمال التام، ولوضوحها لا تحتاج الى تبرير او ردّها الى شيء اخر يفسرها. فهي الاصل في كل اخلاق دون ان تردّ الى ما سواها، مثلما وجود الاله هو الاصل في كل وجود دون ان يردّ الى ما سواه.
وهذا هو الجانب الموضوعي والوجودي لصفة النظام الاخلاقي، ومنه تتأسس قرارات هذا النظام بوصفها معايير وقيم موضوعية متعالية..
مبررات الافتراض الرابع
ثمة لوازم بين الوجود والنظام الاخلاقي، فهما غير منفصلين، وتتمثل العلاقة بينهما في ان النظام الاخلاقي لا يتحقق من دون وجود سابق. فمن حيث التحليل العقلي ان الوجود هو الاصل، بل وهو الشرط لقيام النظام الاخلاقي، لكن دون ان تكون العلاقة بينهما علية او سببية، بمعنى ان الوجود – كما نتصوره عقلاً - ليس علة للنظام الاخلاقي، فمن الممكن منطقياً ان نتصور الوجود خالياً من هذا النظام، كما لو افترضنا حصر طبيعة الوجود في المادة الصرف، او افترضنا ان علاقاته حتمية لا غير. لذلك فالوجود مجرد شرط للنظام الاخلاقي وليس علة له.
ليس هذا فحسب، بل لا بد من ان يتصف الوجود بالخاصية الميتافيزيقية كشرط لتحقق النظام الاخلاقي. فالواقع الطبيعي لا يكفي ان يحقق شرط قيام هذا النظام، وبالتالي فالوجود الميتافيزيقي هو الاصل، لكنه مع ذلك لا يفسر من حيث ذاته طبيعة هذا النظام، رغم انه شرط في تحققه.
وعلى العموم ان الوجود بما هو وجود لا يشكل اي ارتباط لزومي مع طبيعة النظام الاخلاقي، وسواء كان هذا الوجود خاصاً بالإله ام بغيره فانه في جميع الاحوال يمثل شرطاً لهذا النظام.
ولاجل البحث عن العلاقة اللزومية التي تربط النظام الاخلاقي بغيره لا بد من الكشف عن عناصر اخرى اضافية يمكنها تفسير ثبوت هذا النظام. فلا غنى عن التخصيص حتى نصل الى ضرورة ان يكون الوجود متصفاً ببعض الصفات التي تفسر لنا تحقق النظام الاخلاقي.
فثمة صفات نوعية هي التي تمثل علة قيام النظام الاخلاقي، وعلى رأسها القدرة والارادة اللازمين عن الوجود. وليس لهذه الصفات ارتباط سابق بأي شيء باستثناء الوجود الالهي كما سيتبين لنا تبرير ذلك أدناه. ومن ثم فالنظام الاخلاقي تابع لهذه الصفات ولازم عنها.
وعليه لا يمكن اختزال العلاقة اللزومية بين الوجود الالهي والنظام الاخلاقي الى مجرد علاقة وجودية خالصة، بل لا بد من اخذ اعتبار الصفات الالهية على نحو التحديد.
واستناداً الى هذا المعنى ترشّح انعكاس النظام الاخلاقي ضمن عالمنا الشهودي. ومن ثم يمكننا ان نستنتج بان الانسان ليس شرطاً في تحقق النظام الاخلاقي. فالاخير منبسط في الوجود ذاته، بغض النظر عن حضور الانسان وغيابه. انما الشرط الوحيد لهذا النظام، وفق الافتراض الرابع الانف الذكر، هو الوجود الالهي، فلولاه ما كان للاخلاق أثر، مثلما ما كان للبشر وجود.
وفي جميع الاحوال لا غنى عن فرضية عالم الميتافيزيقا - لا سيما الإله - بالنسبة للنظام الاخلاقي. فبدون هذه الفرضية يصعب تبرير هذا النظام، حيث لا يمكن ردّه الى عوامل طبيعية، وانه لا يمثل اختراعاً بشرياً كما هو ملاحظ من حيث طابعه الحدسي، ولا انه نتاج التطور المادي الصرف كالذي تفضي اليه نظرية الداروينية وما على شاكلتها، لذلك كان لا بد من فرضية ميتافيزيقية تبرر قيام هذا النظام. وحتى فرضية المثل الافلاطونية غير كافية لتبريره.
ومعلوم ان فكرة حاجة الاخلاق الى عالم الميتافيزيقا، لا سيما وجود الله، قد ظهرت لدى الفكر الفلسفي الحديث. فقد (سبق لباركلي ان اعتبر بأن القانون الأخلاقي محكوم بمبدأين هما حرية الانسان ووجود الله. وقبل ذلك رأى الفيلسوف الحسي جون لوك بأن الأخلاق تتأسس على وجود الله، لهذا فانه وإن تسامح مع اختلاف الطوائف والاديان فانه لم يتسامح مع الملحدين. ومثل ذلك ما ذهب إليه روسو في علاقة الأخلاق بوجود الله، وقد كان له تأثير بارز على الأخلاق الكانتية، وقيل انه من علّم (كانت) احترام قيمة كل انسان من حيث انه غاية في ذاته.
في حين نجد نظرية أخرى مختلفة ترى القضية الأخلاقية مستقلة تماماً عن المسألة الإلهية، وهي الدعامة الأساسية للأخلاق العلمانية، كالتي طرحها الفيلسوف الفرنسي بيير بيل خلال القرن السابع عشر الميلادي، وبحسبه ان لدينا معرفة طبيعية يقينية بثلاثة مبادئ اجتماعية، وهي: ان نحيا حياة شريفة، وان لا نؤذي احداً، وان نعطي لكل انسان حقه[1].).
لكن النظرية الاخيرة لا تمتلك البعد الفلسفي الذي يبرر التمسك بالمبادئ الثلاث المشار اليها. كما ان النظريات التي اكتفت بحاجة القانون الاخلاقي الى الايمان بوجود الله ليست كافية لتفسير طبيعة النظام الاخلاقي الحاضر في وجداننا العقلي.
وحقيقة، لدينا اكثر من سبب يجعلنا نعتقد بان الوجود الالهي شرط في قيام النظام الاخلاقي، وان الوعي بهذا النظام منعكس عن صفاته الاخلاقية المنحازة:
فأولاً ان هذا النظام مشروط بخصائص محددة، كالحياة والعقل والقدرة والارادة، وبدونها لا يمكن الحديث عن اي معنى للاخلاق. وحيث نعلم باننا لسنا من ابدع هذا النظام في انفسنا؛ لذا لا بد من ان يكون مصدره خارج ذواتنا وسابقاً لها، وبالتالي ليس من تبرير معقول سوى رده الى صفات مبدأ الوجود الاول. وهو ما يمكن ان نطلق عليه بالدليل السببي للاخلاق.
وثانياً هو ان العلاقة الاخلاقية - كما سبق ان عرفنا في احدى حلقات هذه الدراسة - تتضمن من حيث التحليل علاقتين مختلفتين قد يلتقيان، كما قد يفترقان، احداهما وجودية والاخرى معيارية، وان الهدف الاسمى يتمثل بالاتحاد بينهما، فيما نشهد ان البشر يعانون افتراقاً بينهما، وان من الحكمة ان يتحول البشر الى مرحلة تطورية يسود فيها الاتفاق لا الافتراق. وليس من تبرير للوصول الى هذه الحالة المتسامية غير افتراض الوجود الالهي لتحويل العلاقة الاخلاقية الى اكمل شكل ممكن. وهو ما يمكن ان نطلق عليه بالدليل الغائي للاخلاق.
فهذا هو ما يجعلنا نعتقد بصوابية رد النظام الاخلاقي الى العالم الالهي وصفاته التامة.
شبهات حول الافتراض الرابع
ثمة شبهات عديدة تتعلق بالافتراض الرابع، منها شبهات ثيولوجية واخرى فلسفية. ويمكن تصويرها بالشكل التالي:
1ـ شبهات ثيولوجية
1ـ قد يقال انه اذا كانت الاخلاق الحدسية منعكسة عن الصفات الالهية في البشر، فما فائدة ما جاءت به الاديان السماوية؟ أليست هي من تعلمنا الاخلاق الحميدة وتدعونا الى تجنب الاخلاق الذميمة؟
وقد تعمم الحجة الى ان الدين كفيل بأن يعلمنا مصالح الدنيا والاخرة دون الاعتماد على القضايا العقلية ومنها الاخلاق الحدسية. وهذا ما ذهب اليه اغلب علماء الاسلام. ويأتي تبرير ذلك عادة بالقول بان العقل عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع. وكان من بين ما تم الاحتجاج به هو أنه لو كان للعقل قدرة تامة على إدراك المصالح الدنيوية لما كان الشرع بحاجة إلى ذكرها. ومن ثم يصدق هذا الحال على القضايا الاخلاقية كافة.
والجواب هو ان دعوة الاديان السماوية الى التمسك بالاخلاق الحميدة وانكار الاخلاق الذميمة انما جاءت على نحو الإمضاء والتبعية للاخلاق العقلية الحدسية، كالذي تقوله بعض المدارس الكلامية، وفي ذلك فائدة عظمى، فهي دعوة لم تأتِ لغرض التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما في الاديان من توعد بالعقاب لغرض الردع عن الانحراف، ففي الغالب ان النفوس تخاف مما تتوعد به الاديان ولا تخاف مما تستهجنه العقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني. وبهذا تتبين الحكمة الدينية من ذكر المصالح الدنيوية رغم ان للعقل قابلية على إدراكها بذاته[2].
2ـ وقد يقال ان اضفاء الصفة الاخلاقية على الذات الالهية يعمل على تحديد قدرة الله وارادته. اذ كيف نوفق بين ان تكون المشيئة الالهية مطلقة لا تحدها حدود، وبين ان تكون مشروطة ومقيدة بالصفة الاخلاقية؟
وقديماً شكلت هذه الشبهة جدلاً في الوسط الكلامي الاسلامي، كالجدل الحاصل بين الاشاعرة والمعتزلة. فقد رفض الاشاعرة الواجبات الاخلاقية التي افترضتها المعتزلة على الله، بحجة ان ذلك يحدّ من قدرته ومشيئته المطلقة، وهو الذي يسأل ولا يُسأل، لا سيما انها تمسكت بتبرير قائم على ملكية الله المطلقة لكل شيء، واعتبرت ان من يمتلك كل شيء؛ له حق التصرف المطلق بكل شيء. وبالتالي لا يمكن ان تُفرض عليه قوانينا الاخلاقية، فكل ما يفعله - بأي شكل كان - هو عين الحسن والحق والعدل.
ويمكن الجواب على ذلك بأمرين كالتالي:
الأول: ان صفات الحسن والحق والعدل وغيرها من الصفات الاخلاقية تصبح صورية من دون معنى عند التمسك بهذه الاطروحة، حيث الفعل الالهي سواء كان ايجاباً او سلباً سيتصف بذات هذه الصفات، وهو امر غير معقول. فمثلاً لا فرق بين ان يضع الله الانبياء والصالحين والصادقين في جنات النعيم، او يضعهم في نار السعير. كما لا فرق في ان يضع الاشرار في العذاب المهين، او يجعلهم مرضيين في عليين[3].
الثاني: هو ان الافعال الالهية لا تعقل ان تكون فوضوية بلا حكمة، ومن ثم لا بد من ان تتخذ مسارات محددة دون اخرى لاعتبارات غائية، وان وصفها بذلك لا يتناقض مع كمال القدرة والارادة، فهي في جميع الاحوال ستتخذ بعض المسارات وتترك البعض الاخر، حيث لا يمكن اتخاذ جميع المسارات لانطوائها على التناقض. لذا فهي اما ان تكون معللة بالمسارات الغائية، او ليست معللة بشيء، وهذا ما يجعلها فوضوية عبثية غير معقولة. ومن حيث النظر الى عالمنا الكوني والحياتي نجد انه يتميز بسمة النظام والغائية دون ان يكون فوضوياً. ومن السهل ان ندرك بان خلق الانسان لم يأتِ عبثاً، او من دون غرض وغاية.
وبذلك نعرف ان الاخلاق الالهية غائية وموجهة دون ان تكون صورية. وهذه الغائية تجعلها اخلاقاً حكيمة من دون عبث وفوضى. وهي تنسجم مع قرارات النصوص الدينية.
3ـ كما قد يقال: ما الذي يبرر الاعتقاد بان يتصف الإله بالصدق وفعل الخير دون الكذب والخداع وفعل الشر؟
والجواب يأتي من خلال تحديدنا لعلة ممارسة الكذب والشر، كما نلاحظ ذلك لدى البشر. فثمة اسباب محددة تفضي الى هذه الممارسة، فقد تكون بفعل الحاجة الى ذلك، او بفعل ضغوط حيوية ونفسية، او ضغوط خارجية بيئية، وقد تكون لاسباب مرَضية. أما لو انعدمت هذه الضغوط والاسباب المرَضية؛ فستتحقق ممارسة الصدق والخير بشكل تلقائي، فالحدس العقلي متحيز باتجاه القضايا الاخلاقية. واذا كان هذا حال البشر، فكيف هو حال خالقهم؟! وهو غني عن الحاجة ومنزّه عن الضغوط، بل هو منبع الخير كله، لذلك من الصعب تفسير وجود الحدس الاخلاقي لدينا من دون ربطه بهذا المنبع. ومن ثم فالإله أوْلى بالصدق وفعل الخير، ككمال يضاف الى سائر اسمائه الحسنى.
2ـ شبهات فلسفية
1ـ قد يقال اذا كانت الرياضيات موضوعية مكتشفة وكذلك النظام الاخلاقي من دون فرق، فلماذا اعتبرنا النظام الاخلاقي عائداً الى نوع من الصفات الالهية دون ان نعتبر الرياضيات والمبادئ الاولى هي كذلك ايضاً؟ اي ما الفرق بين اكتشاف القيم الاخلاقية والمبادئ الاولى للمعرفة؟ أليس من الصواب ان نجعلهما عائدين معاً الى عالم مثالي افلاطوني، كالذي يعتقده العديد من العلماء والفلاسفة المعاصرين بشأن الرياضيات أمثال البريطاني روجر بنروز والنمساوي كورت جودل؟ لا سيما ان هذا التصور هو اقرب لمبدأ البساطة من الاول، او على الاقل رجوع الرياضيات الى لوح الواقع، وهو عالم افتراضي اوسع من الوجود الخارجي، والذي يضم فيه القضايا التي لا نجدها في هذا الوجود، ومن ضمنها الرياضيات وقضايا الاخلاق الحدسية والمسائل المنطقية القائمة على مبدأ عدم التناقض وغيرها.
والجواب يعود بنا الى تحليل المبادئ الاساسية للمعرفة، حيث يمكن تقسيمها الى عوالم مختلفة، احدها عالم افتراضي شرطي ليس له وجود في حد ذاته، ومن ذلك مبدأ الهوية او عدم التناقض المنطقي. فمن الناحية التجريدية ان (أ) هو (أ) وليس (ب)، ومن المحال ان يكون وجوده وعدمه في الوقت ذاته، وليس لهذا المعنى وجود يخصه بحيث يمكننا ان نشير اليه هنا او هناك.. انما الموجود هو الموجود فحسب، وحتى لو كان العدم حاصلاً فانه لا يحمل في طياته هذا المعنى كوجود. والرياضيات المجردة مبررة بهذا المبدأ، وهي ايضاً ليس لها وجود، انما يكفي الحدس بها اعتماداً على عدم التناقض، اذ ليس فيها الا امكان واحد صحيح وسط ما لا نهاية له من الامكانات الخاطئة. لذلك يمكن استنتاجها من عدم التناقض. وحين نربط الرياضيات بالواقع فسوف نصادف بعض المفارقات، فما نحكم به رياضياً بشكل مجرد لا يمكننا اسقاطه على الواقع كما هو، وإلا وقعنا في مفارقات لا تنتهي.
فمثلاً من الناحية الرياضية الصرف نلاحظ تساوي العلاقات التالية الى ما لا نهاية له من دون فرق وتمييز:
4 – 2 = 2
6 – 4 = 2
8 – 6 = 2
10 – 8 = 2
وهكذا الى ما لا نهاية له[4]..
لكن من حيث الواقع حينما نحكم على قضية محددة من هذا القبيل فاننا نتعامل مع واحدة من هذه العلاقات، وان من الخطأ استبدالها بعلاقة اخرى متساوية. فمثلاً نفترض ان زيداً اشترى اربع تفاحات واكل منها اثنتين، لذا بقيت لديه اثنتان. فهذا واقع شهدناه، لكن لا يمكننا استبداله بأن نقول مثلاً ان زيداً اشترى عشر تفاحات واكل منها ثمان، فبقيت لديه اثنتان. فرغم ان النتيجة بين الافتراضين السابقين متساوية، لكننا لا يمكن ان نستبدل الاولى بالثانية، باعتبار ان الاخيرة لم تحدث واقعاً.
وباستثناء العالم الافتراضي الانف الذكر نجد لبقية العوالم علاقة وطيدة بالوجود والواقع. وحتى عدم التناقض المنطقي الذي اعتبرناه في العالم الافتراضي مجرداً؛ فان له نسخة وجودية غير مجردة، وسبق ان سميناها بمبدأ عدم التناقض الوجودي تمييزاً لها عن مبدأ عدم التناقض المنطقي المجرد.
ونحن وفق عدم التناقض الوجودي لا نشهد سوى الوجود كما هو، وليس من الممكن ان نفترض لهذا المبدأ عالماً ميتافيزيقياً خارج ما نشهده من وجود.
وعلى هذه الشاكلة نشهد في هذا الوجود السببية الانطولوجية التي تفترض وجود علاقة غير محسوسة بين السبب والمسبب الطبيعيين دون افتراض عالم مستقل لها.
كذلك عندما نتحدث عن عالم الضرورات الاحتمالية، فليس من الممكن ان نفترض لها عالماً ميتافيزيقياً خارج حدود علاقتها بالواقع الموضوعي.
وفي جميع الاحوال ان تفسير فعالية هذه المبادئ الضرورية بالشكل الذي طرحناه يكفي ان لا نجد مبرراً لافتراض عوالم ميتافيزيقية مستقلة لها. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان تبرير علمنا بهذه المبادئ انما يأتي من مصدر سابق، فهي ليست مبررة حسياً وتجريبياً، لذلك فمصدرها يعود الى مبدأ الوجود الاول ونفخته الروحية المتضمنة للقابلية على التصورات العقلية المجردة والاحكام الضرورية، لكنها لا تشكل صفات للذات الالهية، فالله ليس هندسة ولا رياضيات تحليلية، كما لا يحمل صفات المنطق والقضايا الضرورية الاخرى. ويمكن ان يبرر وجودها بلوح الواقع الاعم من الوجود الخارجي، الا انه مجرد افتراض ذهني.
وعموماً ان لبعض القضايا العقلية علاقة بالواقع الموضوعي دون البعض الاخر. لكن من القضايا العقلية ذات العلاقة بهذا الواقع ما تمارس دور الاكتشاف الايجابي، مثل مبدأ السببية الانطولوجية، ومنها ما ليس لها دور بهذا الاكتشاف، انما دورها المحافظة فحسب، مثلما هو حال مبدأ عدم التناقض الوجودي. كما ان بعضاً منها يتخذ دور الحياد في اكتشاف العالم الخارجي؛ كالممارسة الاستقرائية القائمة على منطق الاحتمالات. في حين ان للحدس العقلي الاخلاقي خصائص اخرى مختلفة عما سبق.
2ـ كما قد ترد شبهة اخرى تقول: لماذا لا يمكن تبرير عالم القيم الاخلاقية وفق الاعتقاد المادي بمعزل عن الوجود الالهي، او نفيه تماماً؟
والجواب ان هذا الاعتقاد عاجز عن تبرير خصائص القيم الاخلاقية وسائر الضرورات والقضايا العقلية التي منبعها يتجاوز مجال الحس والتجربة الخالصة. حيث ان هذه القضايا تتصف بالاطلاق وليست محدودة كحال القضايا الحسية، لذلك لا يمكن تبريرها وفق التصورات المادية والطبيعانية. وهي تنسجم مع التصورات الميتافيزيقية او الالهية التي تبرر وجود عالم مطلق من دون ان يحده حس او تجربة..
وفي جميع الاحوال ليس من الممكن تبرير النظام الاخلاقي الحدسي وفق الاعتبارات المادية والطبيعانية، حيث سبق ان لاحظنا بأن هذه الاعتبارات تأتي على حساب موضوعية القيم الاخلاقية والمعرفية، لذا لا بد من شرط العامل الميتافيزيقي كما يتمثل بالوجود الإلهي.
***
وخلاصة ما سبق طرحه هي اننا أمام اربعة افتراضات تدور حول تفسير النظام الاخلاقي وحدسه العقلي، احدها ان النظام الاخلاقي يتموضع مثل تموضع السببية، فلو توفرت الشروط الوجودية المتعلقة به لكفى تحققه دون ان يُفترض له عالم مستقل. والثاني هو مجرد افتراض ذهني. فيما يتضمن الافتراضان الاخيران عالماً ميتافيزيقياً خاصاً، احدهما مستقل، والاخر غير مستقل، فوجوده تابع للعالم الالهي المتصف بالعلم والقدرة والارادة.
وفي الحالة الاخيرة، حتى لو افترضنا ان منبع الحدس الاخلاقي عائد الى العالم المستقل كما في العالم الافلاطوني، فسوف نحتاج الى الوجود الالهي في جميع الاحوال، لأن ثبوت هذا العالم متوقف على وجود الله، وبالتالي يصبح النظام الاخلاقي بحاجة الى هذا الوجود. لذا فافتراض اعتباره عائداً الى العالم المستقل هو امر زائد عن الحاجة وفقاً لمبدأ البساطة.
وننتهي الى ان النظام الاخلاقي يتضمن علاقة رباعية لا غنى عنها.. فمن حيث الاساس ان لهذا النظام وجوداً موضوعياً في عالم ميتافيزيقي مؤثر. كما ان لهذا العالم انعكاساً على عالمنا الشهودي كما يتجلى من خلال الوعي الاخلاقي الحدسي. كذلك ان لهذا النظام علاقة مزدوجة معيارية ووجودية قد تجتمع وقد تفترق كما لاحظنا من قبل. ايضاً تتسم العلاقة في هذا النظام بانها ذات ميزة معيارية خاصة. وهذا ما يجعل صلته بالدين وثيقة غير قابلة للانفكاك، كالذي سنجمل الحديث عنها في الفقرة التالية..
النظام الاخلاقي والدين
لقد اختلف اتباع الديانات في تحديدهم لطبيعة الصلة الوثيقة بين الدين والاخلاق. فمنهم من اعتبر الدين اساس النظام الاخلاقي، ومنهم من اعتبر العكس هو الصحيح. ومازالت هذه القضية موضع اختلاف كبير، وتحتاج الى شيء من التحليل والتنقيح.
ومعلوم اننا لو اعتبرنا قرارات الإله هي المصدر التشريعي للقيم الاخلاقية باطلاق، لكان الدين يمثل اساس النظام الاخلاقي. أما لو اعتبرنا الإله شرطاً في قيام هذا النظام دون قراراته، فهذا يعني ان تبرير وجود هذا النظام يأتي عبر اعتباره نوعاً من الصفات الإلهية التي تتحكم في القرارات وليس العكس.
وارى ان هذه القضية يمكن معالجتها من حيث التقسيم والاختلاف الذي اثرناه بين الاخلاقين الحدسية والموضوعية (غير الحدسية). فالاولى لا تتوقف على الدين، فيما جزء من الثانية يتوقف عليه. والفارق بين الاولى والثانية هو ان الاولى ثابتة لا تتغير، فيما الثانية نسبية متغيرة، وهي تستمد شرعيتها من الاولى، وحينما تصبح معارضة لها تفقد هذه الشرعية، ويصبح من الضرورة العمل على تغييرها واستبدالها باخرى تنسجم مع الاولى.
ومن السهولة ادراك ان النظام الاخلاقي الحدسي لا يمكن ان يستمد اصوله من الدين، وذلك فيما لو افترضنا دعوة الدين الى الظلم والشر صراحة، اذ سنجد في هذه الحالة توافقاً عاماً لدى البشر في رفض هذه القرارات لاصطدامها مع الاصول العقلية او الفطرية للنظام الاخلاقي.
لذا من غير المقبول ان يشكّل الدين اساس الاخلاق الحدسية، ومن ثم فالعكس هو الصحيح. بمعنى ان جوهر الدين قائم على هذا النظام، ولولا ذلك لكان ريشة في مهب الريح، ولبقي النظام الاخلاقي راسخاً في عقول البشر كما نلاحظ ذلك فعلاً.
وتأكيداً لهذه الناحية اننا نشهد وجود خلافات كبيرة بين البشر حول الدين من حيث القبول والرفض، فيما لا نجد خلافاً حول القضايا الاخلاقية الحدسية. فحتى من يفسّر الاخلاق وفق الثقافات والحضارات والنواحي العاطفية والنفسية فانه يذعن عملياً بقبول حالاته الواضحة دون ادنى انكار.
وبالتمييز السابق يمكن تصحيح الخطأ الذي يقع فيه الكثير من الباحثين.
[1] انظر: مفارقات نقد العقل المحض.
[2] للتفصيل انظر: النظام الواقعي.
[3] للتفصيل انظر: النظام المعياري.
[4] انظر: منهج العلم والفهم الديني.