يحيى محمد
تتحكم في النظرية العلمية مفاهيم كالبساطة والجمال والاقتصاد والإتساق، وعادة ما ترد هذه المفاهيم إلى البساطة. فكما سنرى ان الاقتصاد متضمن في البساطة أو مماثل لها، وان الجمال كثيراً ما يعنى به البساطة ذاتها، ومثل ذلك الإتساق.
فقد رأى الفيزيائيون ان للجمال مقومات ثلاثة، وهي كما لخصها أينشتاين قائلاً: ‹‹النظرية تكون ادعى إلى اثارة الاعجاب كلما كانت مقدماتها ابسط، والأشياء التي تربط بينها اشد إختلافاً، وصلاحيتها للتطبيق اوسع نطاقاً››. فالبساطة هي أول العناصر، ومن ثم التنسيق بين المختلفات والتوليف بينها، واخيراً الشمولية ووساعة التضمن.
لكن كما سنرى ان العنصرين الأخيرين (التنسيق والشمول) كلاهما يخضع إلى البساطة أيضاً. وبالتالي يصبح الجمال بحسب هذا النص مرادفاً للبساطة.
فعندما يقال بأن للجمال دوراً في الكشف العلمي وانه دال على النظرية الصحيحة، فانما يقصد بذلك أساساً البساطة ذاتها، كما يظهر لدى عدد من نصوص الفيزيائيين، ومن ذلك ما ذكره مساعد أينشتاين روزن بأن الأخير كان يستهدف البساطة والجمال وكان يرى الجمال يكمن في الأساس في البساطة. ومثل ذلك ما قاله ريتشارد موريس: فكثيراً ما ثبت بأن النظريات التي تثير الاعجاب جمالياً هي النظريات الاكثر إحتمالاً لأن تكون صحيحة، فالطبيعة فيما يبدو تنتظم في انماط بسيطة منطقية، فللإعتبارات الجمالية دورها الذي لعبته عندما فضّل غاليلو نظرية كوبرنيك عن المنظومة الشمسية على نظرية بطليموس، كما لعبت دوراً عندما اكتشف أينشتاين الأفكار التي تأسست عليها نظرياته حول النسبية. وكما يرى ستيفن واينبرغ بأن قبول النظرية النسبية العامة كان لجمالها وجاذبيتها وليس للادلة التجريبية، وقد ظلت مقبولة كنظرية صحيحة مدة اربعين عاماً رغم ضعف البرهان عليها قبل ان يبدأ الرادار الحديث وعلم الفلك الراديوي يعطيان تأييداً جديداً ساطعاً عليها. ومن ذلك أيضاً ان الفيزيائيين تقبلوا نظرية الكهروضعيفة لإعتباراتها الجمالية قبل ان تتضح صحتها عبر التجارب.
كذلك عندما يقال بأن الجمال هو السمة الغالبة في الفيزياء، وانه يقدم عادة حتى على البيانات التجريبية، فانما يقصد بهذا البساطة لا غيرها. فالتجربة بنظر البعض تخطئ غالباً، لكن الجمال لا يخطئ، أو على الاقل قلما يخطئ كما يرى أغروس وستانسيو، ويدللان على ذلك بأنه إذا وجدت نظرية انيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقاً في مجال آخر. فمثلاً خلال العشرينات من هذا القرن أصبح الرياضي والفيزيائي هرمان ويل مقتنعاً بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكنه نظراً لكمالها الفني لم يرد التخلي عنها كلياً. وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل ان نظرية ويل تلقي ضوءاً على ديناميكا الكم الكهربائية، فجاء هذا مصداقاً لحسه الجمالي.
ومثل ذلك قدّم الفيزيائيان ريتشارد فينمان وماري جيل مان (عام 1958) نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة، وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عدداً من التجارب، أما الجانب الرئيسي الجذاب فيها فكان الجمال، ومما قاله هذان الفيزيائيان: ‹‹انها نظرية عالمية ومتناسقة وهي ابسط الإمكانات، مما يدل على ان التجارب غير صحيحة››. كما علق جيل مان على ذلك بقوله: ‹‹غالباً ما يطرح العالم النظري مقداراً كبيراً من البيانات على أساس أنها إذا كانت لا تنسجم مع خطة انيقة فهي غير صحيحة. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة. لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلاً ما يحدث، فلا عليك ان وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريباً ان تكون هذه البيانات غير صحيحة››. وهناك مقولة مأثورة منسوبة إلى ايدنجتون: ‹‹على المرء ان لا يصدق باي تجربة إلى ان تأتي نظرية تؤكدها››. لكن خطأ التجربة – وما أكثرها - قد يكون بالنسبة لصاحب النظرية الجميلة كارثة، كالذي عبّر عنه الفيزيائي الأديب (رولان أومنيس) في اسلوبه الشعري بقوله: >لا شيء مثير للرعب أكثر من الإغتيال السافل الحقير لنظرية جميلة بفعل وقائع ملعونة<.
وفي بداية السبعينات اظهرت التجارب بأن النموذج الوتري تبعاً لنظرية الأوتار جاء بعدد من التنبؤات تتناقض مباشرة مع المشاهدات مما ادى بها إلى الرفض من قبل اغلب الفيزيائيين، لكن بقي القليل منهم لم يتقبل رفضها للجمال الذي تكتنزه النظرية، ومن ذلك ما عبر عنه شوارتز بأنه شعر بأن ‹‹البنية الرياضية لنظرية الأوتار كانت فائقة الجمال وتحتوي على خواص اعجازية يمكن ان تؤدي إلى شيء ذي قيمة››. وكانت إحدى المشاكل التي لوحظت هي ان النظرية تمتلك غنى أكثر من اللازم. وقد تضمنت اشكالاً من الوتر المتذبذب لها خواص قريبة من خواص الغليونات وبالتالي فهي قابلة لأن تصبح نظرية للقوى النووية الشديدة، كما تضمنت جسيمات اضافية تشبه المرسال، وبدا ان لا علاقة لها بالقوى النووية، لكن بدت الفكرة تتحول من استخدام نظرية الأوتار كمحاولة لفهم القوى النووية الشديدة إلى محاولة لدمج الثقالة مع سائر القوى الجسيمية والتوحيد فيما بينها، وفي البداية كان التصور بأن الجسيمات نفسها تشبه الأوتار، ولم تكن الفكرة بأن الجسيمات نفسها تنطوي على اوتار، فمثلاً ان الكوارك والكوارك المضاد مرتبطان معاً بوتر، لذا فإنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. وقد استغرق هذا التطوير خمس سنوات كخطوة جريئة على يد كل من جون شوارتز وجوئيل تشيرك (عام 1974).
وقد يشار إلى ان الجمال مؤلف من البساطة مع الشعور بعدم قابلية النظرية للتعديل إلا بتهشيمها تماماً، كالذي يعتقده الفيزيائي ستيفن واينبرغ مستشهداً بما قاله أينشتاين: ‹‹ان الجاذبية الأساسية التي تتمتع بها النظرية تكمن في اكتمالها المنطقي. فإذا تبين خطأ نتيجة واحدة من نتائجها، يجب استبعاد النظرية برمتها، وعندئذ يكون من المستحيل تعديلها دون ان ندمر بنيتها كلها››. ودلل واينبرغ على ذلك بنظرية النسبية العامة لأينشتاين ذاته، وانه لا شيء يمكن ان يقود إلى نظرية الثقالة بشكل مختلف سواها، وهي لهذا مرجحة على نظرية نيوتن في الثقالة.
لكننا سنرى بأن هذا الترجيح عائد إلى معنى البساطة ذاتها ولا علاقة لذلك بالشعور بحتميتها. أما النص المنقول عن أينشتاين فيبدو أنه يتعلق بنظرية مثالية أكثر مما هو معهود له وسط النظريات الفيزيائية، ومنها نظرية أينشتاين النسبية، فهي قد اضطرت إلى بعض التعديل المهم دون ان يكون ذلك على حساب بنيتها الجوهرية، إذ كانت تفترض ان الكون ساكن وان ما يجعله متوازن يعود إلى ما اطلق عليه (الحد الكوني الثابت). ورغم ذلك فقد اضطر إلى اجراء التعديل اللازم على نظريته بعد علمه بتمدد الكون دون ان يؤدي هذا الأمر إلى تهشيمها.
كذلك فإن ستيفن واينبرغ اعترف في محل آخر من كتابه (أحلام الفيزيائيين) بأن النسبية العامة رغم أنها ناجحة في كل ما امكن إختباره بالتجربة، إلا أنها تنطوي على تناقضات داخلية تدعو إلى ضرورة تعديلها. إضافة إلى ان اعتقاد الفيزيائيين بعجز النسبية عن تفسير قضايا عديدة، ومنها تلك المتعلقة بالعالم الجسيمي، فذلك يجعل منها خاطئة إذا ما كنا نعتقد بأن أي تغيير فيها يفضي إلى تهشيمها، وهو ما لا يقره الفيزيائيون وهم يحاولون تعديلها وتكييفها مع نظرية الكوانتم ضمن نظرية موحدة واعدة.
مفهوم البساطة
تعتبر البساطة من المفاهيم المربكة المعنى، فلها معان عديدة مطروحة ضمن طاولة البحث. فقد تأتي بمعنى المألوف، مثل ان اغلب الناس يرون الفيزياء الكلاسيكية ابسط من الفيزياء النسبية. وهو معنى غير مناسب، لأنه يجعل من العلم رجعياً وذاتياً. كما قد تأتي البساطة بمعنى السهل، وهو مفهوم سايكولوجي يجعل من العلم ساكناً وعالقاً بالقديم لا يصلح للبناء والتطور.
ولدى الفيلسوف الوضعي موريس شليك تعريف للبساطة يتصف بالسلبية، وهو أنه مفهوم نصفه براجماتي ونصفه الآخر جمالي. وهو يرى ان البساطة ‹‹مفهوم نسبي بكل معنى الكلمة، وغير دقيق، بحيث لا يمكن معه الوصول إلى تعريف محدد للسببية أو إلى التمييز الدقيق بين القانون والصدفة››. وقد اعترض كارل بوبر على هذا التعريف واعتبره خارجاً عن نطاق المنطق.
وفي القبال قدّم بوبر تعريفه للبساطة فأدرجه ضمن مفهوم القابلية على التكذيب. فالقضية الابسط من غيرها هي تلك التي تكون أكثر اقناعاً من الناحية التجريبية، أي أنها أكثر قابلية للتكذيب والفحص التجريبي، حيث تحتوي على محتوى امبيريقي اكبر، وبالتالي تعطينا معلومات أكثر عن العالم، فدرجة البساطة هي ذاتها درجة القابلية على التكذيب. لكن همبل نقد بوبر وذكّر بأنه قد تتوافر فرضيات متساوية من حيث القابلية على التكذيب لكنها مختلفة من حيث البساطة، ومثّل على ذلك ببعض العلاقات الرياضية. وهي الفكرة التي ترى المقصود من البساطة هو الاقتصاد في التصورات المطروحة.
وهناك من يرى ان للبساطة علاقة بالإحتمال المرجح. فكما ذكر بوانكاريه: ‹‹كان الفيزيائيون منذ خمسين سنة خلت يعتبرون ان القانون البسيط – عند استواء كل المعطيات – أكثر إحتمالاً من القانون المعقد، بل انهم كانوا يحتجون بهذا المبدأ لتغليب قانون ماريوت على تجارب رينو، إلا انهم تخلوا اليوم عن ذلك الاعتقاد. ولكن ما أكثر ما يجدون انفسهم مكرهين على ان يتصرفوا وكأنهم لم يتخلوا عنه››.
وعادة ما يصادف العلماء كثرة نوعية في الطبيعة قد تعارض ما يسلمون به من بساطة مفترضة. ومن ذلك وجود الجسيمات الكثيرة من الباريونات والميزونات واللبتونات، فبحلول عام 1960 تم إكتشاف عشرات الجسيمات، وفي اوائل السبعينات وصل عدد الجسيمات التي تم للتجريبيين رؤيتها إلى المئات. فرغم ان لليبتونات ستة جسيمات فقط، إلا ان كلاً من الصنفين الاخرين يحتوي على المئات من الجسيمات المختلفة. والمعروف ان الشعاع الكوني يحوي الكثير من الجسيمات المختلفة معظمها بروتونات، ويملك بعضها طاقات عالية جداً أكبر بكثير من تلك المستخدمة في المسرعات، وعندما تضرب هذه الجسيمات جو الأرض فإنها تصطدم بجزيئات الهواء فتنتج جسيمات ثانوية، وقد يستمر مسلسل التوليد لمزيد من الجسيمات عبر الصدامات، وهي الفكرة الأساسية المستخدمة في المسرعات لتكثير اعداد الجسيمات والكشف عن ماهياتها، فكلما كبرت الطاقة كلما زاد ذلك من تخليق الجسيمات الجديدة، فمثلاً في تصادم بين بروتون وبروتون مضاد امكن خلق ثمانية بيونات، وفي صدام واحد بين بيون وبروتون امكن خلق ستة عشر جسيماً. وقد يكون بعض من هذه الجسيمات ليس له دور في حفظ العالم والكون وله حياة قصيرة جداً قد تصل إلى ما يقارب الجزء من مليون من الثانية. فالميون مثلاً جسيم حياته قصيرة ويضمحل إلى الإلكترون ونيوترينو وضديد النيترينو فيما يقرب من جزء من خمسمائة ألف من الثانية (2,2 في 10-6ثانية)، ولو كانت الميونات غير موجودة فإن خواص المادة العادية لن تتغير أقل تغيير. لذلك فعندما تم إكتشاف هذه الجسيمة نهاية الثلاثينات تلقى العالم الفيزيائي اسحاق رابي الخبر بفتور قائلاً: ‹‹من الذي أمر بهذه الجسيمة››؟! كدلالة على وجودها دون غرض واضح، لا سيما وقد كانت الظروف لا تستدعي وجود مثل هذه الجسيمات.
مع هذا فما يقصد بالبساطة هو ذلك المتعلق بالعلاقات بين الأشياء لا الأشياء ذاتها. أو ان هذه العلاقات هي ما تجعل الأشياء متوحدة أو متكثرة ولو بإعتبارات عقلية. فعدد الجسيمات لا يعد مهماً، وكما قال الفيزيائي الباكستاني محمد عبد السلام: ليست الجسيمات أو القوى هي التي تضن بها الطبيعة، بل المبادئ. وعلى رأي ستيفن واينبرغ فإن الشيء المهم هو الحصول على مبادئ بسيطة واقتصادية تفسر لماذا هي الجسيمات كما هي. لذا لا يهم كثيراً عدد الانواع الجسيمية أو القوى التي تتناولها النظرية بالتوصيف مادامت تفعل ذلك بشكل جميل مستمدة من مبادئ بسيطة.
على هذا يرد السؤال: هل ان البساطة من سمات العقل أم الطبيعة؟
فالبعض يرى ان البساطة سمة من سمات الطبيعة وقوانينها لا أنها مفرز بشري، وهي من هذه الناحية كالجمال. وكما اشتهر عن نيوتن قوله: ‹‹الطبيعة تسرها البساطة››. وعبّر أينشتاين عن عقيدته بأن ‹‹الطبيعة هي ادراك لابسط الأفكار الرياضية التي يمكن تصورها››. وهو الاعتقاد الذي برر له البحث عن الشكلية الرياضية لنسج خيوط نظرية المجال الموحد التي عجز عن تفصيلها. كما قال ماكس بورن: ان ‹‹الفيزيائي الحقيقي يؤمن ايماناً راسخاً ببساطة الطبيعة وبوحدتها رغم أي مظاهر معاكسة››. وقال هايزنبرغ ذات مرة في حديث جرى بينه وبين أينشتاين: ‹‹اعتقد مثلك تماماً ان لبساطة القوانين الطبيعية صفة موضوعية، وانها ليست مجرد نتيجة اقتصاد في التفكير. واذا كانت الطبيعة تقودنا إلى صيغ رياضية على جانب عظيم من البساطة والجمال فنحن لا نملك إلا الاعتقاد بصحتها، وبانها تكشف عن سمة حقيقية من سمات الطبيعة››. وقال كارل فون فايتزساكر: ‹‹ان مبدأ الاقتصاد في التفكير الذي يتردد على الالسنة يفسر على احسن الفروض سبب بحثنا عن قوانين بسيطة، ولكنه لا يفسر سبب عثورنا عليها››. وهو يريد ان يبين بأن الطبيعة ذاتها بسيطة وجميلة ومتسقة. فجمال علوم الطبيعة مستمد من ذات الطبيعة، أو ان مصدر الجمال والبساطة هو من الطبيعة لا الإنسان كما يرى أغروس وستانسيو.
وعلى رأي الفيزيائي ريتشارد موريس فإنه بدون فرض البساطة على الطبيعة فإنه لا يستطيع أحد انجاز أي فيزياء، رغم ما قد ينتج عنها من معادلات قد تكون معقدة للغاية، ومن ذلك ان نظرية النسبية العامة قد تأسست على عدد صغير من المسلمات البسيطة، لكن امكن ان ينتج عنها معادلات في غاية التعقيد، فمنذ ان طرحها أينشتاين لأول مرة لم يتمكن الفيزيائيون من حلها طيلة فترة تزيد على السبعين سنة. وكذا حال نظرية الأوتار الفائقة التي تتأسس على فكرة بسيطة نسبياً وهي ان الجسيمات الاولية هي حلقات متذبذبة، لكن نتج عنها معادلات يئس الفيزيائيون من حلها.
وفي القبال ان الذين يستسيغون النظرية الكانتية – نسبة إلى عمانوئيل كانت - بامكانهم ان يقولوا بأن العقل يفرض قوانينه الخاصة القبلية على الطبيعة، ومن ذلك قانون البساطة، وقريب منها لنزعة الاصطلاحية مثلما لدى بوانكاريه. فبحسب وجهة النظر هذه ان الطبيعة ليست بسيطة بل قوانينها التي ابدعها العقل بحرية، وليست العلوم الطبيعية بحسب هذه الوجهة من النظر صورة العالم وإنما هي بناء تجريدي، وليست خواص العالم هي التي تحدد هذا البناء ولكن البناء هو الذي يحدد خواص العالم. ولا يتحدث العلم إلا عن هذا العالم الذي اصطنعنا له المفاهيم والقوانين التي ابدعناها.
ويبدو ان اغلب العلماء يوافقون على هذا الرأي، إذ يعتبرون البساطة والجمال هو من الإفتراضات التي يفرضها العقل على الطبيعة دون ان يتحتم ما يؤكد صدق هذا الإفتراض باضطراد. فالبساطة بهذا المعنى غير معنية بالتطابق مع الواقع، فليس عليها من دليل أو برهان، لا سيما وانها تتضمن براجماتية واضحة.
وقد يؤيد هذا المعنى بعض اخطاء النظريات البسيطة والجميلة، ومنها نظرية يوهان بود الفلكية خلال القرن الثامن عشر، والتي عرفت فيما بعد بقانون بود، فهي تصف النظام الشمسي بكواكبه ومسافاتها في نموذج رياضي انيق يتصف بصيغة رقمية بسيطة، لكن ثبت فيما بعد أنها نظرية خاطئة. كذلك نظرية ديراك المشار إليها سلفاً فهي من هذا النوع الخاطئ رغم بساطتها وجماليتها، وقد كان ديراك يفضل ان تكون المعادلات الرياضية جميلة على ان تكون مناسبة للتجربة. كما يلاحظ ان الفيزيائيين يرجحون نظرية الكم على النظرية النسبية العامة عند التعارض في بعض الاحوال التي يجتمع فيها التفسيران، كما في مراكز الثقوب السوداء وعند الإنفجار العظيم، رغم الاقرار بأن الأخيرة أكثر جمالاً من الأولى، وان الأولى ضبابية غامضة كما هو معروف.
وقد يكون من المناسب هنا إعتبار الهندسة الاقليدية ابسط الهندسات واكثرها ملائمة كالذي يراه بوانكاريه، معتقداً بأنها تظل ابسط الهندسات دون زوال، لا بسبب عاداتنا الفكرية، وليس بسبب الحدس المباشر، بل أنها ابسط الهندسات بذاتها، مثلما ان صيغ حساب المثلثات المستقيمة ابسط من صيغ حساب المثلثات الكروية. وقد اسقط بوانكاريه هذا الإعتبار من البساطة الهندسية على الواقع، بمعنى ان تبني الهندسة الاقليدية لتوصيف الطبيعة هو ابسط من تبني الهندسات الأخرى غير الاقليدية. وهو خلط ما بين الحد الرياضي والحد الفيزيائي. ففي الحد الرياضي ان ابسط الهندسات هي الهندسة الاقليدية كما أشار إلى ذلك بوانكاريه، في حين ليس بالضرورة ان هذا التوصيف يصدق على الواقع الفيزيائي، بل ان نظرية أينشتاين التي تبنت الهندسة غير الاقليدية هي ابسط من تلك التي تبنتها نظرية نيوتن الاقليدية، بمعنى ان النظرية الفيزيائية الحالية تعول على نظرية أينشتاين لبساطتها رغم أنها قائمة على الهندسة غير الاقليدية، كالذي أشار إليه كارناب في تصحيحه لبوانكاريه، وسيتضح لنا اين موضع البساطة في الهندسة غير الاقليدية خلافاً لظاهر البساطة الاقليدية.
البساطة على نوعين
من وجهة نظرنا فإن للبساطة مفهومين ينطويان ضمن لائحة الاقتصاد في التفكير المتسق.
فهناك المعنى الشمولي للبساطة، كما هناك المعنى الاقتصادي أو الاختزالي لها. وتارة يعود المعنى الأول إلى الإعتبارات الفلسفية، وأخرى إلى الدليل الإستقرائي، وهو ما سنركز عليه لعلاقته بالعلم. إذ يمكن من خلاله تفسير العدد الاكبر من الظواهر الطبيعية المختلفة طبقاً لمحور محدد. فهو بالتالي بديل عن تفسير كل ظاهرة لسببها الخاص، وبالتالي بديل عن الاسباب المتعددة لتفسير الظواهر المختلفة. فكما يمكن تفسير الظواهر الكونية تبعاً للاسباب المختلفة المتعددة فإنه يمكن أيضاً ارجاعها إلى سبب واحد فحسب، وعندها قد يترجح الأخير على الاسباب المتعددة وفقاً للدليل الإستقرائي.
فمثلاً إذا كانت لدينا ظواهر أربعة مختلفة مثل (س) و(ص) و(ع) و(غ)، وفي قبالها أربع نظريات (ن) مختلفة لتفسيرها، مثل: (ن1)، (ن2)، (ن3)، (ن4)، فإذا ما رمزنا للتفسير بـ (⇚)، فإن علاقات النظريات (ن) بالظواهر يمكن إفتراضها كالتالي:
ن1 ⇚ س + ص
ن2 ⇚ ع + غ
ن3 ⇚ س + ص + غ
ن4 ⇚ س + ص + ع + غ
فمن الواضح ان التفسير المبني على (ن4) هو افضل التفاسير المذكورة. ويعتبر هذا التفسير بسيطاً مقارنة بالتفاسير الأخرى. لاننا عندما نريد ان نفسر الظواهر الاربعة كلية دون الاستعانة بتفسير (ن4) فإن ذلك يقتضينا ان نجمع ما بين (ن1) و(ن2) ليقوما سوية لتفسير الظواهر جميعاً، وبالتالي فإن الاعتماد على (ن4) يكون افضل من الاعتماد على غيرها، فهي تستوعب كل النظريات الثلاث الأخرى، ويمكن بمفردها تفسير الظواهر دون حاجة للجمع بين النظريات، وفقاً للبساطة كما هو واضح.
فمثلاً تعتبر نظرية أينشتاين افضل من نظرية نيوتن في تفسير جاذبية المجموعة الشمسية، والسبب هو ان نظرية أينشتاين تتمكن من تفسير الظواهر المختلفة لهذه المجموعة دفعة واحدة بسبب محدد، في حين ان نظرية نيوتن وان امكنها ان تفسر اغلب ما تفسره النسبية لكنها تحتاج إلى اسباب أخرى اضافية لتفسير ما عجزت عن تفسيره، مثل الشذوذ الحاصل في حركة مدار عطارد، وانعطاف الضوء، وبالتالي فنظرية أينشتاين ابسط من نظرية نيوتن.
وفي قبال هذا المعنى هناك معنى آخر للبساطة ليس له علاقة بالدليل الإستقرائي ولا بالمعنى الشمولي، ففيه توصف البساطة بأنها تحمل اقل حد ممكن من المقولات والمقدمات الإستدلالية طبقاً لما يعرف بحد اوكام. فالنظرية البسيطة هي تلك التي تكون خالية من الحشو الزائد، فهي تمتلك اقل عدد ممكن من المقولات والمقدمات مقارنة بغيرها، لهذا نطلق عليها المعنى الاقتصادي للبساطة.
فلو افترضنا اننا أمام ثلاث نظريات متكافئة في التفسير، لكن احداها تتمثل بثلاث مقولات للتفسير، والثانية بمقولتين، والثالثة بواحدة لا غير، ففي هذه الحالة ستكون النظرية الأخيرة هي المرجحة على غيرها. ومن الناحية الرمزية يمكن ان نمثل على هذا المعنى الاقتصادي للبساطة بحسب الفروض التالية:
ن1 (أ+ب+ج) ⇚ س + ص + ع + غ
ن2 (ب+ج) ⇚ س + ص + ع + غ
ن3 (ب) ⇚ س + ص + ع + غ
فيلاحظ أنه بالرغم من ان الإفتراضات الثلاثة تحظى جميعاً بالتكافؤ والتساوي في تفسيرها للظواهر الاربع المختلفة، لكن مع ذلك فإن الإفتراض الأخير هو ابسط الإفتراضات المذكورة، فهو يحمل اقل المقدمات المفترضة، أي عامل واحد فقط.
ويمكن التمثيل على هذا النمط من البساطة عبر ما لوحظ من ان قيمة اشعة الفا تتغير لدى المجرات البعيدة عما هو الحال في المجرات القريبة والمختبر. وتُعطى هذه القيمة من خلال النسبة بين مربع شحنة الإلكترون وحاصل ضرب سرعة الضوء في ثابت بلانك، وهذه العناصر الثلاثة تعتبر ثابتة فيزيائياً، فشحنة الإلكترون تقدر بـ (1,6 × 10-19كولوم) وهي ثابتة، وقيمة سرعة الضوء ثابتة هي الأخرى وتساوي (300000 كم في الثانية)، وطول بلانك ثابت هو الآخر ويساوي (10-33سم). وبالتالي عندما يلاحظ ان اشعة الفا قد تغير شكلها عما هو مألوف لدى المجرات البعيدة والنجوم المتراصة واقراص التنامي في الثقوب السوداء، فاما ان يكون هذا التغير حاصلاً بفعل تغير في الشحنة أو في سرعة الضوء أو في طول بلانك، أو في أكثر من ثابت من هذه الثوابت الثلاثة. وعند التحليل الرياضي لوحظ أنه لو أخذت سرعة الضوء كثابت دون تغير فإن ذلك سيعطي علاقات رياضية مطولة ومعقدة، وبالتالي فبحسب مبدأ البساطة وشفرة اوكام فإن من المعقول إعتبار التغير عائداً لسرعة الضوء دون غيره من الثابتين الاخرين. مع ذلك فقد احترم ماكيويجو صاحب هذه النظرية ما تسفر عنه التجارب المستقبلية وان يكون القرار متوقفاً على انتظار ما تكشف عنه هذه التجارب التي قد تؤيد الفروض الأخرى، خاصة فيما يتعلق بتغير الشحنة الإلكترونية.
ويمكن تطبيق المعنى الاقتصادي للبساطة على بعض المفاهيم الفلسفية. فلو توصلنا إلى ان علاقات الطبيعة تحتاج إلى أصل ميتافيزيقي لتفسيرها، فإن هذا الأصل سيكون ضمن إفتراضين أحدهما موحد، والثاني متعدد، وينقسم المتعدد إلى متعدد افقي، والى متعدد رأسي أو عمودي. وفي كلا الحالين ان مقولاته وعوامله متكثرة مقارنة بالاصل الموحد. فلنفرض ان النظرية الأولى تعبّر عن عامل واحد فقط هو (أ)، فهذا يعني ان النظريتين الاخريين تضيف إلى هذا العامل عدداً من العوامل الأخرى، ولنفترض ان النظرية الثانية ذات التعدد الافقي تحمل عاملاً اضافياً هو (ب)، أما النظرية الثالثة فهي في جميع الاحوال تحمل عوامل غير متناهية (∞)، ومن ضمنها (أ). ولو رمزنا لعلاقات الطبيعة بـ (ع1 + ع2 + ع3 + ... عط)، فإن تفسير النظريات الثلاث السابقة سيكون على النحو التالي:
ن1 (أ) ⇚ ع1 + ع2 + ع3 + ... عط
ن2 (أ + ب) ⇚ ع1 + ع2 + ع3 + ... عط
ن3 (أ + ... ∞) ⇚ ع1 + ع2 + ع3 + ... عط
وواضح ان النظرية الأولى ابسط من النظريتين الاخريين، فهي تكتفي بعامل واحد فقط لتفسير علاقات الطبيعة دون حاجة لعوامل أخرى مضافة. فسائر العوامل تعتبر حشواً لا فائدة منها.
وعلى هذه الشاكلة يذهب بعض الفيزيائيين أحياناً إلى إفتراضات ميتافيزيقية تتصف بالتعقيد، من قبيل وجود أكوان لا متناهية، والغرض منها تفسير ظهور النظام لدى كوننا المحظوظ وسط المصادفات العشوائية لأوراق الحظوظ الكونية، وفقاً للتقديرات الإحتمالية. وقد يصل الحال لدى البعض إلى إعتبار ان كل ما نتصوره ونتخيله باطلاق فإنه موجود في كون ما من الأكوان المتعددة اللامتناهية، كالذي اعتقده تيجمارك وغيره، مع ان النظرية تتضمن التعقيد الكبير غير المبرر له، ويمكن التخلص من مثل هذه الإفتراضات عبر حد اوكام كما هو واضح.
التمييز بين نوعي البساطة
ومن حيث التحليل فإن العلاقة الجارية في المعنى الاقتصادي تختلف عما هي عليه لدى المعنى الأول الشمولي. ففي المعنى الشمولي تتحدد البساطة وفقاً لتفسير الظواهر الكثيرة رغم إختلافها، فالمناط في البساطة يتعين – في هذه الحالة - بالنتائج التي تخضع للتفسير. في حين تتحدد بحسب المعنى الثاني الاقتصادي ليس بالنتائج والظواهر الخارجية، بل وفقاً للاقتصاد في مقولات النظرية ومقدماتها. فالنظريات بهذا المعنى يمكن ان تتكافأ في التفسير، لكن بعضها يحمل مقدمات زائدة عن اللزوم مقارنة بغيرها. وليس الأمر كذلك فيما يخص المعنى الأول، فما يحدد البساطة في المعنى الأول هو العلاقة مع الظواهر الخارجية. في حين ان ما يحددها في المعنى الثاني هو العلاقة بمقدمات النظرية أو مقولاتها. وعلى هذا الأساس فالعلاقة بين المعنيين عكسية.
ففي المعنى الشمولي قد تكون مقولات النظرية متكافئة، لكن النتائج المترتبة عليها مختلفة غير متكافئة، وذلك على الضد مما قد يكون عليه المعنى الاقتصادي. إذ قد تكون النتائج متكافئة لكن مقولات النظريات ومقدماتها متباينة. ففي هذه الحالة ان مقولات المعنى الشمولي هي على الضد من مقولات المعنى الاقتصادي، وكذا النتائج. فإذا كان التكافؤ في إحداهما كان الإختلاف في الأخرى، والعكس بالعكس. واذا ما كانت لدينا نظريتان (أ) و(ب)، وان الظواهر التي تفسرها (أ) أكثر من تلك التي تفسرها (ب)، فإن (أ) تصبح ابسط من (ب) بحسب المعنى الشمولي. في حين أنه في المعنى الاقتصادي أنه لو كانت مقولات (أ) أكثر من مقولات (ب)، وان نتائجهما واحدة ومتكافئة فإن (ب) تصبح ابسط من (أ). لكن في هذه الحالة يمكن ان نفترض ان بين (أ) و(ب) تعاكساً، فإحداهما يمكنها تفسير أكبر عدد ممكن من الظواهر طبقاً للمعنى الشمولي، رغم أنها في الوقت ذاته تحمل من المقولات ما تزيد على الثانية. لذا تصبح الأخيرة ابسط من الأولى تبعاً لقلة مقولاتها، وان لم تكن ابسط منها بحسب عدد ما تتمكن من تفسيره للظواهر الخارجية. ويبدو ان العلم والوجدان يؤيدان في هذه الحالة البساطة على النحو الشمولي دون البساطة الاقتصادية.
ويمكن ايضاح الإختلاف والتعاكس بين المعنيين الشمولي والاقتصادي للبساطة بحسب الرسم البياني التالي:
البساطة
\ ̸
المعنى الشمولي المعنى الاقتصادي
↘ ↙
تكافؤ المقولات + إختلاف النتائج إختلاف المقولات + تكافؤ النتائج
ش = تم + خن ق = خم + تن
والملاحظ ان المعنى الشمولي للبساطة يتضمن المعنى الاقتصادي ويزيد عليه فيما يرتبط بشموليته. إذ يمكن ان نسترجع المعنى الشمولي إلى نوع من البساطة الاقتصادية مع إضافة الشمول، وبالتالي فكل معنى شمولي هو اقتصادي، والعكس ليس صحيحاً. ولإثبات ذلك لو افترضنا وجود نظريتين (ن1) و(ن2) تتكافأ في قواها التفسيرية، ولنفترض ان الأولى فسرت لنا خمس ظواهر مختلفة، في حين استطاعت الثانية ان تفسر ثلاث منها فقط دون ان تتمكن من تفسير الظاهرتين الاخريين، مثلما هو حال نظرية أينشتاين مقارنة بنظرية نيوتن، فذلك يعني ان النظرية غير الشمولية (ن2) لها مقولات تتكافأ مع النظرية الشمولية (ن1) في تفسير ثلاث ظواهر فقط، ولكي يمكنها ان تفسر الظاهرتين الاخريين فستحتاج إلى مقولات أخرى اضافية، وستكون مقولاتها في هذه الحالة أكثر من تلك التي للنظرية الشمولية (ن1). ولو كانت لدينا نظرية ثالثة (ن3) تفسر ظاهرتين فقط من الظواهر الخمس، فذلك يعني أنها تتضمن مقولات مفترضة أكثر مما لدى (ن1) أو (ن2)، بإعتبارها ستحتاج إلى بعض المقولات لتفسير الظاهرة الثالثة وأخرى لتفسير الظاهرة الرابعة ومثلها لتفسير الظاهرة الخامسة، وبالتالي فهي أكثر تعقيداً من النظريتين السابقتين.
ومن الناحية الرمزية يمكن تصوير البساطة (الاقتصادية) في المعنى الشمولي كالتالي:
ن1 (أ) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
ن2 (ب) ⇚ س + ص + ط
ن3 (ج) ⇚ س + ص
فاذا ما افترضنا ان المقولات متكافئة من حيث القوة التفسيرية، وان الظواهر متكافئة، فإن النظرية (ن1) سوف لا تحتاج إلى عامل اضافي من المقولات لتفسير الظواهر الخمسة جميعاً، فالمقولات التي تحملها كافية للتفسير. في حين ستحتاج النظرية (ن2) إلى عاملين اضافيين لتفسير الظواهر الخمسة، لأنها لم تفسر إلا ثلاث ظواهر منها، وبقي لها ان تفسر ظاهرتين هما (ع + غ)، فتحتاج إلى عاملين أو مقولتين ليكتمل التفسير. في حين ان النظرية (ن3) ستحتاج إلى ثلاثة عوامل اضافية أخرى لتفسر الظواهر كلها. فإذا افترضنا ان كل نظرية غير شمولية تحتاج إلى مقولة لكل ظاهرة لم تستطع تفسيرها كي تسدد حاجة التفسير، ولنرمز لكل مقولة (م)، لذا سيصبح الفارق بين النظريات الثلاث كالتالي:
ن1 (أ) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
ن2 (ب + 2م) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
ن3 (ج + 3م) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
واذا ما اعتبرنا (أ) تكافئ (ب)، وتكافئ (ج)، فإن ذلك يفضي إلى التساوي بينها، اي:
أ = ب = ج
ومن ثم:
ن1 (أ) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
ن2 (أ + 2م) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
ن3 (أ + 3م) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
وهو يعني ان المعنى الاقتصادي للبساطة ثابت لدى النظرية (ن1) مقارنة بالنظريتين الاخريين، وان اكثرها تعقيداً هي النظرية الثالثة (ن3). وبذلك يثبت ان من الممكن ارجاع المعنى الشمولي للبساطة إلى معناه الاقتصادي.
هكذا نقول بأن المعنى الشمولي للبساطة مرده إلى المعنى الاقتصادي أو الاختزالي، لكنه أولى بالأخذ من المعنى الاقتصادي عند التعارض لقيامه على الدليل الإستقرائي. فمثلاً تعتبر نظرية نيوتن وأينشتاين في الثقالة من النظريات التي تتصف بالوصفين المتعارضين. فنظرية نيوتن تعد اقتصادية مقارنة بنظرية أينشتاين، إذ تحتوي على ثلاث معادلات قبال أربع عشرة معادلة لنظرية أينشتاين، وبالتالي فهي ابسط منها، لكن الأخيرة في القبال تعتبر شمولية مقارنة بالأولى، لكونها تفسر ما لم تفسره النظرية الأولى، ومن ثم فهي ابسط منها. وفي هذا التعارض ترجّح نظرية أينشتاين على نظرية نيوتن. ومما يتضمنه هذا الترجيح فكرة أينشتاين حول التكافؤ بين الثقالة والعطالة بدل التمايز بينهما لدى نيوتن، واذا كانت هذه الفكرة ابسط من الناحية الاقتصادية، فإنها ابسط كذلك من الناحية الشمولية، حيث يمكنها ان تفسر الظاهرتين للثقالة والعطالة بتفسير واحد بدل تفسيرين مختلفين، ومثل ذلك التكافؤ بين الثقالة والتسارع كما في النسبية العامة، يضاف إلى حالة الاتصال الزماني المكاني دون الفصل بينهما ككيانين مستقلين. وهي أيضاً ابسط من النظريات التي تفترض الأثير.
ويمكن تطبيق ما سبق على شكل الهندسة الفضائية ان كانت اقليدية أو غير اقليدية. فبحسب المعنى الاقتصادي ان الهندسة الاقليدية ابسط من غير الاقليدية، سواء على الصعيد الرياضي، أو حتى على الصعيد الفيزيائي. أما بحسب المعنى الشمولي فقد تبين بأن الهندسة غير الاقليدية هي الابسط، إذ أنها يمكن ان تفسر علاقات أكثر للطبيعة مقارنة بالهندسة الاقليدية، وبالتالي فهي ابسط منها بالمعنى الشمولي.
ومن الناحية الرمزية ان التعاكس بين نظريتين إحداهما اقتصادية والأخرى شمولية يمكن ان يكون كالتالي:
ن1 (أ) ⇚ س + ص + ع
ن2 (أ + ب) ⇚ س + ص + ع + غ + ط
فبحسب المعنى الاقتصادي ان النظرية الأولى ابسط من الثانية، لكنها اعقد منها وفقاً للمعنى الشمولي، وبالتالي فإن الثانية ترجح على الأولى. مما يعني ان المعنى الشمولي هو اقرب لسمة عالم الطبيعة مقارنة بالمعنى الاقتصادي، وان الأخير اقرب لسمة العقل. فالمعنى الشمولي يبدي نوعاً من الإحتمال في كشفه عن كنه الطبيعة، وهو ما لا يرد لدى المعنى الاقتصادي الصرف.
وبحسب التحليل السابق فإن النظريات التي تبحث عن قوانين شاملة إنما تريد بذلك المعنى الشمولي للبساطة، وعلى هذه الشاكلة الذين يبحثون عن البساطة في الطبيعة كحقيقة فعلية. ومثلهم الذين يعولون على نظرية نهائية للفيزياء، فهم يأملون على العثور على قانون بسيط شامل، ليتحقق به عنصر الجمال، وكما يقول ستيفن واينبرغ: نحن لن نقبل آية نظرية نهائية للفيزياء ما لم تكن جميلة. ويبدو أنه يقصد بأنه لا بد من ان تكون بسيطة من النوع الشمولي. أما النوع الاقتصادي فكما رأينا أنه أقل أهمية مقارنة بالمعنى الشمولي، وقد يسميه البعض (الأناقة)، إذ يرى النظرية التي تتصف بأقل عدد من التعقيدات غير ذات الصلة بأنها انيقة. ويحكى عن أينشتاين بأنه قال: إن على رجال العلم ان يتركوا الأناقة للخياطين.
البساطة والمشكلات الفلسفية
ترد حول البساطة عدد من المشكلات الفلسفية، ومن ذلك ما يتعلق بنظرية الواقع الموضوعي. فبعض النظريات الفلسفية لا تعترف بوجود هذا الواقع كالذي يتبناه جورج باركلي، بحجة ان ما نتعرف عليه مباشرة هو الاحساس الذاتي بالاشياء، أما وجودها الخارجي فيحتاج إلى دليل، واذا لم يتوفر الدليل فطبقاً للبساطة الإقتصادية يُحمل هذا الوجود على النفي. وبذلك تكون النظرية المثالية أبسط من النظرية الواقعية، فالأولى لا تحتاج إلى مقدمة اضافية لتفسر من خلالها احساسنا بالأشياء، خلافاً للنظرية الواقعية، إذ ان الاحساس بالاشياء لا يكفي لاثبات واقعيتها الخارجية.
ويمكننا التمثيل على ذلك بالرموز الرياضية، فإذا رمزنا للواقع المحسوس بـ (س)، ولاثبات هذا الواقع كمحسوس بـ (ح)، ولاثباته كوجود خارجي بـ (خ)، ففي هذه الحالة يصبح تفسير الواقع المحسوس حسب النظريتين المثالية والواقعية مختلفاً بحسب البساطة، فوفقاً للنظرية المثالية (ث) يكون التفسير كالتالي:
ث (ح) ⇚ س
في حين أنه بحسب النظرية الواقعية (ع) يكون التفسير:
ع (ح + خ) ⇚ س
وواضح ان المعادلة الأولى ابسط من الثانية. بمعنى ان النظرية المثالية قادرة على تفسير المعطى الحسي للواقع دون حاجة لمقولات اضافية كالذي تركن إليه النظرية الواقعية.
ولا شك ان هذه المحاكمة صحيحة لولا ان النظرية الواقعية تحمل في جعبتها شيئاً غير عائد إلى البساطة ومرجحاً عليها، وهو الغريزة الوجدانية، ولولا هذه الغريزة لكان من المرجح التعويل على نظرية باركلي المثالية في قبال النظرية الواقعية وفقاً للمعنى الاقتصادي للبساطة.
وتنطبق مثل هذه المحاكمة على القضية التي ترى ان حدوث الكون بلا سبب مطلقاً هي ابسط من ربطه بسبب محدد، إذ تفترض القضية الثانية شيئاً اضافياً مقارنة بالقضية الأولى. وبالفعل ان هذا الإفتراض مطروح من خلال اللجوء إلى شفرة أو حد اوكام الذي يرفض القضية بإعتبارها معقدة من غير لزوم. وهو صحيح، لكن ذلك يتضارب ويتنافى مع مبدأ السببية العامة، وهو من الضرورات الوجدانية. كذلك فإن نظام الكون يجعل الفارق المعرفي بين القضيتين عظيماً جداً وفقاً لمنطق التقديرات الإحتمالية.
كذلك قد تُطرح مشكلة تتعلق بالتفسير الفلسفي لظواهر الطبيعة. فقد يقال أنه يمكن تفسير هذه الظواهر بمبدأ واحد فقط لا غير، وهو مبدأ العلة المباشرة، كالذي تقوله نظرية الأشاعرة من ان كل شيء يمكن تفسيره عبر التأثير المباشر لله، وهي بهذا المعنى أبسط من أي نظرية علمية تحاول تفسير تلك الظواهر وفق القوانين المتعددة، بإعتبارها إقتصادية قائمة على مقولة واحدة وتتمتع بالشمول. لكن رغم هذه البساطة فإنها تفتقر إلى قوة التفسير، فهي لا تفسر لنا لماذا تتخذ الظواهر الطبيعية شكل القوانين دون تجاوز؟ بمعنى أنها تظل فلسفية وليست علمية، أو ان الدلالة الإستقرائية لا تؤيدها. ويمكن ان تقابلها نظرية منافسة ومرجحة، كإن نعترف بالسبب الميتافيزيقي الأول كعلة للظواهر الطبيعية، وفي الوقت ذاته يتم تفسير هذه الظواهر عبر القوانين العامة، فتصبح علاقة الظواهر بالسبب الأول غير مباشرة عبر القوانين المجعولة. وبذلك يتحدد التنافس بين النظرية الأشعرية والنظرية الأخيرة في ان بساطة الأولى فلسفية ميتافيزيقية، في حين ان بساطة الثانية علمية قائمة على الدليل الإستقرائي، وهي بالتالي ذات بساطة شمولية علمية أو إستقرائية، خلافاً للأولى التي تتصف بأن بساطتها وان كانت شمولية أيضاً، كما أنها إقتصادية، لكن عيبها أنها تفتقر إلى الدليل الإستقرائي وقرائن التقديرات الإحتمالية، ومن ثم كانت الثانية ارجح من الأولى.
البساطة والفهم الديني
يبقى ان نسأل عما إذا كانت هناك نظريات للفهم أبسط من غيرها، سواء بالمعنى الشمولي أو الاقتصادي، لا سيما الأخير؟ إذ النظريات البسيطة بالمعنى الشمولي كثيرة، لكونها تعتمد على الوفرة الإستقرائية، فمثلما يجري في العلم العمل على توحيد الظواهر المختلفة ضمن تفسير بسيط موحد بالمعنى الشمولي، كتفسير الجاذبية لعدد من الظواهر الكونية، فكذا هو الحال في الفهم الديني، إذ يتقبل توحيد المظاهر اللفظية ضمن تفسير بسيط موحد وفقاً لذات المعنى المشار اليه، مثل انتزاع المقاصد العامة من القرائن المختلفة للنص. أو مثل ما نواجهه في قضية عصمة الانبياء التي وردت حولها نصوص كثيرة في القرآن الكريم، وكان هناك أكثر من خمسين آية تبدي ان الانبياء لم يكونوا معصومين في سلوكهم وعلمهم ومواقفهم.
وطبقاً للدليل الإستقرائي فإن النسق المعرفي كلما حقق قدراً أعظم من القرائن الإستقرائية باتجاه محور معين من تفسير النص باتساق؛ كلما حظي هذا النسق بقيمة معرفية عالية، فكثرة الشواهد الدالة على المحور المشترك تزيد من إحتمالات التوافق. فما لم يعوّل على القيم الإحتمالية المتجمعة باتجاه المحور المشترك؛ فإن تفسير جزئيات النص، أو مقاطعه وجمله، سيتعرض إلى اسباب كثيرة بعضها منفصل عن البعض الآخر، وهو ما ينافي بساطة التفسير الإستقرائي المشترك. إذ يفسّر كل مقطع وجملة تفسيره الخاص بمعزل عن غيره، وهو تجاهل للجامع المعرفي المشترك والمستنبط من معاني تلك المقاطع والجمل، وهو ذاته يعبّر عن تجاهل لبساطة هذا التفسير مقارنة بالتفاسير الكثيرة المعقدة والتي تجعل من وجود هذا الجامع الكلي وجوداً صدفوياً رغم كثرة الشواهد عليه.
أما بساطة نظريات الفهم بالمعنى الاقتصادي فرغم انه لحد الان لم يرد لها ذكر أو إشارة بأي شكل من الأشكال، الا انه يمكن التمثيل عليها بنظرية الحكمة في التشريع، فقد اعتاد الفقهاء رد الكثير من الأحكام الشرعية إلى هذه النظرية، كإن يقال بأن الحكمة في وضع الجزية تكمن في أن الذل الذي يلحق أهل الكتاب ‹‹يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام››. ففي هذه النظرية يتم الاعتراف بمقصد الحكم وإن لم يُكتفى به، بل يضاف إليه التعبد. فالحكمة بنظر اغلب الفقهاء غير كافية للتعليل، لكونها ليست منضبطة الوصف، ومن ثم لا يعتمد عليها في تحديد الحكم الشرعي، خلافاً لعلة الحكم التي تتميز بأنها منضبطة الوصف مثلما ترد في النص الديني، وبالتالي يعتمد عليها في التعليل وتحديد الحكم. وهو ما يعني ان الفقهاء وان اعترفوا بوجود الحكمة الا انهم يضيفون إليها عنصراً آخر هو التعبد بالنص كوصف منضبط أو علة ظاهرة للحكم. وبذلك يمتلك الحكم الشرعي لديهم عنصرين؛ احدهما متقدم ومؤثر وهو علة الحكم المتمثل بالتعبد بالوصف المنضبط للنص، والاخر متأخر ولا تأثير له وهو الحكمة والقصد من الحكم. لكن في قبال هذه النظرية هناك من اكتفى بالعنصر الأخير دون اضافة الأول اليه، بمعنى الاعتماد على الحكمة أو المقصد كمنشأ للتعليل وترتيب الحكم، وهي النظرية الثانية التي ذهب إليها القليل من الفقهاء كفخر الدين الرازي في كتابه (المحصول في علم الأصول)، والتي يمكن ان نطلق عليها نظرية الفهم القصدي في قبال نظرية الفهم التعبدي المشار إليها سلفاً.
فمثلاً يمكن رد الخلاف الفقهي الدائر حول حكم التصاوير والتماثيل إلى هاتين النظريتين، ومثل ذلك سائر القضايا التي تبدو فيها مقاصد الأحكام واضحة، رغم ان الفقهاء لا يولون لهذه المقاصد أثراً ويعتبرونها أوصافاً غير منضبطة، وبالتالي تبقى الأحكام لديهم ثابتة وفق التعليل بالتعبد باوصاف النص المنضبطة فحسب.
والخلاصة، ان النظرية التي ترى منشأ الأحكام قائماً على الحِكم والمقاصد فحسب هي ابسط من تلك التي تضيف إلى ما سبق عنصر التعبد. فالبساطة هنا هي بساطة اقتصادية.
فلو رمزنا إلى الحكمة أو المقصد بـ (ق)، والتعبد بـ (ع)، فستكون نظرية الفهم التعبدي جامعة للعاملين (ق + ع)، في حين ان نظرية الفهم القصدي لا تمتلك سوى العامل الأول (ق)، وبذلك تكون ابسط من الأولى. فمن الناحية الرياضية ان الظاهرة (ظ) المراد تفسيرها تخضع بحسب النظريتين السابقتين (ن1) و(ن2) كالتالي:
ن1 (ق + ع) ⇚ ظ
ن2 (ق) ⇚ ظ
ولا شك ان النظرية الأخيرة ابسط من الأولى، وبالتالي فهي مرجحة عليها ان لم تكن هناك اسباب اخرى تؤثر في النتيجة لصالح الأولى.