يحيى محمد
علم الطريقة هو علم يدرس مناهج الفكر، ومنها مناهج الفهم الديني، ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفكر. فهو يمارس التفكير في المنهج لا بالمنهج، ويقوم برصد الممارسة المعرفية من الخارج، عبر تحديد ما تستند إليه من الأسس والقواعد والأدوات المنهجية. كما يتضمن الجمع بين الهرمنوطيقا والإبستمولوجيا.
ولكل علم فلسفته الخاصة؛ تقف خلفه لتبرر أهليته وأهميته مع بحث مشروعية ما يتبناه. وينطبق هذا الحال على علم الطريقة، فهو عندما يوضع كموضوع للبحث والنقاش من حيث أهليته كعلم جديد، وكذا مشروعية ما يتبناه، ومن ذلك مشروعية المعايير التي يصادق عليها، والموضوعات التي يضطلع بالإهتمام بها كمقدمات لبحث (الفهم).. فكل ذلك يجعل من البحث بحثاً فلسفياً نطلق عليه (فلسفة علم الطريقة). وأهمية هذه الفلسفة أنها تعمل على رفد علم الطريقة بالأفكار المناسبة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار ضمن دائرة الإهتمام التي يشتغل عليها هذا العلم، فضلاً عن تصحيح مباني الأخير أو إصلاحها، مما يخضع جميعاً للبحث والنقاش النظري المجرد.
فكل علم فيه ما هو أساس مفترض، كما فيه ما هو خاضع للخيار وقابل للنقاش والأخذ والرد. وعلم الطريقة بمعاييره وقواعده وموضوعاته يخضع لهذا الاعتبار من التمييز. وكلها تعتبر من قبليات هذا العلم.
وقد يقال إن هذه المسألة تطرح إشكالية تخص المعايير المعتمدة، فإذا كان علم الطريقة قائماً على جملة من المعايير القبلية، فإن فلسفته ستقوم هي الأخرى على معايير لهذه المعايير، ولو أننا بقينا نستمر على هذه الشاكلة لكنّا نحتاج إلى سلسلة غير متناهية من المعايير. وذات الشيء يمكن قوله بصدد فلسفة الأشياء، إذ تحتاج إلى فلسفة قبلها هي فلسفة الفلسفة، وهذه أيضاً بحاجة إلى فلسفة أخرى قبلها وهكذا بلا نهاية. لكن الصحيح هو أنه لا بد من التوقف عند حد معين قابل للتبرير، ولو أننا تجاوزنا هذا الحد لسقط العلم كله. وبالتالي فعندما نقول إن هناك معايير لا غنى عن الإعتماد عليها هو لأنها غير قابلة للرد والإرجاع باعتبارها مسلمات أصلية مبررة للعلم المخصوص، فلو أننا أرجعناها جميعاً إلى غيرها لبطل هذا العلم. ومن ثم يمكن إستبدال الإشكالية على نحو صحيح كالتالي: هل أن هذه المعايير - أو بعضها على الأقل – مقنعة؟ فقد تكون مقنعة لاعتبارات معينة؛ ككونها تفتح آفاقاً من البحث الجديد، أو كونها مفيدة للإعتماد عليها في الكشف عن قيم الأنساق المعرفية ومناهج الفهم... إلخ. لكن لو لم تكن - المعايير - مقنعة أو صحيحة بالجملة؛ ففي هذه الحالة يصبح العلم المخصوص كاذباً أو بلا لزوم.
ويمكن ان نعبّر عن الإشكال السابق وجوابه بالقول ان علم الطريقة هو منهج محدد له قبلياته وأدواته ومصادره المعرفية؛ فكيف يعبّر عن التفكير في المنهج لا بالمنهج؟ أي كيف يقوم بدراسة المناهج وهو ذاته عبارة عن منهج مثل غيره من طرق التفكير المعرفية؟ وبالتالي سيحتاج إلى علم آخر يعمل على دراسته كمنهج محدد مثلما يقوم هو بدراسة غيره من المناهج، وهكذا يتسلسل الحال.
ويأتي الجواب على شاكلة ما عرضناه حول حاجة معايير علم الطريقة إلى معايير أخرى سابقة، وهو انه في الحالتين سنصل في التراجع المعرفي إلى البديهات التي لا يسبقها شيء آخر. ففيما يخص التفكير المنهجي ستعتمد الطرق المعرفية بعضها على البعض الآخر التي تسبقها منطقياً، وهكذا حتى يصل الحال إلى بداية محددة تتمثل بالبديهات الأولية من دون استخدام منهجي سابق.
وبهذا الاعتبار يصبح علم الطريقة «منهجاً» لدراسة مناهج الفهم الديني وغيره من طرق التفكير الموضوعية. لكن الاعتبار الأدق هو نفي الصفة المنهجية عنه من حيث علاقته بموضوعه، لا بمطلق المعرفة، فهو يختلف جذراً عن المناهج الموضوعية التي يقوم بدراستها، حيث ان هذه المناهج معنية بدراسة الموضوعات الخارجية أو استنطاقها واستجوابها مباشرة، مثل الظواهر الطبيعية والاجتماعية والنص الديني وغيرها من الموضوعات الخارجية. إذ ليس لعلم الطريقة علاقة مباشرة في دراسة هذه الموضوعات او استنطاقها، بل هو معني بدراسة المناهج التي تعمل بدورها على استنطاق هذه الموضوعات، لذلك فهو يفكر في المنهج لا بالمنهج، أي انه يتعالى عن ان يتخذ من هذه المناهج منهجاً محدداً لدراسة غيره من الطرق المناظرة.
فهذا الجواب يشاكل اجابتنا على الشبهة القائلة بأن من جاوز التمذهب أو نقضه فقد تمذهب هو الآخر، كما جاء في كتاب (مشكلة الحديث)، حيث قلنا بأنه إذا كان لهذا النقد تمذهباً؛ فلا بد من ان يكون من منطق آخر مختلف عن التمذهب الحاصل، وبالتالي فهو نفي للتمذهب بالمعنى الشائع.
ونشير إلى انه يمكن تعميم موضوع علم الطريقة بحيث يشتمل على كافة المناهج المعنية بالنظريات الفكرية قاطبة بما فيها النظريات الفلسفية، حيث ان هذه الأخيرة تعتمد على مناهج محددة لها قبليات واصول مولدة مع أدوات ومصادر معرفية، ومن ثم يمكن لعلم الطريقة دراسة هذه المناهج وفق المعايير التي يعتمدها.
ويتبين مما سبق انه لا يمكن ان تتسلسل الاستدلالات بالتراجع المعرفي باستمرار إلى ما لا بداية له، حيث لا بد من مسلمات أساسية، فهذا ما يتفق عليه أغلب الفلاسفة، لا سيما القدماء الذين يرتكزون إلى مسلمات واضحة أساسية لا تتقبل البرهنة، كما انه يتفق مع مبرهنة الرياضي النمساوي جودل في كون الرياضيات رغم بداهتها وبساطتها لكنها تتضمن على الأقل مسألة واحدة لا تقبل البرهنة والتدليل، فكل نظام مكون من بديهات وقواعد رياضية، وان بعضها لا يمكن البرهنة عليه ضمن نفس النظام أو داخله، وقد استطاع جودل ان يثبت ان هذه الدعوى ذاتها عند تحويلها إلى صيغة حسابية فإنه لا يمكن البرهنة عليها وإن كانت صحيحة، لأن أي برهان عليها سيفضي إلى التناقض.
ومما يذكر بهذا الصدد ما نقله ستيفن هوكنج عن الصدمة الكبرى لأينشتاين (عام 1949) عندما اكتشف جودل مبرهنته الآنفة الذكر والتي تنسب إلى الرياضيات مسائل لا يمكن إثباتها ولا نفيها. وقد وسّع البعض هذا الاعتبار وبسطه على المعرفة البشرية قاطبة. فمثلاً إن فتجنشتاين قام بتعميم هذه النظرية معتبراً ان أي نظام منطقي عاجز عن إثبات اتساقه، الأمر الذي يحتاج فيه إلى نظرية أعلى، وهذه تحتاج هي الأخرى إلى نظرية أعلى، وهكذا إلى ما لا نهاية، أو ينتهي التسليم بقضايا ليس عليها دليل كالذي يلجأ إليه المنطق الارسطي. وقد عمم فتجنشتاين ذلك واعتبر اننا في البحث عن النظام نستخدم لغة لفظية أو رياضية لوضع النظريات، أي تمثيلات تصورية للعالم، لكن ذلك يتطلب نظرية ثانية للتأكد من صحة ما نعتبره واقعاً، وهذا يحتاج إلى نظرية أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية. وبالتالي فأي جهد لتفسير العالم يحتاج إلى قفزة ايمان.
وعلينا أن نعترف بأن كل علم وكل مفهوم لا بد من ان يمر ببداية غامضة، ثم بعد ذلك تتضح دلالته شيئاً فشيئاً. فحتى المفاهيم المتعلقة بالعلوم الطبيعية لا تخلو من هذه الحقيقة. وعلى ما يقوله (آلان شالمرز) فإن «تاريخ مفهوم ما، سواء كان مفهوم العنصر الكيميائي أو الذرة أو اللاشعور أو غيرها، يبدأ بالإنبثاق في شكل غامض ثم ينتقل إلى مرحلة الإيضاح التدريجي عندما تأخذ النظرية التي يدخل جزءاً فيها، في إكتساب الدقة وتصير أكثر تماسكاً». ومثلما ترد شواهد على هذا المعنى من العلم الطبيعي ذاته، فإنه ترد أيضاً شواهد عليه من الفلسفة التي تناولت هذا العلم، أو من غيره من العلوم والفنون، ومن ذلك إن فيلسوف العلم ذائع الصيت (توماس كون) قد أقر بأنه استعمل مصطلح بارادايم «نموذج إرشادي» بمعنى ملتبس عند تأليفه لكتاب (بنية الثورات العلمية)، ففي غضون سبعة أعوام منذ صدور الطبعة الأولى للكتاب أصبح هذا الفيلسوف – كما يقول - أكثر فهماً واستيعاباً لعدد من قضايا الكتاب وعلى رأسها ما يتعلق بالمصطلح المشار إليه، وذلك بفضل ردود النقّاد وبذل المزيد من جهده الخاص. وينطبق المعنى السابق على علم الطريقة، حيث سعة الإيضاح والدقة التي نسجلها اليوم هي ليست كتلك التي وردت بداية إستخدامنا للمفهوم عند تأليفنا لكتاب (مدخل إلى فهم الإسلام) سنة 1994، ويمكن أن نُرجع ذلك إلى ما أطلقنا عليه (فلسفة علم الطريقة). وذات المعنى ينطبق على النظام الواقعي الذي نتبناه كمنهج للفهم.
ويمتاز علم الطريقة بأنه يتضمن الجمع بين فن التأويل المسمى الهرمنوطيقا، والإبستيميا العلمية. فهو يتضمن فن التأويل باعتباره يعترف بأن كل فهم ليس بقدرته ان يتعالى على حدود التأويل والتأثر بالقبليات. وهو بذلك ينزع النزعة الذاتية كالذي تؤكد عليه الأدبيات الحديثة ونظريات التلقي، لكنه في الوقت نفسه يحمل الجذور الإبستيمية ليحافظ على المعاني العلمية دون ان يترك للهرمنوطيقا فوضى الفهم المنفتح بلا ضوابط ولا حدود، لذا فهو يعمل على تضييق الممارسة الهرمنوطيقية قدر الامكان، لكنه يعترف باستحالة القضاء عليها. وبالتالي يمكن اعتباره جسر العبور من دائرة الهرمنوطيقا إلى دائرة الإبستمولوجيا. وكذا يحصل العكس، حيث العبور من الإبستمولوجيا إلى الهرمنوطيقا، ففي العلوم الدقيقة مثلما هو حال الفيزياء يمكن الكشف عن العناصر الهرمنوطيقية المضمرة والمعلنة وسط دائرة الإبستمولوجيا. وهو ما يعني ان المعرفة عادة ما تكون مزدوجة بهاتين الدائرتين، وان العلاقة بينهما متضادة، فكلما اتسعت إحداهما ضاقت الأخرى، وبالعكس. ومع ذلك يبقى الهدف الموضوعي هو تتبع خطى الإبستمولوجيا بالوسائل الممكنة.